قضايا راهنة

الشرق الأوسط الجديد: ما دور الكرد في معادلة التغيير؟

في ظل تصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران، تتسارع وتيرة إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث تتوالى التصريحات الإسرائيلية التي تؤكد على “تغيير وجه المنطقة” من خلال عمليات عسكرية منسقة مع واشنطن. ما يشير إلى أنّ الصراع لم يعد محصوراً في ساحات النفوذ التقليدية بين الدول، بل امتد ليطال العمق السياسي والاجتماعي للبنى التي نشأت عقب الحربين العالميتين. ومع تراجع قدرة الأنظمة القومية والثيوقراطية على المحافظة على سيطرتها المركزية، بدأت تظهر بوادر شرق أوسط جديد ترتكز على إعادة توزيع السلطة والهوية، وعلى تفكك الخرائط السياسية القديمة لصالح ترتيبات أكثر مرونة، تتوافق مع متطلبات النظام العالمي.

في هذا السياق المتغير، تبرز القضية الكردية بوصفها واحدة من أكثر القضايا القومية القابلة لإعادة التشكيل، بعد قرن من التهميش والتقسيم القسري بين أربع دول مركزية (تركيا، إيران، العراق، وسوريا). فقد أظهر الكرد، خاصة منذ عام 2011، مرونة وقدرة على بناء نماذج سياسية تعددية، عقلانية، وقابلة للاندماج في المنظومة الدولية، متحرّرين إلى حد كبير من الأيديولوجيات القومية والدينية المتطرفة. ومع تصدّع المشاريع الإقليمية الكبرى كـ “الهلال الشيعي” و”العثمانية الجديدة”، وضمور مركزية الدول التي تقاسمت كردستان، تبدو أمام الكرد فرصة تاريخية للعب دور مهم كشريك رئيسي في هندسة ترتيبات ما بعد الانهيار، ضمن شرق أوسط جديد يبحث عن أنماط حكم لامركزية، مرنة، ومستقرة، قادرة على إدارة التنوع والتفاعل البراغماتي مع التوازنات الدولية.

الكرد: نقطة الارتكاز  في التحول الديمقراطي السوري

رغم الانفتاح الغربي على الحكومة السورية المؤقتة في دمشق، والتي شكلتها “هيئة تحرير الشام”، إلا أنه لا يمكن الرهان عليها في إعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية وتعددية، ولا بدّ أن يستند هذا التحول إلى كافة المكونات وعلى رأسها الكرد وقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية لأنها بالإضافة إلى دحرها تنظيم “داعش”، أنشأت نموذجاً لإدارة ذاتية لامركزية تشاركية وفعّالة، ما جعلها شريكاً موثوقاً لدى التحالف الدولي والقوى الغربية.

يتجلى هذا التوجه في الموقف الغربي من الكرد ما بعد سقوط الأسد، في تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل باروت بأنّ بلاده “تلعب دور الوسيط بين قسد وتركيا، وتجدد دعمها للكرد، وتسعى لدمج الكرد السوريين محليًا، وتعمل على تسهيل اللقاءات بين الكرد في سوريا والكرد في العراق”. يعكس هذا التصريح تحولاً في المقاربة الغربية؛ إذ لم يعد الملف الكردي يُعالج ضمن حدود التجزئة التي فرضتها اتفاقية سايكس-بيكو، بل بات يُنظر إليه كقضية إقليمية مترابطة، حيث تسعى القوى الغربية اليوم لإعادة نفوذها إلى المنطقة عبر إعادة رسم توازنات القوى وجعل المناطق الكردية في كردستان مدخلاً للعودة وجعل الكرد حلفاء استراتيجيين في المنطقة. ومع تسارع الانهيار الإقليمي للمحور الإيراني، قد يزداد اعتماد الغرب على الكرد الذين يمتلكون مشروعاً مؤسساتياً، وقاعدة محلية متماسكة، بوصفهم شريكاً مستقراً ومعتدلاً، قادراً على التفاعل مع محيطه من خلال نموذج حكم لامركزي تعددي، لا يتصادم مع الجغرافيا ولا يتنافى مع مصالح القوى الكبرى.

وفي ظل الحرب المصيرية التي تخوضها إسرائيل ضد إيران ونظام ولاية الفقيه. تدرك تل أبيب أنّ الحكومة السورية المؤقتة اليوم، ورغم انفتاح الغرب عليها، قائمة على إرث جهادي قد يشكل خطراً مستقبلياً في حال تُركت سوريا تحت سلطة نظام ديني. وبالتالي، فإنّ ما يبدو دعماً مؤقتاً لهذه الحكومة، هو في الحقيقة سياسة احتواء مرحلية لإبقاء سوريا خارج دائرة الحرب الحالية، ريثما تُحسم المعركة مع إيران، ليُعاد بعد ذلك التركيز على سوريا وإعادة تشكيلها.

وفي ظل ترجيحات بانطلاق موجة جديدة من الحملات العسكرية لمكافحة الإرهاب عقب تراجع النفوذ الإيراني، وعودة داعش إلى الواجهة بقوة، وخاصة بعد التفجير الأخير الذي استهدف المسيحيين في كنيسة مار إلياس في دمشق، فإنه يُتوقع أن تقود “قسد” هذا المسار في مناطق جديدة من سوريا، وألّا ينحصر دورها في شمال شرق سوريا، وإنّ إصدار قسد بيان التنديد بالهجوم الإرهابي في دمشق، وإعلانها عن استعدادها “للمشاركة في أي جهد سوري ضد الإرهاب في كافة المناطق السورية” سيفتح أمامها أبواب الدعم الدولي للتنسيق مع دمشق وباقي القوات اللاطائفية كجيش سوريا الحرة في التنف، والقوات الدرزية في السويداء، وألوية من وزارة الدفاع السورية، لإطلاق حملات منسقة ضد خلايا داعش في عموم سوريا، وربما بمشاركة تركيا نفسها -إن اكتمل المسار السياسي للمصالحة بينها وبين الكرد- وفي حال تحقق ذلك، فإن تركيا قد تدخل كطرف رئيسي في الحرب الجديدة على الجهاديين (ليس لأنها ترغب بالفعل في محاربة الجهاديين) بل لأنها وبحجة المشاركة في محاربة داعش يمكنها التغلغل بشكل أوسع في سوريا على المستويين العسكري والاقتصادي، ولكن سيكون تدخلها هذه المرة بالتنسيق والتوافق مع دمشق وقسد وتحت إشراف أمريكا والتحالف الدولي وربما إسرائيل أيضاً والتي ستكون لاعباً رئيسياً في الملف السوري، ضمن ترتيبات إقليمية جديدة تعكس اتفاقاً أوسع حول تقاسم النفوذ.

في ضوء هذه المعطيات، يبدو أنّ الكرد هم الأكثر قدرة على لعب دور في صياغة مستقبل سوريا، على أن يكون نموذج الدولة السورية القادمة قائماً على اللامركزية والتعددية، في بيئة إقليمية جديدة لا مكان فيها للأنظمة المؤدلجة أو المتطرفة، بل تُبنى فيها الشراكات على المصالح والاستقرار، وعلى رأسها التحالف بين الكرد وتركيا برعاية أمريكية وغربية.

إقليم كردستان: من هامش العراق إلى مركز الشرق الأوسط الجديد

من جهة أخرى يبدو أنّ إقليم كردستان العراق قد دخل مرحلة جديدة تتجاوز حدوده الوظيفة التقليدية داخل الدولة العراقية، ليبدأ بلعب دور استراتيجي أوسع ضمن خريطة التوازنات الإقليمية والدولية. فمع تراكم تجربة سياسية وإدارية مستقرة نسبياً، وامتلاك الإقليم لمؤسسات راسخة، وشرعية سياسية وعسكرية واقتصادية، بات يشكل اليوم نواة مركزية قابلة لأن تتحول إلى قطب كردي جامع في عموم كردستان، ما يجعله منصة أساسية في مشروع إعادة صياغة الشرق الأوسط ما بعد سايكس-بيكو.

والاهتمام المتزايد من قبل الدول الكبرى مؤخراً بإقليم كردستان لا يمكن فصله عن هذا السياق. فدعوات الاستضافة المتكررة التي يتلقاها كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني من عواصم مثل واشنطن وباريس وأبو ظبي والرياض، تكشف عن اعتراف سياسي متزايد بالإقليم ككيان شبه مستقل يمتلك مقومات الشراكة الدولية، ويتعامل مع محيطه الإقليمي والدولي مباشرة، بمعزل عن بغداد. هذا الاعتراف لا يقتصر على الرمزية، بل يترجم إلى دعم سياسي واقتصادي فعلي، كما في حالة العقود النفطية الأخيرة مع شركتين أمريكيتين، بقيمة تتجاوز 110 مليارات دولار، والتي جرت برعاية مباشرة من حكومة الإقليم وبدعم واضح من واشنطن، التي لم تكتف بالتأييد الفني، بل اعتبرت العقود خطوة نحو شراكات مستدامة تتوقع لها الازدهار.

في المقابل، فإنّ الردّ الحاد من قبل أربيل على محاولة بغداد لفرض حصار مالي متعمّد على الإقليم، والذي تجلى بوضوح في أزمة الرواتب الأخيرة، وذلك بوصف هذه السياسات بأنها “تجويع ممنهج وإبادة جماعية” يشير إلى تصاعد خطاب الإقليم ككيان يتمتع باستقلالية سياسية فعلية، لم يعد يقبل التعامل معه كمجرد إقليم تابع لحكومة مركزية خاضعة لنفوذ إيران.

هذا التوتر الداخلي، يعكس في أحد أبعاده، طبيعة التموضع الجيوسياسي الجديد للإقليم، حيث لم يعد محصوراً في مساحته داخل العراق، بل بات يُنظر إليه كمنصة انطلاق نحو مشروع كردي أشمل، هذا التوجه يجد تجلياته في الدور الذي بدأ يلعبه إقليم كردستان العراق في تنسيق الصفوف الكردية في سوريا، ودعم جهود السلام بين تركيا والكرد، وفي هذا السياق، تأتي رسائل عبد الله أوجلان الأخيرة، التي طالب فيها بلقاء قيادة الإقليم، في إشارة إلى أنه ينظر إلى الإقليم كمركز توازن محتمل، يمكن أن يضطلع بدور قيادي في المرحلة القادمة من التحولات السياسية، بما في ذلك تأسيس إدارة كردية موحدة ذات طابع مؤسسي ومشروع إقليمي.

وإذا ما نجحت عملية السلام بين تركيا والكرد، فإن الحدود التي رسمتها سايكس-بيكو قد تفقد فعاليتها دون أن تزول رسمياً، لتتحول إلى خطوط رمزية أمام واقع جديد من التعاون الاقتصادي والدبلوماسي العابر للحدود، يقوده الكرد ضمن منظومة شراكات ديناميكية، تتحدى الخرائط القديمة وتؤسس لنظام إقليمي بديل.

زمن التحول الكردي: تركيا أمام امتحان الشرق الأوسط المتغيّر

في قلب التحولات المتسارعة التي تعصف بالشرق الأوسط، ومع تصاعد الدور الإسرائيلي-الأمريكي في إعادة صياغة خرائط النفوذ السياسي والعسكري، بدأت أنقرة تستشعر أنّ الملف الكردي لم يعد مجرد تفصيل داخلي في سياساتها الأمنية، بل بات عاملاً إقليمياً فاعلاً تعاد هندسة المنطقة على أساسه. هذا الواقع الجديد دفع الدولة التركية إلى مراجعة عميقة وجذرية لسياساتها، تجاه المسألة الكردية التي لطالما تعاملت معها بوصفها تهديداً وجودياً، لتفتح الباب أمام نهج أكثر براغماتية، يتجاوز عقود الصراع نحو بناء تحالف استراتيجي مع الكرد، ليس فقط داخل تركيا، بل في عموم المنطقة.

المخاوف التركية لا تنبع فقط من التمدد الإسرائيلي في الجغرافيا الإيرانية، ولا من تهديدات التفكك المحتملة في المحيط الإقليمي، بل من إدراك متزايد بأن الكرد باتوا القوة الصاعدة الأكثر قبولاً من قبل القوى الدولية الفاعلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وأوروبا وبعض العواصم العربية. هذا التحول في المشهد الجيوسياسي يُرغم تركيا على المفاضلة بين مسارين: إما الاستمرار في منطق العداء والتهميش، مع ما يحمله من احتمالات انزلاق نحو التفكيك والصراع المفتوح، أو الانخراط في مشروع سلام تاريخي ينظر إلى الكرد كشركاء في الأمن والاستقرار.

إشارات هذا التحول ظهرت في نبرة التصريحات السياسية، وحتى داخل الأوساط القومية المتشددة، كما عبّر عنها دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، حين ربط الضربات الإسرائيلية على إيران باستراتيجية أوسع تستهدف تركيا ذاتها، معتبراً أن “تركيا محاطة بالنيران”، وهي عبارة تعكس شعوراً عميقاً بالخطر القادم من الخارج ومن داخل حدود الدولة أيضاً. هذا القلق دفع حتى القوى التقليدية في تركيا إلى إعادة النظر في الخطاب القومي الكلاسيكي، والبحث عن صيغ بديلة لاحتواء الأزمة المتفجرة.

في هذا السياق، تبرز أهمية الدور الذي ما زال يلعبه القائد الكردي عبد الله أوجلان، والذي وجّه في رسالته الأخيرة دعوة للقاء زعماء كرد من مختلف أجزاء كردستان، بينهم مسعود بارزاني ونيجيرفان بارزاني ومظلوم عبدي وبافل وقوباد طالباني، ما يشير إلى رؤية تتجاوز نطاق الصراع التركي-الكردي الضيق، وتتطلع إلى إعادة رسم معادلة التحالفات في الإقليم، عبر مشروع سلام إقليمي مشترك. صاغ أوجلان هذه الرؤية، في خطابه في ـ18 أيار/مايو 2025، بعبارة محورية حين قال: “هناك حاجة لميثاق جديد قائم على حق الأخوّة… ما نقوم به هو تغيير كبير في النموذج الفكري”، ما يدلّ على أنّ التغيير ليس فقط تكتيكياً بل بنيوي في مقاربة الصراع.

وفي حال مضت تركيا قدماً في هذا التحول، فمن المرجح أن تستلهم النموذج العثماني التاريخي، حين منحت الكرد إمارات شبه مستقلة، مثل إمارات بوطان وسوران وبابان. هذا النموذج، إذا ما أُعيد إحياؤه بطريقة عصرية، قد يفتح الباب لتثبيت الإدارات الذاتية الكردية داخل تركيا، وتحويل الكرد إلى قوة دافعة في مشروع استقرار داخلي يعيد ترتيب العلاقة بين المركز والأطراف. والأهم أنّ هذا التغيير سيمنح أنقرة قدرة جديدة على التأثير في المسألة الكردية في سوريا والعراق وحتى إيران أيضاً، ولكن من موقع الشريك لا الخصم، بما يضع تركيا في قلب معادلة الشرق الأوسط الجديد بوصفها لاعباً مرناً يعيد تعريف نفسه في زمن التحولات.

إنّ القراءة الاستراتيجية التركية الراهنة تبدو مدفوعة بيقين عميق بأنّ النماذج القومية الصلبة وأنظمة ما بعد الحرب العالمية الأولى تنهار تباعاً، وأن زمن الكيانات الإمبراطورية المتخشبة قد ولّى. في المقابل، فإن الكيانات المرنة متعددة الهوية، والقادرة على إنتاج شراكات داخلية وإقليمية، هي وحدها القادرة على الاستمرار. ولذلك، فإن تحالفاً تركياً-كردياً على قاعدة الاعتراف المتبادل والتمثيل السياسي والإداري الحقيقي، لن يكون فقط حلاً لمسألة داخلية، بل مدخلاً أساسياً لإعادة تموضع تركيا كقوة نافذة في شرق أوسط يُعاد هندسته بعد انتهاء مفعول سايكس بيكو.

الكرد في إيران: قوة صاعدة تعيد تشكيل المشهد السياسي والإقليمي

في خضم التصعيد المتسارع بين إسرائيل وإيران، واحتمالات انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة قد تغير وجه الشرق الأوسط، يبرز الكرد في إيران كفاعل استراتيجي يتجاوز حدود الهامش الذي حُصروا فيه لعقود، نحو موقع محوري في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية. هذا الدور المحوري ليس ردّ فعل على هشاشة الدولة الإيرانية تحت الضغط، بل يتجسد في وجود مشروع سياسي وتنظيمي يمكّنهم من اقتناص الحظة التاريخية التي يُعاد فيها تعريف مراكز النفوذ.

فقد أصدر حزب الحياة الحرة الكردستاني (PJAK)، وهو أبرز القوى السياسية والعسكرية للكرد في شرق كردستان، بياناً يضع ملامح واضحة لمرحلة انتقالية محتملة، مؤكداً استعداده للدفاع عن الشعب الكردي وبقية مكونات إيران ضد ما سماه بالقمع والقتل، ومشدداً على تطوير نماذج للإدارة الذاتية وتقليص تدخل الدولة في الحياة اليومية. هذا الطرح لا يعبّر عن حالة طوارئ عابرة، بل عن هندسة بديلة لإدارة المجتمع الإيراني في حال دخلت الدولة المركزية مرحلة الانهيار أو التفكك.

هذا الموقف الميداني ينسجم مع التصريحات السياسية التي صدرت عن الرئيس المشترك لـPJAK) )، أمير كريمي، الذي شدد في أيار/مايو 2025 على أن حلّ حزب العمال الكردستاني لا يعني بالضرورة نهاية( (PJAK، معلناً بشكل قاطع رفض الحزب لحلّ نفسه أو إلقاء سلاحه. هذا التمايز ليس فقط مؤشراً على استقلال القرار الكردي الإيراني، بل يعكس نية صريحة بالتموضع داخل الساحة الإيرانية كلاعب مركزي في مرحلة ما بعد النظام.

اللافت أنّ هذا التصعيد لم يقابَل من تركيا -التي اعتادت تصنيف (PJAK) كتهديد أمني- بأي موقف معارض، ما يشير إلى تحول في الرؤية الاستراتيجية التركية تجاه الكرد في إيران، فأنقرة التي تراقب عن كثب التآكل الداخلي في بنية الدولة الإيرانية، قد تجد في الحضور الكردي الإيراني فرصة لتحصين حدودها الشرقية عبر تحالف كردي-تركي عابر للحدود، يعيد صياغة توازنات ما بعد إيران بصيغة تضمن الأمن، وتتيح النفوذ.

كما برزت أصوات كردية أخرى أبدت موقفها من النظام الإيراني، كما في بيان حزب حرية كوردستان الذي أيّد بشكل علني الضربات الإسرائيلية، معتبراً أنها تصب في صالح القوميات المضطهدة وعلى رأسها الكرد، وداعياً إلى إنهاء النظام بشكل كامل. هذه اللهجة الهجومية تشي بتحول الكرد من الدفاع إلى المبادرة، ومن المطالبة بالحقوق إلى السعي لتغيير بنية الدولة، مستفيدين من تصدع الهيكل الأمني الإيراني وانشغال طهران بحروبها الخارجية.

التكامل بين الخطاب السياسي، والدعوة إلى تشكيل لجان شعبية ومؤسسات مدنية في المناطق الكردية، يوضح أنّ الهدف الكردي لا يقتصر على إسقاط النظام، بل على ضمان عدم تكرار سيناريوات الفوضى كما حدث في سوريا أو العراق. فالكرد الذين خاضوا معارك طويلة ضد كل من التطرف السني ممثلاً بداعش، والتطرف الشيعي ممثلاً بالحرس الثوري، يقدمون أنفسهم كقوة ناضجة ذات مصداقية لدى المجتمع الدولي، قادرة على ملء الفراغ وإدارة المرحلة الانتقالية دون الانزلاق إلى فوضى شاملة.

ما يظهر بوضوح هو أنّ الكرد في إيران لم يعودوا مجرد مكوّن يعاني القمع، بل باتوا يطرحون أنفسهم كبديل سياسي وإداري، يملك تجربة ميدانية، ومشروعية نضالية، وعلاقات إقليمية يمكن توظيفها في سياق دولي لتجاوز إرث الفوضى الذي خلفته الحروب الأمريكية والإيرانية. وبينما تحاول القوى الدولية توظيف المسألة الكردية في سياق استراتيجياتها الخاصة، يبدو أن الكرد أنفسهم باتوا يفرضون حضورهم كمحور لا يمكن تجاوزه، ليس فقط في مستقبل إيران، بل في إعادة ترتيب خرائط الشرق الأوسط بما يتجاوز حدود سايكس-بيكو. وليس من الهامش، بل من قلب العاصفة.

الرؤية:

وسط هذا التصدع البنيوي، يبرز الكرد كقوة صاعدة لا تُقاس قوتها فقط بعدد المقاتلين أو بقوة الحلفاء، بل بقدرتها على تقديم مشروع سياسي جديد، معتدل وواقعي، يجد صداه في السياقات الإقليمية والدولية المعقدة. وما يجعل هذا التحول أكثر وضوحاً هو أنّ صعود الكرد لم يكن نتاج فراغ فقط، بل نتيجة جهد تراكمي طويل. فهم لم يظهروا كقوة مصادفة، بل لعبوا أدواراً محورية في محاربة الإرهاب، وبنوا نماذج للحكم المحلي الديمقراطي واللامركزي، خاصة في العراق وسوريا، كما حافظوا على خطاب سياسي واقعي مرن لا يدعو إلى الانفصال ولا يهدّد بإعادة ترسيم الحدود، بقدر ما يطالب بإعادة تنظيم العلاقة بين الشعوب والدول. هذه العقلانية السياسية، مقترنة بالشرعية التي اكتسبوها نتيجة شراكاتهم مع التحالف الدولي في مواجهة داعش، جعلت منهم حلفاء موثوقين في عيون العديد من القوى الكبرى، في وقت تتخبط فيه الأنظمة التقليدية في أزماتها الداخلية والخارجية.

وربما تكمن قوة المشروع الكردي في كونه خارجاً عن النسق التقليدي الذي خلّف الدمار في المنطقة، فهو لا يعيد إنتاج الدولة القومية المغلقة، ولا يسعى لبناء ثيوقراطية بديلة، بل يقدم مقاربة توافقية مفتوحة على المستقبل، وهذا ما يجعلهم مرشحين طبيعيين لأن يكونوا نواة نظام جديد أكثر مرونة وتعدداً، وأقل عداء للنظام الدولي.

 يمتلك الكرد العديد من العوامل التي تؤهلهم ليلعبوا دوراً محورياً في إحداث التغيير البنيوي في الشرق الأوسط الجديد، ومنها أنهم:

  • لم يحصلوا على دولة ولم يختبروا السلطة القومية أو الثيوقراطية، وبالتالي لم يصابوا بأمراضها.
  • يمتلكون مرونة سياسية في التعامل مع قوى مختلفة، مع الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
  • يقدمون نموذجاً لحكم تعددي – لامركزي – متصالح مع التنوع.
  • يُعدّون قوة مقبولة دولياً لتشكيل تحالفات جديدة قائمة على الأمن، الاقتصاد، مكافحة الإرهاب.

وإذا كان الكرد في القرن الماضي يمثلون “المشكلة” التي عملت الأنظمة على قمعها وتجاهلها، فإنهم اليوم يتحولون إلى “الحل” في بنية الشرق الأوسط المتغير. فمع تفكك التحالفات القديمة، وتآكل شرعية الدول المركزية، وصعود الحاجة الدولية إلى شركاء عقلانيين في المنطقة، لم يعد الكرد طرفاً هامشياً، بل أصبحوا رقماً فاعلاً في معادلة التغيير. ربما تكون هذه اللحظة هي الأكثر نضجاً لانتقال الكرد من كونهم ضحية للتاريخ إلى صانع له. فالقوى الكبرى بدأت تنظر إليهم كشريك يمكن الوثوق به، والدول الإقليمية باتت تخشى من عواقب استمرار العداء معهم. وفي ظل هذا التبدل، تبدو تركيا الأكثر حاجة إلى مصالحة تاريخية مع الكرد تحفظ لها استقرارها، وتُجنّبها مصير الدول التي استهلكتها النزاعات الداخلية، وهذا ما يفسر تسليم ملف الحوار مجدداً إلى أوجلان، الذي قد يصبح صوته من زنزانة إيمرالي بداية لمرحلة جديدة من التفاهم التاريخي بين الكرد والأتراك، تمتد آثارها لتشمل كل الشرق الأوسط، وتعيد تشكيله وفق مبادئ جديدة أقل وحشية، وأكثر عدالة واستقراراً.

وفق هذه الرؤية الجديدة، قد يتم الدفع باتجاه تطبيع العلاقات بين الكرد وتركيا، ودمج الإدارات الذاتية الكردية في سوريا والعراق ضمن شراكات إقليمية مع العمق الكردي في تركيا، لتشكل فيما بعد شبكة متصلة اقتصادياً وأمنياً، حتى وإن بقيت الحدود الجغرافية على حالها. وهو ما يؤسس لوضع جديد تكون فيه كردستان الكبرى كياناً وظيفياً لا جغرافياً، يفرض واقعاً جديداً على معادلات الشرق الأوسط الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى