
المفاوضات النووية مع إيران.. دبلوماسية في العلن وحرب في الظل
مع انتهاء الجولة الثالثة من المفاوضات التي عُقدت في العاصمة العُمانية مسقط بين الولايات المتحدة وإيران بشأن ملفها النووي، وإعلان الطرفين إحراز تقدم جيد في هذه الجولات، تم تأجيل موعد الجولة الرابعة التي كان من المزمع إجراؤها في روما، السبت الماضي، وذلك “لأسباب لوجستية” وفق ما أعلنته سلطنة عمان. لكن، يبدو أنّ السبب هو أنّ الإدارة الأمريكية اتجهت إلى عكس ما كانت تتوقعه إيران من إبداء مرونة في التعامل وإظهار بعض حسن النية عبر رفع بعض العقوبات الاقتصادية واستمرار المفاوضات حول مسألة التخصيب والتزامات إيران، فقد قام ترامب بالتصعيد ضد إيران، وفرض حزمة من العقوبات بعد ثلاث جولات من المفاوضات، وهدّد بفرض عقوبات ثانوية على الدول التي ستشتري النفط أو البتروكيمياويات الإيرانية، متوعداً إيّاها بمنعها من التعامل التجاري مع الولايات المتحدة.
كما أدلى وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، بتصريحات متشددة لقناة فوكس نيوز، أغلقت باب التفاؤل أمام الإيرانيين في الوصول إلى صفقة مغرية مع الأمريكيين، حيث عاد إلى المطالب الأمريكية السابقة، وهي الكفّ عن دعم الجماعات المسلحة المزعزعة لأمن الإقليم، والابتعاد عن تصنيع الصواريخ بعيدة المدى التي يرى أنها تهدف لامتلاك أسلحة نووية، وكذلك وقف تخصيب اليورانيوم.
هذا التشدد الأمريكي تجاه إيران أوضح للنظام الإيراني أنه ليس بوسعه الحفاظ على أوراق قوته مقابل المغريات الاقتصادية فقط، والتي تحدثت تسريبات عن استثمارات أمريكية ضخمة في إيران، وردت في رد خامنئي على رسالة ترامب. إزاء هذا التحول في الأجندة الأمريكية لاستكمال المفاوضات، بدأت إيران تشعر أنها وقعت في فخ سياسي محكم، وبدأت مؤشرات فقدان اليقين في إمكانية إثمار هذه المفاوضات وفق ما تشتهيه إيران، بالظهور، وتجلى ذلك في تصريح علي لاريجاني، المستشار البارز للمرشد علي خامنئي، بأن “المفاوضات ربما تنجح، وربما لا”.
كما ذكرت صحيفة إيرانية مقربة من المرشد أنّ “الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقود مساراً نحو الكارثة”. وأبدت إيران رفضها للشروط الأمريكية القديمة-الجديدة، وهي نفسها التي طُرحت بقوة ضمن الشروط الاثني عشر لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو. وبدأت الإدارة الأمريكية الجديدة تناور مع النظام الإيراني ضمن مساحة أضيق، ولكن من موقف أكثر قوة، وذلك بعد الخسائر الإقليمية التي مُنيت بها إيران عقب حرب غزة وتداعياتها، إذ يخيّر ترامب إيران بين تفكيك برنامجها النووي بالكامل واستيراد اليورانيوم المخصب من الخارج، أو الحفاظ عليه ضمن الحدود السلمية مع فرض ضوابط أكثر صرامة، من بينها وجود مشاركة أمريكية مباشرة في مراقبة هذا البرنامج، وإلغاء بند “الغروب” في الاتفاق السابق، الذي كان يسمح لإيران بإسقاط بعض القيود التقنية تدريجياً عن الأنشطة النووية اعتباراً من عام 2025. وذلك مقابل تخلي إيران عن دعم وكلائها في المنطقة، ووضع حدود لبرنامج صواريخها الباليستية.
ويمكن الاستدلال على هذا التوجه من خلال تصريح ترامب الأخير بأنّ هدفه هو تفكيك البرنامج النووي، لكنه مستعد للاستماع إلى الحجج التي تؤيد احتفاظ إيران ببرنامج نووي مدني. يريد ترامب من هذا الطرح تطمين إسرائيل وتهدئتها، والتأكيد على أنهما يشتركان في هدف واحد تجاه البرنامج النووي الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى يبقي الباب موارباً مع إيران للضغط عليها في سبيل الرضوخ للمطالب الأمريكية، والذهاب بعدها إلى صفقة كبرى.
دفع هذا التوجه الجديد إيران إلى محاولة كسب الوقت، والضغط عن طريق الحوثيين على إسرائيل التي تراقب مسار المفاوضات ويدها على الزناد، فكان الصاروخ الحوثي-الإيراني، فرط الصوتي الذي انفجر قرب مطار بن غوريون رسالة تحذير إيرانية لإسرائيل من خطورة استهداف منشآتها النووية، وأنّ الورقة الإقليمية لإيران ما تزال فعالة، رغم الضربات الكبيرة التي تلقتها، في محاولة منها لتقوية موقفها التفاوضي إزاء الضغوط الكبيرة التي تواجهها.
لكنّ الرّد الإسرائيلي بالتنسيق مع الولايات المتحدة جاء سريعاً، عبر استهداف مواقع حيوية هامة للحوثيين، من بينها ميناء الحُديدة، الذي ترى إسرائيل أنه يُستخدم لتهريب أسلحة إيرانية ومعدات عسكرية للحوثيين، وكذلك مطار صنعاء. ومن المتوقع ألّا تتوقف الضربات عند هذا الحد، وقد قال نتنياهو صراحة إنّ الهجمات ستشمل إيران أيضاً، لكنهم هم من يحددون زمان وكيفية الهجوم.
لا شكّ أنّ إسرائيل لن تكون راضية عن أي اتفاق أمريكي-إيراني بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهي تضغط على الولايات المتحدة لتطبيق النموذج الليبي الذي يقضي بتفكيك كامل لهذا البرنامج. كما أنّه من الصعب أنْ تتقّبل إسرائيل تحسن العلاقات الأمريكية-الإيرانية بعد التوصل إلى اتفاق، وانتعاش النظام الإيراني اقتصادياً وعودته إلى الاقتصاد العالمي، وهو يحتفظ بأوراقه التي تهدد الوجود الإسرائيلي على الدوام.
ومن الجليّ أنّ الإدارة الأمريكية تميل إلى إيجاد صيغة توافقية تحصل بموجبها على تنازلات جوهرية من إيران، بما يجنبها خوض حرب كبيرة في الشرق الأوسط، في ظل عدم التوصل لتوافق مع روسيا بشأن الحرب في أوكرانيا، لكنها حريصة في الوقت نفسه على تحقيق ضمانات تحفظ أمن حليفتها إسرائيل. وقد أكّد ترامب هذا التوجه مراراً، وأقال في سبيل تجنب هذه الحرب مستشاره للأمن القومي، مايك والتز، الذي كان يُبدي توافقاً مع نتنياهو حول توجيه ضربة عسكرية لإيران، كما فعل الأمر ذاته في ولايته الأولى مع جون بولتون الذي كان يطالب أيضاً بقصف إيران عام 2019.
إنّ رؤية إسرائيل تجاه إيران واضحة، وهي تختلف عن الرؤية الأمريكية، فهي ترى أنه لا يوجد حلّ سوى القيام بضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية المعروفة، مهما كانت النتائج. وعلى الرغم من أنها ترضخ للضغوط الأمريكية في الوقت الراهن للسماح باستمرار المفاوضات، إلا أن متابعة ما جرى داخل إيران خلال الأيام الماضية يشير إلى حرب خفية تقودها إسرائيل ضد إيران، فلا يمكن اعتبار الانفجارات والحرائق المتكررة الغامضة في عدد من المدن الإيرانية حوادث عابرة، فالمواقع التي تعرضت لهذه الانفجارات ليست مواقع عادية، ومنها ميناء رجائي في بندر عباس، إذ يُعتقد أنّ إسرائيل لغّمت حاويات مخزنة فيه كانت تضم الوقود الصلب للصواريخ الباليستية، وأدى إلى تدمير هائل في الميناء الذي يُعد شريان الاقتصاد الإيراني، وبوابة إيران التجارية على العالم. وكذلك الحريق الناجم عن انفجار في محطة “منتظر قائم” الحرارية للطاقة في مدينة كرج قرب طهران، والذي يُرجّح أيضاً أنه كان استهدافاً لمنشأة إنتاج وتطوير لأجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم.
رغم وجود اختلافات بين أمريكا وإسرائيل في التعاطي مع النظام الإيراني والمشكلة النووية، سيعمل القادة الإسرائيليون في نهاية المطاف وفق عقيدتهم الصلبة في التعامل مع إيران، باستخدام أدوات متعددة، منها السعي لإفشال أيّ اتفاق نووي محتمل، كما حصل في 2015، وتوسيع نطاق “حرب الظل” التي تشمل استهداف مواقع حيوية داخل إيران، واغتيالات نوعية لقيادات بارزة في النظام. وقد لا تستبعد إسرائيل خيار الضربات الاستباقية الجوية، إذا رأت أنّ الاتفاق مع الولايات المتّحدة يُبقي على البرنامج النووي الإيراني، ويهدّد أمنها الاستراتيجي.