مقالات رأي

التنمية الاقتصادية وشمولية التطوير المجتمعي

تشغل مسألة الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة والنادرة، الحيز الأهم في الدراسات التنموية والتحليلية لدى الاقتصاديين من جهة، ومن جهة ثانية ترابطاتها البنيوية مع الواقعين السياسي والاجتماعي للبلد المعنيّ.

وفي سياقِ عملية التنمية الاقتصادية، وسياساتها التطبيقية، لا يزال الجدلُ مستمراً بين الاقتصاديين، بخصوص اعتبار أن التنمية هي وسيلة لتحقيق مجموعة من الأهداف المجتمعية، كالرفاه الاقتصادي، والاستقرار، وبناء أسس التطوّر. أم إنها عملية بحد ذاتها، تهدف إلى إحداث تحولات بنيوية داخل السياقات المجتمعية المختلفة، وتنتج الأدوات الكفيلة بتطويرها.

ومن خلال هذه المجادلة، يمكننا ملاحظة الدور الفعال، الذي يمكن أن تقوم به التنمية داخل المجتمعات البشرية، سواءً كانت عملية بحد ذاتها، أو أداةً لتحقيق أهداف متعددة. لأنه بالنتيجة، ستؤدي في الحالتين، إلى إحداث التغيرات البنيوية المطلوبة، والكفيلة بكسر حالة الركود الاقتصادي. التي تعتبر الأساس للعديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية.

وحيث يشكل النمو الاقتصادي، الهاجس الرئيسي في البلدان المختلفة، فإن ذلك يستوجب ضرورة اتباع آليات تكاملية، لتسخير جميع الامكانات والموارد المتوافرة، في خدمة رفع مستوى الناتج المحلي، مع مراعاة العدالة في توزيعه. وبهذا لا مناص، من العمل على استصدار القوانين، واطلاق السياسات الاقتصادية السليمة، الكفيلة بإنشاء بنى اقتصادية تنموية متنوعة، ستساهم في تقويتها لاحقاً. يضاف إلى ذلك، ضرورة العمل على بناء إطار إداري متكامل ومتطور. يساعد على تسهيل العملية الاقتصادية برمتها، وخاصة العمل الاستثماري، الذي يشكل الدعامة الأساسية، لإحداث النمو الاقتصادي والرفع من معدلاته.

وفي الواقع الاقتصادي والحياتي، في البلدان التي تُصنّف بلداناً متخلفة، تكثر المشكلات الاقتصادية، كالتضخم والبطالة وانخفاض القدرات الشرائية للأفراد. وتزداد معدلات الفقر، وتصبح مستويات المعيشة في حدودها الدنيا. يترافق ذلك مع ضعف البنى التحتية، وانخفاض أعداد المشروعات الاستثمارية، وقلة فرص العمل، مما يدفع باتجاه نوع من الاستقطاب المجتمعي، لجهة تشكل طبقة غنية، نتيجة الريوع العالية التي تحققها، من خلال مشاريع استثمارية غير بنيوية، سريعة الربح وقليلة التكاليف، ولا تساهم في تقوية البنى الاقتصادية. وطبقة أخرى فقيرة، تضمُّ معظم فئات المجتمع الأخرى، تصبحُ غير قادرة على تأمين متطلبات حياة كريمة. ليدخل المجتمع بذلك في حلقة التخلّف المركّب، الذي يُنتج أسباب استمراريتهِ بنفسه، فتزداد الاختلالات المجتمعية، الاقتصادية منها والاجتماعية، وقد تتحول إلى اضطرابات سياسية، تدفع بالبلاد نحو منحدرات أمنية خطيرة.

 كل ذلك، يشكّلُ تحديات هامة أمام الحكومات؛ التي تسعى لتحسين واقع بلدانها الاقتصادي والمعاشي. وتفرض طريقاً واحداً للخلاص، يتمثل في ضرورة السعي الدؤوب، نحو البحث في حلولٍ لتلك المشكلات الاقتصادية والسياسية، والقيام ببناء استراتيجيات تنموية سليمة، واتباع سياسات اقتصادية ناجعة، تزيد من مستويات الاستثمار والتراكم الرأسمالي، وبالتالي ترفع من معدلات النمو الاقتصادي، وتساهم في تحسين مستويات المعيشة، وتسير بالبلاد نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.

ولأن التنمية الشاملة لا تقتصر على جانبها الاقتصادي، من خلال رفع معدلات النمو، وزيادة مستوى الناتج المحلي. فكان السعي دائماً نحو بناء استراتيجيات تنموية فعالة، تضمن كسر حلقات التخلف، وإنهاء استئثار فئات محددة، ذات نفوذ سياسي أو عسكري للموارد الاقتصادية المتاحة، وتحقيق العدالة في توزيعها، وتخفيض معدلات الفقر والبطالة، وترسيخ أسس العدالة الاجتماعية، وبناء منظومة تعليمية متكاملة، تعتمد على المعارف والعلوم الحديثة، وتضمن بناء شخصية اجتماعية، قادرة على إحداث التحولات النوعية واللحاق بركب الحضارة.

فعالم اليوم الذي أصبح قرية صغيرة، تسعى فيها المراكز الرأسمالية، إلى تنميط عادات الاستهلاك، في مختلف المجتمعات البشرية، لأسباب تتعلق بزيادة سرعة دوران رأس المال، وتحقيق أرباح سريعة، وللتخفيض من تكاليف التسويق، والاستفادة من وفورات الحجم وسواها، فقد كان من الطبيعي أن تترك العولمة بالنتيجة، مفرزات اقتصادية واجتماعية وسياسية، على مختلف بلدان العالم ومجتمعاتها. والتي باتت مطالبة – أكثر من أي وقت مضى، إذا ما أرادت اللحاق بقطار الحضارة السريع – باتباع سياسات تنموية سليمة، آخذة بعين الاعتبار ضرورة التكيف، مع الواقعين السياسي والاقتصادي العالمي، ومفرزات العلاقات الدولية، وخاصة التجارية منها، بين الأقطاب الرئيسية في المنظومة الاقتصادية العالمية.

إذاً، لم تعد التنمية، مسألة تتعلق بالاقتصاد الوطني فحسب، بل باتت قضية اجتماعية وسياسية واقتصادية، تسعى الحكومات من ورائها، إلى تحقيق الرفاه الاقتصادي، وتطبيق القانون والحفاظ على البيئة، وبناء أسس التطور والسير بركب الحضارة العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى