ترجمات

أوكرانيا والعلاقات الصينية الأمريكية من وجهة نظر صينية

صُدِمَت الصين – مثلها مثل بقية دول العالم – ببدء عملية عسكرية في أوكرانيا، رغم قدراتها الاستخباراتية المتقدمة، ووفقاً للاستراتيجيين الصينيين، لم يكن على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شن هجوم عسكري واسع النطاق، لأن نشر القوات على الحدود، والاعتراف بجمهوريتين مستقلتين مؤخراً، وإرسال قوات حفظ السلام إلى شرق أوكرانيا، من الناحية الموضوعية، ستكون تدابير كافية لروسيا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، والمتمثلة في:

  • فرض وضع محايد على أوكرانيا من أجل منع دخولها إلى الناتو.
  • فضح “الثرثرة” الأمريكية فيما يتعلق بأمن أوروبا.
  • دق إسفين بين الولايات المتحدة وأوروبا، مع مراعاة مصالحهما ومقارباتهما المختلفة لحل الأزمة.

ومع ذلك، تم إطلاق عملية عسكرية واسعة النطاق، مما يعني أن الرئيس بوتين إما كان لديه طموحات كبيرة أو شعر بتهديد خطير لا يمكن احتواؤه إلا من خلال الحرب.

وبالنظر إلى الشراكة الاستراتيجية الكاملة بين روسيا والصين، فإن بداية الصراع الروسي-الأوكراني وضعت الصين في موقف حرج.

حضر الرئيس بوتين حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، وانضم إلى نظيره الصيني في بيان مشترك مطول، يعد بمواصلة التعاون الاستراتيجي في جميع المجالات.

حتى في أعقاب اندلاع الصراع المسلح، أشار الرئيس جو بايدن وكبار المسؤولين الأمريكيين مراراً وتكراراً إلى الصين، باعتبارها الخصم “الأكثر خطورة” للولايات المتحدة ، وتم تعزيز استراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ لاحتواء الصين بشكل أفضل. كل هذا جعل من المستحيل على الصين الانضمام إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا، لأنه لن يكون في مصلحة الصين على الإطلاق.

وتصر الصين على استراتيجية تنمية سلمية، وتلتزم بنهج متعدد الأطراف، وتشارك بنشاط في تعزيز الحكم العالمي، وتريد إنشاء مجتمع عالمي بمستقبل مشترك للبشرية من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، فضلاً عن تدابير أخرى. كل هذه الجهود تهدف إلى خلق صورة لبلد سلمي وبنّاء في العالم. ومع ذلك، يبدو أن الصراع الروسي الأوكراني قد أكد الرأي القائل: “إن روسيا عامل سلبي في السياسة العالمية”. حيث تحافظ على صورتها وتأثيرها كقوة عظمى فقط، من خلال إظهار إمكاناتها التدميرية الهائلة. وهذا يتناقض مع جهود الصين لخلق صورة إيجابية عن نفسها، كدولة تسعى للحفاظ على السلام والمساهمة في تنمية الحضارة الإنسانية.

تتطلب التنمية المستدامة في الصين السلام والازدهار في العالم، وليس من مصلحتها تعزيز العلاقات مع روسيا على حساب العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.

منذ بداية الصراع، كانت بكين تحاول فصل العلاقات مع روسيا عن العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، وتحديد موقفها ونهجها على أساس الحكم المستقل على الصراع.

لذلك، تصر الصين على موقف “الحياد المبدئي” من أجل حل النزاع سلمياً، ويمكن تلخيص هذا الموقف في أربع نقاط:

1- حرمة سيادة ووحدة أراضي جميع البلدان، بما في ذلك أوكرانيا، ويجب التمسك بهذا المبدأ، لأن الصين تعارض الحرب، وتدعو وتفعل كل ما في وسعها لتعزيز تسوية سلمية للنزاع الروسي الأوكراني.

2- أصبحت عقلية الحرب الباردة، وسلوكياتها، السبب الجذري للصراع. نشأ “الناتو” كتحالف عسكري نتيجة للحرب الباردة، وكان ثقله الموازن هو “حلف وارسو” بقيادة الاتحاد السوفيتي، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وحلف وارسو عام 1991، لم يتوقف الناتو عن التوسع، بل اتجه شرقاً، وهذا يُعتبر سلوكاً نموذجياً بسبب عقلية الحرب الباردة، والتي كانت سبباً مهماً للكارثة التي حدثت. لذلك، فإن التخلي عن عقلية وسلوك حقبة الحرب الباردة هو السبيل الرئيسي للخروج من المأزق، على الأقل إذا أردنا حل هذا الصراع سلمياً.

3- الصين مستعدة للتعاون بنشاط مع الدول الأوروبية، ودعم جهودها لإيجاد تسوية سلمية، لذلك، أجرى الرئيس الصيني “شي جين بينغ” سلسلة من المحادثات الهاتفية والاجتماعات عبر الإنترنت مع قادة ألمانيا وفرنسا، فالصين تدعم “صيغة نورماندي”؛ أي المفاوضات الرباعية بمشاركة فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا.

4- ستحافظ الصين – كعادتها دائماً – على علاقات طبيعية وودية مع أوكرانيا، وتقدم لها المساعدة الإنسانية، فقد صرّح السفير الصيني في أوكرانيا علناً بأن الصين لن تهاجم هذا البلد أبداً.

لتلخيص كل ما سبق، فإن الصين لا تشارك في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لكنها مستعدة للمشاركة في البحث عن حل سلمي.

الخيارات الممكنة لإنهاء المواجهة

نظراً لاستخفاف روسيا بعزيمة وقوة المقاومة الأوكرانية، ومبالغتها في تقدير قدراتها العسكرية الخاصة، فقد عانت من سلسلة من النكسات في المراحل الأولى من العملية العسكرية الخاصة، واضطرت إلى التخلي عن هجومها الشامل. من ناحية أخرى، وبمساعدة هائلة من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، أظهرت أوكرانيا معنويات عالية في الدفاع عن البلاد. يبدو أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد حقق تضامناً غير مسبوق في تأجيج الكراهية الشرسة لعدو مشترك. وهكذا، تبنت إدارة بايدن استراتيجية تهدف إلى هزيمة روسيا، وحتى تغيير النظام في ذلك البلد. لكن هذه الاستراتيجية إشكالية للغاية، إذا تم تنفيذها، فلن يكون هناك سوى ثلاثة خيارات لحل النزاع الحالي:

1- هزيمة روسيا: وهو أمر شبه مستحيل في الواقع. هذا يعني التفكير بالتمني، ما لم تشارك الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بشكل مباشر في الحرب، وتزود أوكرانيا بشكل منهجي بالأسلحة الثقيلة، وتساعدها في السيطرة على المجال الجوي. خلاف ذلك، لن تكون أوكرانيا قادرة على شن عمليات هجومية، أو هزيمة روسيا؛ حتى توفير الأسلحة الثقيلة، وحتى المشاركة المباشرة للولايات المتحدة وكتلة شمال الأطلسي، ستؤدي حتماً إلى تصعيد الصراع، والذي قد يكون محفوفاً بكارثة مدمرة محتملة للعالم بأسره. وبالتالي، يمكن أن تكون نهاية الحرب نهاية لنا جميعاً.

2- حرب طويلة مع العناد المتبادل: دعا بعض الاستراتيجيين الغربيين إلى تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى للكرملين. لا شيء يمكن أن يكون أكثر عبثية من مثل هذا التفكير. تقع أفغانستان على أطراف نائية غير ساحلية، مع تأثير محدود على المنطقة المحيطة بها، بينما تقع أوكرانيا في قلب أوروبا، وهي حيوية لاستقرار وتنمية القارة ككل. وطالما ظلت أوكرانيا ساحة معركة، فلن يقع الخصمان فقط، ولكن أيضاً الولايات المتحدة وأوروبا، في ما أسميه “فخ أوكرانيا”؛ وهي لعبة لا تنتهي، وتستهلك كل شيء، في حال نشوب حرب طويلة الأمد، ليس من المرجح أن تتباعد مسارات أمريكا وأوروبا فحسب، بل يمكن أن تتسبب أيضاً في اضطرابات اجتماعية واقتصادية في العديد من مناطق العالم، على وجه الخصوص في أوروبا نفسها. بعد كل شيء، تشكل الحرب المستمرة تهديداً دائماً للأمن العالمي، وصعوبة اقتصادية لا تطاق تقريباً لأوروبا وخارجها.

3- روسيا تكسب الحرب: لن تؤدي فقط إلى تفاقم الوضع الأمني ​​في جميع أنحاء أوروبا بشكل كبير، ولكنها ستؤثر أيضاً على أسس نظام العلاقات الدولية الذي تقوده الولايات المتحدة، ويمكن أن يكون لذلك عواقب وخيمة على السلام والاستقرار العالميين.

في الواقع، الهدف الاستراتيجي المعلن (هزيمة روسيا) عاطفي وغير عقلاني؛ لأنه يولد شعوراً  سياسياً غير واقعي.

النهج الأكثر عقلانية، هو تغيير الهدف الاستراتيجي غير الواقعي، وإيجاد حل وسط عملي من أجل إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، وتحقيق السلام في شكل معاهدة ملزمة. بهذا المعنى، فإن “صيغة نورماندي” و”بروتوكول مينسك” المرفوض يستحقان على الأقل مراجعة جادة.

العلاقة بين الصين والولايات المتحدة

بدأ “التنافس” الحالي بين الصين والولايات المتحدة من قبل الأخيرة. ومع ذلك، قد تكون هناك تحديات هائلة لكلا البلدين خلف مواجهة المنافسة، حيث أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية رهينة الانقسامات الاجتماعية والسياسية، التي لا يمكن التوفيق بينها وبين الاستقطاب السياسي الداخلي. إنها تستند إلى فجوة كبيرة في الهوية الوطنية، بين المواطنين الأمريكيين الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين لأمريكا الحقيقية، ويرون أولئك الموجودين على الجانب الآخر من الهاوية كقوة شريرة تقود البلاد إلى الدمار. وهكذا فإن هاتين المجموعتين في حالة عداء.

ومما زاد الطين بلة، أن إدارة بايدن والديمقراطيين يخوضون معركة شاقة في منتصف المدة. ووفقاً للتوقعات العامة، سيعاني الديمقراطيون من هزيمة كبيرة، وستصبح إدارة بايدن “بطة عرجاء” لمدة عامين آخرين. وبالتالي، فإن نطاق المناورة السياسية سيكون أكثر محدودية، والطريقة الوحيدة لإدارة سياسة فعّالة؛ هي اللعب بحزم، لأن أي علامة ضعف ستجعل الديموقراطيين هدفاً للنقد، وتعطي خصومهم حجة جادة. سيكون هذا هو الحال مع الحرب الروسية الأوكرانية، وأكثر من ذلك في حالة المواجهة مع الصين، والتي ستؤدي إلى سياسة خارجية غير عقلانية للغاية.

وفي هذا الصدد، لطالما اعتقدتُ أن درجة عالية من عدم اليقين في السياسة الأمريكية تشكل عقبة أمام التنمية الصحية للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين. وفي ظل هذه الظروف، من الصعب بالفعل الحفاظ على استقرار العلاقات؛ سيكون تحسينها أكثر صعوبة.

على الجانب الصيني، أدى النمو الاقتصادي السريع، إلى جانب القمع الأمريكي المستمر منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض – بما في ذلك محاولة توحيد القوى ضد الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ – أدى إلى زيادة مطردة في المشاعر القومية المعادية للولايات المتحدة، مما جعل من الصعب اتخاذ قرارات عقلانية ومستنيرة. وعلاوة على ذلك، تواجه الصين حالياً عدداً من الضغوط الاجتماعية والسياسية، نتيجة لإعادة هيكلة اقتصادها، وتعميق الإصلاحات.

