ترجمات

سوريا في منتصف دورة طويلة

في 6 مارس / آذار 2011، في مدينة درعا الصغيرة الواقعة جنوب سوريا، اعتقلت قوات الأمن المحلية 15 مراهقًا كانوا يرسمون شعارات مناهضة للحكومة على الأسوار والجدران. وأثناء الاستجوابات التي أعقبت ذلك، زُعم أن المراهقين تعرضوا لسوء المعاملة غير المبرر، بل وحتى التعذيب. وبما أن جميع المعتقلين ينتمون لعائلات معروفة في المدينة، سرعان ما جاء أقاربهم وأصدقائهم إلى مركز الشرطة للمطالبة بالإفراج عن السجناء. فتحت الشرطة- غير المستعدة للاحتجاجات في الشوارع- النار على الحشد؛ فقتلت ثلاثة أشخاص وجرحت آخرين توفي أحدهم في وقت لاحق متأثراً بجراحه.

في اليوم التالي، بدأت انتفاضة واسعة النطاق ضد الحكومة المركزية في المدينة، وامتدت بسرعة إلى البلدات والقرى المجاورة.

إذا أخبرني أحدهم، في آذار (مارس) 2011، أن الحرب الأهلية في سوريا ستستمر لعشر سنوات، لما صدقت ذلك على الأرجح. فالحرب الأهلية في الولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر، استمرت أربع سنوات. واستمرت الحرب الأهلية في كل من روسيا وإسبانيا في القرن العشرين خمس سنوات وثلاث سنوات على التوالي. لكن ليس عشر سنوات! ومع ذلك، وكما رأينا أكثر من مرة، فإن الصراعات في القرن الحادي والعشرين لها منطقها وديناميكيتها الخاصة؛ حيث يمكن أن تمتد لعقود – ثم تتلاشى، ثم تشتعل مرة أخرى، ولكن لا تنتهي بالنصر النهائي لأحد الطرفين. وبهذا المعنى، فإن سوريا ليست استثناء، بل هي تأكيد آخر لقاعدة تم تأكيدها بالفعل في أفغانستان والصومال وكولومبيا وأماكن أخرى كثيرة.

ماذا كان سيحدث لسوريا لو تمكنت قوى المعارضة السياسية في آذار/مارس 2011 من الإطاحة بنظام بشار الأسد بسرعة وتدمير “السلطة الرأسية” للعشائر العلوية الحاكمة في دمشق؟ ماذا لو قرر باراك أوباما وقتها تدخلاً عسكرياً كبيراً؟ واتخذ فلاديمير بوتين موقفاً حيادياً؟ أكانت سوريا ستصبح تونس الثانية، التي لا يزال ينظر إليها الكثيرون على أنها نموذج للانتقال الناجح من الاستبداد إلى الديمقراطية في العالم العربي؟ أم أن سوريا ستكون ليبيا الثانية بعد الإطاحة بمعمر القذافي، الغارقة في حرب أهلية لا نهاية لها، وقد فقدت دولتها فعلياً؟

لن يكون هناك أبداً أي إجابات واضحة على هذه الأسئلة. لا يمكن توقع انتقال استبدادي-ديمقراطي ناجح في سوريا عام 2011 إلا بخيال كبير. خاصة بالنظر إلى عدم التجانس العرقي والطائفي للبلاد، وحجم المشكلات المتراكمة فيه بحلول عام 2011.

على الأرجح، أنه بعد الإطاحة ببشار الأسد، لن تصبح سوريا ليبيا ثانية، بل عراقاً ثانياً، التي تحاول منذ ما يقارب عقدين من الزمان، التعافي بطريقة ما من عواقب تدخل الولايات المتحدة “التحرير الأمريكي” وحلفائها في عام 2003.

ومع ذلك، فإن الذكرى الحزينة للأحداث المأساوية التي وقعت في آذار/ مارس 2011 مناسبة لتلخيص النتائج الأولية للصراع السوري. من خسر ومن انتصر خلال عشر سنوات من المواجهة المسلحة؟

لقد خسرت سوريا نفسها

أولاً وقبل كل شيء. كما يقول العرب “مصر هي رأس العالم العربي، وسوريا هي قلبها”، وبناءً على هذا المبدأ، يمكننا القول إنه خلال الصراع السوري، كان العالم العربي يعاني من احتشاء عضلة القلب. فحوالي نصف مليون قتيل، وأكثر من سبعة ملايين لاجئ ومشرّد داخلياً. تدمير شبه كامل للاقتصاد والبنية التحتية الأساسية. وبالتالي أصبحت سوريا، التي كانت ذات يوم واحدة من أكثر الدول نجاحًا في المنطقة، مركزًا لجذب المتطرفين السياسيين والإرهابيين الدوليين، ومنصة عالمية لتصفية الحسابات بين الإيرانيين والإسرائيليين والأتراك والأكراد والشيعة والسنة والروس والأمريكيين.

الغرب خَسِرَ أيضاً

ولم تنجح محاولات تغيير النظام في دمشق والحفاظ على المعارضة السورية الليبرالية الديمقراطية. فقد صمد النظام أمام الضغوط العسكرية والعقوبات الاقتصادية والعزلة في العالم العربي وإدانة المجتمع الدولي. من جهتها، اندمجت المعارضة بشكل متزايد مع الراديكاليين الإسلاميين الذين لا علاقة لهم بالقيم الغربية. وبعد عشر سنوات من بداية النزاع، تحتفظ الولايات المتحدة بوجود عسكري رمزي في شمال شرق البلاد، والاتحاد الأوروبي غير قادر حتى على تحديد استراتيجيته الجديدة في سوريا.

هل ينبغي اعتبار روسيا هي الفائزة؟

من الناحية التكتيكية، نعم. سرعان ما حّولت عملية الجيش الروسي الناجحة وذات الميزانية المنخفضة نسبيًا، موسكو إلى لاعب خارجي رئيسي في الأزمة السورية. لكن بقدر ما نستطيع أن نحكم، لم يكن لدى موسكو خلال الخمس سنوات من المشاركة المباشرة في الصراع السوري أي استراتيجية للخروج منه. كما لا يزال مدى تأثير روسيا على النظام في دمشق سؤالًا مفتوحًا، من ما يزال يدور حول من؟ الكلب حول الذيل أم الذيل حول الكلب؟

ربما المستفيد الرئيسي هو تركيا

إن إنشاء مناطق عازلة في إدلب والشمال السوريّ هو إنجاز مطلق لرجب أردوغان. ولكن إلى أي مدى تسيطر أنقرة حقاً على الوضع في إدلب؟ حيث يمكن لهذا الخراج المتقيح على الحدود التركية أن يُخترق في أي وقت، ويملأ المناطق التركية المجاورة بمحتوياته.

ربما هناك المزيد من الأسباب لمنح أمجاد الفائز لجمهورية إيران الإسلامية

الوجود الإيراني في سوريا استراتيجي وطويل الأمد، فقد وصل على مدى سنوات الحرب إلى مستوى جديد بشكل أساسي. وظهر ممر يربط إيران بلبنان والبحر الأبيض المتوسط، وازدادت قدرة إيران على دعم «حزب الله» والضغط على إسرائيل. ولكن لن يغير أي وجود إيراني في سوريا الحقيقة الواضحة المتمثلة في أن سوريا كانت ولا تزال دولة ذات أغلبية سنية وستظل فيها قدرات إيران الشيعية محدودة حتماً.

إذا لم تجلب السنوات العشر الماضية السلام الذي طال انتظاره إلى سوريا، فما الذي يمكن توقعه من السنوات العشر القادمة؟ كيف نريد ونحب أن نرى سوريا في آذار 2031؟

 لنبدأ بما – على الأرجح – لن يحدث في المستقبل المنظور

أولاً، لن يكون من الممكن استعادة وحدة أراضي البلاد بحكم الأمر الواقع، نظراً إلى الطرق المسدودة في إدلب وفي الشمال الشرقي الكردي (ناهيك عن مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل). وهذا بالطبع لا يعني أن قضية وحدة أراضي البلاد قد أُزيلت من جدول الأعمال. لأنه في أي تطور للأحداث، لا يجب السماح بالتقسيم النهائي لسوريا. فمثل هذا الأمر سيكون له عواقب لا يمكن التنبؤ بها، وتداعيات سلبية للغاية على البلدان المجاورة على الأوسط ككل.

ثانياً، لن تحدث العودة الكاملة لسبعة ملايين لاجئ ونازح داخلياً. سيبقى جزء كبير منهم في أماكن إقامتهم الحالية في الشرق الأوسط وأوروبا. وهنا فأمام أعيننا، ينشأ شتات جديد يمكن تشبيهه بشتات اللاجئين الفلسطينيين؛ سيكون له بلا شك تأثير كبير على الحياة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، مما سيعيق إعادة إدماج سوريا في المنطقة.

ثالثا، لن يتم تنفيذ أي خطة واسعة النطاق لإعادة إعمار سوريا بعد انتهاء الصراع بقيمة مائة أو مائتي مليار دولار. ففي سياق الوباء والأزمة الاقتصادية التي لم يتم التغلب عليها بعد، فإن هذا المشروع ببساطة لا يملك موارد مالية – لا في أوروبا ولا في الخليج. ومن المرجح أن تظل الحالة المالية للمانحين المحتملين معقدة وأن تكون لها أولويات أخرى (مثل إعادة إعمار اليمن).

رابعاً، سيستمر نظام بشار الأسد في إظهار معجزات البقاء وسط المشاكل الاقتصادية المتزايدة والعقوبات الجديدة والصراع المستمر على السلطة في دمشق نفسها. هناك آمال قليلة في انفراج أو حتى إحراز تقدم في جنيف، فالنظام السوري يشعر بالثقة ولا يرى ضرورة لتقديم تنازلات للمعارضة وللغرب من وراءها. ومن المحتمل أن يبقى النظام دون تغيير نسبيًا حتى بعد مغادرة بشار الأسد نفسه للمشهد. فلن يهطل المطر الذهبي على دمشق حتى لو اختفى بشار الأسد عن الأفق السياسي.

إذا كان كل هذا صحيحًا، ففي السنوات القادمة في سوريا، هناك مهمتان تلوحان في الأفق.

الأولى، الحيلولة دون حدوث تصعيد جديد في الصراع، وفقدان الأرواح، والمزيد من التدمير للبلد. وهذا لن يتطلب الحفاظ وحسب على عملية أستانا، بل أيضاً تطويرها، ليس لأن العملية مثالية، ولكن لأن المجتمع الدولي ببساطة ليس لديه شيء آخر. فالحفاظ على الوضع الراهن لا يبدو مثيرا للإعجاب، ولكن العالم الرقيق أفضل من الشجار الجيد على أي حال.

الثانية، تحفيز دمشق لبدء إصلاحات دقيقة، حتى لو كانت اقتصادية بحتة في الوقت الحالي. ففي النهاية، تهتم كل من موسكو وطهران بتقليل التكاليف المرتبطة بوجودهما في سوريا. وهذا مستحيل دون زيادة كفاءة الاقتصاد السوري، ومكافحة مستمرة للفساد، وإعادة هيكلة النظام القضائي السوري. وقد تظهر الظروف المواتية لمثل هذه الضغوط بعد الانتخابات الرئاسية السورية التي ستجري هذا الصيف.

يمكن أن يعقب الإصلاحات الاقتصادية تحرير سياسيين خاضعين للرقابة، أو مكافحة أكثر اتساقاً ضد التعسف الفظيع لقوات الأمن السورية. ومن جانبه، يمكن للغرب أن يخلق حوافز إضافية لمثل هذا التطور من خلال زيادة مرونة العقوبات الاقتصادية ضد دمشق.

أندري كورتونوف.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى