
الحرب الإسرائيلية-الإيرانية: التصعيد المحسوب واحتمالات الانفجار
بعد انقضاء مهلة الستين يوماً التي منحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران، ورفض طهران للشروط الأمريكية المتمثلة في التفكيك الكامل لبرنامجها النووي، أُعطيت إسرائيل الضوء الأخضر لشنّ هجمات غير مسبوقة فجر الجمعة، 13/6/2025، استهدفت منشآت التخصيب الإيرانية، ورافقتها عملية أمنية-عسكرية سيبرانية بالغة التعقيد والدقة، أسفرت عن مقتل عدد كبير من قيادات الصف الأول في الحرس الثوري والجيش الإيراني، إلى جانب عدد من كبار العلماء النوويين.
وعلى الرغم من إعلان الولايات المتحدة عدم مشاركتها في هذا الهجوم، فإنّ من الصعب تصديق إمكان تنفيذ عملية بهذا المستوى العالي من الاستخبارات والدقة العسكرية، من دون تنسيق أو دعم أمريكي وغربي مشترك، لا سيّما في ظل التناغم الواضح بين أمريكا وإسرائيل ودول أوروبية عدة في مسعى لمحاصرة إيران وتضييق الخناق عليها تمهيداً لتركيعها أو شنّ حرب شاملة ضدها.
لم يُخفِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منذ سنوات، حماسه وتعطشه لضرب إيران، وقد سنحت له فرصة ذهبية لتحقيق ذلك مع عودة ترامب إلى الحكم، وتعثّر المفاوضات مع إيران، إضافةً إلى تفكك الطوق الناري الذي شكله حلفاء إيران حول إسرائيل، نتيجة لتداعيات حرب السابع من أكتوبر 2023. كما شعرت تل أبيب بتزايد خطر اقتراب إيران من تصنيع قنبلة نووية، وهو ما اعتبرته تهديداً وجودياً لها، ولتوازنات القوى في الشرق الأوسط، ومُعطلاً لمخططات القوى الكبرى الساعية لتمكين إسرائيل كقوة إقليمية عظمى، ولضمان بقائها دون تهديد وجودي دائم.
تتبع إسرائيل استراتيجية ذكية واضحة مع محور إيران، وهي التركيز على تفكيك جميع عناصر القوة لدى الخصم بالتوازي، موظفةً في ذلك جميع أركان القوة لديها. فنلاحظ أنّها تهاجم إيران بذات الطريقة التي هاجمت فيها حزب الله، من خلال العمل الاستخباراتي، وتصفية القادة، ثم العمل على تفكيك مصادر القوة المهددة لها.
خلال سنوات، تمكنت إسرائيل من تحقيق اختراقات نوعية داخل المنظومة الأمنية لحزب الله وشلّ قدراته، مما مهّد الطريق أمامها، كما استفادت من الأحداث الداخلية المتلاحقة في إيران، ومن الانقسام العميق بين النظام الإيراني وشرائح واسعة من الشعب، لا سيّما في أعقاب القمع الدموي للاحتجاجات التي عُرفت بشعار “المرأة، الحياة، الحرية”. وهو ما أتاح لإسرائيل تعميق اختراقها للداخل الإيراني، وتكوين خلايا نائمة وفاعلة تم إعدادها لمثل هذه الحرب المشتعلة الآن.
في المقابل، لم تقف إيران مكتوفة الأيدي. فبرغم الضربات الموجعة، تمكنت من استعادة زمام المبادرة، وردّت بإطلاق صواريخ باليستية استهدفت العمق الإسرائيلي، بما في ذلك مناطق سكنية ومنشآت حيوية وعسكرية، في محاولة منها لاستعادة قوة الردع وتثبيت معادلة الردّ بالمثل ضد إسرائيل.
منذ اللحظة الأولى، لم تُرِد إسرائيل أن تكون هذه الحرب شاملة، وهو ما أشار إليه نتنياهو في تصريحاته التي حدّد فيها سقفاً زمنياً للعملية، واضعاً هدفها الأساسي في “تحييد الخطر النووي الإيراني”، تمهيداً لسيناريوهات محتملة، ومنها تفكك النظام الإيراني من الداخل، وحدوث انقلاب عسكري أو حراك شعبي واسع النطاق يُفضي إلى إسقاطه.
إلا أنّ أيّاً من هذين السيناريوهين لم يتحقق في المرحلة الأولى من الحرب. ورغم النجاح الإسرائيلي في فتح الأجواء الإيرانية أمام سلاحها الجوي، وتمكنه من القصف من مشارق إيران إلى مغاربها، فقد فرضت القدرات الصاروخية الإيرانية قواعد جديدة للمواجهة، ودفعت باتجاه تصعيد مستمر وثابت، أعاد النظر في حسابات اللعبة.
إنّ عدم تمكن إسرائيل من تحقيق الهدف الرئيسي لهذه الحرب حتى الآن، وهو تدمير المفاعلات النووية الرئيسية الإيرانية بشكل كامل، يحتّم عليها الاستمرار مهما كانت التكلفة، وهذا ما عبّر عنه مسؤولون إسرائيليون، بقولهم إنّه إذا لم يتم تدمير مننشأة فوردو المحصنة في عمق الجبال، فلن تكون هناك جدوى من هذه العملية العسكرية.
