قضايا راهنة

هل تتجه الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نحو الاعتراف السياسي؟

تبرز التطورات في شمال شرق سوريا، في ظل التغيرات المستمرة في المعادلة السورية والتحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، كإحدى أهمّ الملفات التي تحظى باهتمام واسع على الصعيدين الدولي والإقليمي، والتي قد تكون نقطة فارقة تقود سوريا نحو مرحلة جديدة تحمل ملامح مختلفة في هيكلية السلطة والإدارة، بما يفتح المجال للاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية وتحولها إلى نموذج قابل للتطبيق في مناطق سورية أخرى.

وحدة الصف الكردي بين الرؤية السياسية والتكامل الإقليمي

يشكّل انعقاد مؤتمر وحدة الصف الكردي برعاية أمريكية وفرنسية، وبمشاركة قوى كردية من مختلف أجزاء كردستان، نقطة تحول نوعية في مسار القضية الكردية في سوريا. فللمرة الأولى، تجتمع الأحزاب الكردية بمختلف أطيافها على رؤية سياسية موحدة، تتمحور حول مطلب “اللامركزية” كإطار للحل السياسي المستقبلي في سوريا. هذه الرؤية السياسية الموحدة التي طال انتظارها، لم تكن لتتحقق لولا توافر دعم أمريكي وغربي وإقليمي واضح لهذا التوجه، حيث إن حضور ممثلين عن الولايات المتحدة في المؤتمر، ورعاية فرنسية فاعلة له، يشيران إلى أنّ واشنطن لم تعد تكتفي بالدعم العسكري لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بل تمضي قدماً نحو دعم سياسي متكامل، يمهّد للاعتراف السياسي بها.

في هذا السياق، يكتسب السماح بمشاركة وفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في المؤتمر دلالة بالغة الأهمية. إذ إنّ هذه الخطوة لا يمكن قراءتها إلّا في إطار انفتاح تركي تكتيكي، ربما جرى تحت ضغوط أمريكية وغربية ثقيلة، أجبرت أنقرة على إبداء مرونة سياسية تجاه التطورات في شمال وشرق سوريا. تدرك تركيا اليوم أنّ ميزان القوى لم يعد يسمح لها بممارسة الفيتو الكامل على تطلعات الكرد، وأن تحوّل أمريكا والغرب من داعمين عسكريين لقسد إلى لاعبين سياسيين في شمال شرق سوريا يعني أن مغادرة واشنطن -إن حدثت- لن تفتح الساحة أمام أنقرة على النحو الذي كانت تطمح إليه. ومن هنا، يبدو أن تركيا تحاول، عبر هذه المرونة، الاحتفاظ ببعض النفوذ السياسي والاقتصادي في شمال شرق سوريا بدلاً من الاستمرار في حالة العداء المفتوح، وهي قراءة تعكس واقعية سياسية جديدة في التعامل مع الملف الكردي السوري.

التحول الأمريكي الحاسم من الميدان العسكري إلى السياسة

كشفت منصة “ميدل إيست آي” نقلاً عن مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إريك تريجر، أنّه أبلغ مسؤولين إسرائيليين وكرداً سوريين بأن الولايات المتحدة “تنتقل من دور عسكري إلى دور سياسي في شمال شرقي سوريا، وأن خفض عدد القوات الأميركية سيستمر”، هذا التحول الاستراتيجي بالغ الأهمية في التعاطي الأمريكي مع الشمال السوري. فالانتقال المعلن من دور عسكري مباشر إلى دور سياسي لا يعني فقط تغيّر طبيعة الوجود الأميركي، بل يدل أيضاً على تحول جوهري في مقاربة واشنطن للملف السوري برمته. فبعد سنوات من حصر العلاقة مع (قسد) في إطار مكافحة “داعش”، تأتي هذه التصريحات لتؤسس لمرحلة جديدة من التعامل مع الإدارة الذاتية كجهة سياسية قائمة بذاتها، خاصة أن الولايات المتحدة لم تعترف حتى اليوم بالحكومة السورية المؤقتة، وهكذا، فإن خفض عدد القوات الأمريكية لا يحمل في طياته دلالات على انسحاب شامل، بل يؤسس لما يمكن وصفه بـ”الإدارة السياسية غير المباشرة”، وهو ما يُعد بمثابة تدويل ناعم لمستقبل مناطق الإدارة الذاتية، تحت إشراف غربي متعدد الأطراف، يحول دون انفلات الساحة لصالح روسيا أو تركيا.

