قراءة في كتاب

“رسائل السجن” لــ أنطونيو غرامشي: العودة لماضي الاعتقال والاستفادة في الرّاهن

يعدّ الكتاب الذي نحن في صدد الكتابة عنه وتوضيحه، من أعظم المنجزات الفكرية والثقافية والسياسيَة في عالم الكلمات، الذي تحوّل فيما بعد إلى حقيقة في أغلب البلدان التي خاضت تجارب الثورات، وما نعنيه، هو كتاب: “رسائل السجن” للمفكّر الإيطالي الأشهر: “أنطونيو غرامشي”. المنجَز، الذي كان نتاج سنوات طويلة من الاعتقال على أيدي الحكومات الفاشية، حيث كانت ظروف الاعتقال هي الموجّه الأساسي للفيلسوف والمفكّر الإيطالي: “أنطونيو غرامشي”، ليدوّن الخلاصة الأبديّة لسنوات التفكير داخل العزلة، الزنزانة التي تعطي للوهلة الأولى بيانَ حبس الحرية، لتتبدّل المعادلة فجأةً رأساً على عقب وتحوّر ماضيةً إلى أعلى مراتب الألق والحريّة والخوض في غمار الحصول على الحرية من داخل اللاحريّة، الاعتقال على خلفيّة تهَم باطلة دفعت بالمفكّر لأن يدوّن تاركاً أثراً فكريّاً نظريّاً لا يُستهان به للشعوب بعد مماته.

من هو “أنطونيو غرامشي”؟:

“فيلسوف ومناضل ماركسي إيطالي، ولد في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية عام 1891، وهو الأخ الرابع لسبعة أخوات، تلقّى دروسه في كلية الآداب بتورينو، حيث عمل ناقداً مسرحياً عام 1916. انضم إلى الحزب الشيوعي الإيطالي منذ تأسيسه وأصبح عضواً في أمانة الفرع الإيطالي من الأمميّة الاشتراكيّة.

اعتقل لأول مرة بسبب تأييده للجمهوريتين الهنغارية والروسيّة، لكنه بدأ في خريف العام ذاته تنشيط حركة “مجالس العمال” في تورينو، وفي عام 1921 أسّس مع مجموعة أخرى الحزب الشيوعي الإيطالي وانتخب نائباً عام 1924 وترأس اللجنة التنفيذية للحزب، وفي الثامن من نوفمبر أودع السجن بناء على أمر من موسوليني، حيث أمضى العشر سنوات الأخيرة من عمره في السجن قبل أن يموت تحت التعذيب في 26 أبريل 1937، ومن السجن يعلن قطيعته مع ستالين، وفيه يكتب ” دفاتر السجن”.

تاريخ الكتاب:

يعود تأريخ تأليف الكتاب إلى أحد عشرة سنة قضاها “غرامشي” في السجن بدايةً من العام 1926، خرج وبعد أيَّام فقط من خروجه، غادر الدنيا تاركاً خلفه منجزاتٍ فكرية ثوريَّة لعلّ أهمها: “دفاتر السجن” والتي هي رسائلُ كتبها غرامشي لأمّه وزوجته وأبناءه، متحدّثاً فيها وبنكهة كتب اليوميّات المعتادة، لكن بطريقةٍ تتوضّح من خلال القراءة أنّ الرسائل كتبت لكلّ الأمّهات وبالتالي لكلّ المجتمع، متضمناً الكتاب مجموعة من الرؤى التي كتبت على الرغم من وضعه الصحيّ المعتلّ وسوء أوضاعه خلال فترة سجنه: “في يوليو عام 1928، تمّ إيداع غرامشي، سجن الطوارئ ب،”تورينو”، في محافظة “باري”، بالزنزانة رقم 7047 التي لم يغادرها إلا إلى الموت” ص10.

تمكّن غرامشي، وعلى الرغم من تعرّضه لإزعاجات فظيعة من السجّانين داخل زنزانته، أن يدوّن ما يقارب الـ اثنين وثلاثين دفتراً، -أي حوالي ثلاثة آلاف صفحة مكتوبة بخطّ اليد-، وتمّ نشرها وطبعها بعد مماته بوقتٍ ليس بطويل.