كما أنّ الردّ الإيراني العنيف داخل إسرائيل، ومقابلة التصعيد بالتصعيد وتوسيع نطاق استهداف المناطق السكنية إلى جانب المواقع الاستراتيجية الإسرائيلية، بات يشكل نوعاً من القلق لدى إسرائيل لإعادة حساباتها في أيّة عملية تصعيدية ضد المنشآت والمواقع الإيرانية الحساسة، التي من شأنها أن تدفع إيران إلى كسر قواعد اللعبة التي تحرص الولايات المتحدة بشدة على المحافظة عليها في المرحلة الراهنة، والتركيز على بقائها ضمن نطاق استنزاف القدرات الإيرانية حتى تتضح ملامح الخطوة التالية التي ستقدم عليها، سواء التدخل إلى جانب إسرائيل في حال تيقنها من عدم قدرة إسرائيل على الاستمرار في الحرب، أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالشروط الأمريكية في حال اضمحلال قوة النظام الإيراني وبلوغه مرحلة العجز، وبالتالي توفير الانتقال إلى خيارات تستدعي حسابات أكبر لا تخلو من المخاطر، وإزالة التهديد الإيراني وضمان استقرار أمن المنطقة، أقله لدفع عجلة الطموحات والاستثمارات الاقتصادية الأمريكية في المنطقة إلى الأمام، والاستفادة من الإذعان الإيراني في مواجهة خصومها الاستراتيجيين الآخرين، ولا سيّما روسيا والصين.
في المرحلة الراهنة، يبدو أن وتيرة التصعيد تتزايد تدريجياً بين إسرائيل وإيران، من دون دخول مباشر لأي طرف خارجي آخر في المعركة، رغم وضوح الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، في حين أنّ حلفاء إيران، ولا سيما روسيا والصين، لا يبادران إلى دعمها، ما دام الجانب الأمريكي غير منخرط بشكل فعلي في هذه الحرب.
من المرجح أن تستمر هذه الحرب على المدى القصير بهذه الوتيرة الاستنزافية، إلى حين ظهور بوادر تشير إلى شلّ قدرات النظام الإيراني العسكرية، وهذا ما تدأب عليه إسرائيل من خلال محاولاتها لتحييد القوة الصاروخية لإيران، وإن بدت مهمة صعبة جداً، بسبب المساحة الجغرافية الجبلية الشاسعة لإيران وانتشار مخازن هذه الصواريخ تحت الأرض، وعدم وجود معرفة دقيقة بمواقعها أو حجمها، وهذا ما أقرّ به رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، بقوله إنّ التخمينات السابقة حول الصواريخ الإيرانية لم تكن دقيقةـ وأنّ إيران ما تزال تمتلك الآلاف منها.
كما لا يمكننا نفي خطورة إمكانية إقدام النظام الإيراني على التصعيد في حال استشعاره بخطر زواله، واتخاذ إجراءات من شأنها أن تلقي بآثارها على دول المنطقة وحتى دول العالم، مثل إغلاق مضيق هرمز، الذي يعتبر شريان الاقتصاد العالمي، أو إحداث فوضى في المنطقة كاستهداف مراكز الطاقة في الخليج، في الوقت الذي تخوض فيه أوربا وأمريكا حرباً عنيفة بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا.
استمرار الحرب بهذه الوتيرة المتصاعدة يُقوّض أي احتمال للتهدئة، ويهدد بخروج الأمور عن السيطرة، وهو ما حذّر منه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي. ومظاهر هذا الانفلات بدأت بالفعل بالظهور عبر مشاهد الدمار الواسعة في كلا البلدين.
بالنسبة لإسرائيل، ما يزال أمامها الكثير لتحقيق أهدافها التي بدأت الحرب من أجلها، وهو تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كامل، فعلى الرغم من الأضرار الجسيمة التي ألحقتها بالمنشآت الرئيسية، ما تزال الأجزاء الهامة من منشأة نطنز سالمة تحت الأرض، كما أنّ منشأة فوردو لم تتضرر بعد، وهي تقبع تحت جبل على عمق 100 متر، ويستدعي تدميرها تدخلاً أمريكياً بالصواريخ الخارقة للتحصينات، لكن كما ذكرنا هذا التدخل له حسابات خاصة، وعدم رغبة أمريكا في التدخل حتى الآن تجنباً لاتساع رقعة الحرب.
ومن بين السيناريوهات المطروحة أيضاً، في حال عجز إسرائيل عن حسم المعركة قريباً، وشعر النظام الإيراني أنه على وشك السقوط، أن تُقدم إيران على الانسحاب رسمياً من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وتتجه لتصنيع القنبلة استناداً إلى مخزونها الكبير من اليورانيوم المخصّب بدرجة عالية، والذي يُعتقد أنه كافٍ لصنع عدة قنابل نووية. وفي هذه الحال، قد نشهد إعلان تجربة نووية خلال الأشهر القليلة القادمة، إن طال أمد الحرب.