مقالات رأي

رسوم ترامب وتحريك المياه الراكدة في الاقتصاد الرأسمالي

أعلن الرئيس الأمريكي في الثاني من أبريل/ نيسان الجاري عن فرض نسب جديدة من التعريفات الجمركية على البضائع المستوردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية القادمة من أكثر من 180 دولة ومنطقة وتكتل اقتصادي، بدءاً بــ 10% على جميع البضائع الواردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية و25% على واردات السيارات والذي دخل حيز التنفيذ، و34% على البضائع الصينية و20% على تلك الواردة من الاتحاد الأوربي. هذا القرار يعكس حالة عدم استقرار في الاقتصاد العالمي عموماً وداخل الاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، والذي يعتبر أبا الرأسمالية العالمية، بقيمها، ومبادئها التي تنضوي تحت شعار الاقتصاد الحر، وسينعكس على جميع الاقتصادات العالمية دون استثناء، الغنية منها والنامية والفقيرة، ولن يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل سيؤثر بشكل مباشر على تجارة السلع الرئيسية بين دول العالم، لا سيّما النفط الذي من الممكن أن تتراجع أسعاره خلال الأيام القليلة القادمة، نتيجة تخوف المستثمرين العالميين من تراجع الاستثمارات الصناعية في الدول الصناعية الكبرى، والتي ستتأثر مباشرة بالتعريفات الجديدة، كالصين، وألمانيا، وفرنسا، واليابان، كما سيتأثر حجم الاستثمارات الدولية المتدفقة بين دول العالم نحو التقلص، وقد تكون أحد أدوات الرد على قرار ترامب من قبل العديد من دول العالم، وشركاء الولايات المتحدة الأمريكية التجاريين، هو تخفيض مستويات استثماراتها المباشرة داخل الاقتصاد الأمريكي.

ولكن، لا يمكن النظر إلى هذا القرار كمأخذ على الولايات المتحدة، فالاقتصادات العالمية الأخرى أيضاً تضع رسوماً جمركية ضخمة على العديد من البضائع الواردة من أمريكا، كالصين، واليابان، وكندا، والمكسيك، وفرنسا، وألمانيا، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، وغيرها.

القرارات الاقتصادية عادة لها تأثيرات متعددة الجوانب، سواء السلبية أو الإيجابية، لذلك، وإن كان الهدف المعلن هو رفع مستويات التصنيع المحلي من جهة، وتقليل العجز التجاري الأمريكي مع العالم الخارجي والذي يصل إلى (1.2) ترليون دولار من جهة ثانية، فإنّ الأمر لن يكون بتلك السهولة، فسرعان ما اتجهت معظم مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية نحو خسائر متلاحقة، بعد الإعلان عن هذا القرار، نتيجة تخوّف المستثمرين من تراجع عمل الشركات العاملة في التجارة الخارجية، وهذا قد يتسبب في حالة اضطراب داخل تلك الأسواق ويلحق بها خسائر أكبر، كما تراجع الدولار أمام الذهب والين الياباني، الأمر الذي سيلقي بظلاله على اقتصادات الكثير من دول العالم وخاصة النامية والفقيرة.

من جهة أخرى، فإن رفع الرسوم الجمركية على البضائع القادمة من خارج الحدود له جانبان؛ الأول أنه قد يتسبب بارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، وبالتالي تراجع القدرات الشرائية للمستهلكين الأمريكيين، أما الجانب الآخر، فقد يرفع من حجم الطلب الكلي على البضائع المحلية التي ستصبح أرخص من تلك المستوردة، الأمر الذي يحفز المستثمرين على التوسع في الإنتاج، وبالتالي المساهمة في إيجاد فرص عمل جديدة، ويخفّض من نسب البطالة في البلاد والتي تتجاوز 4% كما ستساهم في زيادة مستويات دوران الدخل في ظل إيجاد مصادر جديدة له عند البدء بعملية التوظيف في المؤسسات الإنتاجية ومنظمات الأعمال في الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة صناعة السيارات والألبسة الرياضية.

في الجانب غير المعلن، فإنّ أية خطوة أو إجراء اقتصادي على هذا المستوى من الأهمية، يدخل من دون شك في إطار الصراع الاقتصادي مع الصين، ومحاولة تحييد الدول الأوربية عن الساحة الاقتصادية العالمية، والقرار الاقتصادي العالمي، والإبقاء عليها ضمن دائرة التبعية الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية. لكنّ الصين التي تأتي في المرتبة الثالثة تجارياً مع الولايات المتحدة (بعد كل من المكسيك وكندا) والتي يبلغ حجم تجارتها الخارجية مع الولايات المتحدة الأمريكية 11% من حجم التجارة الأمريكية (حيث بلغ حجم التجارة الأمريكية الصينية ٥٥٠ مليار دولار خلال عام ٢٠٢٤) لن تقف مكتوفة الأيدي اتجاه هذه الإجراءات القاسية من جانب ترامب، وقد سارعت مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية بإصدار تصريحات بأنها سترفع الرسوم الجمركية على الواردات من الولايات المتحدة إلى 20% بعد أن أعلنت الولايات المتحدة عن رفع الرسوم الجمركية بنسبة 10% على جميع البضائع، وقامت الصين من جهتها برفع الرسوم على الفحم، والغاز المسال، والمنتجات الزراعية، والنفط الوارد من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فإنّ قرار ترامب برفع تعرفة الرسوم الجمركية قد يلهب النار المشتعلة أصلاً في المعركة التجارية بين البلدين، والتي لن يكون فيها رابح نتيجة للشراكات الاقتصادية والتجارية بينهما، خاصة أنّ الميزان التجاري الصيني الأمريكي يميل لصالح الصين بحدود 270 مليار دولار.

أما المكسيك وكندا، اللتان تشكلان الشريك التجاري الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 16٪ و 14٪ على التوالي من حجم التجارة الخارجية الأمريكية، فقد تعامل ترامب معها بخصوصية أكثر، حيث أعلن البيت الأبيض أنّ الولايات المتحدة لن تُخضع البضائع الكندية والمكسيكية للحد الأدنى من الرسوم 10% وأنها ستبقي على الرسوم الجمركية المتعلقة بالحدود، والتي تم الإعلان عنها سابقاً في أوائل آذار الماضي، والتي بلغت 25% على السلع الاستهلاكية الواردة من هاتين الدولتين و10% على النفط المستورد من كندا، وهنا يمكن الإشارة إلى أنّ التعامل الاقتصادي والتجاري مع هاتين الدولتين يأخذ في الاعتبار المخاطر الاقتصادية والتجارية والسياسية والمخاطر المتعلقة بالهجرة والتي قد تنعكس بشكل خطير على الاقتصاد الأمريكي في الداخل.

أخيراً، بتوقيعه على هذا القرار فإنّ ترامب يعلن نهاية عهد الاقتصاد الحر، وشعارِه الأساسي “دعه يعمل دعه يمر”، وولادة عهد جديد للنظام الرأسمالي العالمي الذي أعلن من خلال ترامب استقلالية الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي قد يشهد العالم من الآن فصاعداً حروباً اقتصادية أكثر حدّة لا ندرك مآلاتها الحقيقة. ولكن ما ندركه تماما هو أن زيادة تمركز رأس المال العالمي بلا شك سيفضي إلى صراعات بين حلفاء الأمس والعديد من الفرقاء، قد لا تختلف كثيراً عن تلك التي حدثت في أواخر العشرينيات، وخلال ثلاثينيات القرن العشرين على الصعيد الاقتصادي، والتي أفضت إلى الحرب العالمية الثانية بعد تعثر إمكانية تجاوز الصراعات الاقتصادية للسيطرة على الأسواق العالمية لتصريف الإنتاج المتزايد.

قرار ترامب سيترك تداعيات كثيفة وكبيرة على الاقتصاد العالمي، لأنها صدرت من دولة يشكّل ناتجها المحلي أكثر من ربع الناتج العالمي، والمتوقع أن يصل إلى أكثر من 30 ترليون دولار، وهي ثاني دولة من حيث التجارة السلعية بعد الصين، لذلك فإنّ الأيام القليلة القادمة ستشهد ارتفاعاً في وتيرة الصراع والحرب التجارية بين أمريكا من جهة، ودول العالم من جهة ثانية، خاصة إذا ما سارع شركاء الولايات المتحدة الأمريكية التجاريين إلى اتخاذ خطوات مماثلة أو حتى أكثر حدّة من تلك التي قررها ترامب، مما سيساهم فعلاً في تحريك المياه الراكدة في بركة الاقتصاد الرأسمالي، ويودي بالعلاقات الدولية نحو التوتر داخل مستنقعات قد يصبح الخروج منها صعباً جداً في المستقبل القريب.

زر الذهاب إلى الأعلى