ترجمات

أزمة أوكرانيا .. كيف تطورت وإلى أين تتجه؟

ما هي الأسباب الكامنة وراء الصراع، الذي قد يتحوّل إلى صدام عسكري كبير، وما هي المخاطر بالنسبة لروسيا، والولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي (NATO)؟

يبدو الأمرَ وكأنه مشهدٌ من الحرب الباردة، بوجود زعيمٍ روسي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وهو يحشد القوات والدبابات على حدود جارته أوكرانيا، مما يرفع من احتمالية اندلاع حرب دموية بين الشرق والغرب.

لقد أصبحت هذه المسألة في مركز اهتمام المجتمع الدولي، حيث حذر البيت الأبيض من أن روسيا قد تبدأ غزواً واسع النطاق لأوكرانيا في أقل من أسبوع، بعد اجتماعٍ مع زعماء أوروبيين في 11 من شباط / فبراير الجاري.

صرّح مسؤولون أمريكيون إن التعزيزات العسكرية الروسية وصلت إلى 130 ألف جندي. ويقولون إن لديهم أدلة على وجود خطة حرب روسية بمشاركة قوة غزو قوامها 175 ألف جندي، حيث لن يكون للجيش الأوكراني – على الرغم من المعدات والتدريب المقدمين من الولايات المتحدة – قدرة تُذكر على إيقافها.

حوالي 8500 جندي أمريكي في حالة “تأهب قصوى” لاحتمال نشرهم في أوروبا الشرقية، لطمأنة حلفاء أمريكا في المنطقة هناك.

يهدد العمل العسكري هذا بزعزعة استقرار منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي، المضطربة بالأصل، مع عواقب وخيمة على البنية الأمنية، ​​التي تحكم أوروبا منذ التسعينيات من القرن الماضي.

قدمت روسيا قائمة من المطالب البعيدة المدى، لإعادة تشكيل هذه البنية؛ لكن هذه القائمة قُوبلت بالرفض من قبل الناتو والولايات المتحدة، ورغم إصرار المسؤولين الروس – مراراً وتكراراً – على أن موسكو ليس لديها خطط لغزو أوكرانيا، لكن الرئيس الروسي بوتين لم يستبعد ذلك بشكل واضح.

ماذا وراء أزمة أوكرانيا؟

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، توسع حلف الناتو شرقاً، واستولى في النهاية على معظم الدول الأوروبية التي كانت في المجال الشيوعي؛ جمهوريات البلطيق مثل ليتوانيا، ولاتفيا، وإستونيا، التي كانت ذات يوم أجزاء من الاتحاد السوفيتي، ومن ثم انضمت إلى حلف الناتو، كما فعلت بولندا، ورومانيا، وغيرهم.

نتيجة لذلك، تحرك حلف الناتو، وهو تحالف تم إنشاؤه لمواجهة السوفييتيين، بمئات الأميال اتجاه موسكو، وأصبح على الحدود المباشرة مع روسيا. وفي عام 2008، ذكر حلف الناتو بأنه يخطط – يوماً ما – لانضمام أوكرانيا للحلف، على الرغم من أن هكذا خطوة لا يزال يُنظر إليها على أنها احتمال بعيد المنال.

لقد وصف بوتين تفكك الاتحاد السوفيتي بأنه كارثة، سلبت من روسيا مكانتها التي تستحقها بين القوى العظمى في العالم، ووضعتها تحت رحمة الغرب المفترس. لقد أمضى 22 عاماً في السلطة لإعادة بناء الجيش الروسي، وإعادة تأكيد نفوذه الجيوسياسي.

يصف الرئيس الروسي توسع الناتو بأنه تهديد حقيقي، واحتمال انضمام أوكرانيا إليه يمثل تهديداً وجودياً لبلاده. ونظراً لحقيقة بأن روسيا أصبحت أكثر حزماً وأقوى عسكرياً، فقد تزايدت تذمر رئيسها بوتين بشأن الناتو. وتذرع بشبح الصواريخ الباليستية الأمريكية، والقوات القتالية في أوكرانيا مراراً وتكراراً، على الرغم من إصرار المسؤولين الأمريكيين، والأوكرانيين، وحلف شمال الأطلسي، على عدم وجود أي منها.

كما أصرّ الرئيس الروسي، الذي يتمتع بنفوذ كبير في بيلاروسيا، على أن أوكرانيا وبيلاروسيا، هما جزءان من روسيا في الأساس؛ ثقافياً وتاريخياً، وكثيراً ما كان يدور الحديث عن شكل من أشكال إعادة التوحيد مع روسيا، لسنوات عديدة.

ساءت العلاقات بين الشرق والغرب بشكل كبير في أوائل عام 2014، عندما أطاحت الاحتجاجات الجماهيرية في أوكرانيا بالرئيس المتحالف مع بوتين بشكل وثيق، على إثرها غزت روسيا شبه جزيرة القرم، والتي هي جزءٌ من أوكرانيا، ثم ضمتها بشكل متسارع. كما أشعلت موسكو تمرداً انفصالياً، سيطر على جزءٍ من منطقة دونباس في أوكرانيا، في حرب لا تزال مستمرة، وراح ضحيتها أكثر من 13 ألف شخص.

يمكن لاتفاقية وقف إطلاق النار لعام 2015 بشأن دونباس، أن تمنح الوكلاء الروس حق النقض (الفيتو) على جزء كبير من السياسة الأوكرانية، بما في ذلك الشؤون الخارجية. لذلك فإن روسيا لا تحظى بشعبية في أوكرانيا لتسببها باختلاق الحرب، ومع اتهام الطرفين لبعضهما البعض بانتهاك الاتفاقية، لم يتم تطبيقها بالكامل.

ماذا يريد بوتين؟

يبدو أن الرئيس الرورسي بوتين عازم على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لأكثر من 30 عاماً، وإنشاء منطقة أمنية واسعة، تهيمن عليها روسيا، مشابهة للقوة التي كانت موسكو تتمتع بها في أيام الاتحاد السوفيتي. فهو يبلغ من العمر 69 عاماً، وربما يقترب من نهاية حياته السياسية، لذلك يسعى إلى إعادة أوكرانيا، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 44 مليون نسمة، إلى فلك روسيا، لكن الأمر الذي لايزال يكتنفه الغموض، هو مدى استعداده للقيام بذلك باستخدام القوة، لأن التكلفة ستكون باهظة على روسيا، وأوكرانيا – كما يبدو – لن تدخل في فلك روسيا بشكل يسير.

قدمت روسيا لحلف الناتو والولايات المتحدة مجموعة من المطالب المكتوبة، التي قالت إنها ضرورية لضمان أمنها في كانون الثاني/ديسمبر، يأتي في مقدمتها ضمان ألا تنضم أوكرانيا إلى الناتو أبداً، وأن يقوم الناتو بسحب قواته من دول أوروبا الشرقية التي انضمت للحلف مسبقاً، وأن يتم تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار في أوكرانيا لعام 2015، بالرغم من أن موسكو وكييف تختلفان بشدة حول كيفية تطبيقها.

رفض الغرب المطالب الرئيسية بشكل قاطع، بينما قدم مبادرات بشأن مخاوف أخرى، وهدد بفرض عقوبات. كما أدى الموقف العدواني لموسكو إلى تأجيج المشاعر القومية الأوكرانية، حيث تستعد الميليشيات المدنية لحملة حرب عصابات طويلة في حال كان هناك احتلال روسي محتمل.

يمكن أن يكون توقيت بوتين مرتبطاً أيضاً بانتقال السلطة من الرئيس ترامب إلى الرئيس بايدن، حيث كان الأول ودوداً بشكل خاص معه، ومستخفّاً بالناتو، في حين أن الأخير ملتزمٌ بالناتو، ولا يثق بالكرملين.

قد يرغب الرئيس الروسي أيضاً في تنشيط الدعم القومي في الداخل الروسي، من خلال التركيز على التهديد الخارجي، كما فعل في الماضي، حيث قام بوتين بقمع التحديات الداخلية لسلطته. لكن العام الماضي، مع تعثر الاقتصاد وتفشي وباء كورونا، نظمت جماعات المعارضة بعضاً من أكبر الاحتجاجات المناهضة لبوتين منذ سنوات.

كيف تخطط الولايات المتحدة للرد؟

حذّر البيت الأبيض في 11 من شباط/فبراير الحالي، من أن بوتين قد يشن هجوماً كبيراً على أوكرانيا بحلول 16 من شباط/فبراير الجاري، بعد أن حاصر أوكرانيا بقوات برية، وبحرية، وجوية من ثلاث جهات. أقر المسؤولون بإمكانية أن يكون ذكر تاريخ معين للبدء بالهجوم جزءاً من جهود التضليل الروسية.

لا يزال المسؤولون الأمريكيون لا يعرفون ما إذا كان الرئيس الروسي قد قرر الغزو، لكن جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، أصر قائلاً “نحن مستعدون في كلتا الحالتين”.

أوضح بايدن، بأن إدارته لا تفكر في إرسال قوات للقتال في أوكرانيا، مع مطلع كانون الثاني/ديسمبر الفائت، لأن أوكرانيا ليست عضواً في حلف الناتو، ولا تقع ضمن التزامها بالدفاع الجماعي، إلى جانب أسباب أخرى أيضاً.

بدلاً من ذلك، أرسلت الولايات المتحدة أسلحة مضادة للدبابات والطائرات المقاتلة إلى أوكرانيا، وزادت من الوجود العسكري الأمريكي في دول الناتو المتاخمة لروسيا، ووضعت 8500 جندي في حالة تأهب قصوى للانتشار في أوروبا الشرقية. كما حذر مسؤولو الإدارة مؤخراً من أن الولايات المتحدة يمكن أن تدعم التمرد الأوكراني إذا قام بوتين بغزو أوكرانيا.

لكن جوهر رد بايدن كان يختصر في تهديد بوتين بـ “عواقب اقتصادية لم يسبق لها مثيل”، مع إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة، ومحاولة حشد كل حلفاء الناتو وراء سياسة موحدة.

أشد ضربة اقتصادية يمكن أن توجهها الولايات المتحدة لروسيا ستكون عزلها عن النظام المصرفي الدولي. صرح بايدن إن الغزو الروسي سينذر بنهاية إحدى مشاريع موسكو الثمينة، مشروع نورد ستريم 2، الذي يبلغ قيمته 11 مليار دولار، لزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

يقول المسؤولون إن الإدارة ستحاول تجميد الأصول الشخصية، التي يحتفظ بها بوتين وحلفاؤه في الخارج، ويمكن أن تفرض عقوبات، قد تحرم الروس من هواتفهم المفضلة من الجيل القادم، والحواسيب المحمولة وغيرها من الأدوات، إلى جانب المعدات العسكرية المتطورة.

واستجابة لمطالب روسيا، عرض المسؤولون الأمريكيون إجراءاتٍ، مثل المحادثات بشأن الحد من الأسلحة النووية، وزيادة الشفافية في التدريبات العسكرية، والتي وصفها نظرائهم الروس بأنها جديرة بالاهتمام، ولكنها ليست محورية. بينما يجري القادة الأوروبيون محادثاتهم مع موسكو، دون ورود الكثير من التفاصيل عن فحواها.

إن احتدام الصراع في أوكرانيا، فهذا من شأنه أن يختبر تصميم إدارة بايدن، التي كانت تعمل على استعادة الثقة في القيادة العالمية لأمريكا، بعد الانسحاب الفوضوي الأخير من أفغانستان، وتراجعها عن الالتزامات الخارجية في عهد السيد ترامب، الذي أعلن أن الناتو “عفا عليه الزمن”.

كما يهدد الصراع المتصاعد مع روسيا بتقويض الجهود، التي تبذلها الولايات المتحدة – مؤخراً – لتحويل انتباه الناتو إلى التحدي الأمني ​​الذي تشكله الصين.

ما هي المخاطر بالنسبة لأوروبا؟

هل يمكن للأوروبيين أن يسمحوا لبوتين بزعزعة البنية الأمنية، ​​التي ساعدت في الحفاظ على السلام في القارة منذ الحرب العالمية الثانية؟. كشف الصراع الدائر عن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، حيث انقسم الأوروبيون حول كيفية الرد على مختلف أشكال العدوان الروسي.

مع رحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي نشأت في الشرق، وتتحدث الروسية بطلاقة، وتمتعت بعلاقة عمل جيدة مع بوتين، فقدت أوروبا وسيطة لا تقدر بثمن مع موسكو. وتعرض خليفتها، أولاف شولتز، لانتقادات لعدم قيامه بدور بارز في الأزمة الأخيرة.

تتمتع أوروبا بعلاقات تجارية مهمة مع روسيا، وستخسر أكثر بكثير مما تخسره الولايات المتحدة من العقوبات المفروضة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. كما أنها تعتمد على إمدادات الغاز الروسي، وهو نقطة ضعف استغلها بوتين في النزاعات السابقة.

…………………………………………………………….

صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

مقال رأي..  رابط المقال الأصلي.

بقلم: دان بلفسكي: مراسل صحيفة نيويورك تايمز في كندا، وعمل لصالح الصحيفة لأكثر من 28 عاماً في الخارج؛ بدول كثيرة منها فرنسا وبلجيكا وتركيا ودول أخرى.

ريتشارد بيريز بينا: كاتب ومحرر الأخبار الدولية، وعمل على تغطية الأخبار في أوروبا والشرق الأوسط.

ترجمة عن الانكليزية: مركز الفرات للدراسات – قسم الترجمة.

زر الذهاب إلى الأعلى