ترجمات

الشرق الأوسط: من “اتفاقية إبراهيم للسلام” إلى “تمرد شمشون”

الكاتب: أمير طاهري *

قبل عدة أشهرٍ فقط، كانت “اتفاقية إبراهيم للسلام” تتصدر عناوين الأخبار في الشرق الأوسط. أما اليوم، ومع استمرار صواريخ وقذائف حماس والقاذفات الإسرائيلية في حوارها الدامي، يجري الحديث عن “تمرد شمشون”.

قد لا يكون أولئك الذين يجهلون النصوص الدينية القديمة، على علم بأسطورة شمشون الأعمى في غزة. لكن قد تكمن إحدى المشاكل الكبرى في الفهم الصحيح للمشكلة الإسرائيلية-الفلسطينية، وحلها في نهاية المطاف، في هذا المنهج الأسطوري بحد ذاته، لإدراكها.

في الـتأريخ الشرقي التقليدي، يسمّى هذا المنهج بـ “المنهج التأويلي”: أي السعي لإيجاد الجذر الأول لكل قضية في أبعد نقاط التاريخ والأسطورة. فالإسرائيليون يتحدثون وفقاً لهذا المنهج عن “أرض الميعاد”، كما أنّ الفلسطينيين يعتبرون أنفسهم ورثة عالم “شمشون” الأسطوري، وفي كلا الاتجاهين يتم تجاهل الحقائق الموجودة في الواقع الراهن، نظراً لأنّ الخلاف هو حول شرعية الوضع الخيالي الحالي في الماضي البعيد.

على جانبي هذه المواجهة التاريخية هناك حديثٌ عن العودة. فأكثر الصهاينة تطرّفاً هم دعاة العودة إلى زمنٍ كان فيه كل ما يسمى فلسطين ذات يوم، ملكاً للمملكة اليهودية. ومن جانبٍ آخر، تجد أنّ أكثر الفلسطينيين تطرفاً يدعون للعودة إلى عهد الخلافة الإسلامية، أو مرحلة حماية المجلس الوطني الفلسطيني قبل عام 1974.

نحن نعلم، بطبيعة الحال، أنّ المتطرفين من كلا الجانبين ليسوا أكثر من مجرّد أقليات، في كل من إسرائيل وغزة والضفة الغربية، في حين أنّ الأغلبية تواجه الوضع القائم، ولا تريدُ سوى السلام والأمن. والمشكلة تكمن في أنّ النخبة السياسية التي يبلغ عمرها 70 عاماً لا توفر المساحة اللازمة لتعزيز وترسيخ تطلعات ومطالب الأغلبية.

على الجانب الفلسطيني، احتكر الأعضاء المتطرفون في حماس، والجهاد الإسلامي، والجماعات الإسلامية الأخرى المتطرفة، اتخاذ القرارات، من خلال احتكار المال والسلاح. في الوقت نفسه، تُمكّن المنظمات الدولية والبلدان “المانحة”، الفصائل المحلية المهيمنة، من تخصيص المزيد من الموارد للصراع السياسي، والإعلامي، والعسكري- إن تطلب الأمر- ضد إسرائيل، وذلك من خلال توفير الموارد اللازمة للغذاء، والصحة، والإسكان، في كل من غزة والضفة الغربية. ففي غزة، على سبيل المثال، لا يتعيّن على حماس التي تمتلك زمام الحكم، أن تصرف من وقتها وأموالها لتأمين احتياجات مجتمع “طبيعي”، حيث يتم تلبية هذه الاحتياجات بمساعدة الاتحاد الأوربي.

كما أنّ المساعدات المالية والتسليحية من قبل إيران، وقطر، وإلى حدٍّ ما تركيا، توفّر لحماس وحلفائها الموارد والوسائل اللازمة لشنّ الحروب الموسمية ضد إسرائيل.

على الدوام، كان رد الفعل التقليدي للعالم الخارجي تجاه الانفجارات الموسمية لـ “القضية الفلسطينية” محدوداً. فقبل أكثر من عشر سنوات، اعترف طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي توسط لإحلال السلام في الشرق الأوسط، بأنّ أغلب الحكومات لديها رغبة في أن تنسى هذه “المشاكل”. ربما لهذا السبب لم تشأ أيٌّ من القوى العظمى قط، أو لم تتمكن من امتلاك سياسة طويلة الأمد ذات أهداف محددة في هذا المجال، وكانت هذه القوى تسعى دائماً إلى تضميد جرحٍ قديمٍ يزداد نزفاً بين الحين والآخر، دون أن يكون علاج هذا الجرح في صلب اهتمامات صانعي القرار.

من ناحية أخرى، لم يكن لدى جزء مهم من القيادة السياسية أدنى أمل في العلاج الكامل والحاسم لهذا الجرح. قلما نجد بين النخب السياسية وصانعي القرار في إسرائيل أشخاصاً يؤمنون بإمكانية إحضار الفلسطينيين إلى سلام دائم. قبل بضع سنوات، كانت هذه النخب تعترف علانيةً أنّ الطريقة الوحيدة لحماية أمن إسرائيل تكمن في الاستفادة من “الاستنزاف” الدوري للعرب؛ أي أنه ينبغي على إسرائيل، كلّ بضعة أعوام، أن تحقق لنفسها مرحلة جديدة من الأمن والسلام، من خلال تحطيم القدرات العسكرية للعرب، وتجسد هذا “الاستنزاف”، خلال العقود السبعة الماضية، في أربعة حروب كبيرة، وأربعة أخرى محدودة النطاق، على أقلّ تقدير.

وعليه، هل يمكن القول بأنّ المبارزة الحالية بين حماس وإسرائيل لا تعدو أن تكون فيلماً مكرراً سينتهي في موعده؟

ليس من السهولة بمكان الإجابة عن هذا السؤال، وذلك نظراً لأنّ المبارزة الحالية هي ذات جوانب جديدة بإمكانها أن تُخرج الفيلم بشكلٍ آخر. ففي الوقت الراهن تمرُّ إسرائيل بمرحلة انتخابية، وهي تفتقد لحكومة راسخة، وقد يرغب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، انطلاقاً من حسابات حزبية انتخابية، أن يقود “الاستنزاف” إلى داخل غزة، حتى أنّ البعض من مؤيديه يتحدثون عن القضاء التام على حماس.

في الوقت نفسه، ليس من المعلوم ما إذا كانت حماس والجهاد الإسلامي، اللتين كان قادتهما على اتصال هاتفي متكرر مع مسؤولي الجمهورية الإسلامية في إيران، قادرتين على تحديد خطواتهما المستقبلية بدون الحصول على الضوء الأخضر من طهران. إذاً، فالمبارزة الحالية هي ذات جانب مهم لا يجب إغفاله، وهو حرب إيران بالوكالة ضد إسرائيل.

خلال الأيام الفائتة، شدّد المسؤولون الإيرانيون على أنّ “الشرق الأوسط أمام خيارين لا ثالث لهما؛ الاستقرار للجميع أو عدم الاستقرار للجميع”. بعبارة أخرى، فشلت الجمهورية الإسلامية في مخططها لإنشاء “هلال شيعي” في الشرق الأوسط، لكن بإمكانها رسم وتنفيذ مخطط جديد لخلق “هلال عدم الاستقرار”، ويمكن مشاهدة أجزاء من هذا الهلال الجديد اليوم في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. وستكون الخطوة التالية هي انتقال هذا الهلال إلى إسرائيل، والأردن، والضفة الغربية، وقطاع غزة.

إنّ أحد أهداف هذا التباهي بالسيطرة من قِبل إيران، هو التأثير على مفاوضات فيينا لإحياء “الاتفاق النووي”. في هذه المفوضات أفضل نتيجة بالنسبة لطهران هي رفع بعض العقوبات، وتسليم الأموال للجمهورية الإسلامية، إضافةً إلى ضخ القليل من الأمل في الفترة التي تسبق الانتخابات المقبلة للنظام، وذلك دون حدوث أي خلل أو تعطيل في برنامج الصواريخ أو مسألة تصدير الثورة الإسلامية. أما بالنسبة للولايات المتحدة فإنّ أفضل نتيجة هي توقف جزء مهم من برنامج طهران الصاروخي ونهاية مخطط تصدير الثورة. وهنا نتساءل؛ ألا تعمل طهران ضد مصالحها برفعها لمستوى التهديد ضد إسرائيل، ولا سيّما من خلال حرب الصواريخ؟ وكيف يمكن لإدارة الرئيس الجديد للولايات المتحدة أن تخفف الضغط الاقتصادي على إيران، في حين أنّ الصواريخ والقذائف المقدمة من إيران تنهالُ على إسرائيل؟

قد تنتهي المبارزة الدامية الحالية – بشكل مؤقت على الأقل- خلال الأيام القادمة، لكن بالتأكيد لن تكون نتائجها قابلة للاستيعاب خلال وقتٍ قريب. فمن الممكن أن تكون إحدى هذه النتائج، الإيقاف الكامل لعملية الانتخابات الفلسطينية المؤجلة، أو قد نشهد تحولاً  أكثر حدّة في السياسة الإسرائيلية نحو اليمين المتطرف الميّال للحرب. الأهم من كل ّذلك، قد تؤدي الأزمة الراهنة إلى خلق حالة من الحرب الأهلية داخل إسرائيل نفسها، وهو الخطر الذي تطرّق إليه الرئيس الإسرائيلي أيضاً. كما أنّ النهاية غير المثمرة للمفاوضات بشأن “الاتفاق النووي مع إيران” في فيينا قد تكون إحدى النتائج الأخرى لهذه المبارزة. وتبقى النتيجة الأهم والأخطر هي قيام إسرائيل بعمل عسكري ضدّ إيران، انطلاقاً من فكرة وجوب تدمير مصانع الصواريخ والقذائف، بدلاً من تدمير مستودعاتها في غزة.

في الوقت الراهن، ما زال احتمال قيام إسرائيل بعمل عسكري مباشر ضد إيران يبدو ضئيلاً، لكن يجب علينا ألاّ ننسى أنّ إشعال النار هو أمرٌ سهلٌ دائماً، إلّا أنّ إطفاءها ليس كذلك، وأنّ نيران الحرب لا تعرف الحدود.


* أمير طاهري: كاتب وصحافي إيراني مختص بشؤون الشرق الأوسط والسياسات الدولية.

ترجمة عن الفارسية: مركز الفرات للدراسات – قسم الترجمة.

الرابط الأصلي للمقال

زر الذهاب إلى الأعلى