مقالات رأي

على أعتاب موسم زراعي جديد في “إقليم الجزيرة” .. ما هو المطلوب؟

لا يغيب عن أحد، أن القيام بأي نشاط اقتصادي، الهدف منه – بالدرجة الأولى – هو تأمين حاجات السكان، وتلبية رغباتهم. وحيث يشكل العمل في القطاع الزراعي ثقافة مجتمعية في مناطق إقليم الجزيرة، فضلاً عن توفر جميع الموارد والإمكانات اللازمة لعمل هذا القطاع وتطويره، فإن السنوات الأخيرة أظهرت عجزه عن تأمين الاحتياجات الرئيسية للسكان ولأسواق المنطقة، سواءً إذا تعلق الأمر بالمحاصيل الاستراتيجية، أو إذا تعلق بالخضار والفواكه أو اللحوم والبيض والألبان والأجبان.

ولا يخفى على أحد – أيضاً – الأهمية الاستراتيجية للقطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني في المنطقة، فمن جهة يُعتبر الحقل الأساسي المنتج للغذاء لأهالي المنطقة، ومن جهة ثانية يوفر العديد من السلع والمواد الأولية، التي تشكل مُدخلات رئيسية للعديد من الصناعات الغذائية، والنسيجية، وغيرها.

لكن السنوات العديدة الماضية، أظهرت ضعف السياسات الزراعية المتبعة في هذا القطاع الحيوي والهام، والتي افتقدت إلى الأسس العلمية السليمة، وغياب الخطط الاقتصادية الزراعية، وعدم إيلاء أي اهتمام بمسائل تقدير الموارد المتاحة من جهة (الأرض – رأس المال – العمالة)، ولا من جهة تقدير الاحتياجات الرئيسية من قطاع لقطاع، وربطها بحاجة الأفراد والأسواق، باتجاه توفير الأمن الغذائي لأبناء المنطقة، وضرورة الاستغناء عن الاستيراد أو المساعدات الغذائية لتأمين احتياجات الطعام والغذاء.

تتوفر في إقليم الجزيرة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، كما يتميز سكانه بثقافة زراعية عالية متجذرة منذ عقود زمنية طويلة، وتتميز هذه المساحات من الأراضي بتربة زراعية خصبة، لا تحتاج إلى الكثير من رؤوس الأموال الضخمة، للقيام بالاستثمارات الزراعية أو العمل الزراعي. إذاً تبقى مسألة إدارة هذه الموارد بالشكل الأمثل، وبناء خطة زراعية علمية تستند إلى أسس سليمة، هي القضية الأهم في هذا السياق.

إن الاستمرار في العمل في قطاع الزراعة، بالطريقة المعتادة منذ سنوات، وبدون وضع الخطط الزراعية، سوف يقود نحو المزيد من الخسائر في هذا القطاع، ويدفع باتجاه استمرار الاعتماد على المزيد من المستوردات الغذائية، وتزايد صعوبات تأمين السكان احتياجاتهم من الغذاء، وفقدان الأمن الغذائي عاماً بعد عام، كونه – أي الأمن الغذائي – مسألة ليست فقط اقتصادية ومعيشية، وإنما تحدد – بالنتيجة – مدى استقلالية القرارين الاقتصادي والسياسي. بالتالي لا بد من البدء بعملية تحديد الأهداف الرئيسية والفرعية للعملية الزراعية، ثم وضع الخطط المناسبة للوصول إلى تحقيقها، عن طريق تطبيق السياسات الزراعية الحديثة والمتناسبة مع الإمكانات المتاحة، وربطها باحتياجات السكان، وضرورات الأمن الغذائي.

تنطلق ضرورة تحسين الواقع الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، من عدة أسس رئيسية، يمكن تلخيصها فيما يلي:

  • الاستغلال الأمثل للموارد الزراعية المتوافرة في المنطقة، باتجاه تحسين الإنتاجية والأداء الاقتصادي في القطاع الزراعي، وبالتالي تغطية الجزء الأكبر من احتياجات السكان من الغذاء بالدرجة الأولى.
  • تأمين المداخيل المادية لسكان الريف وللمزارعين، وتوفير فرص عمل جيدة للشباب، من خلال العمل الزراعي، ورفع حجم الاستثمارات الزراعية، وبالتالي ربط الفلاحين بأرضيهم، وابتعادهم عن فكرة الهجرة، سواءَ إلى المدن أو إلى الخارج.
  • توفير العديد من المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وبكميات تكفي حاجة المنطقة، وخاصة القمح والشعير، لما تشكله هاتان المادتان من أهمية في صناعة الخبز، وهو المادة الرئيسية على مائدة عوائل المنطقة، وأيضاً لتوفير الأعلاف للحيوانات، وبالتالي دعم المربيين للاستمرار في تربية الحيوانات، وخاصة المواشي، لأهميتها المعيشية والغذائية.
  • الابتعاد عن الاستيراد في تأمين احتياجات السكان من الغذاء، وخاصة الطحين، والخضار، والفواكه، لعدم الوقوع تحت رحمة الآخرين، وخاصة في مسألة الأمن الغذائي.

من هنا نستطيع القول، إن مسألة تحسين وتنظيم العمل الزراعي، وتوفير الآليات المناسبة لرفع إنتاجيته، باتت ضرورة تفرضها، ليس فقط الحاجات المعيشية، وإنما تلك المرتبطة بحالة الأمن الغذائي، وعدم الارتهان لخارج الحدود في توفير الطعام والمواد الغذائية الضرورية لأبناء المنطقة. انطلاقاً من ذلك، لا بد من العمل على:

  • إيلاء العمل الزراعي الأهمية القصوى، من حيث توفير الإمكانات اللازمة، سواءً للمزارعين والفلاحين، أو لمربي المواشي، وخاصة الأغنام والأبقار.
  • توفير الدعم الكافي للعمل الزراعي، وباتجاهات مختلفة، سواءً من حيث توفير المحروقات، وبأسعار مناسبة، أو من حيث توفير البذار، وباقي مستلزمات العملية الإنتاجية في القطاع الزراعي، من أسمدة كيماوية، وأدوية زراعية، ومبيدات، وبتكاليف معقولة، يستطيع العاملون في القطاع الزراعي من خلالها القيام بعملية الإنتاج.
  • توفير مادة العلف الحيواني، وبأسعار مناسبة، تدفع المربيين لزيادة أعداد قطعانهم، وعدم الوقوع تحت ضغوطات فقدان الأعلاف، أو ارتفاع أثمانها، إلى جانب ضرورة توفير الأدوية اللازمة للأمراض التي تصيب المواشي، وخاصة الأغنام.
  • تقديم الدعم، والتسهيلات الكافية للمزارعين والفلاحين، الذين يتوجهون نحو اقتناء معدات الري الحديث، كشبكات الرش، أو أنابيب التنقيط، وباقي مستلزمات عملية الري، مما يوفر في كميات المياه اللازمة للري من جهة، ويرفع من إنتاجية الأرض من جهة ثانية، الأمر الذي يعود على مالكي الأرض أو المزارعين بالفائدة المادية والمدخول المادي الجيد، الذي يسمح بتطوير عملهم، والرفع من مستوى إنتاجيته في المواسم اللاحقة.
  • الابتعاد عن القرارات الارتجالية فيما يخص العمل الزراعي، وخاصة المتعلقة بحفر الآبار، أو استيراد الأسمدة والأدوية الزراعية والحيوانية، والأعلاف، أو توفير البذار، أو تصدير الأغنام والأبقار، لما لها من آثار خطيرة على مستويات أداء العمل في القطاع الزراعي، وكمية المنتجات التي يتم توفيرها من هذا القطاع، والمرتبطة بضرورات الأمن الغذائي في المنطقة.
  • الاعتماد على الأسس العلمية في اتخاذ أي قرار يتعلق بالقطاع الزراعي، من خلال إجراء الدراسات والبحوث الزراعية العلمية، أو الدراسات الجيولوجية الكافية، والتي من خلالها يمكن اتخاذ القرارات السليمة، لتنظيم العمل الزراعي، والاتجاه نحو تحقيق الأهداف الرئيسية له.
  • الأخذ بعين الاعتبار تغيرات المناخ، واختلاف مناطق الاستقرار المطري، واختلاف مستويات خصوبة التربة الزراعية بين المناطق المختلفة، فيما يتعلق بالسياسات الزراعية، وآليات التعاطي مع العمل الزراعي في كل منطقة.
  • وضع السياسات، والإجراءات المناسبة، لرفع نسبة المساحات المروية من الأراضي المزروعة والمتوفرة، من خلال تقديم جميع التسهيلات اللازمة لذلك، وعدم الاكتفاء بالاعتماد على الزراعات البعلية في توفير احتياجات المنطقة، خاصة من مادة القمح اللازمة لصناعة الخبز بالدرجة الأولى، حيث عانت المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية من الجفاف، وقلة الأمطار.
  • عدم ترك الفلاح أو المزارعين عرضة لابتزاز التجار، وخاصة أيام المواسم، التي تتميز بوفرة الإنتاج، والتنافس نحو كيفية تصريفه، من خلال تنظيم العملية التسويقية، ووضع الآليات المناسبة لها، سواءً المحاصيل الاستراتيجية، أو منتجات الخضار والفواكه.

ختاماً .. تفرض مفردات الواقع الاقتصادي والمعيشي – وحتى السياسي – في المنطقة، ضرورة العمل على تنمية القطاع الزراعي، والعمل فيه من خلال البحث في الآليات والأدوات المناسبة لتنفيذ السياسات الإنتاجية الزراعية، المتناسبة مع الإمكانات المتوفرة، وبشكل ينظم السياقات المتعددة للعمل الزراعي، وفق خطط رئيسية وفرعية، تسعى الإدارة القائمة من خلالها إلى تحقيق الأهداف، التي يجب أن تحددها وفق الأولويات التي تفرضها الحالة المعيشية والاقتصادية للسكان من جهة، ووفق ضرورات الأمن الغذائي، والابتعاد عن الاعتماد على الخارج في تأمين غذاء الناس من جهة ثانية، لارتباط الأمر بمدى استقلالية القرارين الاقتصادي والسياسي معاً.

إن عملية وضع الخطط التنموية الزراعية السليمة، وتنظيم العمل الزراعي، وتطبيق السياسات الزراعية، لا بد ستوفر الآليات المناسبة للفلاحين والمزارعين، ولمربي المواشي، للاستمرار في عملهم، ورفع مستويات الإنتاج لديهم، الأمر الذي يجب أن يترافق مع توفير كل الدعم والإمكانات اللازمة لهم، وخاصة المحروقات ومستلزمات الإنتاج، من بذار وسماد وآليات الحراثة  والحصاد، وبأسعار مناسبة، حتى يتمكن المنتجون من رفع مستويات إنتاجية عملهم، وبالتالي زيادة كميات الإنتاج، مما سيوفر لهم دخول مادية عالية، تحفّزهم على التمسك بأراضيهم وبزراعتها، لا أن يكونوا عرضة للخسائر المتلاحقة سنة تلو أخرى، ويصبحوا معها غير قادرين على الاستمرار في العمل الزراعي، مما سيترك آثاراً خطيرة على الأمن الغذائي، وعلى الحالة المعيشية لسكان المنطقة، وعلى ترك الفلاحين لأراضيهم وقراهم.

زر الذهاب إلى الأعلى