دعم فرنسي وتفويض أوروبي ضمني

في موازاة التحول الأمريكي، جاء اللقاء الذي جمع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، مع وزير الشؤون الخارجية والأوربية، جان نويل بارو، في أربيل، ليؤكد أن باريس تتجه إلى تثبيت دورها كفاعل أساسي في شمال شرق سوريا. لم يكن هذا اللقاء بروتوكولياً بقدر ما كان تثبيتاً لدور فرنسي قيد التبلور، حيث تبدو فرنسا اليوم وكأنها قد تسلمت “تفويضاً غير معلن” من واشنطن وبروكسل لإدارة الحضور الغربي السياسي والعسكري المتبقي في المنطقة.

وقد نشر الوزير الفرنسي بعد اللقاء صورة تجمعه بمظلوم عبدي على حسابه الرسمي في “إكس”، وأكد أن “حقوق ومصالح الكرد يجب أن تؤخذ بشكل كامل في الاعتبار خلال المرحلة الانتقالية السورية”، ما يوضح بأنّ فرنسا لم تعد تتحرك بشكل منفرد، بل ضمن تصور غربي أوسع يهدف إلى تثبيت المكتسبات الكردية السياسية ضمن الحلّ السوري المستقبلي.

هذا التفويض الضمني الذي حصلت عليه باريس، يعكس قلقاً أوروبياً من أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى خلق فراغ أمني وسياسي قد تستغله روسيا أو تركيا لتعزيز نفوذها، وهو ما تحاول فرنسا والاتحاد الأوروبي تفاديه عبر تعزيز حضورهم السياسي، وضمان بقاء الإدارة الذاتية كحليف موثوق وطرف فاعل في مستقبل سوريا.

الفيدراليات والإدارات الذاتية كخيار استراتيجي إقليمي

تتزايد المؤشرات في الآونة الأخيرة على وجود توجه إقليمي وعربي، تقوده بالدرجة الأولى كل من السعودية والإمارات، نحو دعم مشاريع الإدارة الذاتية والفيدراليات في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في الدول التي تعاني من صراعات مستمرة منذ أكثر من عقد، ومنها سوريا. هذا التوجه يعكس قراءة استراتيجية عميقة لمآلات الأوضاع، لاسيّما مع تراجع النفوذ الإيراني في عدد من هذه الساحات. ففي اليمن، تقدم الإمارات دعماً صريحاً للمجلس الانتقالي الجنوبي ومطالبه بإنشاء فيدرالية أو إدارة ذاتية للجنوب، بينما تتولى السعودية دعم حلف قبائل حضرموت الذي يطالب بالإدارة الذاتية لمحافظة حضرموت المحاذية للحدود السعودية.

 هذا التحرك لا يقتصر على الأطراف العربية فقط، إذ يبدو أن إيران نفسها باتت أكثر انفتاحاً على فكرة الأقاليم والفيدراليات، ففي حين كانت القوى السنية في العراق هي التي تطالب بتشكيل إقليم خاص بها منذ 2014 وكانت ترفضها القوى الشيعية، إلّا أن تطورات المشهد الإقليمي، بعد سقوط نظام الأسد، دفعت الشيعية للحديث عن “فيدرالية شيعية”. وهذا يعني أن هذه الفيدرالية تحولت إلى خيار استراتيجي محتمل بالنسبة لإيران لضمان الاحتفاظ بنفوذها داخل العراق، وإدراكاً منها أن ضمان مصالحها الحيوية في سوريا والعراق واليمن، يقتضي الحفاظ على سيطرة العلويين والشيعة والحوثيين على مناطق نفوذهم وإدارتها بأنفسهم، بعيداً عن تهديد الجماعات الإسلامية السنية.

الاعتراف السياسي التدريجي بالإدارة الذاتية

في ظلّ التحولات العميقة، تبرز ملامح سيناريو آخر يبدو الأكثر ترجيحاً في سوريا، يتمثل بالاتجاه نحو الاعتراف السياسي التدريجي بالإدارة الذاتية في شمال شرق البلاد. حيث إنّ اللجنة المشتركة التي سيشكلها الكرد بناءً على مخرجات مؤتمر وحدة الصف، والتي من المزمع أن تتجه إلى عقد لقاءات مع دمشق من أجل طرح الرؤية السياسية الموحدة للكرد والتي تقوم بالأساس على مطلب رئيسي وهو “اللامركزية”، وهو ما يحظى بدعم إقليمي ودولي بما يفرض على دمشق القبول بهذه المطالب، ولو بشكل تدريجي.

ستعزز الدينامية التي ستنتج عن هذا التطور في الملف الكردي من فرص تتالي الاعتراف الدولي وحتى الإقليمي بالإدارة الذاتية، وفتح قنوات دعم سياسي واقتصادي لها، ولا يبدو مستبعداً أنْ تطوّر تركيا هي الأخرى علاقات تجارية واقتصادية واسعة مع الإدارة الذاتية، على غرار نموذج تعاملها مع إقليم كردستان العراق.

وبمجرد الوصول إلى توافق مبدئي مع دمشق حول صيغة الإدارة الذاتية، قد تتبعها خطوات دعم اقتصادي وإنساني عبر مؤسسات أوربية أو منظمات دولية، وربما عقود استثمار في مشاريع البنية التحتية، وصولاً لفتح قنصليات أمريكية وفرنسية في شمال شرق سوريا. هذا مما سيسهم في تعزيز استقلالية الإدارة الذاتية ويجبر دمشق على التعامل مع الإدارة الذاتية ككيان سياسي وفاعل في المشهد السوري.

الرؤية:

يبعث التحرك الغربي باتجاه دعم الإدارة الذاتية، مقروناً بالتفاهمات الداخلية الكردية، برسائل إلى عدة جهات؛ فبالنسبة إلى دمشق، تؤكد أنّ أية تسوية سياسية قادمة لا يمكن أن تتجاهل مطالب الإدارة الذاتية، وأنّ زمن المركزية المطلقة التي حكمت سوريا لعقود قد ولى إلى غير رجعة. كما ترسل رسالة إلى أنقرة، بأن المخاوف التركية من ولادة “كيان كردي” جديد يمكن التعامل معها عبر ترتيبات اقتصادية وأمنية، على غرار النموذج المعمول به مع إقليم كردستان العراق، مما يخفف من مخاوف أنقرة الأمنية. أما بغداد، فالرسالة تفيد بأنّ أربيل باتت تلعب دور الجسر بين الكرد في العراق وسوريا، وأنّ الدور الإقليمي للكرد لم يعد حبيس الحدود الجغرافية التقليدية.

يبدو أنّ الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا قد وصلت بالفعل إلى مرحلة متقدمة في مسار التشكل السياسي، فالعوامل المتشابكة، بدءاً بالانسحاب الأمريكي المدروس، مروراً بالدعم الفرنسي المباشر، وصولاً إلى وحدة الصف الكردي، تشير بوضوح إلى أن المنطقة تتجه نحو صيغة فيدرالية أو لامركزية موسعة معترف بها دولياً يتم فرضها على دمشق، مدفوعة بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، ومقتضيات تثبيت الاستقرار في سوريا بعد سنوات طويلة من الصراع الدموي.

زر الذهاب إلى الأعلى