قضايا راهنة

السلطة الرابعة بين تهوين وتهويل المآسي الإنسانية

أيُّ حدث استثنائي، أو واقعة رائجة في الوسط الاجتماعي، هي بمثابة وجبة دسمة وطازجة، يلهث خلفها الصحفيون بجنون شعبوي، لاصطياد الفرصة قبل أن تفقد مذاقها، سيّما تلك القصص والمآسي الانسانية، التي تفرض نفسها على أجندة وسائل الإعلام، فيحاول الصحفي بشتى السبل أن يحقق “السبق الصحفي”، ويثبت أهليته وجدارته في التغطية الإخبارية، حتى وإن كان ذلك –في كثير من الأحيان- على حساب احترام القيم والثوابت الإنسانية، والمسؤوليات الإجتماعية التي تمثل عماد العمل في حقول “السلطة الرابعة”.

 الإعلام سلاح ذو حدين

الإعلام أو “صاحبة الجلالة” كما يحلو للصحفيين تسميته، يُعدّ  -كأي علم من علوم الاجتماع – سلاحاً ذو حدين، أما أن يُستثمر إيجاباً لخدمة الأفراد والمجتمعات، فيأخذ وجهة مهنية، ويحمل مسؤولية أخلاقية، ويتصف بالفاعلية والمهنية في الأداء، فيقدم صورة نقدية تحليلية تعزز الوعي العام، وتعكس التطورات والتحولات السياسية والاجتماعية بدقة وأمانة (هذا النوع قليلاً ما نتملسه في وقتنا الحاضر).

أو قد تقتصر حدود اهتمام الصحفيين الانتقائيين عند اختيار أحداث معينة، على الحديث في الزوايا التي تهمهم، ويستندون إلى المصادر التي تلائهمهم، فتنساق هنا الأذرع الإعلامية -في الخفاء والعلن- وراء الأجندة السياسية، والمصالح الاقتصادية، فتصبح أدة تدجين، وتسميم، وتزييف للحقائق، عوضاً عن تكريسها الفضاء المعلوماتي، لتتلاعب بعقول الجماهير، وتدغدغ عواطفهم بسيل هائل من المعلومات الجذابة (نصاً، وصورةً)، طبعاً هنا تتدفق المعلومات بوتيرة عالية إلى اللاوعي الجمعي، عندها تكون النتائج وخيمة، لأنها تشكل أحد أوجه انحراف الأدوات الإعلامية عن المسار الأصلي، فيغيب عن المتلقي المحاكمة العقلانية، والتفكير النقدي للمحتوى المعروض، ويصاب بحالة أشبه بـ”التخدير النفسي”، والتنميط الذهني الممنهج (هو الرائج، والسائد حالياً).

إنتقائية الأحداث في التغطيات الإخبارية

تحمل أي بيئة إعلامية تم تأسيسها على الفساد أو الإثارة العمياء، مسؤولية فشل الصحافة والصحفيين بالدرجة الأولى، وهي انتهاك جسيم لأخلاقيات العمل الإعلامي، الذي كثيراً ما يُستغل مناخه العشوائي الحالي لحشد الرأي العام تجاه مواضيع حساسة، تتحول مع وتيرة تداول التفاصيل إلى أولويات بالنسبة للجمهور.

من هنا، يستوجب على الإعلاميين -دائماً وأبداً- أن يثيروا في قرارة أنفسهم أسئلة عن الأسباب التي تدفع كثيراً من وسائل الإعلام للاستنفار تجاه تغطية بعض الحوادث، في حين تأخذ وضعية (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم) تجاه أحداث أخرى، فتهملها أو تغطيها كرفع عتب.

لذا يُستفسر في هذه الجزئية عن:

  • لماذا قصة “آلان الكردي” تصبح رمزاً لـ “مأساة المهاجرين”، ولا يتحول ابن منطقته “محمد” الذي تشوه كامل جسده بأسلحة تركية محرمة دولياً إلى رمز لـ “أطفال الحرب”.
  • القيم الإخبارية التي منحت قصة “ريان المغربي” الأولوية في مساحات التغطية، ولم تأخذ قصة “فواز” ربع القدر من الأهمية، رغم الفيديوهات الصادمة لمختطفين وهم يعاملونه بوحشية في الجنوب السوري.
  • ما سبب الصمت المدوي عن المجازر اليومية بحق المدنيين في العراق، واليمن، والأقليات العرقية، والدينية في دول كسوريا، وإيران، وتركيا، والهند، والصين، وأفغانستان..إلخ، إذ يتم تعنيفهم، وسلب حقوقهم، والمساس بكرامتهم، ومقدساتهم، وتغيير ديمغرافية مناطقهم، بعد تهجيرهم قسرياً، أين دور الإعلام من كل هذا؟.
  • نتحدث كثيراً عن الأمانة والمصداقية في نقل الحدث، والتوازن في التغطيات الإخبارية، شعارات جميلة وجذابة من الناحيتين الأكاديمية والمهنية، أين محلها من الإعراب في عبارات الإنصاف، ومنح الأحداث حقها من المواكبة، والمعالجة الصحفية، أسوة بسواها من الأحداث؟.
  • هل حقاً أصبح الطابع الفرجوي غالباً على الطابع الإخباري المهني؟.
  • هل أمست أنصاف الحقائق، والتجلي، والازدواجية في التداول الإعلامي، هي المقاربة الأسلم للحصول على دعم الممولين، واستمالة رضا المسؤولين، واكتساب النجومية على المنصات، والنوافذ الإخبارية على حساب حق الجمهور في الحصول على المعلومة بدقة، ونزاهة؟.
  • هل أصبحت مهنة الصحافة أداةً لإثارة الغرائز، ونشر الفضائح، وانتهاك خصوصية الأشخاص، بدلاً من توجيه الأسئلة الاحترافية العقلانية، التي تضع جميع أطراف المشكلة أمام مسؤولياتهم الأخلاقية؟.

أسئلة وقضايا هامة تحمل أبعاداً مهنية مخيفة، يُستدلّ في ضوئها على ضعف الأداء المهني، والحرفيّة في تحقيق المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام، نحن بحاجة إلى أجوبة شافية، وحلول منطقية نتجرد فيها من لغة العواطف، ومفردات الانتماء، والمصالح الشخصية والفئوية بكافة أشكالها، على الإعلاميين، والمؤسسات الصحفية، الاجتهاد بجد، لإعادة ثقة الجمهور بالإعلام، ومراجعة طرق وأساليب تغطية الأحداث، بحيث تكون على قدر عال من الواقعية والمسؤولية.

أسباب التهوين والتهويل في المعالجة الصحفية

انسجاماً مع ما سبق من مؤشرات، من الحريّ بنا الوقوف عند قضية جدلية، وإشكالية في حقل النشر الصحفي وجوهرها، وهي أنه كيف لبعض الأحداث والقصص أن تتحول إلى قضايا رأي عام عالمي، وتُوظف من جانب منصات الإعلام كخبر عاجل، وحديث الساعة، وبانوراما الأسبوع، في حين لا تخرج أحداث أخرى -تشابهها من حيث الأهمية، أو تضاهيها من حيث القيمة الخبرية- عن دائرة منطقة الحدث، فيمرر كخبر هامشي، يعالج ببرودة وجفاء، ولا يتجاوز سقف عرضه إلا مدة زمنية خجولة كخبر بسيط أو تقرير مفصل يُعرض ضمن النشرات المحلية في أحسن الأحوال، لتكون غائبة عن أجندة كبريات وسائل الإعلام التي تدّعي المهنية، والموضوعية.

