ترجمات

الشعبوية بأسلوب پزشکیان؛ تعزيز الاستبداد تحت شعار الإصلاحات

منذ اللحظات الأولى لانتخاب مسعود پزشکیان رئيساً للجمهورية الإسلامية الإيرانية، أُثيرت مسألة الشعبوية في وسائل الإعلام.

لم يكن هذا الجدل في البداية مستنداً إلى خطابه أو سياساته المعلنة، وإنما بسبب ملابسه غير الرسمية، ولا سيّما السترة التي استحضرت إلى أذهان الكثيرين ملابس محمود أحمدي نجاد. سترةٌ دفعت الكثيرين إلى الحديث عن احتمالية إحياء الشعبوية من جديد في إيران، من خلال تولي پزشكيان لمنصبه.

لقد قدّم پزشکیان حكومته الآن وأصبحت سياساته أكثر وضوحاً مقارنة بالأيام الأولى. لهذا السبب، لم يعد موضوع الشعبوية في رئاسته مجرد رمز بسيط. إن التشكيلة غير المتوقعة والمتنوعة لأعضاء الحكومة، إلى جانب مواقفه في مختلف المجالات، تشير إلى أن هذا الشخص الموثوق من قبل خامنئي يسعى بوعي إلى طمس الحدود السياسية، ويتّبع سياساته دون تقديم وعود محددة، وفي أجواء مليئة بالغموض.

في هذا السياق، ورغم الوعد الذي قطعه في اليوم الأول، فإن عدم عقد مؤتمر صحفي لشرح وتوضيح مواقفه وسياساته قد زاد من هذا الغموض السياسي وجعل مساحة تحليل وتقييم سياساته أكثر تعقيداً.

الغموض كأداة للشعبوية

إنّ رئاسة پزشکیان بإمكانها فتح طريق جديد للشعبوية في إيران؛ شعبوية قائمة على الغموض في السياسات والمواقف السياسية.

من خلال اعتماد أساليب عامة وغير محددة، مثل الإشارة إلى الخطط القائمة والسياسات العامة للنظام أو اقتباس أجزاء من نهج البلاغة للتعبير عن مواقفه، فإنه بدلاً من توضيح الأمور بشفافية، يعزز من حالة الغموض. هذه العموميات وغياب الوعود الملموسة يصعّبان عملية النقد أو المعارضة الفعالة، حيث يتجنب من خلالها تقديم تقييم دقيق، من خلال إزالة معايير التقييم.

هذا التعتيم على السياسات وإلغاء معايير التقييم هو إحدى استراتيجيات الشعبوية، حيث يُستخدم الغموض لجذب الرأي العام وتفادي المساءلة. يرى بعض الباحثين في مجال الشعبوية أن الغموض السياسي، في ظل تراجع ثقة المواطنين في النُخَب، يمكن أن يؤدي إلى ظهور قادة لا يقدمون وعوداً واضحة، ولكنهم يجذبون الدعم الشعبي من خلال استخدام الرموز، والخطاب الشعبوي، والتصريحات المبهمة.

لقد أكد پزشكيان مراراً، خلال هذه الفترة، أنّه: “يجب علينا الاستعانة بالخبراء من أجل حلّ مشاكلنا”، لكنّه لم يوضّح أبداً ما هي السياسات التي يمتلكها لتوظيف هؤلاء الخبراء، أو كيف من المقرّر أن يستفيد من معرفتهم وتخصصاتهم. حتى أنه لم يحدد من هم هؤلاء المتخصصون؛ مما يفتح المجال أمامه لتوظيف القوى العسكرية والأمنية في الحكومة.

فهو يشير من جهة، إلى المشكلات المتعددة التي يعاني منها البلد، ومن جهة أخرى يبرز ضرورة تنفيذ الخطط العليا، لكنه لا يوضح إلى أي مدى قد تكون هذه الخطط نفسها قد أسهمت في خلق بعض المشكلات الحالية. هذا السياسي، الذي يشغل منصب رئيس الجمهورية، يكتفي بالإشارة العامة إلى أنّ هذه الخطط لم تنفذ بشكل صحيح، بدلاً من تقديم توضيحات إضافية أو حلول محددة. هذا الغموض يسمح له في النهاية بالتواصل مع فئات مختلفة من الشعب أو مع مجموعات ومنظمات مدنية، وإجراء اجتماعات شكلية، دون أن يكون مضطراً لتقديم تفاصيل دقيقة أو تقديم إجابات محددة.

إضعاف الحدود السياسية والاجتماعية

من خلال انتخاب حكومة تحت مسمى “عابرة للأجنحة”، تتألف غالبيتها من أفراد مقربين من المحافظين ومخلصين للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، عمل پزشکیان على زيادة غموض الحدود بين جناحي الحكومة، الإصلاحي والأصولي.

على الرغم من الطابع غير الديمقراطي للجمهورية الإسلامية، فإن وجود وتفعيل الحد الأدنى من نشاط الجماعات والتيارات السياسية المنافسة ذات الحدود الواضحة، هو من متطلبات السياسة الحديثة وتدوير النخب. وعدم وجود هذه الأحزاب يسهل الطريق نحو المزيد من الاستبداد.

في حين أنّ تصريحات پزشکیان، سواء في البرلمان أو خلال فترة الانتخابات، كانت تشير إلى استعداده للإصلاحات، ولا سيّما في القضايا الاجتماعية والاقتصادية، فإن اختياراته الوزارية تروي قصة مختلفة.

على الرغم من الدعم المتنوع الذي قدّمه الإصلاحيون خلال حملة الانتخابات، فهو لم يرشّح سوى عددٍ قليلٍ من الوزراء الإصلاحيين، ما دفع بعض مؤيديه إلى التعبير عن “الندم” على مشاركتهم في التصويت ودعمه. لكن الأهمّ من ذلك هو أنّ هذا التوجه السياسي يجعل المسار السياسي المحتمل لحكومته غير واضح، نظراً لتباين وجهات نظر أعضاء حكومته.

إنّ نهج پزشکیان في حكومته، يعزّز من استراتيجية الغموض السياسي. وفي نهاية المطاف، لن يكون واضحاً أيّ توجه أو تيار سياسي سيكون پزشكيان ملتزماً به، رغم أنه أظهر وأكد أن ولاءه والتزامه موجه فقط للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية.

يمكن العثور على الغموض ذاته في سياسته الخارجية أيضاً. فقد تحدث پزشکیان، قبيل الانتخابات، عن ضرورة إحياء الاتفاق النووي، والحوار مع العالم، وتخفيف التوترات، لكن بعد الانتخابات، أصبح يبرز خطاب “المقاومة” – دعم الجماعات بالوكالة – بشكل أكبر، ووصف وزيرُ خارجيته الاتفاق النووي بـ “الـميت”، وقال إنهم ليسوا في صدد التوقف عن معاداة أمريكا.

لقد قال پزشکیان بوضوح: ” لن تتخلى إيران عن فلسطين أبداً” و” سيظل شعبنا واقفاً ضد الظلم”. تُظهر هذه التصريحات، دون التأكيد على الحوار والتفاعل مع العالم إلا في النص الذي نشره في صحيفة طهران تايمز، أنّ الرئيس أصبح أكثر توافقاً مع التيار الأصولي وجوهر السلطة، بل إن الحدود بين الإصلاحية والأصولية، في إطار نفس النظام الاستبدادي للجمهورية الإسلامية أصبحت أيضاً غامضة في خطابه.

 

 

الهروب من الوعود المحددة

يستفيد الخطاب الشعبوي الغامض والخالي من الوعود المحددة لپزشكيان، من حالة عدم الرضا العام، وفي الوقت نفسه، فإنه يتجنب دائماً تقديم التزامات واضحة.

يتحدث پزشكيان بشكل متكرر عن ضرورة “العدالة والإنصاف للجميع”، ولكنه لا يوضّح أبداً كيف يمكن تحويل هذه المفاهيم إلى سياسات عملية، أو كيف سيتم قياسها والحكم عليها.

 يتيح له هذا الأسلوب جذب دعم مجموعة واسعة من الناخبين دون الالتزام بإجراءات محددة، وهو يعتبر تكتيكاً مرتبطاً بالنماذج الكلاسيكية للشعبوية.

تركز تصريحات پزشكيان على مفاهيم مثل العدالة ومحاربة الفساد وتجنّب توضيح كيفية تنفيذ أو تحقيق الإصلاحات الداخلية، ما جعله شخصية تركب موجة المشاعر الشعبوية وتقوّيها. فهو وحتى أعضاء حكومته يطرحون هذه القضايا دون الإشارة إلى العوائق أو المؤسسات التي تعيق تحقيق هذه الأهداف.

أثناء مراجعة صلاحيات الحكومة المرشحة، لم يتم مناقشة ضرورة الانضمام إلى مجموعة العمل المالي (FATF)، أو المشاكل الاقتصادية الناتجة عن عدم تصديق هذه القوانين. كما لم يتم الإشارة إلى دور الحرس الثوري كهيئة تتدخل في جميع المجالات التنفيذية والمهمة في البلاد، بدءاً من الإنتاج وصولاً إلى الثقافة. ومع ذلك، تم التأكيد مراراً على قضايا مثل الشفافية والمساءلة، مما يدل على أن پزشكيان يكتفي بإدارة الوضع القائم دون تقديم وعود جديدة، متجنباً طرح التحديات الخطيرة.

مسار تعزيز الاستبداد

بالنظر إلى التوافق الوثيق لپزشكيان مع خامنئي والمؤسسات التابعة له في القضايا الأساسية، ولا سيّما في السياسة الخارجية وتشكيل الحكومة، هناك خطر كبير من أنّ رئاسة پزشكيان قد لا تعزز الاستبداد فحسب، بل تمهد الطريق أيضاً لقمع أكبر.

تصريحاته في البرلمان، مثل “جئنا إلى هنا بتنسيق” وتأكيدُه على أن المؤسسات الأمنية قد صادقت على أفراد الحكومة، بالإضافة إلى التأكيد المتكرر على تنفيذ “توجيهات المرشد”، تشير إلى توافقه مع الأهداف الاستبدادية للجمهورية الإسلامية. علاوة على ذلك، فإن قراره بالإبقاء على وزير مخابرات ذو سجل مثير للجدل، وتعيين شخصية عسكرية-أمنية مثل إسكندر مؤمني كوزير للداخلية، تدل على احتمال توافقه مع التيارات القمعية في النظام.

تمثل هذه السياسات شكلاً معقداً من الشعبوية التي تعتمد على الغموض والرمزية لجذب الدعم العام، في حين أنها تفضي إلى تعزيز السلطة السياسية للنظام. إن امتناع پزشكيان عن تقديم سياسات واضحة وشفافة، إلى جانب تشكيل حكومة تطيع أوامر المرشد، يُظهر أن هذه الشعبوية لا تتجه نحو تغييرات جذرية، بل نحو تثبيت السلطة والسيطرة.

تتيح هذه الشعبوية، باستخدام استراتيجية الغموض والرموز السياسية، للجمهورية الإسلامية الاستمرار في تنفيذ سياساتها الاستبدادية تحت شعار الإصلاحات.

 

الكاتب: عطا محمد- باحث في العلوم السياسية

ترجمة: مركز الفرات للدراسات- قسم الترجمة

 

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى