
المأزق التاريخي للشعب الإيراني: عندما لا تُجدي حتى الحرب نفعاً
منذ الأيام الأخيرة من شهر حزيران/ يونيو 2025، مرّ الشعب الإيراني بتجربة غير مسبوقة، فبعد عقود من التوتر مع إسرائيل والولايات المتحدة، دخلت الجمهورية في حرب مباشرة وشاملة مع هاتين الدولتين.
لقد دمّرت هذه المعركة التي استمرت 12 يوماً، البنية التحتية النووية والعسكرية للبلاد، وقضت على القادة الرئيسيين للقوات المسلحة، ومنهم محمد باقري، وحسين سلامي، وغلام علي رشيد، وعلي شادماني، وهزّت هيكل قيادة الحرس الثوري والجيش.
ومع ذلك، كانت النتيجة النهائية مخيبة للآمال بالنسبة للكثير من الإيرانيين: فقد تم التوصل لوقف إطلاق النار، وتمكّن النظام من النجاة، ولم يتحقق أي سيناريو من سيناريوهات التغيير، سواءٌ أكان من الداخل أم من الخارج.
إذا كانت الاحتجاجات الشعبية في السنوات الماضية، بدءاً من كانون الأول/ ديسمبر 2017 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وصولاً إلى حركة “المرأة، الحياة، الحرية” قد قوبلت بقمعٍ دموي، وإذا كان التيار الإصلاحي داخل النظام، بدءاً من حكومة محمد خاتمي وصولاً إلى مسعود پزشکیان، قد وصل إلى طريق مسدود وتلاشى تأثيره، فإنّ الأمل في انهيار النظام من خلال الضغط العسكري، قد اضمحلَّ، بالنسبة للفئة التي كانت تعتبره الحلّ الوحيد الممكن لتحقيق ذلك.
أظهرت حرب الاثني عشر يوماً، أنّ الجمهورية الإسلامية، رغم كل الهزائم العسكرية، ما تزال قادرة على الاستمرار والبقاء، وقد أصبح هذا المأزق شاملاً، لدرجة أنه تحول إلى أزمة معنوية للشعب، فما الذي بوسعه فعله، عندما لا تنجح أيّ من الطرق التقليدية للتغيير؟
ومن أجل فهم أعمق لهذا الوضع، يجب تحليله على ثلاثة مستويات؛ التحليل السياسي والمؤسساتي، والتقييم التاريخي المقارن، وأخيراً التصميم الاستراتيجي للمستقبل.
هذه المستويات الثلاثة، لا تقدّم أجوبة نهائية، لكنها تتيح الفرصة لتشكيل حوار حقيقي حول الطريق المسدود الذي وصل إليه الشعب الإيراني.
السياسة في حالة عجز
في أدبيات العلوم السياسية، تُعرف الهياكل غير القابلة للإصلاح، والتي تقمع الاحتجاجات بشدة، وتبقى ثابتةً في مواجهة الهجمات الخارجية، باسم “الأنظمة الاستبدادية المرنة”.
إنّ نموذج الحكم في الجمهورية الإسلامية، ولا سيّما منذ العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يندرج تماماً ضمن إطار نظريات “الاستبداد المقاوم”. وهو مصطلح يشير إلى الأنظمة التي تحافظ على استمرارها، على الرغم من وجود الأزمات الداخلية، والاحتجاجات الشعبية، والضغوط الدولية.
تُبيّن إيفا بيلين، أستاذة العلوم السياسية، في مقالها المرجعي بعنوان “استمرارية الاستبداد في الشرق الأوسط”، أنّ بقاء الأنظمة الاستبدادية في هذه المنطقة، يعتمد أكثر على تماسك الأجهزة الأمنية واستعدادها للقمع، أكثر من اعتماده على الشرعية أو الأداء الاقتصادي.
لقد اعتمدت الجمهورية الإسلامية على الحرس الثوري والباسيج، والشبكات الاستخباراتية الموازية، لتشكيل منظومة معقدة من السيطرة والقمع الاجتماعي، وهو ما يتناسب تماماً مع نموذج بيلين.
في كتاب “السلطوية التنافسية”، يتحدث الباحثان البارزان، وأستاذا العلوم السياسية، ستيفن ليفتسكي ولوكان واي، أيضاً عن مفهوم الأنظمة الهجينة، التي تتوفر فيها مؤسسات ديمقراطية، ولكن يتم التلاعب بها والسيطرة بشكل كبير، حتى تتمكن السلطة الاستبدادية من أن تتصرّف بشكلٍ قانوني ظاهرياً، لكن بشكل استبدادي في الواقع. ويندرج نظام الجمهورية الإسلامية بدقة ضمن هذا الإطار؛ انتخابات تنافسية في الظاهر، لكنها تفتقد للإمكانية الحقيقية لانتقال السلطة.
وعليه، فإنّ الجمع بين البنية الأمنية المحكمة والمؤسسات الشكلية، وغياب الإرادة السياسية للإصلاح، قد جعل من الجمهورية الإسلامية مثالاً بارزاً على الاستبداد المقاوم؛ نظامٌ يدير الأزمة بدلاً من الإصلاح، ويُمعِن في القمع بدلاً من المساءلة، ويستخدم الضغوط الخارجية لتعزيز تماسكه الداخلي، بدلاً من الانهيار.
لقد تمكنت مثل هذه الأنظمة من مواجهة الموجات الثورية أو المطالِبة بالإصلاح، ليس فقط من خلال القوة وحدها، ولكن أيضاً من خلال تصميم معقد للقمع النفسي، وتفتيت المجتمع المدني، وإدارة الولاء الاقتصادي، واستغلال المشاعر القومية.
على الصعيد الداخلي، لا يواجه الشعب نظاماً عطّل الإصلاحات وحسب، بل فرّغ أدوات المشاركة السياسية من مضمونها بشكل كامل.
لذلك، ورغم أنّ فوز مسعود پزشكيان في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، أعطى الكثيرين الأمل في إجراء إصلاحات في الحدود الدنيا، فإنّ افتقاره للسلطة في مواجهة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وكذلك عدم حدوث تغيير في هياكل اتخاذ القرار الكبرى، أظهر مجدداً أنّ التغيير داخل هذا النظام لا يتعدى تغيير الواجهة.
حتى في الظروف التي تعرضت فيها البلاد للضغط من الخارج، مثل العقوبات أو الهجمات العسكرية، تمكنت الجمهورية الإسلامية من تحويل هذه التهديدات إلى فرصة.
تشرح نظرية “اللعبة ذات المستويين” لعالم السياسة الشهير روبرت بوتنام، أنّه في العلاقات الدولية، يستطيع اللاعبون السياسيون الاستفادة من الضغوطات الدولية، من أجل تعزيز مكانتهم الداخلية.
تمكنت السلطات الإيرانية مِراراً من جعل العدو الخارجي أداةً للتعبئة الأيديولوجية، واتهام المعارضة الداخلية بـ “التعاون مع جهات أجنبية”، وإعادة بناء الأجهزة القمعية بدعم شعبي.
خلال الحرب الأخيرة، تم استخدام هذا النموذج مرّةً أخرى: قُتل القادة العسكريون، لكن تمّ تفعيل رواية المقاومة والمظلومية على الفور من قبل أجهزة الدعاية.
التجربة التاريخية والمحلية لحالة الانسداد
من أجل فهم أفضل لهذا المأزق، يجب أن نقيسه مع مجتمعات أخرى تمّر بظروف مماثلة.
إنّ المثال الكلاسيكي على ذلك كان الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن العشرين، حيث لم تكن الاحتجاجات الشعبية أو الضغوط الخارجية، ما جعلت التحول إلى الانهيار ممكناً، بل كانت الإصلاحات الداخلية التي قادها ميخائيل غورباتشوف، وهي الإصلاحات التي دعمتها شريحة من النخبة والبنية البيروقراطية.
ولعلّ الفرق الجوهري بين هذا الوضع وإيران اليوم، يكمن في غياب إرادة الإصلاح في قمة السلطة، وانعدام وجود هيكل بيروقراطي مستقل عن الأيديولوجية.
على الطرف الآخر، نجد سوريا، حيث أدّت الاحتجاجات الشعبية إلى نشوب حرب أهلية، نتيجة القمع الوحشي، وغياب قيادة منسجمة وموحدة. وانتهى الأمر بالتدخل الخارجي، والإطاحة بحكم بشار الأسد، وتشكيل حكم جديد، لكن ثمن ذلك كان الدمار والانقسام الاجتماعي.
وبين هذه الحالة وتلك، يبدو أنّ إيران تعيش حالةً من الترقّب التاريخي؛ فهي لا تملك نخباً إصلاحية مثل الاتحاد السوفييتي، ولا تعاني من الانهيار الاجتماعي كما هي الحالة السورية.
والنتيجة هي ما يصفه جويل ميغدال، الباحث البارز في العلاقات بين الدولة والمجتمع، في نظرية “الانسداد المؤسسي”: المنظومة المقفلة من الداخل، هي غير قابلة للاختراق من الخارج، والمجتمع في حالة عجز لإعادة تنظيم نفسه من أجل إيجاد بديل، بسبب القمع الشديد.
خطأ التقدير وتأثير “التجمع حول العَلَم“
حتى في خضم الاضطرابات العسكرية والأمنية في الجمهورية الإسلامية، عندما قُتل كبار قادة الحرس الثوري الإسلامي خلال بضعة أيام، وتمّ تدمير البنى التحتية النووية والعسكرية الحساسة، على عكس الكثير من التوقعات، لم تنطلق ثورة داخلية واسعة النطاق، ولم يرتفع حتى صوت من داخل الطبقات الناقمة في الحكومة لاستغلال هذا الفراغ في السلطة.
يوجد لهذا الخطأ في التقدير أسباب متعددة، وهي:
أولا، ركزت التحليلات الخارجية إلى حد كبير على الانهيار الهيكلي وفشلت في فهم قدرات السلطات على إنتاج “الصمغ الاجتماعي والنفسي”.
وظلت الهياكل الأمنية للنظام، حتى في الأوضاع المتأزمة، متماسكة نسبياً، ولم تسمح للفراغ في السلطة بأن يؤدي إلى الصراع أو الانهيار.
ثانياً، وقع جزء من المجتمع، بما في ذلك الطبقات التقليدية، وأجزاء من الطبقات المتدينة، أو حتى بعض الطبقات القومية، تحت تأثير ظاهرة تُعرف في العلوم السياسية باسم “الالتفاف حول العَلَم”؛ أي التجمع النفسي والرمزي للناس حول مفهوم الوطن في ظلّ ظروف التهديد الخارجي.
هذا الشعور بالخطر، على الرغم من قصر مدته، خلق تماسكاً نفسياً مصطنعاً، وحال دون تشكّل “أي نوع من الحركات لتقويض للهياكل القائمة”.
وفي النتيجة، استطاعت السلطة، حتى في لحظة كان تبدو فيها مهتزةً بشكلٍ كامل، أن تبقى بدون تصدّعات من الداخل، وهذا في حدّ ذاته يشكل إشارة تحذيرية إلى عمق وتعقيد الانسداد السياسي في إيران.
الاستراتيجيات الممكنة للخروج من المأزق
في مثل هذه الحالة، فإن أيّ حل يعتمد على أحد المسارات الكلاسيكية الثلاثة: (الإصلاح، أو الثورة، أو التدخل الخارجي) سيكون مصيرها الفشل بشكل مسبق.
بدلاً من ذلك، ينبغي علينا أن نفكر في حلول متعددة الطبقات، وتدريجية، ومركبة، تنبثق من قلب المجتمع، وتجبر مؤسسة السلطة على التراجع-ليس بالضرورة من خلال القوّة- بل من خلال تآكل شرعيته.
أحد المسارات المحتملة هو “الانتقال التآكلي”: وهو عملية تدريجية تؤدي إلى تآكل بنية السلطة من الداخل من خلال تراكم إخفاقاتها الصغيرة، وتوسيع الروايات المختلفة عن رواياتها للأحداث، والعصيان المدني الذكي، وهجرة النخب.
ويحتاج هذا المسار إلى التنظيم المدني، ووسائل الإعلام المستقلة، وإعادة تعريف النشاط السياسي ونقله من الشوارع إلى الشبكات غير الرسمية.
المقاومة في هذه الحالة لا تأخذ شكل الاحتجاج المباشر، بل تمضي قُدماً، بخلق مساحات موازية للحياة والتعليم والحوار، وحتى الفكاهة والسخرية.
الطريقة الأخرى، هي استغلال الانشقاقات المحتملة في قمة السلطة: إنّ مقتل كبار القادة، وتزايد الضغوط الدولية، والتآكل الداخلي في النظام، قد يؤدي إلى انشقاقات كبيرة في الحكم، في المستقبل القريب.
إذا لم يكن المجتمع مستعداً في مثل هذه اللحظة، فهناك احتمال حدوث انقلاب أو سيطرة جناح عسكري متطرف على السلطة، أما إذا كانت الشبكات المدنية والسياسية والفكرية مستعدة، فربما يمكن تحقيق انتقال أقل تكلفة.
وأخيراً، لا ينبغي تجاهل القدرة على الحوار والتفاوض مع العالم: إنّ الحوار الذكي، المشروط بإحداث تغييرات حقيقية، يمكن أن يحوّل العقوبات الانتقائية إلى أداة للضغط على المنظومات القمعية. ولا ينبغي أن تُفرض هذه العقوبات على الشعب، بل على المؤسسات والشبكات المالية للحرس الثوري، ومجلس صيانة الدستور، ومؤسسات الدعاية.
متى يعود الأمل؟
إنّ الحالة التي يعيشها الشعب الإيراني، وباتت ترمي بثقلها عليه، ليست مجرد مأزق سياسي، بل هي انسداد أكثر عمقاً وتعقيداً ووجودية.
خلال الربع القرن المنصرم، تتالى دخول الأجيال إلى الميدان، على أمل إيجاد طريق للتحرر؛ جيل إصلاحي، وجيل محتجّ، وجيل ثوري، والآن جيل لم يرث حتى ذكرى الانتصار.
إنّ فشل جميع الطرق المعروفة لتحقيق التغيير، سواء من داخل النظام أو من خارجه، ومن صناديق الاقتراع إلى الشارع، ومن الضغوط الدولية إلى الهجوم العسكري، لم يؤدِّ إلى انسداد الفضاء السياسي وحسب، بل أوقع الروح الجمعية للمجتمع في حالة التجميد وفقدان الإيمان.
يأس خارج عن المألوف
إن اليأس السائد في المجتمعات المقموعة، عادة ما يكون مصحوباً بأملٍ في المستقبل، أمل في الغد، في جيل آخر، في انبثاق قيادة جديدة، لكنّ ما تواجهه إيران اليوم، هو نوع من اللازمنية السياسية؛ فالناس ليس فقط لا يرون طريقاً للخروج، بل إنهم لم يعودوا يعرفون حتى متى يصبح الأمل مشروعاً مرة أخرى. وهذا ما يمكن تسميته بـ “الانسداد الوجودي”؛ أي انهيار تخيّل وجود “أفق”. الإنسان الإيراني، في الوضع الراهن، ليس محروماً من حقوقه المدنية وحسب، بل هو محروم من أحد أعمق جوانب إنسانيته، وهو الحلم.
وفي مثل هذه الحالةـ لا يصبح المجتمع بلا صوتٍ وحسب، بل إنه من الممكن أن يصل تدريجياً إلى الخدر الأخلاقي. حيث إنّ فقدان إمكانية الفعل، ينتهي بالإحباط، ويتحوّل الإحباط إلى اللّامبالاة.
هذا اللّامبالاة تجاه السياسة، والمسؤولية، ومصير الآخرين، رغم أنها آلية بقاء للفرد، لكنها، على المستوى الكلي، تعني موت المجتمع. قد يستمر مثل هذا المجتمع لسنوات دون انفجار كبير، لكنه سيفقد جوهره الداخلي ويصبح فاسداً وأجوفَ، وبلا معنى.
ومع ذلك، فحتى في قلب هذا الانسداد، ما يزال بوسعنا البحث عن نوافذ صغيرة لإعادة بناء تصوّر المستقبل. ولا يمكن لهذه الإعادة، أن تتم من خلال وصفات كبيرة وشعارات ثورية.
لا تعيش السياسة في إيران اليوم في المركز، بل في الهوامش؛ في الشعر والموسيقى، وفي شبكات الصداقة، واختيارات الحياة اليومية، وفي لغة السخرية، ورفض الإجبار، والعصيان الصامت.
هنا تنبثق الحياة السياسية من جديد؛ حيث يتم إعادة بناء الأمل، لا كأداة للنضال، بل كفضيلة إنسانية. وفي هذا المسير، لا تتمثل مهمة المثقفين، والناشطين، والكُتّاب وجميع الفاعلين المدنيين، في إنتاج وصفات خلاص فورية، بل في الحفاظ على شعلة المعنى والحوار، وإن كانت خافتة.
عندما تكون جميع الطرق مسدودة، يكون ما يبقى هو الحفاظ على إمكانية القول حتى إن لم يُسمع، والكتابة حتى وإن لم تُنشر، والتفكير وإنْ كان في صمت. وفي مثل هذه المساحات فقط، يمكننا إعادة فتح الآفاق، وخلق الأمل من جديد، والسماح للسياسة -بالمعنى الحقيقي للكلمة- بالعودة.
لذلك فإن قضية الشعب الإيراني اليوم هي ليست لماذا لا يتغير النظام، بل كيف يمكننا، في خضم الانسداد الذي خلقه النظام، أن نستمر في الحياة، والمقاومة وخلق المعنى، دون أن نتحلّل؟
إن هذا المسار بطيء، وتدريجي وغير مضمون، ولكنه المسار الوحيد الذي يمنح فرصة لإعادة بناء مستقبل إنساني؛ مستقبل يستطيع فيه الشعب الإيراني أن يقرر مصيره مرة أخرى بصوته الخاص؛ ليس من خلال سقوط مفاجئ أو إنقاذ بطولي، وإنّما من خلال عملية إبداعية ومتجذرة لإعادة بناء المجتمع والثقافة والحياة في قلب الكارثة.
الكاتب: نعيمة دوستدار، صحفية وباحثة في العلوم الاجتماعية
ترجمة: مركز الفرات للدراسات- قسم الترجمة