
وجهاً لوجه مع تركيا: ما الذي تغير في نهج إسرائيل تجاه سوريا؟
شكّل سقوط دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 ذريعة رسمية لإسرائيل لزيادة نشاطها العسكري في سوريا، والذي كان يقتصر في السابق، في عهد الأسد، على غارات جوية ممنهجة على القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها. ولكن بعد هروب حكومة البعث، بدأت قوات الدولة اليهودية بتفكيك المواقع والترسانات التي تركها الجيش السوري، وسيطرت على المنطقة العازلة الحدودية التي أنشئت بموجب اتفاقية فصل القوات لعام 1974، وبدأت بتنفيذ غارات برية على أراضي جارتها.
ففي فبراير/ شباط 2025، وفي كلمة ألقاها أمام الضباط المتخرجين، حدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الخطوط العريضة لسياسة جديدة تجاه سوريا. وأعلن عن ضرورة نزع السلاح الكامل من المناطق الجنوبية من سوريا (محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء)، وأعلن عن حماية الطائفة الدرزية التي تعيش في سوريا، كما حرم الجماعات الإسلامية التي سيطرت في فترة ما بعد الأسد، من الحق في القيام بأنشطة عملياتية جنوب دمشق، حتى لو انضمت إلى الجيش السوري المخطط له.
وفسرت إسرائيل تغيير نهجها برغبتها في “ضمان أمن” مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها، وكذلك مستوطناتها الشمالية. ولا تثق القيادة السياسية للدولة اليهودية بالإدارة الانتقالية السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتفترض أنّ سوريا قد تصبح في العهد الجديد معقلاً للإسلاميين السنّة، الذين هم أكثر خطورة من الجماعات الموالية لإيران. وفي الوقت نفسه، وصف خبراء حكوميون في إسرائيل، تركيا، التي رعت مجموعات سورية، بأنها راعية محتملة لهذا السيناريو.
ويبدو أنّ روسيا حصلت على دور مهم في السياسة الإسرائيلية الجديدة. وتريد حكومة نتنياهو أن تحتفظ موسكو على الأقل بالسيطرة على المنشآت العسكرية في حميميم وطرطوس، وبحسب الدولة العبرية، فإن هذا من شأنه أن يساعد على احتواء تركيا، التي أعرب مسؤولوها بالفعل عن اهتمامهم بـ”الاستثمار الجاد” في موانئ سوريا على البحر الأبيض المتوسط.
تفيد التقارير بأنّ إسرائيل تحاول بناء تحصينات دفاعية على الحدود مع سوريا قبل وقت طويل من انهيار دمشق بعد هجوم القوات المناهضة للحكومة. ولكنّ إزاحة الاسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 أعطى حكومة نتنياهو حافزاً لتعميق جهودها للسماح بإدخال قوات إلى المنطقة العازلة التي حددتها اتفاقية فصل القوات لعام 1974، والبدء بتعزيز مواقعها. وتزعم “الجزيرة” أنّ تدخل جيش الدفاع الإسرائيلي يتضمن إقامة منشآت عسكرية دائمة وأنّ أنشطته لا تقتصر على المنطقة المحايدة.
فمنذ 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بدأت طائرات مقاتلة تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي تفكيكاً واسع النطاق للبنية التحتية العسكرية التي بقيت بعد هروب الجيش العربي السوري والقوات شبه العسكرية الموالية لإيران، والتي قاتلت إلى جانبه. وبحسب البيانات الرسمية للدولة العبرية، فقد دمّر جيش الدفاع الإسرائيلي 80% من الإمكانات العسكرية لقوات الأسد في الأيام الأولى بعد انهيار الحكومة البعثية. علاوة على ذلك، وفي إطار هذا النشاط، يميل الجانب الإسرائيلي إلى القيام بعمليات برية قصيرة الأمد على أراضي جاره الشمالي.
ولكن، إذا كانت حكومة نتنياهو تحدثت في البداية حصرياً عن ضرورة تصفية الأسلحة التي تركها الجيش السوري، وتأمين حدوده في أعقاب انهيار اتفاق 1974، فإنّ خطاب القيادة الإسرائيلية أصبح في الأشهر التالية أكثر تحديداً وإلحاحاً. وفي 23 فبراير/ شباط 2025، دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع إلى نزع السلاح من المناطق الجنوبية من سوريا، وتقديم ضمانات أمنية للدروز المحليين، وتجميد أنشطة الجماعات شبه العسكرية جنوب دمشق.
ووصف وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس هذا الخط بأنه سياسة إسرائيل الجديدة في سوريا، ووعد بأنّ بلاده “ستتحرك الآن ضد أيّ تهديد” بكل الوسائل المتاحة.
وفي إطار هذه السياسة، أعطت إسرائيل دوراً خاصاً للطائفة الدرزية. وقد أوضحت حكومة نتنياهو أنها مستعدة للدفاع عن مصالح هذه الأقلية العرقية والدينية، التي تعيش في عدة دول في الشرق الأوسط، بالقوة، حتى لو كان ذلك في منطقة العاصمة السورية، وعرضت على ممثليها حوافز اقتصادية محدودة.
إنّ استعداد هذا المجتمع للخضوع للحماية الإسرائيلية يظل موضع تساؤل، فقادتُه لم يستفيدوا بعد من تصعيد الوضع في العلاقات مع الحكومة الانتقالية، ولكن رغبة حكومة نتنياهو في التحدث بثقة نيابة عن مجتمع بأكمله لا يتمتع بتأييد داخلي في العديد من القضايا، ولكن قد يشير إلى خطط بعيدة المدى.
منذ ديسمبر/ كانون الأول 2024، تحافظ إسرائيل على اتصالات منفصلة مع إدارة شمال شرقي سوريا، التي تسيطر عليها قوات شبه عسكرية كردية. ولقد نظرت حكومة نتنياهو بجدية إلى هذه المنطقة المتمردة، التي كانت منذ فترة طويلة جزءاً من “منطقة المسؤولية” الأمريكية، باعتبارها ثقلاً موازناً فعالاً للحكومة الانتقالية في دمشق وراعيتها الأجنبية الرئيسية، تركيا. لكن هذه المفاوضات لم تتطور إلى أي شيء ملموس، إذ توصّل القادة الأكراد إلى استنتاج مفاده أنه من الضروري التفاوض مع القيادة الحالية في سوريا والتفاعل مع الجيش الوطني الجديد.
ومن الواضح أنّ إسرائيل جمّدت بشكل دائم وجودها العسكري في المواقع التي احتلتها في سوريا في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، متخلية عن مظهر الحياد. ومن المتوقع تماماً أنْ تترافق هذه الحملة العسكرية لفترة من الوقت مع العمل الدبلوماسي الإسرائيلي لتعزيز مشروع الفيدرالية في الدولة المجاورة. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في كلمة أمام نظرائه الأوروبيين في 24 فبراير/ شباط: “سوريا المستقرة لا يمكن أن تكون إلا سوريا فيدرالية تشمل مختلف أشكال الحكم الذاتي وتحترم أساليب الحياة المختلفة”.
تركيا في مرمى النيران
يتضح في سياق القضية السورية، أنّ حكومة نتنياهو تشعر بالقلق بشكل خاص إزاء النفوذ المتزايد لتركيا هناك، والتي كانت لها علاقة متناقضة، ولكن من دون مبالغة، علاقة أمومية مع القوة الضاربة للهجوم المناهض للحكومة في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2024، وهي الجماعة المتطرفة “هيئة تحرير الشام” (وهي منظمة معترف بها كمنظمة إرهابية، وأنشطتها محظورة على أراضي الاتحاد الروسي). وأصبحت الإجراءات الإضافية التي اتخذتها أنقرة على المستوى الإقليمي بعد انهيار الحكومة البعثية أحد المواضيع الرئيسية للمناقشات الداخلية في إسرائيل.
وقال تقرير صادر في يناير/كانون الثاني عن لجنة ناغل، (وهي لجنة حكومية إسرائيلية تدرس الإنفاق الدفاعي) إنّ الدولة اليهودية “قد تواجه تهديدا جديداً ناشئاً في سوريا” قد يكون أكثر خطورة من نشاط الميليشيات الموالية لإيران. ويقول خبراء حكوميون إنّ التهديد يكمن في التحول المحتمل لسوريا إلى معقل للمتطرفين السنّة الذين سيصبحون معتمدين بشكل كامل على تركيا ويرفضون قبول “وجود إسرائيل ذاته”، حيث حذرت لجنة ناغل من أنّ النشاط الحرّ لـ”الوكلاء” الأتراك على الأراضي السورية قد يؤدي إلى صدام مباشر بين إسرائيل وتركيا.
إنّ المحفز بالنسبة لإسرائيل هو تطوير اتفاقية دفاع مشترك بين أنقرة ودمشق. وبحسب صحيفة “تركيا”، فإن الصفقة المقترحة تتضمن زيادة المساعدات العسكرية التركية، ونشر قاعدتين جويتين على الأقل لأنقرة على الأراضي السورية. وفي إطار المناقشات ذات الصلة، طلبت الإدارة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، توريد طائرات مقاتلة بدون طيار متطورة، وأنظمة دفاع جوي، وأنظمة حرب إلكترونية. ولا يعرف بعد ما هي أنظمة الدفاع الجوي التركية الصنع التي قد تظهر على الأراضي السورية. لكن في الآونة الأخيرة، بدأت أنقرة بتسليح جيشها بمنتجات من شركة “أسيلسان” المحلية. ففي السنوات الأخيرة، قدّم عملاق الدفاع سلسلة من أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات الجديدة.
وفيما يتعلق بالقواعد الجوية التركية، فمن المقرر أن تنشر هناك ما لا يقل عن 50 مقاتلة من طراز إف-16، بحسب تركيا، لضمان حماية المجال الجوي السوري. ومن المؤكد أنّ الهدف الرئيسي من هذه الإجراءات هو سلاح الجو الإسرائيلي. وعلى هذه الخلفية، حذرت إسرائيل الولايات المتحدة من أنّ النشاط التركي في سوريا يشكّل تحدياً لمصالحها الوطنية، وفق ما ذكرت وكالة رويترز. وبحسب الوكالة، حاولت حكومة نتنياهو، في إطار هذه المشاورات، إقناع واشنطن بأنّ الحفاظ على النقطة اللوجستية 720 التابعة للبحرية في محافظة طرطوس وقاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية تحت السيطرة الروسية -على الرغم من احتجاجات أعضاء الكونغرس- يشكل ثقلاً موازناً لتعزيز النفوذ التركي. وحتى قبل ذلك، في عهد بشار الأسد، كانت إسرائيل تنظر إلى روسيا باعتبارها الضامن لأمن حدودها الشمالية. والآن، قد يؤدي تغير مشهد التهديدات بسرعة في الشرق الأوسط إلى تفاقم هذا التصور. لقد أوضحت تركيا بالفعل علناً أنّها بعد تغيير السلطة في دمشق، ليست ضد “إحياء” الموانئ السورية على البحر الأبيض المتوسط، على ما يبدو من خلال السيطرة عليها. ومن غير المرجح أنْ تناسب هذه “الجيرة” إسرائيل.
ومن المؤشرات الأخرى على أنّ الجانب الإسرائيلي يراهن على تعميق الاتصالات مع روسيا في ظل الواقع العسكري السياسي الجديد في سوريا، قرار نتنياهو إرسال سكرتيره العسكري، اللواء رومان هوفمان، إلى موسكو في نهاية فبراير/ شباط 2025. وبحسب معلومات غير رسمية، فإن موضوع المفاوضات كان تعميق العلاقات في المجال الأمني.
وقد حاولت تركيا، تقليدياً، الحفاظ على اتصالات محدودة مع إسرائيل، حتى في ظل الانتقادات الشديدة لها بسبب الحرب في قطاع غزة. ولكنّ حكومة نتنياهو ربما شعرت بأنّ الأحداث في سوريا أعطت أنقرة الأسس لتشديد سياستها على طول محيط مصالحها. والدليل على أنّ سقوط دمشق عزز الثقة بالنفس لدى إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان هو تقرير صادر عن جهاز الاستخبارات الوطني التركي (MIT)حول نتائج عام 2024: حيث يتحدث التكتل الأمني صراحة عن إنشاء “محور تركي”، وهو ناد إقليمي غير رسمي للدول الموالية لأنقرة.
وسيتم الحكم على دور روسيا في البنية الجديدة للعلاقات في سوريا بعد انتهاء مفاوضاتها مع القيادة السورية الحالية بشأن وضع المنشآت العسكرية في طرطوس واللاذقية. فبعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، أصبحت فرص موسكو في المناورة العسكرية والدبلوماسية أقل، لكن الجانب الروسي لا يزال قادراً على استخدام علاقاته المتساوية البعد والبراغماتية مع اللاعبين الإقليميين لإيجاد نقطة التوازن الضرورية. ومن المفيد لإدارة الشرع نفسها أن تحافظ على اتصالات مع مجموعة واسعة من الشركاء الأجانب، فهي تحاول جاهدة التقليل من صورتها كحليف لتركيا.
أما بالنسبة لإسرائيل، فإن السؤال هو: إلى أي مدى هي مستعدة لتعميق التعاون مع روسيا في مواجهة الأحداث في سوريا؟ وفي نهاية فبراير/ شباط 2025، صوّتت الدولة اليهودية ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يتضمن لغة قاسية بشأن الصراع حول أوكرانيا. وفي محادثات خاصة، فسر المسؤولون الإسرائيليون التصويت، بضرورة اتباع سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في إحياء الاتصالات الروسية الأمريكية، لكنهم قالوا إنّ السلطات الإسرائيلية لا تملك أي أوهام بشأن السياسة الخارجية الروسية، فنهج حكومة نتنياهو تجاه الملف الأوكراني لم يتغير.
الكاتب: إيغور سوبوتين، محلل سياسي في صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا.
ترجمة عن الروسية: د. سليمان الياس.