قضايا راهنة

الشرع.. بين طموح الإمارة الإسلامية وواقع سوريا التعددية

بعد مرور أربعة عشر عاماً على اندلاع الحرب في سوريا، لم يكن سقوط نظام الأسد إيذاناً بنهاية الصراع، بل كان بداية لمرحلة جديدة تتسم بمزيد من الاستقطاب والتوترات الطائفية والقومية. إذ يكشف المشهد السوري الحالي عن تحول تقوده حكومة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) تحت ستار “المرحلة الانتقالية”، بينما تعكس سياساته ملامح مشروع “التمكين” الإسلامي الذي يهدف إلى الهيمنة على السلطة، وتأسيس نظام إسلامي مستدام. في المقابل؛ تعاني المكونات السورية، خصوصاً الدروز والكرد والعلويين، من الإقصاء، ما يدفع بعضها للبحث عن بدائل خارجية للحماية، وفي ظل هذه المتغيرات، يبدو أنّ سوريا تتجه نحو إعادة إنتاج أنظمة استبدادية بوجوه جديدة، مع مخاطر تفكك داخلي بسبب غياب التوافق الوطني.

السلطة “غنيمة حرب”

يتعامل الحكام الجدد في دمشق مع السلطة بوصفها “غنيمة حرب”، لا مسؤولية وطنية. فلم تكن الأولوية بالنسبة لهم إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية، بل لترسيخ سلطة جديدة تستند إلى هيمنة أيديولوجية تُقصي كل من لا يتماهى معها. وبالتالي باتت الأقليات الطائفية والقومية مهددة بالتهميش كالسابق، وربما أسوأ، إذ لم تجد الطائفة العلوية أيّة ضمانات تحميها من الانتقام الطائفي والسياسي، فيما بقي الدروز على هامش المشهد، يترقبون مصيراً غامضاً وسط غياب أية رؤية تضمن حقوقهم في الدولة الجديدة. أما الكرد، الذين تمكنوا من تحقيق حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، فقد وجدوا أنفسهم أمام حكومة تنظر إليهم كتهديد يجب احتواؤه، وليس مكوناً أصيلاً ينبغي التفاهم معه كشريك في تحديد مستقبل سوريا، ورغم أنّ الاتفاقية التي وُقِّعت بين رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، بوساطة أمريكية، أعادت الأمل بتوجه سوريا نحو مرحلة جديدة على أساس التنوع، ومشاركة الجميع في إدارة الدولة، إلا أنّ السلطة الجديدة لا تقدم نفسها كبديل ديمقراطي حقيقي، بل تسير على نهج النظام السابق في التعامل مع التنوع السوري باعتباره حالة طارئة يجب إدارتها، لا الاعتراف بها.

بعد أيام من توقيع الاتفاقية، وقّع الشرع على الإعلان الدستوري الذي تشير بنوده إلى أنّه ليس هناك أيّة محاولات جديّة لإشراك مختلف المكونات في صنع القرار، فلقد تم فرض أجندة أحادية عبر صياغة الإعلان الدستوري دون اعتبار للأطراف الأخرى، ما يعكس توجهات الفئة الحاكمة، ورغم أنه كان يمكن لهذا الإعلان أن يكون مدخلاً لتأسيس دولة قائمة على التعددية والتوافق، إلّا أنّه جاء ليؤكد نزعة السيطرة وإقصاء المخالفين، ما يجعل المشهد أكثر قتامة، ويزيد من احتمال نشوب صراعات جديدة تعيد إنتاج المآسي التي شهدتها البلاد على مدى السنوات الماضية.

إقصاء ممنهج بحجة “حكومة كفاءات”

بينما ترفع الحكومة الجديدة في دمشق شعار الاعتماد على الكفاءات لا المحاصصة، نجد أنّ الحقائق على الأرض تختلف عن الشعارات المعلنة، فمن خلال النظر إلى التعيينات في المناصب العليا في الدولة، وتركيبة اللجان التي شكلتها القيادة الانتقالية، سواء منها ما سميت بــــ “لجنة الحوار الوطني”، أو لجنة صياغة الإعلان الدستوري، يتبين أنّ “الكفاءات” ليست إلّا ستاراً لإقصاء المكونات الأخرى، وإحكام قبضة فصيل واحد على مستقبل البلاد، إذ لا يوجد تمثيل حقيقي للطوائف والقوميات الأخرى، والسؤال الجوهري هنا؛ هل يُعقل أن يكون كل أصحاب الكفاءات في البلاد من مؤيدي تيار واحد فقط؟ وإذا لم تكن هذه محاصصة، فلماذا إذاً تذهب “كل” الحصة لطرف واحد؟ هذا النمط من الاستحواذ على مفاصل الدولة لا يبشر بأي تحول ديمقراطي، بل يعيد إنتاج نموذج الهيمنة السياسية التي لطالما دفعت سوريا ثمنها غالياً.

مرحلة انتقالية أم مرحلة “التمكين”؟

في المشهد السوري المعقد، يظهر أحمد الشرع، المعروف باسم “أبو محمد الجولاني”، كلاعب يسعى إلى تغيير صورته من زعيم جهادي إلى رجل دولة حديث. يرتدي بدلة رسمية، يتحدث عن العدل والمساواة والتعددية، ويُصدر قرارات تتعلق بوضع دستور وإدارة مرحلة انتقالية، لكنّ خلف هذه الصورة الجديدة، يكمن مشروع أيديولوجي راسخ يعتمد على استراتيجية “التمكين” التي تستخدمها الحركات الإسلامية، سواء كانت جهادية أم سياسية، كمرحلة ضرورية للوصول إلى الهدف النهائي، وهو السيطرة الكاملة على الحكم وإقامة نظام إسلامي وفق رؤيتها الخاصة. و “الجولاني” الذي جاء من خلفية جهادية، لا يخرج عن هذا الإطار، رغم محاولاته الحثيثة للظهور بمظهر السياسي البراغماتي القادر على إدارة كيان سياسي مستقر.

تنكشف ملامح مشروع “التمكين” بوضوح في تحديد مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات بحجة الظروف الاستثنائية في سوريا، وضرورة إعادة الإعمار قبل الانتقال إلى الانتخابات ووضع دستور دائم، فخلال هذه الفترة، سيُحكم “الجولاني” قبضته على كافة السلطات، (فمثلا منح الإعلان الدستوري” للشرع” صلاحية تعيين الوزراء، وتعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، بالإضافة إلى إعلان حالة الطوارئ، وتعيين أعضاء مجلس الأمن القومي. وفي المقابل، لم يضع الإعلان أي مسار لمساءلة الشرع) وكل هذه الصلاحيات ستمنح الشرع القدرة على بناء شبكة عسكرية، واستخباراتية، وإدارية قوية تضمن بقاءه في الحكم، بحيث يصبح من الصعب إزاحته بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. وهكذا يبدو أنّ الشرع يسير نحو تكريس سلطته المطلقة في سوريا تحت ستار “المرحلة الانتقالية”، التي ليست سوى غطاء لعملية “تمكين” طويلة الأمد.

يمهّد الشرع من خلال تشكيل “مجلس الأمن القومي السوري”، وعبر السيطرة على مسار صياغة الدستور من خلال شخصيات تدين له بالولاء، لإرساء نموذج حكم مشابه لنماذج الإسلام السياسي في إيران والعراق، حيث يتحول القائد الفعلي “للثورة” إلى مرشد أعلى يسيطر على مفاصل الدولة، بغضّ النظر عن شكل الحكم، والفارق هنا أنّ الشرع يرغب أن يُنصّب نفسه “أميراً للمؤمنين” بثياب عصرية.

وبالتالي إذا ما نجح الشرع في ترسيخ سلطته خلال المرحلة الانتقالية، فإن مستقبل سوريا سيكون أشبه “بإمارة إسلامية مقنّعة”، والتي قد تختلف في الشكل عن المشاريع الإسلامية الجهادية، لكنها تتفق معها في الجوهر، وحينها، لن يكون هناك مجال للحديث عن انتخابات حرة أو تعددية سياسية، بل سيتم تأجيل هذه الوعود أو إلغاؤها، بحجة أنّ “الظروف لم تنضج بعد!”.

الإقصاء يدفع الدروز صوب اسرائيل

بينما تنشغل الحكومة المؤقتة بسياسة الإقصاء وتوطيد سيطرتها الداخلية، تتحرك إسرائيل، مستفيدة من التهميش الذي يطال المكونات السورية وخاصة الدروز، حيث شهد تاريخ 14 مارس 2025 حدثاً غير مسبوق منذ عقود، بفتح اسرائيل الحدود والسماح لوفد يضم نحو 100 شيخ من أبناء الطائفة الدرزية في سوريا بالدخول إلى إسرائيل، في خطوة لم تحدث منذ عام 1973. هذه الزيارة لم تكن مجرد تحرك اجتماعي أو ديني كما هو معلن، بل تندرج ضمن استراتيجية إسرائيلية لإعادة رسم خريطة الولاءات داخل سوريا، خصوصاً في المناطق التي يشعر سكانها بأنهم ليسوا جزءاً من “سوريا الجديدة” التي يتم هندستها في دمشق. وهذا ما يشجع إسرائيل على فتح قنوات التواصل المباشر مع الدروز السوريين، وإغرائهم بمزايا الأمن والرخاء الذي يتمتع به دروز إسرائيل، ما قد يفتح الباب أمام مطالبات بتوفير حماية إسرائيلية لدروز سوريا في المستقبل. في المقابل، لم تتحرك الحكومة الجديدة في دمشق لمنع هذا السيناريو باستقطاب الدروز أو منحهم تطمينات حقيقية، فبدلاً من إدماج الدروز في العملية السياسية ومنحهم ضمانات واضحة في الدستور الجديد، تستمر سياسة الاستئثار بالسلطة، ما يجعل الخيارات أمام الدروز وغيرهم من المكونات المهمشة تضيق يوماً بعد يوم.

مخاوف تركيا من استقطاب اسرائيل للكرد

أما تركيا التي تستثمر سياسياً وعسكرياً في المشروع السّوري الجديد، تبدو أكثر إدراكاً لمخاطر هذه السياسات الإقصائية، ويمكن تفسير وصول وفد تركي رفيع المستوى، إلى دمشق ضم وزيري الخارجية والدفاع ورئيس جهاز المخابرات، ولقائهم مع الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع في دمشق، بعد ساعات فقط من إصدار الإعلان الدستوري، بأنّه إشارة إلى قلق أنقرة من تداعيات المسار الذي يتبعه الشرع. فتصريح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عقب الاجتماع بأنهم نصحوا الشرع بضرورة منح الكرد حقوقهم، لا يمكن فهمه إلّا في سياق مخاوف أنقرة من أن يؤدي استمرار إقصاء الكرد إلى دفعهم، كما الدروز، نحو طلب الحماية من إسرائيل أو قوى دولية أخرى، مما قد يقلب الطاولة على تركيا والشرع معاً.

الخلاصة:

التطورات الحالية تشير إلى أنّ مستقبل سوريا لن يكون أكثر انفتاحاً أو استقراراً في ظلّ الحكم الجديد، بل قد يدخل مرحلة من الصراعات الداخلية، مع غياب أي مسار حقيقي للحوار الوطني، واستمرار السياسات الإقصائية، لذا فإن البلاد مرشحة للمزيد من التفكك، خاصة أنّ الفاعلين الدوليين لا يزالون يتعاملون مع السلطات الجديدة على أنها تحت المراقبة والاختبار ولم تحصل على الشرعية بعد.

وفي المقابل، يبدو أن الشرع خلال فترة الحكومة الانتقالية قد يتجنب الدخول في مواجهات عسكرية أو حتى تصعيد سياسي مع الكرد والدروز. فهو يتعامل مع هذه المناطق ضمنياً بوصفها خاضعة لإداراتها الذاتية، دون إعلان رسمي عن قبوله بهذا الوضع، تفادياً لإثارة الموالين له. إذ يتركز اهتمامه الأساسي على ترسيخ “إمارته السنية” في سوريا، بينما قد يسمح للكرد والدروز، بحكم الأمر الواقع، بالحفاظ على أوضاعهم الحالية لحين انتهاء مرحلة “التمكين”.

في ظل هذا المشهد، لا تبدو البلاد مقبلة على مرحلة تعددية حقيقية، بل على مرحلة انتقالية تكون الجسر نحو حكم شمولي تتراكم فيه السلطات بيد (الرئيس –الخليفة)، وتُصاغ القوانين والدساتير بما يضمن استمراره في السلطة إلى أجل غير مسمى.

زر الذهاب إلى الأعلى