ترجمات

الجذور التاريخية للتشيع في السياسة الخارجية الإيرانية

كشف العاهل الأردني الملك عبد الله عن تشكيل “الهلال الشيعي” في منطقة الشرق الأوسط، في أيلول/سبتمبر 2004، وحذّر من أنّ الظهور الوشيك لهذا الهلال، الذي يبدأ من إيران، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان، سيتسبب بإحداث خلل في التوازن التقليدي للقوى في هذه المنطقة، وسيؤدي في نهاية المطاف، إلى نشوب حرب طائفية شاملة.

واعتبر ظهور “الهلال الشيعي” من نتائج الإطاحة بصدام حسين، الرئيس العراقي السابق، على يد الولايات المتحدة الأمريكية، ووصول حلفاء إيران إلى السلطة في العراق، حيث أدى سقوط صدام حسين إلى تحويل العراق من عدو وخصم إقليمي لإيران، إلى حليفٍ لها، ومهّد الطريق لتشكيل “الهلال الشيعي”.

السياسة الخارجية الإيرانية

لا يمكن تلخيص السياسة الخارجية الإيرانية بعد الثورة، في نهج وخطاب واحد. ففي حين كان المسؤولون والدوائر الحكومية، وهيئة الدعاية الإسلامية، والإذاعة والتلفزيون، يروّجون على الدوام لخطاب “التشيّع السياسي” والمبادئ الثورية لآية الله الخميني، كانت الأولوية القصوى هي لـ “مصلحة النظام” أو “حماية النظام” القصوى، في حقيقة الأمر. حتى أنّ آية الله الخميني، مؤسس ولاية الفقيه، وأول قائد للحكومة الإسلامية، والذي كان معروفاً بإصراره على المُثل العليا للثورة الإسلامية، اتخذ في بعض الحالات مواقف براغماتية، ومن أحد هذه المواقف القبول بقرار مجلس الأمن رقم /598/، وإعلان وقف إطلاق النار مع العراق، الذي شبهه الخميني حينها بتجرّع “كأس السم”.

سمّى آية الله خامنئي – أيضاً – مصلحة النظام بـ “الليونة البطولية” في الاتفاق النووي، الذي تم توقيعه بين إيران ودول 5+1 في عام 2015.

التشيّع السياسي

تأسس التشيّع السياسي في إيران، لأوّل مرة، على يد الشاه إسماعيل الصفوي، عام 1501م، حيث كان الشاه إسماعيل حينها يجد في الإمبراطورية العثمانية المجاورة، تهديداً لمملكته، واعتبر أنّ الطريقة الوحيدة لمواجهتها هي اللجوء إلى التشيّع، وخلق خلاف أيديولوجي ديني مع نظيره التركي.

على هذا الأساس، تشكّلت الهوية الشيعية الإيرانية، من قِبل الدولة الصفوية، ومن خلال الاستعانة بعلماء الشيعة في جبل عامل، الذين تم استدعاؤهم من لبنان إلى إيران. وتمتّع هؤلاء العلماء بمكانة خاصة، بفضل المساعدة والدعم الذي كانت تقدمه الدولة الصفوية لهم.

في هذا العصر “الذهبي” للشيعة، غلب التشيّع بشكلٍ كامل على الحياة الدينية، والسياسية، والاجتماعية في إيران، وازدهرت الحوزات الدينية والمؤسسات التابعة لها، من خلال الاستفادة من مساعدات الحكومة والواردات الكبيرة من “الخمس والزكاة”.

اكتسب علماء الشيعة، بعد هذه المرحلة، مكانة خاصة بين مختلف طبقات المجتمع، حيث استطاعوا فيما بعد، من خلال استخدام نفوذهم، قيادة حشود الجماهير، وخلق أهم الحركات السياسية والاجتماعية في تاريخ إيران المعاصر.

كانت أول أهم انتفاضة تاريخية قادها رجال الدين الشيعة هي فتوى آية الله شيرازي المتعلقة بتحريم التبغ والتنباك، أو “ثورة التنباك”. وهي فتوى صُدرت ضد منح ناصر الدين شاه امتياز تجارة التبغ والتنباك في إيران لمدة 50 عاماً، لصالح شركة “تالبوت” الإنكليزية، عام 1890م.

إحدى أهم الحركات السياسية الأخرى أيضاً في تاريخ إيران المعاصر، هي الثورة الدستورية (1905-1909) التي قادها سيد محمد طباطبائي وسيد عبد الله بهبهاني اللذين كانا من مرجعيات الشيعة التقليديين في ذلك الحين، فيما حظيت الثورة بدعم شيخ الإسلام محمد حسين نائيني، المرجع التقليدي للشيعة في النجف.

لعب سيد أبو القاسم الكاشاني، وهو سياسي ومجتهد شيعي، وممثل عن سكان طهران في مجلس الأمة لثلاث دورات متتالية، دوراً مهماً في حركة تأميم صناعة النفط عام /1950/م. وحظي تأييده وموافقته على تأميم صناعة النفط في إيران بدعم من الشعب ومن كبار علماء الشيعة في ذلك الوقت.

لكنّ نقطة التحول في النفوذ والتأثير الشيعي تجلّت في الثورة الإسلامية /1979/م. التي كانت بمثابة ذروة هيمنة وتأثير رجال الدين الشيعة في الحياة السياسية والاجتماعية في إيران؛ الثورة التي حوّلت الدور التقليدي التوعوي وتحشيد الحركات الشعبية لرجال الدين الشيعة إلى موقع قيادي، وإلى بديل للشاه في نهاية المطاف، ونظراً لهذا النفوذ العميق في المجتمع، تمكن رجال الدين بقيادة آية الله الخميني من إخراج جميع القوى والأحزاب الثورية من المشهد السياسي الإيراني، والاستيلاء بشكل كامل على السلطة.

التشيّع في السياسة الخارجية الإيرانية

بعد تأسيس الدولة القومية في إيران على يد رضا شاه عام /1925/م، قامت الدولة الإيرانية على مبدأين؛ اللغة والثقافة الفارسية كهوية تاريخية، والمذهب الشيعي الاثني عشري كهوية دينية، حيث تحوّل التشيّع، الذي كان ذا خلفية دعوية، واجتماعية، وسياسية في إيران، إلى أداةٍ للتأثير السياسي، من خلال الاستفادة من مكانة علماء الشيعة في الحوزات الدينية في العراق وإيران.

تجلّت ذروة هذا الاستخدام الأداتي للتشيّع، الذي تحوّل إلى قوة ناعمة في السياسة الخارجية، بعد الثورة الإسلامية /1979/م، التي أوصلت رجال الدين الشيعة إلى السلطة، ودمجت بين التشيّع السياسي والنظرة العالمية للدولة الإسلامية ومفهوم ولاية الفقيه، وقدمته للعالم، كما حوّلت إيران إلى مركز للتشيع في العالم.

في هذه النظرة العالمية للعقيدة الإسلامية، لا تنحصر واجبات ومسؤوليات الحاكم الإسلامي ضمن حدود جغرافية معيّنة، بل لها بعد عالمي شامل. ففي نظرية ولاية الفقيه يندرج مفهوم المسؤولية تجاه المسلمين، تحت القيادة الروحية والسياسية للمرشد الأعلى، وتُعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي النظام الوحيد الذي ينصّ دستوره على أنّ التدخل في شؤون الدول الأخرى يُعتبر من مهام وزارة الخارجية، تحت مفهوم مساعدة “المستضعفين”.

القوة الناعمة في السياسة الخارجية الإيرانية

تعتمد الجمهورية الإسلامية في سياستها الخارجية على خمسة عوامل لتعزيز قوتها، وهي: نشر التشيّع، والقوة الصاروخية والطائرات المسيّرة، والقوى بالوكالة، والخطاب الثوري المناهض لإسرائيل والولايات المتحدة، والصبر الاستراتيجي؛ لكن أهم هذه العوامل هو التشيّع.

لقد بذلت الجمهورية الإسلامية، خلال العقود الأربعة الماضية، قصارى جهدها لقيادة الشيعة في العالم، ونجحت في بعض الحالات في تحقيق شكلٍ من أشكال التحالف مع بعض الشيعة في الدول العربية، والذين يعتبرون أقليةً فيها في الغالب.

أدّى دعم إيران المادي والمعنوي لهذه الجماعات، إلى بروز قادة دينيين وسياسيين في هذه المجتمعات، حيث تمكنت، من خلال الاستفادة من الدعم الإيراني، من تشكيل جماعات سياسية وشبه عسكرية، وأصبحت أحد أطراف القوة في البلدان التي تتواجد فيها.

يعتبر حزب الله أهم القوى التي تعمل بالوكالة عن إيران، والذي تأسس في بلدٍ يضم ثمانية عشر فرقة دينية ومذهبية، في خضمّ الحرب الأهلية، والاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982. وفي حقيقة الأمر، فإنّ مواجهة حزب الله لإسرائيل، التي انتهت في نهاية المطاف بانسحاب الأخيرة من جنوب لبنان، ضمَن “شرعية” وجود حزب الله وسلاحه، وحوّله إلى أكثر القوى العسكرية والسياسية نفوذاً في لبنان.

