قضايا راهنة

مواجهة غربية جديدة مع “أوبك بلس” … نتائج وخيمة وخيارات أوروبية ضيقة

حَمَلَتْ العديد من الأحداث التي جرت على الصعيد العالمي، خلال السنوات القليلة التي مضت، مجموعة كبيرة من التحديات، التي باتت تواجه المجتمعات البشرية برمتها. حيث لم تعد هناك أية دول أو كيانات يمكن أن تكون بعيدة عن تداعيات تلك الأحداث، التي ترمي بظلالها الثقيلة على الحياة الاقتصادية والمعيشية بالدرجة الأولى، وخاصة في الدول الأقل دخلاً، أو تلك التي تعاني من قلة في مواردها الاقتصادية، نتيجةً للأحداث المختلفة التي تجري حول العالم، أو نتيجة للسياسات الاقتصادية التي تطبقها الدول الكبرى، للخروج من أزماتها المتعددة.

لم يفتح العالم عينيه بعدُ، من تداعيات انتشار جائحة كورونا، بكل ما تركته من آثار سلبية على الاقتصاد العالمي واقتصادات الدول النامية والمتطورة معاً، حتى وقع من جديد في أتون الحرب الروسية الأوكرانية، وبات يحمل وزر مواجهة الراديكالية بين روسيا من جهة، والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية، على الأرض الأوكرانية، تلك المواجهة التي أفرزت بالدرجة الأولى أزمة على صعيد تأمين مصادر الطاقة، وتوفير مواردها داخل الاقتصادات الأوروبية بالدرجة الأولى.

اليوم، دخل العالم مرحلة أكثر خطورة، بعد بدء المواجهات العسكرية في شرق أوروبا، وما تبع ذلك من خطوات تصعيدية من جانب دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وحلفائهم الآخرين، في سياق العقوبات الاقتصادية على روسيا، حيث نتج عن ذلك نشوء محفزات جديدة للتضخم، أجبرت المصارف المركزية على رفع أسعار الفائدة لديها، الأمر الذي كانت ممتنعة حتى اللحظة عن القيام به، وخاصة المركزيين الأمريكي والأوروبي، مما بات يهدد بتوجه الاقتصاد العالمي نحو الدخول في ظاهرة “الركود التضخمي”؛ بسبب معدلات التضخم العالية، والتباطؤ الشديد الذي يشهده النمو الاقتصادي داخل الاقتصادات الضخمة والقوية، والتي من خلال حراكها الاقتصادي تحرك معظم الأنشطة الاقتصادية والمالية والتجارية في العالم.

“أوبك بلس” تخفض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل

بعد أن ارتفعت أسعار النفط، على أعقاب انتشار فيروس كورونا، نتيجة قلة الإمدادات النفطية إلى السوق العالمية، وبعد بدء مرحلة شبه تعافي الاقتصاد العالمي، وقعت الحرب الروسية الأوكرانية، التي أعطت دفعة جديدة لزيادة أسعار حوامل الطاقة من جديد، نتيجة لتداعياتها على الاقتصاد العالمي، ونتيجةً للخفض الطوعي للإنتاج من قبل المملكة العربية السعودية، بمقدار 1 مليون برميل يومياً خلال الأشهر الثلاثة فبراير/ شباط، ومارس/ آذار، وأبريل/ نيسان من العام الحالي، مما أثر في دعم أسواق الخام النفطي، واستمرار اتجاه الأسعار صعوداً، ولكن ومنذ تموز/يوليو الماضي، بدأت تلك الأسعار بالانخفاض من جديد، بعد أن قررت منظمة أوبك زيادة الإمدادات النفطية بنحو 0.5 مليون برميل يومياً، بداية مايو /أيار الفائت، الأمر الذي ترك أثراً مباشراً في السوق باتجاه هبوط الأسعار منذ يوليو /تموز.

الآن، وقد قررت “أوبك بلس”، التي تضم إلى جانب أعضاء منظمة أوبك الثلاثة عشر، عشرة دول أخرى منتجة للنفط تتزعمهم روسيا، قررت في اجتماعها الأخير، بداية أكتوبر /تشرين الأول الجاري، تخفيض الإنتاج بمقدار 2 مليون برميل يومياً، مبررة ذلك بأن “الأمر مرتبط تماماً بأساسيات السوق، وبهدف الحفاظ على الأسعار، وأنه لم يأت لتدعيم الموقف الروسي في حربها مع أوكرانيا، ومن خلفها الدول الأوروبية”، كما حاولت وسائل الإعلام والمصادر الحكومية في واشنطن والغرب تصويره.

