قضايا راهنة

“العنصرية الجديدة” و”البقاء للأصلح” في فضاء الإعلام المنحاز

لم تَعُد المَشاهد والقصص الإنسانية، المتدفقة من مناطق الصراع والحروب، حول مشكلة اللجوء، تشكّل إلا جزءاً صغيراً من معضلة تاريخية كانت مثيرة للجدل حتى يومنا هذا، فعلى الرغم من المحاولات النبيلة لحركات بشرية، لتأصيل المدنية في البنية المجتمعية، ودعم الحوار بين الثقافات، وتجاوز العنصرية التي خلفت آثاراً مدمرة أفنت ملايين الناس، إلا أنه وفي عصر العولمة ظهرت “العنصرية الجديدة”، بسماتٍ وملامح جديدة، اتضحت تجلياتها في ظل التطورات والتحوّلات الجسيمة، التي بدأت تظهر على البنية القيمية للمجتمع العالمي.

في وقت كانت العنصرية بنمطها التقليدي مبنية في السابق على الاقصاء والتنميط الممنهج تجاه عرق، أو جماعة، أو لون، وطائفة، باتت اليوم تأخذ أشكالاً أشد فتكاً، وأوسع نطاقاً، خرجت في ضوئها الكراهية من عباءة العِرق، لتصطبغ بالعنصرية الثقافية، وهنا يمكن ذكر التجربة الغربية مع اللاجئين الشرق أوسطيين، والأفارقة، على الحدود البولندية أثناء الحرب الروسية – الأوكرانية، رغم الاتفاقيات الدولية التي تناهض جميع أشكال التمييز العنصري، والتي تؤكد على أن التمييز بين البشر، بسبب العرق أو اللون أو الأصل الإثني، يشكّل عقبة تسيء للعلاقات الودية، والسليمة.

الخطاب المضاد للهجرة

ظلت أوروبا وجهة استثنائية للشعوب المقهورة، وملجأً آمناً للأقليات المضطهدة كي تبني حياة جديدة في بلدان تُعرف باحترامها للصكوك المدنية، بل سبيلاً لنسيان الماضي المؤلم، لكن في العقود الأخيرة أمست هذه الصورة المثالية تتبدد شيئاً فشيئاً مع صعود اليمين المتطرف في القارة العجوز، واستلامهم مراكز قيادية في الحكومات والبرلمانات الأوروبية، وهؤلاء المتطرفون معروف عنهم شدة تمسكهم بالهوية الثقافية والدينية لأصحاب البلد، ولديهم نزعة عنصرية لحماية العادات والتقاليد المتوارثة، فأصبحوا اليوم يشكلون خطراً حتى على استقرار بلدانهم ومستقبلها، سيما في خروجهم عن قوانين بلدانهم، واستخدامهم العنف لتصفية المهاجرين وترهيبهم.

تكررت في الآونة الأخيرة الممارسات العدائية تجاه المهاجرين، ولا تسعفنا بضعة سطور للاستفاضة في الإلمام بجميعها، فكان الهجوم الأبرز إطلاق النار وقتل 50 مسلماً أثناء تأدية الصلاة في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا، وكذلك الأمر في ضاحية أوسلو، والحوادث الفردية والجماعية التي استهدفت الأقليات المهاجرة في مختلف المدن والبلدات الأوروبية، سيما في فرنسا، وألمانيا.

الأمر برمّته نتاج لإحياء التوجهات الخطرة للنازية، والشوفينية، والفاشية بأحزابها وتياراتها الصاعدة (حزب “الحرية اليميني” في النمسا، وحركة “بريطانيا أولاً”، وحركة “الهوية” الفرنسي، وحزبي “بيفيدا” و”البديل لأجل ألمانيا” في ألمانيا..)، والتي فرضت بدورها قواعد تمييزية تحرّض على ارتكاب المجازر بحق المهاجرين، ومناهضة القيم الدينية، والعرقية للأجانب، فضلاً عن اللعب على وتر “عقدة التخويف”، من خلال إثارة مخاوف المواطنين الأصليين عبر حبك المصطلحات، وتوظيف الصور والرموز للتعبير عن الإحساس بالتفوق النوعي، ودونية الآخر، وبالتالي ينعكس هكذا ممارسات سلباً على الشارع، الذي يتم تأليبه وتجييشه بصورة شعبوية لتحقير كل مهاجر، وغالباً ما تكون الروايات العنصرية المتداولة عائدة إلى فترتي “العهد القديم” و”الحرب العالمية الثانية”، حيث كان يسود مبدأ ساديّ الملامح، وهو “البقاء للأصلح”.

“البقاء للأصلح”

يعيش العالم الحالي صراعاً داروينياً، يعزز مبداً “البقاء للأصلح”، تلك الفكرة التي تستلزم التطور بتوافر ثلاثة عناصر أساسية هي (الاختلاف، والتكاثر، والتوريث)، فضلاً عن التمايز في السمات الفيزيولوجية للكائنات التي تكافح للحفاظ على وجودها، وبناءً على هذا المفهوم يتم تكريس صفات سلبية، كالأنانية، والصراع التنافسي، كعوامل ديناميكية للحفاظ على التطور الحضاري، والتفوق الفئوي بدلاً من إرساء قيم التعاون، والتكافل، والمساواة والعدالة بين البشر.

طبعاً هذا المنظور الإقصائي يُعدّ خاطئاً، لأنه يسوّق لبناء أنظمة اجتماعية حاكمة (أقلية جشعة، أنانية ومستبدة) تكون أكثر قساوة وظلماً، يرزح تحت وطأتها المجتمعات الأخرى (غالبية تعاني من المجاعة والظلم)، ويكثف استغلال البيئات الطبيعية لصالح الفئة المستبدة.

لا يمكننا تناول الحالة دون التطرق إلى التجاوزات الكبيرة التي يتعرض لها المهاجرون الأسيويون والأفارقة في أوروبا، إذ لم تعد الحالات فردية لتصنيفها كحوادث شخصية، بل أصبح السلوك العنصري متأصلاً في اللاوعي الجمعي لدى كثير من الأوروبيين، أفراداً كانوا أو جماعات، فثمة منظومة متكاملة من التنميط المقيت على المستويين الرسمي والإعلامي.

فكانت التصريحات الصادرة مؤخراً صادمة من قادة وساسة غربيين، ومنهم رئيس الوزراء البلغاري “كيريل بيتكوف” حينما قال: “هؤلاء ليسوا اللاجئين الذين اعتدنا عليهم، هؤلاء أوروبيون، أذكياء ومثقفون، بعضهم مبرمجون، هذه ليست موجة لاجئين غير معروف ماضيهم، لا توجد دولة أوروبية تخاف منهم”.

في الحقيقة، أماطت هكذا تصريحات اللثام عن الوجه المظلم لأوروبا، رغم حالات النجاح الفريدة للاجئين والأجانب في انعاش اقتصاد القارة، وازدهار مناحي الحياة كافة، وقد تزامن حالة العداء تجاه الأجانب مع دخول محطات ووسائل إعلام غربية حلبة المعايير المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، إذ دأبت على بث الخطاب الإعلامي المحرض على الكراهية، والتمييز بحق المهاجرين، بدلاً من دعم مبادرات الاندماج، فاستثارت التسويق للكلمات المنحازة، والقاسية التي تناقض بشدة ما يُدرس في أكاديمياتها ومدارسها الإعلامية والفكرية، من احترام لحقوق وكرامة الإنسان، ومناصرة الفئات المهمشة والمستضعفة.

يمكننا القول هنا، أنه لا تقف المشكلة عند حدود المفاضلة ما بين فئة وأخرى، أو الإعلاء من شأن جماعة والانتقاص من قيمة جماعة أخرى فقط، بل يتعدى الأمر لمعايير التصنيف على أسس لا أخلاقية، وعصبيات ثقافية وعرقية بين من هم أكثر أو أقل إنسانية، أو من يستحق اللجوء، والرعاية، دون احترام الاعتبارات القيمية والأخلاقية، وهذا ما يعمم العنصرية بحد ذاتها، والتي أخذت تنطوي بالدرجة الأولى على “كراهية الأجانب  Xenophobia”، وأصبحت بنسختها الجديدة موجهة حتى إلى البيض الفقراء.

كما أن هذه المقاربات لها أبعاد شديدة الخطورة، سيما على حالات الاندماج في الحاضر أو المستقبل، ومن شأنها أن ترسم سيناريوهات مخيفه تمهد لردات فعل عكسية، تحول أي نقطة التقاء بين المواطن والمهاجر إلى بؤرة صراع، يصعب حتى على الجهات المسؤولة السيطرة عليها، واحتواءها.

في ظل ما سبق ذكره، ثمة تناقضات كثيرة لا يتسع المجال لبيانها جميعاً، فعموماً أن القيم الانسانية التي كان يتغنى بها الغرب، باتت اليوم موضع شك لدى الرأي العام العالمي، سيما أنه لا يمكن أن تختبر الأخلاق فقط في أوقات الاسترخاء، والسلم، بل الحروب والصراع وحدها كفيلة بتعرية الحقائق، وصدق النوايا.

التنميط الإعلامي وأحادية الإعلام الغربي المنحاز

في عصر الرقمنة والعالم الافتراضي، أضحت المعايير والضوابط الأخلاقية مختلفة، إذ باتت السيطرة على أدوات الاتصال والفضاء الافتراضي هي أساس اللعبة، تحديداً مع الطفرة التكنولوجية، والتطور السريع الذي يلاحق المحتوى والتقنية الإعلامية، والتغيير البنيوي الذي طرأ على تركيبة المجتمع.

أمام هذا الواقع، تحوّلت كثير من فضاءات الإعلام ومنصاته الاجتماعية من ساحات لنشر القيم الإنسانية، والأعراف الاجتماعية السليمة إلى منافذ لبناء الكراهية، والدعوات التحريضية، والتنمر، والتجييش السلبي ضد الطرف الآخر، كلٌّ وفق الخط التحريري الذي يوظف الأجندة السياسية و رأس المال، كخوادم تحقق لها الاستدامة في الفضاء الإلكتروني، ففي ظل العنصرية الثقافية، والرسائل المتواترة التي تعلي من سقف الخطاب الدعائي، يجد الصحفيون أنفسهم أمام خيارين، فأما أن يضعوا ولاءاتهم وانتماءاتهم السياسية جانباً، وينحازوا إلى المعايير المهنية في التغطية والمعالجة لأي حدث أو واقعة، وبالتالي تحقيق التوازن والإنصاف في المحتوى الإعلامي، أو يكون القصور المهني والاصطفاف ضمن التحالفات السياسية هو السائد، فتسقط القيم الأخلاقية، ويتناحر الفاعلون في الساحة الإعلامية بدلاً من تحقيق التوازن المهني والالتزام بقواعد السلوك الوظيفي أثناء نقل الرسالة الإعلامية إلى المتلقي.

تأكيداً على ذلك، نستحضر الصورة القاتمة تجاه المهاجرين في كبريات وسائل الإعلام الغربي المنحاز، التي فضلت مناصرة الميول الجغرافية القارية، والولاءات العرقية، على حساب دعم القيم والمبادئ الانسانية، ففشلت إلى حد بعيد في الموازنة بين الميول السياسية والتجرد الذهني.

كما أمست المعايير الأخلاقية المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي من المفترض أن تكون موحدة وجامعة، أمست مزدوجة، وتبين ذلك في ضوء أزمة العنصرية، التي سادت الإعلام الغربي خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، إذ أصرّت الأذرع الإعلامية على الترويج لتحضّر أوروبا، وصفاء الدم الغربي، مقابل النظر بدونية واستعلاء إلى شعوب الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، هذا ما كشفته التغطية الإعلامية لمحطات تلفزيونية كـ (CBS، ITV ،FRENCH MSM ، CNN، RT)، حيث حجم العنصرية والكراهية كان من أبرز سمات مقدمي، ومراسلي، وضيوف المحطات، فقارنوا بين الأوروبيين والشرق أوسطيين، من حيث ضحايا الحروب، والصفات الجسمانية، ونقاء الدم، ونستشهد هنا ببعض النماذج المتلفزة من المداخلات المتحيزة، ومنها مداخلة “تشارلي داجاتا” مراسل قناة سي بي إس (CBS) الأمريكية حينما كان يتحدث عن أوكرانيا، وتفضيله لهم على الأجانب المعتادين على الحروب، فقال: “مع كامل الاحترام هذه ليست العراق أو أفغانستان، بل دولة أوروبية متحضرة”، ووافقه زميله الرؤية الضيقة النابعة من عقد “تمجيد الذات”، حينما علق مراسل قناة “بي أف أم” الفرنسية الصحفي فيليب كوربي على لجوء الأوكرانيين إلى أوروبا، واعتبر أن حالتهم لا تشبه فرار السوريين من قصف النظام السوري المدعوم من بوتين، بل أنهم أوربيون يغادرون في سيارات تشبه سياراتنا لإنقاذ حياتهم، وكأنه يقول لا مانع من أن يُلقى أي مواطن غير أوروبي في أتون الحرب، كونه لا يملك بشرة بيضاء، وينتمي لثقافة العالم الثالث المعتاد على العنف، والتفجيرات، والحروب الأهلية.

من هنا أثبت كثير من الصحفيون الغربيون أنهم لا يتحدثون إلا في مستوى القضايا التي تهمهم، والمصادر التي تلائمهم، ويعوزهم غياب القدرة التحليلية النقدية، التي تعكس واقع التطورات السياسية والاجتماعية، وطبعاً في ضوء هذا المشهد المشوه إعلامياً باتت الانتقائية مصدر رغبوي يتماهى مع سياسة الوسيلة، والأهواء الشخصية، دون محاسبة أو رقيب.

لعل هذه الحوادث المتكررة، التي لم يسلم منها ضحايا الحروب، حتى البيض منهم أحياناً، تُبنى على مفهوم أشمل، ينهض على أن الغرب المثالي دائماً ما ينطلق من ذاته، ومن ثم تتسع الدائرة حتى تنتهي إلى حدود القارة، في حين ستبقى دائماً تلك الكيانات الأخرى خارج الفضاء عينه، أو خارج مدار الغرب، تنتمي إلى الآخر الذي يعني الجحيم كما يقول سارتر، رغم تسويق دعاوي الحرية والتعددية، والتسامح مع الاختلاف.

الإعلام الجديد يغذي “العنصرية الجديدة”

على الرغم من الدور الهام والإيجابي لمنصات التواصل الاجتماعي، في إحداث التغييرات على المستويات كافة، وإيصالها للأحداث والتحولات السياسية والاجتماعية فور حدوثها بشكل يلبي حاجات المتلقي، إلا أنه تهاوى حجم الثقة لدى شريحة واسعة من رواد المنصات الرقمية تجاه مدى تمتع هذه المنصات بالحيادية، فأصبحت اليوم موضع شك وريبة، سيما مع غياب الأطر القيمية، وتراجع العدالة والتوازن في العرض الرقمي، وهذا ما تكرر حدوثه في العديد من المناسبات.

انسجاماً مع ذلك، لم يعد لقسم النزاهة المدنية المكلف بضمان الموضوعية والحيادية في تدفق المحتوى، أي دور رقابي وموضوعي في الفضاء الاجتماعي، سيما مع تصاعد تدفق الأخبار، والصور، والمصطلحات، التي تؤجج من مشاعر الكراهية ضد الآخر، وتغذي العنصرية الثقافية، والجغرافية، والهوياتية، بين الأفراد والجماعات، وتتمثل في الحكم على الغير انطلاقاً من تمكين الخطابات، التي تقوم على فكرة التجانس والتغاير، وهي تتصل بالتشكيل الجمعي، كما العوامل الجغرافية واللغوية والدينية، التي قوامها ثنائيات: الشرق – الغرب، والشمال – الجنوب، الغني – الفقير(1)، وعلى الرغم من التقدم في سن التشريعات والقوانين تجاه تجريم العنصرية، إلا أنها ما زالت قائمة – ولكن بشكل مبطن – في مختلف مجالات الحياة، سيما في التداول، والنشر الإلكتروني.

إثباتاً لذلك، كشف النجم “جيف هورويتز” عن اتباع “فيسبوك” قواعد تمييزية، وسياسة غير عادلة ضد مستخدميه، رغم تأكيدات “مارك زوكربرج” بتعامل شركته مع جميع المستخدمين على نحو متساو وعادل، وإنها منحتهم فرصة التعبير أسوة بصفوة المجتمع، حيث يقول جيف إن برنامج “Cross Check/XCheck” أعد خصيصاً لقياس جودة المنشورات التي ينشرها المشاهير، والسياسيين، والمستخدمين البارزين على فيسبوك، يستثنى منها أعضاء “القائمة البيضاء” الذين بلغ عددهم 5.8 مليون مستخدم، ومنهم مدير الشركة نفسه، يستثنون من القوانين والمعايير المتعلقة بالتحرش، والتحريض على العنف، والعنصرية، وكذلك القيود المفروضة من قبل الشركة على النشر، وأعطتهم حصانة مطلقة (2)، وما شراء شركة “ميتا- فيسبوك سابقاً” لبعض تطبيقات التواصل الاجتماعي كـ”الواتس آب” و”انستجرام” إلا ضرورة ملّحة لضمان سيطرتها على السوق، واحتكارها له، وهو من شأنه مستقبلاً أن يعيق من حوكمة المعلومات، والإنترنت أيضاً، ويوجه المستخدمين إلى الأحداث، والقضايا من منافذ مواربة ومضللة، تتحكم بالعقول والسلوكيات، وتوجهه بصورة لا واعية من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي.

هندسة “الخوارزميات المفضلة” لفرض الأجندة

تتبع منصات التواصل الرقمية تقنيات متقدمة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وقد أثبتت التجربة أن خوارزميات التواصل الاجتماعي منحازة، ولا تؤيد محاربة الكراهية والعنصرية (إلا ضمن الحدود، والخطوط المرسومة لها)، كما لا بد من الإشارة إلى أنه تغيرت أيضاً قواعد سلوك التسويق، وفقاً للطلب والحاجة التي فرضها المحتوى الرائج والمتغير على نحو مستمر، والمسمى بالترند (Trend)، حيث أتاح “الفيسبوك” وصول العملاء إلى المحتوى الجاذب بغض النظر ما إذا كان ملائماً لحاجات المستخدمين، ومشاعرهم، وأعمارهم.

في هذا النحو، أكدت عالمة البيانات الأمريكية، ومسرّبة “فضائح فيسبوك”، السيدة “فرانسيس هاوغن”، قبل عام من الآن، أن “فيسبوك يضخم المعلومات المضللة، والكراهية، كي يجني المزيد من المال، عندما يستهلك المستخدم المزيد من المحتوى المثير للاستقطاب، حيث يستمتع الناس بالتفاعل مع الأشياء التي تثير رد فعل عاطفي، وكلما زاد الغضب الذي يبديه المستخدمون تجاه المحتوى، زاد تفاعلهم وزاد استهلاكهم للبيانات، وبالتالي إعطاء الأولوية لنمو الأرباح على حساب السلامة المجتمعية” (3).

نستذكر في هذا السياق، ازدواجية المعايير التي اتبعتها “الفيسبوك” حينما حجبت الكثير من المواد التي تفضح الانتهاكات والجرائم التركية تجاه الكرد في سوريا، وتركيا، وإلغائها لآلاف الحسابات والصفحات الداعمة للفلسطينيين أمام الترويج للمحتوى الإسرائيلي الدعائي، فضلاً عن نشر الصفحات الزرقاء للكثير من المشاهد العنيفة والصادمة، التي تحرض على الكراهية والعنصرية، كما فعلت ذلك – ولا تزال – في الحرب الروسية- الأوكرانية، وحجبها أيضاً الأعمال الوحشية بحق الأقليات العرقية والدينية في أمريكا، وبعض الدول الآسيوية، والأفريقية، من خلال أسلوب البحث الموجه به البيانات، والذي يشجع على متابعة المحتوى الموجه الأكثر عرضة للاستهلاك والاستمتاع.

في ظل هذا الجدال، شجّعت منصات التواصل الاجتماعي الانتقائية الرائجة، لفرض الأجندة الشخصية، سيما الاقتصادية والسياسية منها، وغلبت العائد المادي – كونها شركة تجارية، وليست منصة حقوقية- على حساب حقوق الإنسان، ونشر خطاب السلام والتسامح، كما تعاظمت مزاجية حارس البوابة الرقمية في تيسير وصول المتصفحين إلى الصفحات الوهمية التي تحصد ملايين المشاهدات، ومثلها من التفاعل والمشاركة، رغم سطحية العرض الذي يحتوي على العنف والكراهية، والعنصرية في غالب الأحيان، وهذه المعادلة بالطبع غير منصفة، وغير عادلة في “الفضاء الرقمي الحر” الذي أصبح يفرض -إلى حد بعيد- ذات القيود والعوائق التي قيدت من خلالها الحكومات والأنظمة المستبدة مواطنيها، وقولبت حياتهم، ونمط تفكيرهم بأجهزة دعائية مؤدلجة.

أخيراً.. لم تكن البشرية قادرة خلال آلاف السنين من التخلص من آفات العنصرية، وآثارها، التي يُصلى بنارها ملايين الناس، إلا إننا اليوم قادرون – على أقل تقدير – على الحد من آثارها، والتخفيف من أبعادها الكارثية، سيما مع توافر تقنيات الاتصال الحديثة، والقرب الجغرافي والزماني الذي أحدثته، حتى أصبحت بعض منصات الإعلام الحر مساحة تعبير نوعية لكثير من الفئات الاجتماعية المهمشة كي تدافع عن حقوقها، وتوصل صوتها إلى العالم، وتواجه الصورة النمطية السلبية التي روجت عنها.

لذا، فإن دعم المبادرات التعليمية، والتوعوية، وتعزيز مراقبة جرائم العنصرية، وتعويض ضحايا التمييز والهجمات – التي تحمل دوافع عنصرية- مسؤولية أخلاقية على المستويين الرسمي والشعبي، فضلاً عن تعميم قيم السلام والحوار فعلاً وليس قولاً، وتعزيز مبادئ إعلام السلام في وجه إعلام الحرب والكراهية، هي أيضاً نقاط إيجابية لإرساء روح التعايش السلمي، والتعاضد بين المجتمعات الإنسانية، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى قادات رأي متجردون من القيم الدخيلة، والأنانية، وإلى صحفيين ووسائل إعلامية تؤمن بنشر قيم التسامح في وجه العنصرية الجديدة، وتفضح  الجهات المسؤولة عن بث السموم، ونشر الشتات.

كما أصبحت مناهضة العنصرية، وفضح أوجهها وأبعادها المتعددة، إلى جانب تعويض المتضررين مادياً ومعنوياً دون تسييس، ضرورة حتمية لا بدّ من العمل عليها بجدية في المحافل الدولية، التي يدخل ضمن نطاق مسؤولياتها الانسانية والقانونية، تخصيص مكاتب مراقبة ومتابعة لشؤون ضحايا العنصرية، ومحاكمة الجناة وفقاً للمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان، علاوة على تأمين كرامة الإنسان، والقناعة بأن التفرقة العنصرية مذهب خاطئ لا يوجد أي مبرر لها في أي مكان، فمصير الجزء مرتبط بالكل والعكس صحيح، إذ أن الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب يلتقون في نقطة واحدة، وهي المصير الجمعي، فإمّا الهلاك أو العيش بسلام.

المصادر:

  1. رامي أبو شهاب، مقال بعنوان “على الحدود..مفارقة العنصرية الجديدة”، صحيفة “القدس العربي”، نشر بتاريخ 14 مارس/آذار 2022، الرابط الإلكتروني: https://cutt.us/eaLUH
  2. جيلان دهب، مقال بعنوان “ماذا تقول لنا فضيحة “فيس بوك” التي كشفت عنها صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخرًا؟، موقع “المرصد المصري”، نشر بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 2021، الرابط الإلكتروني:  https://marsad.ecss.com.eg/62431/

        3-    “تعرف على آخر فضائح عملاق التواصل “فيسبوك”، تقرير نشر على موقع بزنس ريبورت الإخباري بتاريخ 4                           أكتوبر/تشرين الأول، الرابط الإلكتروني: https://cutt.us/YhIbT

زر الذهاب إلى الأعلى