سعت إيران إلى تكرار نموذج حزب الله اللبناني في دولٍ أخرى أيضاً، لكن لم تستطع أي من الجماعات الإيرانية الأخرى بالوكالة، أن تتحوّل إلى قوة سياسية-دينية مطلقة، مثل حزب الله اللبناني. ففي سوريا، يعتبر الشيعة من أصغر الأقليات الدينية، ونفوذهم الاجتماعي محدودٌ جداً، كما أنّ سياسات التشيّع باهظة التكاليف التي نفذتها المراكز الثقافية الإيرانية، عقب تسلم بشار الأسد السلطة عام /2000/م، لم تنجح في زيادة عدد السكان الشيعة السوريين، كثيراً.

في البحرين، تمكّنت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية، وهي أكبر حزب سياسي شيعي، بقيادة رجل الدين الشيعي علي سلمان، من الفوز بثمانية عشر مقعداً في البرلمان البحريني عام 2010. وفي نهاية المطاف، وفي أعقاب أحداث ما يسمى بالربيع العربي الذي شمل البحرين أيضاً، اعتقل عدد من قيادات هذه الجمعية، وزجّوا في السجن بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، والتجسس لصالح إيران وقطر.

في اليمن، تمكنت جماعة الحوثي الزيدية الشيعية، التي تقود منذ سنوات ثورة مسلحة ضد الحكومة المركزية في صنعاء، من احتلال العاصمة عام 2014، وتأسيس حكومتها الخاصة بها، لكن المجتمع الدولي لم يعترف بحكومتها، ودعم حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور، الذي نقل حكومته إلى الرياض بعد احتلال العاصمة.

على الرغم من سيطرتها على صنعاء وبعض المدن اليمنية الأخرى، إلّا أنّ جماعة الحوثي ما تزال تخوض حرباً أهلية ضد الجماعات اليمنية الأخرى، وفشلت المساعدات الإيرانية في بسط سيطرتها الكاملة على اليمن.

في العراق، حيث يشكل الشيعة فيه، ما يقارب 65% من مجموع السكان، فإنّ الوجود الإيراني فيها مكثف، لكن نظراً لبعض العوامل، مثل حوزة النجف الدينية (التي تتعارض وجهات نظرها مع حوزة “قم” في العديد من المسائل ومنها ولاية الفقيه)، وتعدد المرجعيات الشيعية، إضافةً إلى البعد الهوياتي والتاريخي للعراق، فإن هيمنة حزب أو جماعة قادرة على تطبيق نموذج حزب الله العراقي في لبنان، أمراً أشبه بالمستحيل، كما أنّ جهود إيران في توحيد الجماعات والأحزاب الشيعية ضمن إطار تحالف واحد وقيادة موحدة، باءت بالفشل على الدوام.

في الأشهر الأخيرة، أصبح الخلاف السياسي العميق بين الجماعات الشيعية واضحاً بشكلٍ متزايد، ومن الأسباب الرئيسية لهذه الخلافات؛ الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق ضد الأحزاب السياسية الحاكمة ونفوذ إيران، إضافةً إلى تعدد المرجعيات الدينية.

امتدت هذه الخلافات إلى الحشد الشعبي أيضاً، الذي كان من المقرر أن يصبح مثل نموذج الحرس الثوري في العراق، وفقاً لقول رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، وقسّمت هذه الخلافات الحشد – بطريقةٍ ما – إلى ثلاثة أقسام بثلاث مرجعيات دينية وهي: “حشد العتبات” تحت مرجعية علي السيستاني، ويتماشى مع سياسات الدولة وتتبع القيادة العامة للجيش العراقي، و”الحشد الولائي” وهم أتباع السيد خامنئي، و”سرايا السلام”، ويتبعون لمقتدى الصدر.

مستقبل التشيع السياسي

لقد أدى استخدام أداة التشيع في السياسة الخارجية الإيرانية إلى زيادة الاصطفاف الطائفي في منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ كبير. هذا الانقسام الطائفي في المجتمعات التعددية ذات التنوع الثقافي، والعرقي، والديني؛ أضعفَ فكرة الوطنية، والعلاقة التقليدية للفرد مع المجتمع كوحدة اجتماعية مشتركة.

أجبرَ هذا المناخ – من انعدام الثقة والخوف من الآخرين في المجتمع – الأقليات على الدفاع عن قيمها وهويتها، كما حمل الأكثرية على الحفاظ على مكانتها وتفوقها.

على الرغم من أنّ إيران تمكنت من تأسيس قوة سياسية-عسكرية بالوكالة في عدد من دول الشرق الأوسط، لكنّ هذه الاستراتيجية في هذه الفترة أيضاً، قوبلت بردود فعل سلبية من قبل جماعات شعبية مختلفة في العراق واليمن ولبنان، وطالبت هذه الحركات في العراق ولبنان بإنهاء “التدخل” الإيراني في هذين البلدين.

 حيثُ أحرق المتظاهرون في العراق العلم الإيراني، كما أضرموا النار في القنصليات الإيرانية في البصرة، وكربلاء، والناصرية، في مناسباتٍ عدّة.

كما أدى تركيز إيران على القوى الوكيلة خارج حدودها، والتكاليف السياسية والمالية والاقتصادية لهذه التدخلات، إلى ظهور جيل جديد في إيران يحمل أفكار هدّامة مناهضة للشيعة. فقد هتف هذا الجيل الشاب مراراً بشعار “لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران” خلال احتجاجات شعبية عمت مختلف مدن إيران ضد السياسات الإقليمية لبلدهم.

قوبل هذا الشعار برد فعل قوي من المرشد الإيراني الذي قال حول ذلك: “المخدوعون الذين هتفوا بشعار “لا غزة ولا لبنان” لم يضحّوا بأرواحهم، وراحتهم، ومصالحهم، فداءً لهذا البلد، وإنّما “السليمانيون” هم من دافعوا عن إيران”.

لقد استخدم قادة الجمهورية الإسلامية – مراراً – مسألة العمق الاستراتيجي كورقة للحفاظ على الأمن القومي، لتبرير وجودهم الإقليمي، والحالُ أنّ هذا الوجود الإقليمي تسبب لإيران، من جهة، بتشديد العقوبات الاقتصادية، والعزلة الإقليمية والدولية من جهة، أدى إلى خلق استياء عام من السياسات العامة للدولة, من جهة أخرى.

هذا الاستياء العام من السياسة الخارجية في البلدان التي يوجد فيها حلفاء إيران في السلطة، لهو أمرٌ واضحٌ بجلاءٍ أيضاً. حيثُ أدى سوء الإدارة الاقتصادية، والفقر، والفساد المستشري بين المسؤولين السياسيين في العراق ولبنان، إلى دفع شعبيّ البلدين لتحميل التدخل الإيراني ودعم إيران لهذه الحكومات، مسؤولية هذا التخلف الذي يعانيان منه.

فلبنان الذي كان يُعرف في فترة من الفترات بـ “عروس الشرق الأوسط” وكان مركزاً للثقافة والأدب، وأكبر مركز لطباعة ونشر الكتب في العالم العربي، يعيش اليوم أسوأ أزمة سياسية واقتصادية في تاريخه.

كان من المتوقع أن يتغير وضع العراق ويدخل ميادين التطوّر بعد مضي ثمانية عشر عاماً، نظراً لموارده الهائلة من النفط والغاز، والأراضي الخصبة، وكذلك القوة البشرية الشابة. لكنّ الحرب الطائفية التي اندلعت عام 2006، واحتلال المحافظات الغربية للعراق من قبل داعش عام 2014، إضافةً إلى سوء الإدارة واستشراء الفساد بين المسؤولين، حوّل العراق إلى دولةٍ ريعيّةٍ منتجها الوحيد الذي يتم تصديره هو النفط. ويُعتبر الاقتصاد هو المحور الرئيسي للمعارضة الشعبية في إيران ولبنان والعراق، ضد سياسات إيران الإقليمية.

أما في إيران، فإنّ الشرخ الحاصل بين الشعب والنظام كبيرٌ جداً، لدرجة أنه بات من الصعوبة بمكان، ترميم فقدان الثقة العامة بهذا النظام الذي لا يرغب في الإصلاح، ويتطلّب تغييراً جذرياً.

في المنطقة أيضاً، لم يعد لدى حلفاء إيران القدرة كما السابق، على حشد الشعب تحت راية التشيّع، وذلك بسبب الفساد، وسوء الإدارة الاقتصادية، حيث اندلعت الاحتجاجات الشعبية العراقية ضد الأحزاب الشيعية العراقية والتدخلات الإيرانية، بشكلٍ رئيسي في المناطق الشيعية التي كانت تُعقد عليها الآمال لتكون مركز ثقل نفوذ إيران.

…………………………………….

الكاتب: كاظم والي.

الترجمة عن الفارسية: مركز الفرات للدراسات- قسم الترجمة.

الرابط الأصلي للمقال

زر الذهاب إلى الأعلى