في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، يجب على زعيم الحزب الاحتفاظ بالمصداقية في صنع القرار من أجل التنفيذ الفعال لأي مبادئ توجيهية وسياسات معتمدة. وفي ظل هذه الظروف، وفي مواجهة ضغوط لا مبرر لها من الولايات المتحدة، لا يستطيع القادة الصينيون تحمل إظهار الضعف، ويجب عليها أن تدافع بحزم عن المصالح الوطنية، وأن تقف حارسة للتنمية المستدامة لبلدها.

ومع ذلك، فإن التعاون بين أقوى بلدين في العالم سيجلب حتماً الاستقرار والمزيد من الفوائد لكلا البلدين والعالم بأسره. هناك بالفعل أرضية مشتركة بين الصين والولايات المتحدة. إن الحفاظ على الاستقرار المالي العالمي هو أقوى مصلحة موحدة.

ما يقرب من 60 في المائة من التجارة العالمية مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالصين، التي هي أكبر دولة تجارية في العالم، والتي تمثل صادراتها 28 في المائة من الصادرات العالمية. ومع ذلك، يتم دفع 2.6 في المائة فقط من التجارة باليوان الصيني. من أصل 12.8 تريليون دولار من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، تمتلك الصين ما يقرب من 3.5 تريليون دولار، منها ما يقرب من 60 في المائة من الدولار الأمريكي واليوان 2.7 في المائة فقط. لذلك، قبل تدويل اليوان بالكامل، سيكون انهيار النظام المالي العالمي كارثة كبيرة لكل من الصين وأمريكا.

الوضع الحالي خطير للغاية، فمن ناحية، طبع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أكثر من 4 تريليونات دولار من التسهيل الكمي المتفشي لدرء الانكماش الاقتصادي. من ناحية أخرى، فإن العقوبات الشاملة ضد روسيا تسرّع التضخم العالمي؛ في محاولة لكبح جماح التضخم الجامح، واصل بنك الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة، وخفض ميزانيته العمومية، بقوة أكبر مما كان متوقعاً. ولكن بسبب الارتفاع الحاد في أسعار السلع الأساسية، الناجمة عن العقوبات المدمرة، فإن مثل هذا التخفيض المفاجئ في الميزانية العمومية ليس كافياً، ومتأخراً للغاية لكبح جماح التضخم الخارج عن السيطرة.

هذا يقود اقتصاد الولايات المتحدة إلى حافة الركود، والركود التضخمي. في هذه الحالة ، فقط التعاون بين الصين والولايات المتحدة – أكبر اقتصادين – يمكن أن يكون فعّالاً في منع الانهيار المالي، الذي سيكون أسوأ مما كان عليه في عام 2008. الاستقرار المالي العالمي أمر بالغ الأهمية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية، وتجنب الركود.

في نهاية المطاف، فإن الشرط الضروري لمواجهة لا رجعة فيها بينهما، هو تقسيم العالم إلى معسكرين سياسيين متعارضين أيديولوجياً، ومستقلان اقتصادياً، ومتحاربان عسكرياً. هذا هو أعظم درس من الحرب الباردة. لا ينبغي لنا نحن البشر أن نكون أغبياء لدرجة أننا نتراجع عن أخطاء الحرب الباردة التي دفعناها غالياً لإصلاحها قبل بضعة عقود فقط.

وبالتالي، فإن منع الصراع بين الصين والولايات المتحدة، وإعادة العلاقات إلى مسار التعاون الصحيح، وليست المواجهة، يعتمد ليس فقط على البلدين، ولكن على المجتمع الدولي بأسره. أعتقد أنه بعد فترة معينة من المنافسة، ستدرك الولايات المتحدة – أخيراً – أنه ليس من المستحسن قمع الصين من خلال المواجهة. لن يؤدي هذا المسار إلا إلى الإضرار بالطرفين، وسيؤدي إلى عواقب سلبية كبيرة – أو حتى كارثية – على المجتمع الدولي، لذا، على المجتمع الدولي أيضاً مسؤولية ومصلحة حيوية في مساعدة الولايات المتحدة على الاعتراف بهذا الخطأ. وكلما أسرعنا في الاعتراف بذلك، تعود العلاقات بين الصين وأمريكا إلى مسارها.

……………………………….

الكاتب: هونغ جينغ- أستاذ بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى