
مفاوضات ترامب وإيران: القوة الخشنة كأداة للقوة الناعمة
فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأوساط السياسية بالكشف عن موعد المفاوضات التي ستجرى مع إيران بشأن ملفها النووي، يوم السبت في الحادي عشر من نيسان/ أبريل الجاري، ليثبت مرة أخرى أنّه شخص لا يمكن التنبؤ بما يفكر به أو يخطط له.
فالحشود العسكرية الهائلة غير المسبوقة التي استقدمها إلى جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، والتي لا تطالها الصواريخ الإيرانية، كانت تنذر باقتراب موعد الضربات العسكرية على المنشآت النووية الإيرانية التي هدّد ترامب بقصفها أكثر من أيّ وقت مضى. إنّ ما جعل تصور وقوع الضربة العسكرية ضد إيران يبدو قابلاً للتنفيذ، هو الانتكاسة الإقليمية الكبيرة التي تعرضت لها الأخيرة في المنطقة، بعد تصدع “محور المقاومة” تحت وابل النيران الإسرائيلية، وإعادة رسم ملامح المنطقة بعد خلع النظام السوري. كما بدا غضب ترامب على الحوثيين وقصف تحصيناتهم، على أنه تمهيد للانتقال للهجوم على إيران.
لكن يبدو أنّ ترامب يؤمن بالحكمة الصينية القديمة القائلة: “عندما تحاصر عدوك، اترك له فسحة صغيرة للهرب”. هذه الفسحة، تركها ترامب في رسالته إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، حينما خيّرهُ بين التفاوض أو الحرب. وهو يعتبر هذه الفسحة ممرّاً إلى تحقيق هدف كبير تعجز الحرب عن تحقيقه. بل إنّ الحرب قد تفتح عليه أبواباً لا يمكن إغلاقها، ابتداءً من تايوان التي حاصرتها الصين منذ بدء دق طبول الحرب ضد إيران، وأوكرانيا التي لم يتوصل بعد مع بوتين إلى صيغة حولها، وصولاً إلى كوريا الجنوبية القابعة تحت تهديدات واستفزازات جارتها الشمالية، إضافة إلى إيران ذاتها التي ليس من المضمون اجتثاث برنامجها النووي، حتى مع اللجوء إلى القاذفات الاستراتيجية، واستخدام قنابل خارقة للتحصينات، لاحتمال وجود نسخ سرية أخرى من المواقع النووية في أعماق الجغرافية الإيرانية الجبلية الشاسعة.
وبالتالي، فإنّ هذا التفاوض يحمل هدفاً آخر يتجاوز مجرد إيقاف تطور البرنامج النووي الإيراني إلى مستويات خطيرة قد تؤدي إلى صنع سلاح نووي، فترامب يعلم جيداً أن النظام الإيراني لن يغامر بصنع القنبلة النووية ضمن قواعد اللعبة الحالية التي مازالت مضبوطة، رغم انحدارها إلى مستوى خطير من حافة الهاوية. كما يعلم أنّ خروجه من الاتفاق النووي هو ما دفع طهران إلى إيصال تخصيب اليورانيوم إلى مستويات خطيرة قريبة من المستوى المطلوب لصنع السلاح النووي. وكان بإمكانه عدم السماح بذلك، بالبقاء في الاتفاق وتشديد الرقابة عليه، بالإضافة إلى القدرة على شلّ قدرات جميع الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة، باستخدام القوة النارية الهائلة التي تمتلكها الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.
ترامب هو سياسي يرى العالم على شكل أرقام ونسب وإيرادات. وكان أحد الأسباب الرئيسية وراء انسحابه من الاتفاق السابق، هو قناعته بأنّ الشركات الأمريكية لم تحصل على الاستثمارات المأمولة في إيران، في حين أنّ الشركات الأوروبية حصدت ثمار الاتفاق، رغم الأموال الطائلة التي تدفقت إلى إيران عبر الطائرات الأمريكية حينها مقابل توقيعه، والتي تم إنفاقها على شبكة الميلشيات المزعزعة لاستقرار المنطقة، وتهديد أمن إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة، وتطوير البرنامج النووي والصواريخ الباليستية.
على الرغم من أنّ النظام الإيراني قابل التهديد بالتهديد، وأعلن عن جاهزيته للرّدّ على أي هجوم محتمل على الأراضي الإيرانية، والتلويح بصنع القنبلة النووية، لكنه أطلق في الوقت نفسه رسائل في الاتجاه المعاكس. وكان أهمها ما قاله علي لاريجاني مستشار خامنئي، عن إمكانية تحديد الولايات المتحدة مصالح اقتصادية مع إيران، وهذا هو بالضبط ما يريده ترامب الذي يفضل الصفقات على الحروب الكبرى، وتحويل الأعداء إلى شركاء اقتصاديين، لكن بشروطه هو.
إنّ التوصل إلى إعادة صياغة الاتفاق النووي مع إيران سيحقق سلسلة متقاطعة من الأهداف الكبيرة للولايات المتحدة وحلفائها؛ فمن جهة ستضمن عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، وتهدّئ إسرائيل التي تتوعد دائماً بشنّ ضربات استباقية على المنشآت النووية الإيرانية لمنع الوصول إلى السلاح النووي. وهذه الضربات، إنْ حدثت، فإنها ستفسد الخطط الكبرى التي رسمتها الولايات المتحدة للمنطقة. كما أنّه من المرجح أن يكون تفكيك الميليشيات الإيرانية في المنطقة أحد أهم الشروط لإنجاز هذا الاتفاق، ما سيمكّن إسرائيل من وضع استراتيجية أمن وحماية إقليمية طويلة الأمد. الهدف الآخر سيكون فتح السوق الإيرانية أمام الاستثمارات الأمريكية التي تتعطش لها الشركات الأمريكية الكبرى منذ 2015، وتشكل في الوقت نفسه ضغطاً على الإدارة الأمريكية للتوصل إلى اتفاق بدلاً من اللجوء إلى الحرب وإضاعة هذه الفرصة.
ويكمن الهدف الأهم في أنّ التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران سيقطع الطريق على الصين التي وقعت اتفاقاً استراتيجياً مع إيران لمدة 25 عاماً، وبالتالي فهو سيفتح الباب أمام الشركات الأمريكية والغربية، بالإضافة إلى ذلك، فإنه سيفتح أسواقاً جديدة للشركات الأمريكية للاستفادة من النفط والغاز الإيراني، لا سيما أنّ إيران تمتلك رابع أكبر احتياطي من النفط، وثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم. الأمر الذي سيؤدي إلى سحب هذه الورقة من يد روسيا، ومن جهة أخرى فإنّ أي اتفاق سيكون من شأنه حرمان الصين من النفط الإيراني، والتي تعد من أكبر المستوردين له.
ثمار الصفقة قد تذهب إلى أبعد من ذلك، فإذا تم التوافق على إنهاء دعم إيران لميليشياتها في المنطقة، وأوجدت صيغة لنزع سلاحها ودمجها ضمن جيوش الدول الموجودة فيها، فهذا يفتح الباب على مصراعيه أمام الولايات المتحدة والغرب للنفوذ الاقتصادي في هذه الدول، وبالتالي، ضمان الهيمنة الواسعة على منطقة الشرق الأوسط، وإيقاف المدّ الصيني الذي تغلغل بشكل أقوى بعد أن نجحت في إعادة العلاقات بين السعودية وإيران، وهيأت لخلق بيئة استثمارية آمنة لها بعد وقف التصعيد بينهما.
في المقابل فإنّ النظام الإيراني هو أيضاً بحاجة ماسة إلى هذا الاتفاق، ويبدو أنّه سيعيد النظر في سياسته العدائية تجاه أمريكا والتي انتهجها منذ وصول النظام الإسلامي إلى الحكم. فهذا النظام يعي جيداً أنّ سياساته التوسعية في المنطقة باءت بالفشل، كما أنّ خطر الداخل الذي يواجهه يومياً لا يقل عن أي عمل عسكري مرتقب ضدها، وبالتالي فإنّ هذا الاتفاق سيكون بمثابة طوق نجاة له.
سيذهب الإيرانيون والأمريكيون إلى المفاوضات في سلطنة عمان التي تعرف بحياديتها السياسية، وسيبقى نجاح استمرار هذه المفاوضات مرهوناً بمدى القدرة على خلق جو من الثقة بين الطرفين. ومن غير المتوقع هذه المرة أن يكون هدف الإيرانيين كسب الوقت والمماطلة كما عرف عنهم سابقاً، لأنّ الاقتصاد الإيراني الموشك على الانهيار سينقذه رفع العقوبات الكبيرة عنه. كما أنّ هدير القاذفات الشبحية يصل إلى مسامع القادة في طهران، وقد يفعلها ترامب الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله، إذا تيقّن من عدم استجابة النظام الإيراني مع مطالبه، مع انتهاء مهلة الرسالة.
لكن رغم كل ذلك، وحتى لو توصل الطرفان إلى اتفاق مستدام يحقق أهداف الطرفين، فلن يزول الخطر الذي يواجه النظام الإيراني، مع وجود الشرخ الكبير بينه وبين المجتمع الإيراني الذي يراقب بصمت التطورات الجارية، وباتت طموحاته تتجاوز الإصلاحات الاقتصادية لتصل إلى تقويض بنية النظام الديني الذي يحكمه منذ عقود، وقد يكون سقوط شبكة حلفائه في المنطقة وعلى رأسهم بشار الأسد، دافعاً جديداً لإعادة الحراك إلى الشوارع الإيرانية وبزخمٍ أكبر هذه المرة.