ترجمات

توحيد الغرب.. الفرص والقيود

إن القرارات الأخيرة لهلسنكي وستوكهولم، حول الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قد تكون من الأمثلة الأكثر وضوحاً على التوجه الجديد نحو نوعٍ من التوحيد لكلمة الغرب، لكن الحرب الأوكرانية الروسية – بعد تاريخ 24 شباط من العام الجاري – حملت الكثير من الخطوات في طياتها، والتي يمكن اعتبارها أدلة أخرى على هذا النوع من التوحيد للدول الغربية.

على سبيل المثال، التنسيق السريع والمذهل في ما يتعلق بفرض العقوبات على موسكو، أو البرامج التي تمت الموافقة عليها – بسرعة – حول مسألة الدعم العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، بالإضافة إلى الخطاب المنسق ضد روسيا في منظمات المجتمع الدولي، بدءاً من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مروراً بمنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي، ووصولاً إلى مجلس أوروبا ومجلس القطب الشمالي. فضلاً عن ممارسة الضغط المشترك على دول نصف الكرة الجنوبية؛ مثل البرازيل والهند، والتي لم تتخذ موقفاً نهائياً بعدُ بشأن “القضية الأوكرانية”.

على الرغم من أن “العملية الخاصة” الروسية أصبحت دافعاً قوياً وراء انجذاب الغرب نحو هذا التوحد، لكنها، في الوقت نفسه، لا تُعتبر الدافع الرئيسي والوحيد تجاه ذلك.

دعونا نتذكر على الأقل الأحداث المهمة التي حدثت في العام الماضي، مثل إنشاء التحالف العسكري – السياسي (AUKUS)، بمشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وأستراليا، ورفع الحوار الأمني ​​الرباعي (الأسترالي – الهندي – الأمريكي – الياباني) إلى مستوى مؤسسي أعلى، وعقد واشنطن “قمة الديمقراطية” الكبرى، ناهيك عن تكثيف الجهود الموحدة في الأشكال التقليدية للتفاعل بين القوى الغربية الرائدة، مثل قمم الناتو، واجتماعات قادة مجموعة السبع.

لو اعتبرنا الأشهر الأولى لعام 2020 كنقطة انطلاق، حيث انتشار وباء الفيروس التاجي (كورونا)، الذي خلّف عواقب وخيمة على العالم، وكشف ردود الفعل القديمة للأنانية الوطنية في الغرب، حتى أن ذلك دعا – في مرحلة ما – إلى التشكيك في وجود قيم مشتركة، لكن يجب أن ندرك أن تغييرات كثيرة حصلت في غضون عامين؛ فقد كان الغرب الجماعي قادراً على تعلم الدروس الصحيحة من الصعوبات التي واجهها مؤخراً، ويتجلى ذلك في حالة الاستنفار التي أظهرها، ووضع خلافات العقود الأخيرة جانباً، والتقدم كجبهة موحدة ضد خصوم ومنافسين مشتركين.

لعبت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، دوراً رئيسياً في تعزيز هذه الجبهة الموحدة، فحتى خلال حملته الانتخابية، تحدّث بايدن – كثيراً – عن مهمة “إعادة توحيد الغرب”، باعتبارها إحدى الأولويات الرئيسية لسياسته الخارجية المستقبلية. في الوقت نفسه وعدَ دائماً بأن تأخذ القيادة الأمريكية الجديدة بعين الاعتبار مواقف ومصالح وأولويات حلفاء الولايات المتحدة إلى أقصى حدٍّ ممكن.

لكن، بطبيعة الحال، لم تفِ الإدارة الأمريكية الديمقراطية بهذا الوعد في بعض المسائل، فعلى سبيل المثال، سحبها للقوات الأمريكية على عجل من أفغانستان في نهاية صيف العام الماضي، دون أي مشاورات مسبقة مع الحلفاء، مما تسبب في حالة استياء، بل وحتى حالة انزعاج بين هؤلاء. لم يكن من الممكن اصطفاف الحلفاء الأوروبيين على الفور ضد بكين، كما يتضح من الإشارات النادرة والغامضة، إلى حد ما، إلى جمهورية الصين الشعبية، في البيان الختامي لقمة الناتو في بروكسل (حزيران 2021).

لذلك، كانت بداية “العملية الخاصة” لموسكو، هدية طال انتظارها – ولا تقدر بثمن – بالنسبة لواشنطن، حيث سمح للاستراتيجيين الأمريكيين انتزاع دور “الشرير الرئيسي” في العالم، ونقل الموقف الموحّد للغرب ضد بكين البعيدة والغامضة، إلى موسكو القريبة والمألوفة بشكل جيد، منذ حقبة الحرب الباردة.

لم تقدّم “العملية الخاصة” فرصة لإصلاح المهام الفورية وحسب، بل ساهمت أيضاً في ترتيب أولويات التوحيد الجديد للغرب. وبدون أدنى شك، فإنّ البيت الأبيض سيحاول تحقيق أقصى استفادة من هذه الهدية التي قدمها القَدَر.

يَعمل الغرب – بشكلٍ رئيسي – على تعزيز الوحدة العسكرية، والسياسية، والفنية، سواءً في إطار العمل المُعاد إحياؤه، أو إعطاء زخم جديد لمزيد من التطوير لحلف الناتو، أو في الأشكال الأخرى المتعددة الأطراف؛ إلى جانب إطار الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة وشركائها الرئيسيين.

تشكل الميزانيات والنفقات العسكرية المجمعة للدول الأعضاء في الناتو، أكثر من نصف الإنفاق الدفاعي العالمي، وستزداد هذه الحصة في المستقبل القريب فقط. ربما يحتفل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي بالنصر على منافسيه الأجانب؛ كما سيتم تعزيز المواقف المهيمنة للولايات المتحدة في أسواق السلاح العالمية بشكل كبير، وسوف يتعين تأجيل أفكار “الاستقلال الاستراتيجي” للاتحاد الأوروبي عن الناتو إلى أوقات أفضل.

على المدى القصير، ستُبذَل جهود حثيثة لحلّ أو تخفيف التناقضات التجارية والاقتصادية داخل الغرب، وبشكل أساسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ففي تشرين الأول الماضي، على سبيل المثال، رفعت إدارة بايدن بعض رسوم الاستيراد التي فرضها دونالد ترامب على الصلب والألمنيوم الأوروبي. ومن هنا، يمكن الافتراض أن ضوابط التصدير إلى بلدان العالم الثالث – التي طال انتظارها – ستدخل حيّز التنفيذ قريباً.

ربما سيكون من الممكن إنهاء الصراع الطويل بين شركتي الطيران “بوينج” و”إيرباص”، والنزاعات التجارية البارزة الأخرى، التي تقوّض الوحدة عبر الأطلسي.

سيتم تحويل أولويات التعاون بين الدول الغربية – بشكل متزايد – إلى البحث والتطوير، وسنرى تشكيل اتحادات ضخمة لأصحاب المصلحة المتعددين (ربما في شكل شراكات بين القطاعين العام والخاص) في المجالات الرئيسية لتكنولوجيا المعلومات، والاتصالات، والذكاء الاصطناعي، والفضاء، والتكنولوجيا الحيوية؛ ولن يُسمح لروسيا – بعد الآن – بالدخول إلى أيٍّ من هذه المجالات، وسيحدث صراع شديد لا هوادة فيه ضدّ الصين، في جميع هذه المجالات.

سيبذل الغرب الجماعي، الذي تغمره الثقة بالنفس، جهوداً حثيثة لتطوير موقف مشترك بشأن القضايا الرئيسية للتنمية العالمية، مثل (تغير المناخ، وانتقال الطاقة، وحوكمة الإنترنت ومعايير الرقمنة العالمية، والأمن الغذائي، والوقاية من الأوبئة الجديدة، والهجرة عبر الحدود، والقضايا الجنسانية والعرقية). من الممكن أن يلعب الاتحاد الأوروبي – لا الولايات المتحدة – الدور القيادي في العديد من مشاكل التنمية العالمية. على كل حال، فإن السياسيين، وقادة الرأي، والخبراء الغربيين، سيصرّون على فرض أجندتهم في كل هذه المجالات على بقية العالم.

من الصعوبة بمكان، توحيد العالم الغربي بدون محاولات لدفع حدود هذا العالم إلى ما وراء حدود “الغرب التاريخي”. ولذلك سنرى صراعاً عنيداً من أجل كسبِ دولٍ مثل الهند، وإندونيسيا، ونيجيريا، وجنوب إفريقيا، والبرازيل، والمكسيك؛ وستستمر المغازلة مع تركيا، وبناء الجسور مع فنزويلا، ومحاولات التفاوض مع إيران، وما إلى ذلك. وسيظهر تناقض – لا محالة – بين النقاء الأيديولوجي المعلن، واعتبارات النفعية السياسية، والتي ستكون في أغلب الأحيان – كما حدث أكثر من مرة في الماضي – حلاً لصالح الغرب. يمكن الافتراض، لأسباب تكتيكية، أن الخط الفاصل الرئيسي في السياسة العالمية سيرسمه القادة الغربيون بشكل متزايد، ليس بين “الديمقراطيات” و”الأنظمة الاستبدادية”، بل بين اللاعبين “المسؤولين” و”غير المسؤولين” على المسرح العالمي.

إذا استمرت عملية الاندماج الغربي الناشئة في السنوات القادمة، فلا شك أنها ستؤجل احتمالية تشكيل عالم ناضج متعدد الأقطاب، لأمدٍ طويل.

في الواقع، بدلاً من عالم متعدد الأقطاب، يُقترح إعادة إنشاء نظام دولي قائم على تفاعل “مركز” العالم (الغرب) مع “محيط” العالم (غير الغربي). في الوقت نفسه، وكما حدث بداية هذا القرن، من المرجح ألا يؤدي مثل هذا التقسيم، إلى تشكيل عالم كلاسيكي ثنائي القطب؛ لأن المحيط العالمي لن يكون قادراً وراغباً في الاتحاد ضد الغرب. على العكس من ذلك، سيتعين على الدول الكبيرة غير الغربية (الصين، والهند، والبرازيل، وإندونيسيا، ونيجيريا، وغيرهم)، التنافس بين بعضها البعض، بطريقة أو بأخرى، للحصول على أفضل الظروف، تمكّنها للدخول إلى قلب العالم، لاحقاً.

في صورة “أحادية القطبية المتجددة” هذه، ستعود روسيا إلى المواقف الأولية التي كانت تتبناها، فور انهيار الاتحاد السوفيتي، قبل 30 عاماً. لكن موقفها سيكون أكثر صعوبة، لأن موسكو، في المستقبل المنظور، لن تحصل على “الثقة” من الغرب، كما كانت في العقد الأخير من القرن الماضي. وعليه، فإن الضغط على موسكو سيكون أشد، وستكون المكافآت السياسية والاقتصادية المحتملة لـ “السلوك الجيد” من الجانب الروسي، أكثر تواضعاً وتأجيلاً في الوقت المناسب.

ما مدى واقعية مثل هذا السيناريو لمستقبل النظام الدولي؟

إن عملية توحيد الغرب الحالية، هي عملية محدودة، وذلك لأن المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكذلك البلدان المتقدمة في شرق آسيا، لا تلتقي دائماً في كل شيء. فعلى سبيل المثال، من غير المرجح أن تنتهي مشكلة الصادرات الزراعية الأمريكية إلى أوروبا، بحل نهائي، ومثلها مشكلة تصدير السيارات الأوروبية وقطع غيارها إلى أمريكا. بالإضافة إلى أن منافسة الدولار واليورو في الأسواق المالية العالمية ستستمر، ومن المحتمل أن تشتد هذه المنافسة، مع تعزيز المراكز الدولية للعملات الأخرى.

تثير إمكانية حدوث نوع من تزامن الدورات السياسية في البلدان الفردية في الغرب الجماعي الشكوك. فإذا استمر هجوم قوات اليسار في شمال أوروبا، ثم في الولايات المتحدة، في انتخابات التجديد النصفي المقبلة في تشرين الثاني، فمن المرجح أن يكون النصر حليف اليمين. وكذلك، يمكن القول إن الاختلافات بين النماذج الأنجلوسكسونية والأوروبية القارية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، لم يتم إزالتها، بل أصبحت أكثر أهمية.

إلى جانب ذلك، فإن التناقضات السياسية داخل الغرب الجماعي – أيضاً – لم تختفِ. ففي الوقت الذي يتحد فيه الغرب على خلفية أزمة أمنية حادة ضد خصم مألوف وهو موسكو، غير المهمة اقتصادياً، يتم الاستعداد لخوض صراع مرهق وطويل الأمد مع قوة اقتصادية عظمى، والتي تمثلها الصين.

بالإضافة للتناقضات السياسية، لا توجد وحدة كاملة داخل الغرب، حول قضايا الاستراتيجية المثلى تجاه الهند، ناهيك عن المواقف بشأن قضايا محددة، لتسوية أوضاع الأزمات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ومن الصعب الاعتقاد، أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيستطيعان تحقيق وحدة في وجهات النظر، بشأن مشاكل توسيع نطاق المساعدة الاقتصادية المقدمة من شمال الكرة الأرضية، إلى جنوبها.

على أي حال، لن يحدث تغيير في الاتجاهات في المستقبل القريب، حيث أن موسكو تحتاج إلى الاستعداد لمواجهة طويلة الأمد مع الغرب الموحّد، الذي يتمتع بقدرات، وإرادة سياسية كافية، لمواجهة أي محاولات منشقة في صفوفه. وهذا يعني أن أية اتفاقيات، حتى الأكثر محدودية، على “الجبهة الغربية” يجب أن يتم تنسيقها مع واشنطن، كما كان عليه الحال خلال “فترة أحادية القطب”، قبل ربع قرن.

……………………………………..

الكاتب:  أندريه كورتونوف: المدير العام للمجلس الروسي للشؤون الدولية.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى