قضايا راهنة

من أستانا إلى الدوحة، استمرار مسارات تعقيد الأزمة السورية

شهدت الأزمة السورية سلسلة من التطورات والأحداث، التي استغلتها الأطراف المتداخلة، عبر إطلاق منصات ومسارات في اتجاهات متعددة، في محاولةٍ منها لفرض تسويات تتناسب مع مصالحها وأهدافها، على أساس نوع من المحاصصة السياسية، وإغفال مأساة ملايين النازحين والمهجرين. إلا إن هذه المسارات جميعها انتهت بالفشل، لأن الأطراف المتحاورة هي نفسها التي تحصُر الحل في سلسلة جولاتٍ من المسارات؛ محددةٌ من قبلها فقط، بدءاً من “أستانا”، مروراً بسوتشي، وانتهاءً بـــ “الدوحة” الآن، التي أُطلقت فيها عملية تشاور ثلاثية لوزراء خارجية قطر وروسيا وتركيا” في الحادي عشر من مارس آذار الحالي، زعمت فيها الأطراف المتحاورة مناقشة الوصول إلى حل سياسي دائم في سورية؛ وهي في حقيقتها لا تختلف كثيراً عن سابقاتها. ففي الحديث عن مسار أستانا في مايو 2017، تركزت المناقشات على الجانب العسكري للصراع، قبل الانتقال للحديث عن حوار وطني في سوتشي عام 2018، دون أية حلول ترضي السوريين.

يأتي مسار الدوحة اليوم استكمالاً لجولات أستانا، في التركيز على الجانب السياسي، فاللاعبون هم أنفسهم، مع استبدال إيران بقطر، وبذلك نعتقد أنه يحمل معه مقومات فشله، وعليه يمكن قراءة أسباب احتمالات فشل هذ المسار في تحقيق أية حلول للأزمة السورية كالتالي:

1- تضارب في مصالح المشاركين

بالرغم من توافق الأطراف المشاركة في مسار الدوحة على مخرجات تم الاتفاق عليها مسبقاً، إلا إن هذا المسار يحمل في طياته عملية غير متناسقة، فالدعم الذي يقدمه المشاركون لحلفائهم المحليين غير منسجم مع أهدافهم ومصالحهم السياسية على الأرض.

فقطر وتركياتسعيان من خلالاستضافتهما ومشاركتهما في هذا المسار، إلى استعادة دور يتماشى بشكل مباشر مع سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، من خلال استمرار الضغط على النظام السوري، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية التركي “جاويش أوغلو” بضرورة الضغط على النظام السوري لكسر الجمود الراهن. كما شددت قطر على لسان وزير خارجيتها “محمد بن عبد الرحمن آل ثاني” على استمرار تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية. وهي تصريحات تتعارض مع التحركات والأهداف الروسية في مستقبل سوريا، المتزامنة مع التقارب الروسي نحو الإمارات والسعودية، بعد زيارة وزير خارجيتها “سيرجي لافروف” إلى السعودية قبيل هذا المسار، بهدف تخفيف الضغط عن النظام السوري بشأن العقوبات، ومناشدة دول الخليج للتطبيع مع دمشق، واستعادة عضويتها في جامعة الدول العربية.

كما أن سجل قطر وتركيا حافل بدعم المسلحين المعارضين وغيرهم من المتشددين منذ بداية الأزمة؛ والذي لم يتوقف حتى اللحظة، بالرغم من إجماع الوزراء الثلاث على أنه لا حل عسكري للأزمة السورية، وهو ما تم طرحه في مفاوضات سابقة، الأمر الذي لم ينفّذ على أرض الواقع، بل زاد من عدد الفصائل، واشتدت حدة التناحر بينهم من جهة ، وبينهم وبين النظام السوري من جهة ثانية.

لذا من المرجح أن تضارب مصالح قطر وتركيا مع روسيا سيصعب من تحقيق أهداف هذا الاجتماع. فالأولان يحاولان إنعاش قوى الائتلاف، أما الثاني فيسعى إلى ضرورة إعادة تأهيل النظام السوري، والالتفاف على أي قرار من شأنه أن يقصيه. وهو ما سيخلق نوع من التعارض بين هذه الأطراف في أي مسار تفاوضي مستقبلاً. لذا تحاول روسيا بشتى الوسائل أن تكون طرف مفاوض في أي جولة، لفرض شروطها السياسية. وفي مسار الدوحة فقد استبقت موسكو النتائج، بتأكيدها أن هذا المسار لا يزال حديثاً، ولا يرقى لمستوى “أستانا”، في إشارة إلى التأكيد على فرض أجندتها على مستقبل سوريا، وتعزيزاً لمكاسب حليفه على الأرض، التي حققها سابقاً، إما عسكرياً أو بالصفقات مع مفاوضيه في جولات سابقة.

2- تحقيق مكاسب أحادية بعيدة عن آمال السوريين

عند قراءة البيان المشترك لوزراء خارجية الدول الثلاث في الدوحة، يبدو وكأنه تكرارٌ لمخرجات المسارات السابقة، ومحاولةُ فرض الحلول وفق مصالح وأجندات الدول المشاركة، دون أية حلول ترضي السوريين، لذا فمسار الدوحة من شأنه أن يؤسس، لغايات أحادية يمكن قراءتها كالتالي:

1-2. انعاش الدور القَطَري دبلوماسياً

ترى قطر في استضافتها ومشاركتها لاجتماع الدوحة، فرصة للعمل كوسيط لحل النزاع، نظراً لتراجع دورها بشكل كبير مؤخراً، نتيجة المقاطعة الخليجية، وغياب التوافق مع الإدارة الأمريكية السابقة، فبدأت تكثف جهودها الدبلوماسية، عبر الملف السوري، على أمل استعادة بعضاً من الأدوار الإقليمية التي تراجعت سابقاً نتيجة لما سبق ذكره.

وخلال هذا المسار، تحاول قطر استغلال المناخ الدولي والإقليمي، بالتزامن مع تسلم الإدارة الأمريكية الجديدة مفاتيح البيت الأبيض، بهدف إعادة تفعيل دبلوماسيتها. وفي ذلك ترى أن  سوريا هي بوابة مناسبة اليوم لتحقيق ذلك، والعودة إلى الساحة السياسية والدبلوماسية الإقليمية، خاصة بعد فشلها في تقديم نفسها كوسيط للملف النووي الايراني، والمراهنة على علاقتها الجيدة مع كافة أطراف التفاوض. ليتضح فيما بعد ضعف مكانتها السياسية، ومحدودية دورها الدبلوماسي حيال هذا الملف. وكذلك الأمر بالنسبة للأزمة اللبنانية، وانخراطها فيها للتوسط لحلها، إلا إن جهودها باءت بالفشل لكثرة اللاعبين ذوي النفوذ الأقوى؛ لذا ففشلها على الساحة اللبنانية وفي الملف الإيراني دفعها للانخراط في الملف السوري لاستعادة ما تراه الدوحة أنها خسرته خلال الفترة السابقة.

كما تأتي الجهود القطرية، في محاولة لكسر الدور الإماراتي، الذي يسعى لاحتضان النظام السوري لوحده؛ وذلك عبر تسوية تفاوضية تكون لقطر فيها الدور المؤثر، بما يدعم حلفاءها من المعارضة السورية، ويخلق نوع من التوازن بينهم وبين النظام السوري. بدلاً من التحرك باتجاه نصرة النظام وحده.

2-2. تحقيق تقارب تركي خليجي

ترى تركيا الانخراط في أي عملية تفاوضية، فرصة لزيادة نفوذها على حساب روسيا، كون العلاقة بينهما قائمة على التنافس وعدم التوازن، فهي تجد أن تسوية الأزمة السورية في قطر ستحظى بتأييد دول الخليج، لإبراز نفسها كطرف إقليمي فاعل، ويكسبها وزناً ونفوذاً قبل أي حوار مع الولايات المتحدة مستقبلاً. وبانخراطها في مسار الدوحة، تريد أنقرة أن توصل رسالة تؤكد على إمكانية دخولها المسرح الخليجي، عبر هذا المسار، مما سيكسبها سمعة سياسية، عند إظهار نفسها كشريك مؤثر في أية منصات لحل الأزمة السورية، ولعب دور الوسيط في أية عملية تفاوضية قد تكون لدول الخليج دوراً مؤثراً فيها.

3-2. تسويق روسي كطرف منفتح لأي عملية تفاوضية

بالنسبة لروسيا فهي تعتبر أن مسار الدوحة، زيادة في عدد المنصات التي تخص التسوية السورية، علها تقدم نتائج أكثر واقعية من غيرها، وترضي الإدارة الجديدة في واشنطن، سيما في ظل غياب إيران عن هذه المحادثات، ومشاركة تركيا كحليفة للولايات المتحدة، فأي تفاهم قد يكون من شأنه إيصال رسالة للولايات المتحدة، وإدارتها الجديدة بأن موسكو تحمل مفاتيح الحل.

وعبر هذا المسار قد تحاول روسيا أيضاً تعديل مضمون القرار الدولي 2254، أو الالتفاف عليه، كما حصل في المحادثات السابقة في أستانا وسوتشي، من وقف لإطلاق النار إلى خفض التصعيد، وتشكيل اللجنة الدستورية لمعالجة العقبة السياسية. فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية في سوريا، تحاول موسكو إيجاد نوع من الحل للقطيعة الإقليمية والدولية للنظام السوري، وآلية تساعدها في الحد من هذه القطيعة، بهدف إنعاش حليفها “النظام السوري”، ودوام استمراره في مستقبل سوريا.

3- استبعاد إيران لكسب الآخرين

يرى كافة المشاركون في مسار الدوحة، أن لاستبعاد إيران مصلحة مشتركة، فروسيا ترى نفسها صاحبة النفوذ الأكبر في حل الأزمة السورية، وعلى السلطة القائمة فيها، لذا فهي ترى في استبعاد ايران عن أية مسارات تفاوضية، فرصة لتقليص نفوذ الأخيرة في سوريا من جهة، وفرصة للتقرب من دول الخليج من جهة ثانية. كما تتفق مع كلٍ من قطر وتركيا بأن استبعاد إيران، وسيلة لإرضاء الدول التي لا ترغب بوجودها في أي حلّ تفاوضي، وخاصة دول الخليج والولايات المتحدة، للانتقال من التحالف الهش مع إيران، إلى التحالف المتين مع هذه الدول.

وفي الختام يمكن القول إن مسار الدوحة ما هو إلا استمرارٌ لسيناريو قد يكون فاشلاً كسابقاته في أستانا وسوتشي، بعد عشرات الجولات والخطط الجانبية من قبل المشاركين في هذه المحادثات، وفق تطلعاتهم، على حساب معاناة الشعب السوري. فالاجتماع الأخير ما هو إلا إعادة للمشهد السابق، ولكن على ملعب أخر، وتنفيذ للخطط السابقة، والحصول على نتائج ترضيهم فقط، وقد تكون مخيبة لآمال الشعب السوري في إيجاد نهاية لمأساته.

فالمسار الجديد لا يختلف عما سبقه من مسارات، والتي توقفت لأسباب متناقضة، لذا من المرجح أننا سنشهد تعليقه عند الدوحة قبل وصوله لأنقرة، أو سيصل لكن دون تحقيق أية نتائج ملموسة لمخرجات الأول، ضمن صفقات جديدة بين الأطراف الثلاث المشاركة، التي تحقق مصالحهم فقط، دون الاكتراث لأية حلول على الأرض ترضي السوريين.

زر الذهاب إلى الأعلى