إذن فكتاب الرسائل هذا، لن يكون فقط مجرّد رسائل مُرسلة من داخل سجنٍ ما في هذا العالم، بل ستنطوي تلك الرسائل على عمقٍ في التفكير وبعدٍ رؤيويّ سياسيٍ اجتماعي ثقافي وحتّى اقتصادي في نظرة الفيلسوف إلى الواقع من داخل سجنه، سيؤكّد لنا “غرامشي” عبر هذه الرسائل على أنّ مقاومة الظلام والأفكار الظلامية والاستبداد تتحقّق حتّى من داخل سجن المستبدِّ عينه، فالسجن بوصفه معادلةً للنهاية – نهاية المناضل أو السياسيّ أو المثقف- سوف تنكسر داخل صفحات هذا الكتاب، الفعل المقاوِم من داخل حجرةٍ مظلمة سوف ينبلج ليكون فجراً مُعاشاً لقرونٍ طويلةٍ قادمة من الحياة البشريّة والفكريّة على حدٍّ سواء.

المحتوى:

يغلب على الكتاب طابع الفكاهة الذهنيّة الذكيّة وتقديم المشورة في أكثر من مفصلٍ حياتيٍّ أو سياسيّ أو ثقافيّ، من خلال الرسائل التي يوجّهها غرامشي إلى والدته من داخل معتقله، حيث البداية تكون اعتيادية – هذا ما يخيّل للقارئ للوهلة الأولى- لكن ومع المضيّ في القراءة، نكتشف أنّ كلّ الرسائل –حتى الأوليّة منها- التي تتضمّن شرحاً لوضعه الصحي لوالدته واطمئنانه على عائلته، يجتاحها مسحة من القوّة والجبروت والقدرة على تحمّل صِعاب ظروف المعتقل، فمن الحبس الاحتياطي، مكان الاعتقال الأوّل، يكشف غرامشي من خلال رسائله، أنّ التهمة لا تعنيه، بقدر ما يعنيه أن تكون والدته بصحةٍ جيّدة، وأن تستطيع مدّه بالقوّة اللازمة، رافضاً أن تنعت والدته نفسها بأنها صارت كهلةً وتظهر عليها علامات الشيخوخة، ربمّا التخيّل المستمرّ لصورة الأمّ في ذهن غرامشي دفعه إلى التأكيد على أنّ أمّه لن تشيخ أبداً، ثمّة ما يمكن الدلالة عليه بأنّ العلاقة بين الأمّ والمناضل أو السياسي، تغدو علاقةً معقّدة وغير قابلة للشرح أو الإيضاح مهما كانت أدوات الاستقراء قويّة، على الرغم من أنّ الكتاب برمّتـه لا يحوي سوى على رسائل تؤكّد غالباً على قوّة التحمّل لدى غرامشي الإنسان، ومن ثمّ قوّته على إيجاد ذاته المتفهّمة لسنوات السجن، التي ستكون فيما بعد رسالةً قويّة ضدّ الظلم والاستبداد: “حياتي تتدفق دائماً بنفس الطريقة، أقرأ، آكل وأنام وأفكّر، لا أستطيع أن أفعل أي شيء آخر، ولكن أنتِ لا ينبغي أن تقلقي أو تتوجّسي وعلى وجه الخصوص يجب أن لا يتهيَّأ لكِ أي شيء” ص29.

يُجمِع المتابعون والمهتمّون والبحّاث في العالم على أن ما كتبه غرامشي في السجن يعتبر من أهمّ الملاحق النظرية الفلسفيّة والسياسيَّة وحتّى الأدبية التي كُتبت عن حال الثورات في العالم، رجل واحد مقابل سلطة مستبدّة وأمام عالم صحيّ داخلي هشّ، استطاع أن يجتاز الآلام تلك عبر الكتابة وحدها، أو ربما عاونه التذكّر الطويل في أن يتخيّل الحلول للعالم وأن يبرع في الإتيان بحلولٍ ثقافيّةٍ سياسيَّة متعدّدة الأوجه.

وفي نظرة فاحصةٍ مدقّقة، يُستنبط العديد من الأفكار المجمّعة داخل هذا الكتاب، بدءاً من سرد يوميّاته عبر الرسائل المختلفة لوالدته ومن ثم فيما بعد لزوجته، إضافةً لنقطة هامّة يتحدّث عنها غرامشي خلال رسالة من الرسائل، حين يكتب: “في الآونة الأخيرة تخلّيت عن قراءة الجرائد، لكي أتمكّن من قضاء بعض الوقت رفقة معتقلين آخرين. الرفقة ليست كما تتخيّلين، هي ما يمكن أن يمنحه السجن، لأنّه غير مسموح أن أذهب لزيارة معتقلين سياسيّين، يتعلّق الأمر إذن بسجناء الحقّ العام. مع ذلك أجد القليل من التسلية والوقت يمرّ بسرعة” ص 45، العبارات الأخيرة في هذا المقتطف تدلّ على خوف المستبدّ الدائم من السماح للمعتقل السياسي أن يختلط بمن هو في مثل حالته، إذ أنّ المعتقل السياسيّ حتّى وإن كان في المعتقل من الممكن جدّاً أن ينفِّذ ثورته بكل رباطة الجأش الموجودة بداخله، تلك الرباطة التي ما تنفكّ تحاول أن تعطي الإيمان لمن هم في الخارج، أعني المعتقل الكبير، معتقَل الاستبداد الحقيقي.

يبدأ الكتاب تدريجيّاً من خلال الرسائل المؤرّخة ترتيباً زمنيّاً، بالانزياح نحو الحديث عن أمورٍ ذاتيّة متعلّقة بقوّة التحمل وثقة النظرة للمستقبل بهدوءٍ غريب من داخل الزنزانة، الحديث عن وضعه كمعتَقَل لدى مستبدّين يحاولون السيطرة على فكره وتميّزه وثورته الشخصيّة التي بقيت علامةً فارقة على مرّ العصور، وكذلك قراءة أخبار محاكمته في الصحف حينذاك: “برهنت لي تجربتي أنّي أكثر قوة، حتّى جسدياً، وأكثر مما كنت أتصوّر، هذه العوامل كلها تساهم في جعل نظرتي إلى المستقبل القريب نظرةً باردة وهادئة” ص54.

ما يشدّ في تلك الرسائل، هو كمّ الصراحة فيما بين غرامشي ووالدته، لا أمر من الممكن أن يخفيه غرامشي عن والدته، الأمور الخاصّة بالتهم الموجّهة إليه أو بسير محاكمته أو حتّى من تسبّب في ذلك الاعتقال المشين بالنسبة لمعتقليه، وليس بالنسبة لشخص “غرامشي”، فالأخير حقّقَ من خلال الاعتقال ذاك كلّ المجد، في أن يكتبَ ويدوّن ويناضل لأجله ولأجل الشعب وحقوقهم المختلفة.

لا يغفَل “غرامشي” عن شيء، فيسأل من خلال الصور التي تصله أو من خلال متابعته في الصحف القليلة التي تصله إلى داخل الزنزانة عن أوضاع الزراعة فيسأل في إحدى تلك الرسائل: “أدهشني نمو شجيرات الماندرين في “تانكا ريجيا”. من يزرع أراضي “تانكاريجيا”؟، هل هم القدماء المحاربون؟ بالنسبة لي فالماندرين جيّد” ص 90، كما وسوف يطلب أن يمدّوه من الخارج بكتابٍ يتحدّث عن المسألة الضريبيّة، معادل الاقتصاد بالنسبة للعالم، فيطلب: “ما زالت حياتي هي نفسها، مضجرة دائماً. أتمنّى أن تطلبي من أحدهم أن يبحث بين رفوف الكتب المميّزة إن كان من بينها كتيِّب بعنوان المسألة الجنوبيّة” ص91، فالكتاب المقصود الذي أشار إليه غرامشي في مقتطع الرسالة هو عن المسألة الجنوبيّة والإصلاح الضريبي الصادر عام 1920 للإيطالي أغوستينو فوتوناتو، حتّى وهو داخل السجن، يشير المقتطَف البسيط إلى رغبة عارمة لدى “غرامشي” في أن يطّلع أكثر على المسألة الضريبيّة من الناحية الاقتصاديّة ومدى تأثير الأمر على الحياة العامّة آنذاك.

أمثلةٌ عدّة من داخل الكتاب يمكن الاستشهاد بها لتكوين فكرةٍ عن مدى عظمة هذا الأثر الأدبي والفلسفي السياسيّ، على الرغم من أنّ الرسائل الأخيرة ضمن الكتاب تشير ببساطة إلى انهيار القوى لدى غرامشي فيما يخصّ الكتابة وحدها وتوقّفه عنها لفترةٍ وجيزة، ولكنّ المعنويّات تبقى على ما هي عليه منذ البداية، ويعلّل غرامشي سبب انتكاسته كونه كان مهدّداً بشكلٍ دائم من شيءٍ ما غامض لم يَخُض فيه ربمّا حفاظاً على حياة من يقرأ هذه الرسائل، فيقول: “لم أسترجع بعد قواي الجسديّة والذهنية كاملةً، خلال الأيّام، التي قضيتها في (تورينو) كنت منهكاً، بشكلٍ يُشرِفُ على الكارثة. وكان استئنافي لأنشطتي بطيئاً، تتخلّله انتكاسات نحو الأسوأ تارةً، ونحو الأحسن تارةً أُخرى. على كل حال، أنت تعرفين كم أنا شديد المقاومة، ولديّ مخزونٌ هائل من الصبر، مكنّني، لحدّ الآن، من تحمّل المراحل العسيرة، بالهزّات التي عشتها أحياناً” ص97.

لا يمكن الإحاطة بالمحتوى الدقيق للكتاب بأكمله داخل مبحثٍ قصير نسبيّاً، فالأمور الدقيقة الموجودة داخل الرسائل تتوضَّح مع القراءة المتأنّية، حيث التفكيكُ واجبٌ ضروريٌّ عامّ لفكّ ممرّات سراديب الألغاز داخل عالم هذه الرسائل المدوّنة، عالمُ الإصرار المتوفّر داخل شخصية المعتقَل/الفيلسوف، هذا الإصرار الذي يدفعه لأن يكون على درايةٍ كاملة بأنّ فعل المقاومة هو المنتصر الأوحَد حتّى ولو اشتدّت السلطة ومضت في استبدادها إلى أبعدِ مدىً يمكن تصوّره، وعلى الطرف الآخر، هناك شخص واحد أعزل دون سلاح سوى الكتابة هو مصدرُ خوفٍ دائم لدى تلك السلطة المستبدّة، الطرف الأوّل الأكثر ضعفاً في تركيبة المعادلة، والتاريخ على الدوام يعيد ذاته المُتهالِكة بفعل الاستبداد والتسلُّط.

كل ما يمكن استنباطه بالمجمل من مفردات الكتاب، هو مفردة واحدة: “المقاومة” كفعلٍ يوميّ يعيد التاريخَ إلى صوابه وينقذه من مهلكته التي أوصلته السلطات المستبدّة على مرّ الزمان، أي شخصٌ نموذج أهداه التاريخُ المنهك ذاته إلى البشريَّة ليعيد تصويب أخطاء البشر بشكلٍ عامّ.

البُعد الحياتي للكتاب في الرّاهن:

لا شكّ وأنّ كتاب “رسائل السجن” لن يكون كتاباً يحوي رسائل إلى والدة “غرامشي” وحسب، لا قطعاً، بل سيمتدّ الكتاب لأن يكون سيرة يوم، أو أيّام متراكمة تحوّلت لسنوات من النضال والكتابة من داخل المعتقل، هذه السيرة التي ستغذّي الفكر الإنسانيّ فيما بعد، لتغدو الرسائل بطريقةٍ أو بأخرى منهجَ حياةٍ متكاملة لشخص ضحّى بحياته لكي يكون بمقدوره أن يدافع عن ذاته وعن أفكاره وحياة من هم على شاكلته، الواقعين تحت وطأة ظلمٍ واستبدادٍ سلطويّ، إذن لا علاقة للكتاب سوى بالنضال الشخصيّ الذي يتحوّل خلال لحظات إلى نمط حياة سياسيَّة ونضاليَّة جمعاء، يُستفادُ منها في الأيّام المستقبلية القادمة، فها هو “غرامشي” يتحدّث لأمّه كتابةً عن الخيانة والموقف اللاأخلاقي للخونة: “لكن يجب أن تأخذي بعين الاعتبار أيضاً الموقف الأخلاقي، ألا تتفّقين معي في هذا؟ وربما هذا وحده ما يمنح القوّة والكرامة. السجن شيء رهيب، لكنّه بالنسبة لي إذلال إذا رافقه الضعف الأخلاقي وإذا صاحبته الخيانة فالأمر أشدُّ سوءاً” ص 62.

لا يعلم، أو لم يكن يعلم “غرامشي” آنَ خطّ ودوّن تلك الرسائل أنّها ستؤثِّر في سلوكيات وأفكار فئة عظيمة من الناس، فئة لن تقتصر على بني جلدته فقط، وإنّما سيتخطّى الأمر إلى ما هو أبعد، مكانيّاً وزمانيّاً كذلك، كان يدوّن لأنّه كان بحاجةٍ إلى حريّةٍ ما لا تتوافر داخل معتقله، لذا اجترح لذاته الحريّةَ في الكتابة والحديث عن دور المثقف داخل المجتمعات، المثقف الذي من الممكن أن يعمل وفق مزاجٍ له أن يحطِّم القيود ويُبعِد الظلام من حوله، وربمّا من داخله كذلك، وداخل كل من سيقرأ في المستقبل القادم ومن أجيالٍ مختلفة.

لا يكفّ “غرامشي” عن الاهتمام بأوضاع الشعب حتّى وهو داخل أقبية الظلام، فيرسل مستفسراً: “ما كتبته لي غرازييتا شغلني كثيراً، فإذا كانت الملاريا تتسبّب غالباً في داء السلّ، فهذا يعني أنّ الشعب يعاني من سوء التغذية، أريد من غرازييتا أن تزوّدني بمعلومات عمّا تأكله أسرة خلال أسبوع” ص82 . لا يمكن التغاضي عن الرسائل الهامّة داخل كتابة “غرامشي” الفليسوف، فلكلّ كلمةٍ دوِّنت أهميّة ومغزى تدفع الرسائل لأن تخرج من إطار الكتابة وحسب، بل تمتدّ لتكون رؤيةً ثاقبة على ما يجب أن يكون عليه المناضل أو السياسيّ أو المثقّف على حدٍّ سَواء.

يُستشفّ من الكتاب برمّته، ما يمكن القول عنه غوصاً في تفاصيل يوميّة لسجين غير عادي، يبعث رسائل لوالدته ومن ثمّ زوجته، مستفسراً عن أوضاعٍ عائليّة ومن ثمّ عن أوضاع عامّة الشعب، مقترحاً سبلاً وحلولاً لبعض المعضلات السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، كلّ ذلك من خلال رسائلَ تنطوي على الحلول للمفاصل الحياتيَّة الآنفة الذكر في أيّ دولةٍ كانت، حيث بالإمكان التطبيق بسهولةٍ ومرونةٍ فيما لو تمّ تفكيك تلك الرسائل من حيثُ البنيةِ والمضمون بشكلٍ جيّد وعمليّ.

يشمل الكتاب إضافةً إلى الرسائل، صوراً توضيحيّة عن سجن تورينو، المعتقل الرئيس لـ غرامشي، ناهيك عن صور عائلته، وملاحق توضّح كل الشخصيّات المقرّبة من غرامشي، المذكورين ضمن الرسائل، وسيلةٌ ارتأت بها دار النشر أن يكوِّن القارئ صورةً تخييليّة عامَّة عن لحظات غرامشي التي قضاها وهو يدوِّن تلك الرسائل في حالة صفاءٍ ذهنيّ عظيمة، مفسِّراً ومحلِّلاً ومقترِحاً الحلول وطالباً المزيد من التفسيرات من خارج عالمهِ المغلق الذي تحوَّل إلى عالمٍ مفتوح أكثر من العالم الواقعي في الخارج.

الخلاصة:

من آثار تلك الرسائل الكثيرة التي أرسلها “غرامشي” من داخل سجنه الذي قضى على حياته من الناحية الفيزيولوجيّة، ولكن من الناحية المعنويّة لم يتمكّن من مسّ شعرةٍ من أفكاره، تبقى الخلاصة المرتجاة، هي فعل المقاومة، وانتشار الفكرة ومقاومتها إلى أزمانٍ وأجيالٍ قد تمتدّ لمئات السنين، سجينٌ مفكّر خلف قضبانٍ وهميّة صنعها الاستبداد، استطاع أن يمرّر أفكاره عبر التاريخ إلى مختلف الشعوب، بالكتابة والمقاومة وحدهما كفعلين متلازمَين مُتتابعَين لمفكّر ومناضل قضى أيّامه يبعث برسائل إلى أهله، ولكن المقصود بتلك الرسائل هو العالم بأكمله، ربمّا ليقتدي به ويفعل ما بوسعه لأن يخلّص الإنسان من فعل التسلّط السياسيّ أو ذلك المبنيّ على فرقٍ عرقيّ أو طائفيّ في أيّ رقعةٍ جغرافيَّة من هذا العالم الفسيحْ.

الكتاب: رسائل السجن، رسائل أنطونيو غرامشي إلى أمّه 1926-1934، ترجمة: سعيد بوكرامي، ط 1، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، 2014.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى