الحرب في الشرق الأوسط: ستستمر
من بين العديد من الاجتماعات المهمة التي عقدها فلاديمير بوتين في 11 أكتوبر 2024 في عشق أباد، كان أكثرها إثارة للاهتمام هو محادثته مع الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بيزشكيان، الذي تم انتخابه في انتخابات مبكرة هذا الصيف. وإلى جانب العلاقات بين موسكو وطهران، تطرقت المفاوضات إلى القضايا الأمنية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط.
فالمنطقة والعالم، ينتظرون في أي يوم رداً إسرائيلياً على الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير على أراضي الدولة اليهودية، حيث إنّ هناك العديد من الخيارات لمثل هذا الرد، بما في ذلك قصف البنية التحتية للطاقة، والهجمات الجوية على مراكز صنع القرار السياسي، وحتى محاولات ضرب منشآت البرنامج النووي الإيراني. إن اختيار أي خيار منها سيصبح مؤشراً على النوايا العسكرية والسياسية للجانب الإسرائيلي، وفي أسوأ السيناريوهات، سيتم إطلاق سلسلة من ردود الفعل التصعيدية مع احتمال وصول الصراع إلى مستوى جديد أعلى.
لقد دخل الصراع المسلح في الشرق الأوسط، الذي بدأ في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عامه الثاني. وعلى الرغم من المحاولات العديدة لوقف إراقة الدماء، لم يتم التوصل إلى أي اتفاق حتى بشأن الهدنة في قطاع غزة. علاوة على ذلك، اشتعلت نيران الحرب أكثر فأكثر، لتشمل الضفة الغربية وجنوب لبنان، وأسفرت أيضا عن مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران والحوثيين. وبشكل غير مباشر انخرطت الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الناتو وفي المقام الأول ألمانيا في الصراع، على شكل إمدادات أسلحة واسعة النطاق لإسرائيل.
فكيف ستتطور ديناميكيات أزمة الشرق الأوسط خلال عامها الثاني؟ دعونا نحاول طرح بعض الافتراضات الأولية البحتة.
الحرب ستكون طويلة وليس هناك ما يدعو إلى الأمل في إمكانية وقف الأعمال العدائية أو حتى تعليقها في الأسابيع أو حتى الأشهر المقبلة. ففي غضون عام واحد، تمكنت قوات الجيش الإسرائيلي من تحويل قطاع غزة إلى أنقاض، لكن جيوب المقاومة للفصائل الفلسطينية لم يتم قمعها بشكل كامل بعد. وربما تتأخر العملية البرية في جنوب لبنان أيضاً، ومن غير المرجح أن ينخفض مستوى العنف الحالي في الضفة الغربية بشكل جذري. إنّ الضربات الإسرائيلية الدقيقة والفعالة ظاهرياً ضد قادة ومراكز القيادة في حماس وحزب الله لا تؤدي بالضرورة إلى السلام – فإزاحة هؤلاء القادة تحرم إسرائيل أيضاً من شركاء محتملين في التفاوض.
وستكون الحرب هجينة، على الرغم من أن إسرائيل تواجه مجموعات سياسية عسكرية غير تابعة للدولة في عملياتها البرية في الجنوب والشمال، إلّا أنّ إيران تتورط بشكل متزايد في الصراع، ففي أبريل وأكتوبر، أطلقت طهران صواريخ على أراضي “الدولة اليهودية” لأول مرة في تاريخ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية. ومن جانبها، قامت إسرائيل بتوسيع جغرافية الصراع باستمرار، حيث ضربت أهدافًا في سوريا، وإيران نفسها، وضربت أيضاً ميناء الحديدة اليمني.
إنّ المواجهة بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله في جنوب لبنان قادرة تماماً على التصعيد إلى حرب إسرائيلية لبنانية. وتشارك أيضاً دول أخرى في المنطقة في الصراع، بما في ذلك الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي شاركت بشكل أو بآخر في صد الهجمات الإيرانية على إسرائيل. ومن المرجح أن يستمر الصراع في التطور على مستويين (مستوى الدولة وخارجها)، الأمر الذي يجعل حلّه أكثر صعوبة.
إنّ وسائل الحرب ستكون غير متكافئة، كما أظهرت تجربة السنة الأولى من الصراع، حيث تعتمد القيادة الإسرائيلية قدر الإمكان على المزايا التكنولوجية التي لا يمكن إنكارها ضد خصومها، مثل وجود صواريخ عالية الدقة وأنظمة دفاع جوي حديثة، بالإضافة الى امتلاك إسرائيل جهاز استخبارات لا مثيل له في المنطقة، الذي يسعى إلى التعافي من فشله الواضح في 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. ويمكن الافتراض أنه في العام المقبل، سيلجأ معارضو إسرائيل بشكل متزايد إلى استخدام تكتيكات حرب العصابات وعمليات التخريب المستهدفة والهجمات الإرهابية (بما في ذلك تصرفات الانتحاريين المنفردين) من أجل التعويض بطريقة أو بأخرى عن التفوق التكنولوجي “لليهود”.
وسيبقى الفلسطينيون منقسمين خلال السنة الأولى من الصراع. لقد بُذلت محاولات عديدة، وبمشاركة موسكو وبكين، لتحقيق التماسك السياسي للفلسطينيين، ولكن لم تؤدّ هذه المحاولات إلى أيّ انفراج، ويمكن الافتراض أن الوضع الحالي سيستمر مع بلوغ الزعيم الفلسطيني الحالي محمود عباس عامه التسعين في عام 2025، وسوف تشتد المعركة حول إرثه السياسي. وعلى الرغم من التحديات الوجودية الواضحة التي يواجها الشعب الفلسطيني، والتي تتطلب الوحدة الوطنية، فمن غير المرجح أن تتحقق المصالحة بين حماس وفتح، أو بين غزة والضفة الغربية في المستقبل القريب. وستستمر هذه الانقسامات في عرقلة التقدم نحو حل الدولتين “للمشكلة” الفلسطينية.
إسرائيل ستبقى موحّدة، فقد تمكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعلى مدار العام وخطوة بخطوة من استعادة، إن لم يكن الثقة، فعلى الأقل احترام المجتمع الإسرائيلي. ولم يعد أحد يتحدث عن انتخابات نيابية مبكرة، وبقي أمام الانتخابات المقبلة أكثر من عامين. لقد تراجع النشاط الاحتجاجي في الشوارع بعد موجة الربيع والصيف؛ ولا تزال إسرائيل موحدة بشكل عام، على الرغم من الثمن الباهظ الذي يتعين عليها أن تدفعه مقابل استمرار الصراع. إن المعجزة وحدها هي القادرة على تقويض الهيمنة الحالية للأحزاب اليمينية والدينية على الساحة السياسية الوطنية.
سيكون تأثير الرأي العام العالمي على مسار الحرب ضئيلاً. وقد لاحظ العديد من المراقبين التكاليف الباهظة للغاية، وربما التي لا يمكن إصلاحها، على سمعة إسرائيل نتيجة للصراع. ومع ذلك، لم يكن للرأي العام العالمي أي تأثير على تصرفات “الدولة اليهودية”، ومن غير المرجح أن يكون له أي تأثير في المستقبل. علاوة على ذلك، فإن تفاقم العلاقات بين القوى العظمى لا يسمح باستخدام آليات الأمم المتحدة لحل الأزمة. ويبدو أن الضرر الذي لحق بسمعة إسرائيل الدولية بسبب الصراع مقبول من جانب قيادة البلاد. ففي أوائل تشرين الأول/أكتوبر، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي “إسرائيل كاتس” أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش شخص غير مرغوب فيه، مما أظهر أن إسرائيل ليست خائفة للغاية من العواقب السلبية للعزلة الدولية الناشئة.
وستحاول معظم الدول العربية الاستمرار في البقاء على الحياد ولم يكن لرد الفعل العاطفي من “الشارع العربي” على ما يجري في قطاع غزة وجنوب لبنان تأثير يذكر على مواقف الدول العربية الرائدة تجاه إسرائيل. السمعة المثيرة للجدل التي يتمتع بها متطرفو حماس وحزب الله الشيعي، والمخاوف بشأن نوايا إيران واهتمامها بتطوير التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع إسرائيل، كل هذه العوامل أدت إلى الحفاظ على الاتجاه الذي حددته اتفاقيات أبراهام لعام 2020. ويمكن الافتراض أنّ غالبية الدول العربية ستحاول أن تنأى بنفسها عن الصراع قدر الإمكان. ولكن في الوقت نفسه، فإن التقدم السريع الذي اقترحته خطابات نتنياهو الأخيرة على طول مسار إنشاء “حلف ناتو في الشرق الأوسط” ــ وهو تحالف عسكري سياسي بين الدول العربية المحافظة وإسرائيل لمواجهة جمهورية إيران الإسلامية ــ يبدو غير مرجح.
ستدعم الولايات المتحدة إسرائيل تحت أي ظرف من الظروف. ومن غير المرجح أن تؤدي نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر إلى أيّة تغييرات جوهرية في الموقف الأميركي تجاه الصراع. ففي نهاية المطاف، لم يؤد وصول إدارة جوزيف بايدن إلى السلطة في واشنطن عام 2021 إلى مراجعة استراتيجية دونالد ترامب في المنطقة. ومن الواضح أن الجمهوريين، إذا وجدوا أنفسهم في البيت الأبيض، سيدعمون إسرائيل بشكل أكثر ثباتا ودون قيد أو شرط، لكن الديمقراطيين، ممثلين بـ كمالا هاريس، لن يبتعدوا عن شريكهم الاستراتيجي الرئيسي في المنطقة، وعلى الأرجح سيقتصرون على دعم إسرائيل. فقط مجرد انتقاد رمزي للتجاوزات المحتملة في غزة أو جنوب لبنان. وسوف تلعب إسرائيل، كما كانت من قبل، بمهارة على الانقسامات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة.
ولن يكون من الممكن تقويض استقرار إيران. إذا كان الهدف النهائي من تصرفات إسرائيل هو تغيير النظام السياسي في طهران، فمن الصعب اعتبار ذلك واقعياً. حيث يتمتع النظام السياسي للجمهورية الإسلامية بدرجة كبيرة من الاستقرار. وعلى مدار العقود الماضية، مرت البلاد بمجموعة واسعة من التجارب والأزمات، وشهدت عدة موجات من الاحتجاجات الحاشدة في الشوارع، لكن النظام الذي ظهر بعد الثورة الإسلامية عام 1979 تمكن من البقاء.
يبدو أن التهديدات الخطيرة التي يتعرض لها الاستقرار السياسي في إيران لا يمكن أن تنشأ إلا عندما يغادر المرشد الأعلى علي خامنئي المشهد السياسي، والذي ظل على رأس سلطة الدولة لأكثر من ثلاثة عقود ونصف. وفي الوقت نفسه، تجدر الإشارة إلى أن إطالة أمد الصراع مع إسرائيل يجعل من الصعب للغاية تنفيذ المبادئ التوجيهية لبرنامج الرئيس الإيراني الجديد لإقامة حوار بنّاء مع الغرب والجيران العرب، مما يعزز مواقف التيارات والجماعات الأكثر تحفظاً في قيادة البلاد. ويمكن أن تكون المواجهة العسكرية مع إسرائيل أيضاً عاملاً في تسريع تنفيذ البرنامج النووي الإيراني.
كل هذا يعني أن الهدف الواقعي للمجتمع الدولي في المستقبل القريب لن يكون التوصل إلى تسوية شاملة للصراع، بل منع المزيد من تصعيده. ومن الواضح أنه بهذه الروح ناقش رئيسا روسيا وإيران مشاكل الشرق الأوسط في عشق أباد.
وفي المستقبل القريب جداً، ستقوم إسرائيل بخطوتها التالية، وستكون الكرة مرة أخرى في ملعب الجانب الإيراني. والإجابة عن سؤال ما إذا كان من الممكن تجنب حرب كبيرة أم لا في منطقة الشرق الأوسط التي طالت معاناتها، ستعتمد على قرار طهران.
الكاتب: اندري كورتونوف: باحث في المجلس الروسي للعلاقات الدولية
الترجمة عن الروسية: مركز الفرات للدراسـات