كمية الخفض المذكورة، تشكل ما يقارب من 2% من حجم الإنتاج العالمي تقريباً، الأمر الذي تسبب بحالة من الهلع السياسي – قبل الاقتصادي – في السوق، فاتجاه الأسعار أخذ منحاً هابطاً بداية الأمر، في الأسبوع الذي تلا القرار، لكنه سرعان ما عاود الارتفاع مجدداً.

حساسية أمريكية عالية اتجاه القرار

في حين ربطت التقارير والتصريحات الصادرة من أعضاء المنظمة، وخاصة عن المسؤولين السعوديين، قرار خفض الإنتاج بالتنبؤات حول تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي خلال العام القادم بنسبة 2.9%، وفق “تقرير لصندوق النقد الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي” من جهة وبأساسيات السوق (العرض والطلب على النفط) من جهة ثانية، والتي رأت المنظمة أنها انحرفت عن مسارها خلال العقد الماضي. لكن القرار أثار حفيظة الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، التي رأت أن من شأن هذا القرار تعميق أزمة الطاقة في العالم، وأنه سيسبب اضطراباً في الأسواق، قد تذهب بالأسعار بعيداً من جديد، خاصة ونحن على أعتاب الشتاء في قارة أوروبا، التي تعاني أزمة في الطاقة أصلاً، نتيجة الحرب التي تدور رحاها على الأراضي الأوروبية.

لم تنتظر الإدارة الأمريكية كثيراً، غداة القرار الاستباقي، الذي اتخذته “أوبك بلس”، حتى أعلنت أنه يشكل تحدياً واضحاً لسياسات الولايات المتحدة، وأنه أمر كارثي، يصب في مصلحة الدول المنتجة فقط، حيث أعلن الرئيس الأمريكي “جو بايدن” عن خيبة أمله إزاء القرار، ووصفه بأنه يتصف بـ”قصر النظر”، في ظل الأزمة التي يعيشها الاقتصاد العالمي، نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا.

وكخطوة عملية، لتدراك تداعيات القرار، فقد أمر الرئيس الأمريكي بتحرير عشرة ملايين برميل من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي لدى الولايات المتحدة، ابتداءً من الشهر القادم، بالتزامن مع تخفيض الإنتاج من قبل الدول المنتجة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 15 مليون برميل، لدعم استقرار أسعار السوق النفطية وتهدئتها، كما وافقت الإدارة الأمريكية على العديد من عقود شركات التنقيب عن النفط في البلاد، لتسير نحو سياسة إمكانية الاستغناء عن مصادر الطاقة الخارجية.

تموضعات عالمية استراتيجية واقتصادية جديدة

تشير الكثير من المعطيات على الساحة الدولية، وخاصة نتائج وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، أن الولايات المتحدة هي المستفيدة الأكبر من هذه الحرب، سواءً في الجانب السياسي والاستراتيجي وتنمية العداء العالمي لروسيا وداعميها، أو في الجانب الاقتصادي، الذي أصبح معلوماً أن الاقتصاد الأمريكي وشركاته الكبرى باتت تخرج من المنفذ الذي وفرته هذه الحرب لها، وذلك بعد ظهور بوادر حقيقية نحو ركود اقتصادي أمريكي، إثر تداعيات أزمة جائحة كورونا، وارتفاع معدلات التضخم، التي وصلت لمستويات قياسية لم يشهدها الاقتصاد الأمريكي منذ أكثر من أربعين عاماً.

أضف إلى ذلك، أن الكثير من القوى الدولية والأقطاب السياسية والعسكرية والاقتصادية في العالم، لقت في هذه المرحلة، وفي ظل المؤشرات الاقتصادية، وأداء الاقتصاد الأمريكي، فرصة تاريخية لزعزعة سطوة الدولار على الاقتصاد العالمي، وإزاحته عن كرسي ملك العملات العالمية –على الرغم من صعوبة الأمر – مع إمكانية مزاحمة الولايات المتحدة على الساحة التجارية العالمية، وسيطرتها على أهم خطوطها واستراتيجياتها.

الصين – مثلاً – تغلبت على الولايات المتحدة من ناحية التجارة السلعية حول العالم، وفي حجم مبادلاتها التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى سيطرتها على العديد من خطوط التجارة الدولية، كخط طريق الحرير، الذي تعمل على إحيائه منذ سنوات.

هذا الأمر، وغيره من الاستراتيجيات، التي اتبعتها موسكو في حوض البحر الأسود، وسيطرتها على خطوط إمداد الطاقة من دول أواسط آسيا، إضافة لشراكاتها الاقتصادية الاستراتيجية والعسكرية مع تركيا – الدولة العضو في حلف الناتو – في إطار تجارة الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، التي تبحث عن البقاء في رخاء العيش، الذي وفرته في بلدانها أطول فترة ممكنة دون قلاقل، أو زعزعة للأمن السائد هناك.

هل تتظاهر واشنطن بالانزعاج من القرار؟

في قراءة من خارج الصندوق، لتغير الظروف الاقتصادية العالمية، ولنوايا الولايات المتحدة من زجّ الأوروبيين في مواجهة عسكرية مع روسيا، يمكن الاستشفاف بأن الأمر يفتح مجالاً للشكوك في أن واشنطن، وإن كانت تتظاهر بمدى انزعاجها من قرار خفض الإنتاج لـ “أوبك بلس”، إلا أن ما يتبع ذلك من تداعيات قد تصب في مصلحتها؛ حيث أن القرار سيعمق من أزمة الطاقة الأوروبية، ويزيد من حدّة العِداء الشعبي والرسمي الأوروبي لروسيا، متهمة إياها بالاتفاق مع المملكة العربية السعودية، بالوقوف وراء قرار الخفض، وبالتالي تعميق أزمة الطاقة في البلدان الأوروبية، الأمر الذي سيقطع الطريق أمام بعض الأصوات الأوروبية، التي بدأت تتعالى، منادية بالبحث عن المصلحة الأوروبية، بعيداً عن سياسات الولايات المتحدة واستراتيجياتها، وأن الولايات المتحدة تستغل حرب روسيا وأوكرانيا لمصالحها الاقتصادية والسياسية، كونها باتت تبيع الغاز بأكثر من أربعة أضعاف سعره للأوروبيين مثلاً.

يدرك الساسة الأمريكان تماماً أن عواقب هذه الحرب سواءً على الأوروبيين، أو على الروس – ومن خلفهم الصينيون – ستكون وخيمة، وستكلفهم أعباء عسكرية واقتصادية باهظة، قد تسمح بانفراجات هامة للولايات المتحدة على الصعيد العالمي، اقتصادياً، واستراتيجياً، وجيوسياسياً؛ لذلك فهي ترتأي استمرارية النزاع العسكري في أوروبا، كونه يستنفذ الاقتصاد الروسي من جهة، ويُبقي دول الاتحاد الأوروبي تحت عباءة استمرارية تبعيتها لواشنطن، سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً من جهة أخرى، الأمر الذي سيقطع الطريق أمام الدول العظمى، المنافسة للولايات المتحدة، كالصين وروسيا، للاستمرار نحو سعيها في إنشاء عالم متعدد الأقطاب، وبقاء واشنطن متربعة على العرش العالمي، ومتحكمة في قيادة منظومته الرأسمالية، التي ما يزال هاجسها الأساسي تحقيق المزيد والمزيد من الأرباح، ولو على حساب هلاك مناطق كاملة في العالم.

مزيدٌ من الإجراءات تجاه موسكو.. هل ستكون ناجعة؟

بعد ارتفاع أسعار الغاز في السوق الأوروبية نحو أربعة أضعاف، منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا وحتى الآن، فقد شكل ذلك محفزاً على المزيد من التضخم داخل اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، والذي وصلت معدلاته إلى نحو 10% كمستوى قياسي، الأمر الذي لا بد وأنه سيدفع بالبنك المركزي الأوروبي إلى الاستمرار في مسار زيادة معدلات الفائدة، بهدف التخفيف من جموح التضخم وآثاره، ولكنه سيكون محفزاً في نفس الوقت لتكوين مقدماتٍ، قد توقِع الاقتصادات الأوروبية تحت خطر الركود الاقتصادي.

وقد كانت الدول السبع قد اتخذت -بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي- خطوة جديدة تجاه موسكو، بإمكانية تحديد سقفٍ لأسعار النفط الروسي في السوق العالمية، بحلول الخامس من ديسمبر/كانون الأول المقبل، مستخدمةً لذلك أدوات البنية التجارية من ناقلات النفط وطرق الشحن التابعة للدول الغربية، والتي تستخدمها موسكو في إيصال إمداداتها من النفط إلى الأسواق المختلفة في العالم.

تدرك الدول المستوردة للنفط أنه السلعة الأهم في التجارة والاقتصاد العالميين، وأن العبث بإمداداته إلى الأسواق العالمية قد تكون له عواقبه الوخيمة، باتجاه زعزعة تلك الأسواق، وبالتالي ارتفاعات غير متوقعة للأسعار، وعلى الرغم من ذلك فهي تصر على اللعب بالنار مع روسيا، التي تشكل إمداداتها إلى الأسواق أكثر من 8% من الإمدادات العالمية، الأمر الذي يعني أن مجرد تخفيض أو قطع تلك الإمدادات، قد تحدث اهتزازات رهيبة، ليس فقط في أسواق النفط، وإنما في الاقتصاد العالمي ككل.

ما هي خيارات موسكو وميادين اللعب لديها؟

روسيا التي لم تتأثر كثيراً بالعقوبات الاقتصادية الغربية عليها حتى الآن، مقارنة بالآثار السلبية الكبيرة على الاقتصادات الأوروبية، ما تزال تمتلك العديد من الخيارات، وقد تلعب في ميادين عديدة، فمن جهة سيشكل تراجع امداداتها النفطية إلى دول الاتحاد الأوروبي -كما هو متوقع بعد تنفيذ هذا القرار-الذي حذرت هي منه، سيشكل مع ارتفاع أسعار الغاز نتائج على الاقتصادات الأوروبية، أقل ما يمكن القول عنها أنها ستكون رهيبة. كما ستضع الأوروبيين أمام تساؤل هام، هل ستستطيع اقتصاداتها استيعاب الأسعار الجديدة، وهل ستستطيع تحقيق تنمية وتحسين أداء اقتصاداتها في ظل هذه التكاليف العالية، والأهم من ذلك هل ستستطيع تهدئة الشارع الأوروبي الذي بات يدرك مخاطر ما يقوم به سياسييهم تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، والتذمر الذي أصبح واضحاً حيال التضخم وارتفاعات الأسعار المستمرة.

الميدان الآخر، الذي تراهن عليه موسكو أنها ستبحث عن مشترين جدد، وسفن، وتجار، وشركات غير غربية، وشحن المزيد من إمداداتها النفطية حينها باتجاه الأسواق الآسيوية، التي لم ترفض حتى الآن شراء النفط أو الغاز الروسي، ولم تنضم للدول الغربية في إطار عقوباتها، أو إجراءاتها العقابية تجاه موسكو، الأمر الذي خفّف من وطأة العقوبات الغربية، والتي لم تخفض من صادرات النفط الروسية إلا بنسبة طفيفة، بلغت نحو 7.5% فقط، وقد تم تعويض هذا النقص لاحقاً بتزايد إيراداتها المالية، التي نجمت عن ارتفاع أسعار النفط، حيث من المتوقع أن يحقق الميزان التجاري الروسي فائضاً بمقدار 265 مليون دولار هذا العام، بحسب تقرير صادر عن مجلة الإيكونيميست البريطانية، نشرته المجلة بتاريخ 3 سبتمبر /أيلول الفائت.

ما هي الخيارات الاقتصادية الأوروبية؟

لا يحتاج الأوروبيون إلى الكثير من الدهاء، لمعرفة أن الحرب الروسية الأوكرانية، واستخدام سلاحي العقوبات الاقتصادية من جهة الدول الغربية، والغاز والنفط من جهة روسيا، هي السبب الرئيسي لارتفاعات الأسعار، والاضطرابات الاقتصادية التي تحدث في بلدانهم. كما يدرك الساسة الأوروبيون – تماماً – أن اقتصادات بلدانهم تتجه نحو المزيد من الأزمات، سواءً تلك المتعلقة بتأمين حوامل الطاقة، أو المتعلقة بارتفاعات الأسعار، أو مخاوف التوجه نحو الركود الاقتصادي.

إلى جانب قرار تحديد سقف لأسعار النفط الروسي، الذي اتخذته مجموعة الدول السبع، تحاول العديد من الدول الأوروبية، وخاصة صاحبة الاقتصادات المؤثرة – كألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا – اتخاذ بعض الإجراءات الكفيلة بالحد من وطأة الآثار الاقتصادية السلبية، التي يتحملونها نتيجة للحرب الدائرة في شرق القارة. ودائماً ما يضعون روسيا في قفص اتهام استخدامها لعناصر الطاقة كسلاح في وجه الدول الأوروبية.

في هذا السياق، اتجهت بريطانيا – ومعها وهولندا – إلى اتخاذ خيار تحديد سقف لأسعار الطاقة للمستهلكين في أسواقهم، كخطوة استباقية، يحافظون من خلالها على تهدئة تلك الأسواق، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار فيها، حتى لا تمتد الآثار الاقتصادية لارتفاع الأسعار إلى زعزعة الأوضاع الاجتماعية، أو الشارع الجماهيري لديها.

فقد جاء على لسان رئيسة الوزراء البريطانية “ليزا تراس”، والتي أعلنت استقالتها مؤخراً، خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني، “إن حكومتها ستقدم ضماناً جديداً لتهدئة بواعث القلق، بشأن فواتير الطاقة، وأنها ستعتمد مقاربة مع الشركات نحو المزيد من الاستثمارات حول منح تراخيص جديدة للتنقيب عن النفط في بحر الشمال، بهدف تعزيز الإنتاج المحلي، وضمان أمن الطاقة في البلاد”. إضافة إلى ذلك فقد تعهدت باتخاذ العديد من الإجراءات الكفيلة بمساعدة أصحاب الدخل المحدود، ومؤسسات القطاع العام، في تحمل تكاليف ارتفاع فواتير الطاقة خلال الشتاء القادم.

من جانبها، اتخذت العديد من الدول الأوروبية الأخرى، كألمانيا وفرنسا، خطوات هدفت إلى ترشيد استهلاك الطاقة، سواءً في القطاع المنزلي، أو القطاعات الحكومية، في إشارة واضحة إلى تفاقم أزمة الطاقة لديهم. كما تحاول هذه الدول، وباقي الدول الأوروبية، التي تملك مفاعلات نووية، البحث في إمكانية الاعتماد عليها، لتوفير الطاقة والاستغناء عن حواملها الأحفورية (النفط، والغاز، والفحم)، لكن كل ذلك لن يكون بديلاً لتغطية احتياجاتها من الطاقة، أو الاستغناء عن استيراد الغاز والنفط الروسيين، على الأقل الآن وخلال السنوات القليلة القادمة أيضاً، وفوق ذلك ستضطر العواصم الأوروبية لدفع فواتير عالية الثمن في اتجاهين، الأول ناجم عن ارتفاع أسعار الطاقة، والثاني ناجم عن زيادة معدلات التضخم داخل اقتصاداتها.

تبعات تخفيض إنتاج النفط لدى “أوبك بلس” على الحكومة السورية

 تعيش سوريا أزمة سياسية وعسكرية واقتصادية، منذ أكثر من أحد عشر عاماً، إلى جانب عقوبات قيصر، والعقوبات الاقتصادية الغربية، التي جاءت على معظم مفاصل الاقتصاد الوطني بنتائج كارثية، وأفقدته جلّ مقوماته الاقتصادية والمالية، تجسدت في فقدان الليرة السورية لأكثر من 99% من قيمتها مقارنة بعام 2010، قبل بداية الأحداث في البلاد.

كما تمثلت تلك الآثار في عجز الحكومة السورية عن توفير المستلزمات الرئيسية للحياة في البلاد، أو إعادة وتأهيل جزء مما دمرته الحرب، سواءً على صعيد البنية التحتية أو البنية الإنتاجية، ومؤسسات القطاع الإنتاجي، وتراكم العجز في الموازنة العامة، لدرجة لم تعد معها الحكومة قادرة على تغطية -ولو نسبة قليلة- من نفقاتها، إلا عن طريق الاستدانة من الحلفاء، أو عن طريق التمويل بالعجز.

الأمر الذي تسبب بارتفاع مستويات التضخم لأرقام فلكية، لم يعد معها المواطن السوري قادراً على تأمين احتياجاته الحياتية البتة، فقد تراجعت القدرة الشرائية للمجتمع السوري لمستويات مخيفة، وازدادت نسبة الفقراء، لتتجاوز 92% من الشعب السوري، ولم يعد متوسط الرواتب والأجور في البلاد يتجاوز 50 دولار في أحسن أحواله.

إن تحسن أسعار النفط في السوق العالمية، لن يأت بأية فوائد على الحكومة في دمشق، طالما أن أكثر من 90% من حقول النفط والغاز خارجة عن سيطرتها، وبالتالي فإنها ستتحمل التبعات السلبية لارتفاعات الأسعار تلك، كونها تعتمد على الاستيراد في تأمين حاجتها من المشتقات النفطية، مما سيزيد من الأعباء المالية على دمشق، ويدفع نحو المزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.

مناطق شمال وشرق سوريا لن تكون بمعزل عن تلك التبعات

هل سيكون لقرار تخفيض “أوبك بلس” تبعات سلبية على مناطق الإدارة الذاتية؟ هل سيكون بمقدور الإدارة الذاتية التخفيف من وطأة آثار التضخم العالمي، وارتفاع الأسعار داخل أسواقها؟

على الرغم من أن الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا تستثمر جلّ حقول النفط والغاز في منطقة الجزيرة السورية، إلا أنه من غير المتوقع أن تكون نتائج ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية تحمل بشرى سارة للمواطنين في هذه المناطق، وهذا يعود لسببين:

الأول– إن الإدارة الذاتية لا تبيع النفط المنتج في الأسواق العالمية بشكل رسمي، ولا تعقد أية عقود نفطية مع دول العالم، كونها غير معترف بها ككيان سياسي على الساحة الدولية، وبالتالي لا يحق لها عقد مثل هذه العقود الرسمية. بل ستستمر في بيع نفطها للتجار، وبشكل غير رسمي، مما لا يدع مجالاً للشك، أنها لن تتمكن من رفع أسعاره إلى مستويات ترغب بها، حتى ولو ارتفعت تلك الأسعار على الصعيد العالمي.

الثاني– إن الإدارة الذاتية باتت تعتمد – وبشكل كبير جداً – على استيراد مختلف السلع والمنتجات اللازمة لحياة السكان في مناطقها، وخاصة الغذائية والأساسية منها، وبالتالي ستضطر إلى دفع مبالغ إضافية لفواتير مستورداتها، والتي سيتحمل المواطنون أعباءها في النهاية. كون التجار والمستوردون سيرفعون أسعار السلع والمنتجات في أسواق المنطقة، بما يتناسب مع تكاليف استيرادها العالية، والأثمان العالية أيضاً، التي سيدفعونها لشراء تلك المنتجات والسلع، التي ارتفعت أسعارها في بلدان منشأها، نتيجة مستويات التضخم في الاقتصاد العالمي، وارتفاع تكاليف نقلها وشحنها وإيصالها إلى أسواق المنطقة.

بالتالي، سيتحمل الأفراد، وستتحمل العائلات التي تعيش في هذه المناطق، أعباء معيشية أكثر صعوبة خلال الفترة القادمة، خاصة وأن السلطات المالية لدى الإدارة الذاتية إلى جانب أنها لا تملك أية خطط أو برامج مالية لتغطية الفجوة الاستهلاكية الناجمة عن ارتفاع الأسعار، وتراجع القوة الشرائية للأجور لدى السكان، ولا تملك أية برامج حماية اجتماعية، سواءً لكبار السن، أو للمتقاعدين، أو لمساعدة العاطلين عن العمل، فهي لا تملك أيضاً إمكانات، ولا موارد مالية كافية، تؤهلها لتخفيف وطأة زيادة الأعباء المالية عن كاهل سكان مناطقها. فضلاً عن حالة عدم الاستقرار الأمني والسياسي، التي تعيشه هذه المناطق، بسبب التهديدات العسكرية التركية المستمرة، باجتياحها واستمرارها في قصف هذه المناطق، أو تنفيذ عمليات عسكرية داخل مدنها عن طريق طائراتها المسيّرة.

زر الذهاب إلى الأعلى