وفقاً للمعطيات التي استنبطناها من تغطية بعضاً من وسائل الإعلام للأحداث الأخيرة، هنالك العديد من العوامل التي تتحكم في تهوين أو تهويل المنصات الإخبارية للقضايا، والمتغيرات أثناء المعالجة الصحفية، ويستوجب التنويه إلى أن هذا الأمر لا يقف حدوده فقط عند آلية عمل الوسائل الإعلامية المنحازة في منطقة الشرق الأوسط، بل تجد الظاهرة معوّمة لدى كثير من وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، التي لطالما كانت من أرقى المدارس الإعلامية، وأقدمها، وأكثرها حرفية.

إجمالاً، يعود غياب التوازن في العرض الإخباري إلى عدة نقاط أساسية، تتمثل فيما يلي:

أولاً: استراتيجية الإلهاء المتّبعة من جانب أباطرة الإعلام، والشركات الاحتكارية، الساعية لتضليل الجمهور، والتسبب بانشغاله عن بعض الأحداث الهامة المندلعة في مناطق أخرى، والتي تضر بمصالحها في حال ما تمت التغطية، لذا لتمرر أجندتها المريبة، تجند الجيوش الإعلامية، وخاصة الإلكترونية منها، وتضخ “الرأس المال السياسي” في السوق الإعلامية.

ثانياً: السياسة التحريرية التي تتبناها الوسيلة الإعلامية، وهي غالباً ما تكون خاضعة لأجندات القوى السياسية، وأسواق المال السياسي، إلى جانب إملاءات ومصالح الدول الداخلة في علاقات استراتيجية مع المناطق التي ينطلق منها البث الإعلامي.

في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى انتقادات واسعة تجاه تغطية وسائل الإعلام لأحداث مختلفة، وهذه نماذج من انتقائية بعضاً منها، وهي بالطبع لا تشكل الاستثناء:

  1. التغطيات الميدانية لقناة “الجزيرة” طيلة سنوات الحرب السورية، وفي ظل العلاقات الودية القطرية – التركية، داومت القناة القطرية على تغطية حية وموسّعة للأحداث، بما يصبُّ في مصلحة الدوحة وأنقرة. بالتحديد نقف عند فصول تضخيمها لقدرات “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، وإغفالها للانتهاكات والجرائم والتغييرات الديمغرافية الناتجة عن سيطرة هذه القوى على المناطق الكردية السورية، وإطلاقها مصطلحات إعلامية تحاكي الرواية التركية، حيث يتلقي الجمهور لكمات إعلامية بقفازات من حرير، فيتم تجميل بعض المفردات، كإطلاق مصطلح “العملية التركية” بدلاً من “الاحتلال التركي” الذي يُعدّ وفقاً للقانون الدولي إحتلال بكل ماتحمله الكلمة من معنى، وهذا ما يذكرنا  بتلك الأوصاف التي كان يطلقها الإعلام الأمريكي على “سجن أبو غريب” سيئ الصيت، فكان يسمى بمراكز التأهيل أو الاحتجاز، بدلاً من مراكز الاعتقال.
  •  محطة “العربية” السعودية هي الأخرى تحجب الرؤية عن المجازر التي يرتكبها “التحالف العربي” بقيادة السعودية بحق المدنيين اليمنيين، وفي الداخل أيضاً تتستر على حملات الاعتقال، واحتجاز المعارضين للعائلة الحاكمة، فهذه الوسائل هي بالدرجة الأولى أدوات ناعمة بيد العائلة الحاكمة لحشد الرأي العام، وكسب تعاطفه، وتأليبه ضد الخصوم، والأعداء.
  •  “وكالة الأناضول” التركية الممولة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، تعتبر أداة دعائية أكثر من كونها وسيلة إعلامية تتصف بالموضوعية، فقبل أيام قليلة نشرت هذه الوكالة خبراً عن استهداف الطائرات الحربية التركية لمقاتلين كرد بين مدينتي عامودا والدرباسية السوريتين –الشريط الحدودي- وأُخرج الحدث عن سياقه، فتعتمت على أهم النتائج، وهي استهداف منطقة آهلة بالسكان، مما تسبب بفقدان الطفل السوري “محمد كلاح” لحياته عندما كان عائداً من مدرسته، وهذه الحوادث كثيراً ما تتكرر على الحدود السورية – التركية، ولكنها تظل خارجة عن أجندات وسائل الإعلام، باستثناء المحلية منها، وبعض المنصات الخليجية، والمصرية التي تستثمرها -حسب الرغبة- وفقاً لوتيرة علاقاتها الطيبة أو المتدهورة مع أنقرة، هذا عوضاً عن تضليلها الرأي العام الداخلي والخارجي، بالافتراءات والأكاذيب، وخاصة ما يتعلق بالحملات الأمنية التي يقودها رجال الشرطة والاستخبارات التركية لإعتقال المعارضين، والصحفيين، وخصوم الحزب الحاكم، فغالباً ما يتم وصم الضحايا بألقاب نمطية سلبية كـ”المشاغبين” أو “الإرهابيين” أو “الإنقلابيين”.

ثالثاً: الشراكات الإعلامية التي يتم إبرامها على مستوى الدول، والمؤسسات الإعلامية، تحت يافطة التنسيق، والتدريب، والتطوير الإعلامي، لكن في حقيقة الأمر هي في الأصل اتفاق على القضايا الإعلامية التي يجب التركيز عليها، والإشارة إلى تلك التي يجب إهمالها وحجبها، فضلاً عن الإجماع على المصطلحات الإعلامية المشتركة، لتعمم لاحقاً على الدوائر الإعلامية، ويتم توظيفها بصورة مقولبة أثناء صياغة المواد الإخبارية.

رابعاً: غلبة الإثارة والعشوائية والشعبوية في الخطاب الإعلامي الموجه، على حساب الدقة في طرح الأسئلة الجوهرية، واقتناص الزوايا بعدسات إخبارية نوعية لا نمطية، وكشف الأسباب، وفضح المسؤولين عن المشكلة.

خامساً: تماهي وسائل الإعلام التقليدية مع القصص الانسانية التي تتحول إلى قضايا رأي عام على (السوشيال ميديا)، فتحاول بشتى السبل مواكبة المجريات كي لا تفقد متابعيها، وتحاول إرضاءهم، وتثبت للجمهور بأنها مع الحدث.

سادساً: عدم قدرة الصحفيين ووسائل الإعلام على تحقيق الموازنة بين جميع القصص الإنسانية، لضيق المساحة الزمنية، وخشيتهم من تشتيت الجمهور بقضايا عدة، لكن هنا -على الأقل- مطلوبٌ من الوسيلة الإعلامية منح “المادة الإنسانية الهامشية” جزءاً منطقياً من الاهتمام، وإن لم تكن بمستوى الحدث الأبرز بالنسبة لهم، إنطلاقاً من حق الجمهور في الحصول على المعلومة.

سابعاً: ضعف المهنية والحرفية لدى العديد من العاملين في مجال الإعلام، أو الذين يديرونها، ممن لا يمتلكون رؤية واستراتيجية واضحة، ووقوعهم ضحايا لسيادة غريزة “القطيع”، أو بصريح العبارة انتشار “التقليد الأعمى”، وتقمص الكثير من المنصات الإعلامية هوية الصفحات الإخبارية الرائجة التي تستهوي عاطفة المتلقي، سيما في ظل التطور الإعلامي الاجتماعي، الذي ينافس الصحفي في أدواته التقليدية.

الإعلام الاجتماعي بوابة لـ”غزو البُلَهاء”

تزداد الهواجس من تراجع الدور السامي للرسالة الإعلامية، مع تنامي الدور الهام الذي يلعبه الإعلام الاجتماعي، ومنصاته الإلكترونية، والتي تُوظف سلباً من قبل شريحة واسعة من “المواطنين الصحفيين” ووسائل الإعلام.

ما يعزز من حجم هذا الأمر، هو ضعف الأداء المهني لدى شريحة واسعة من العاملين في مجال الإعلام، فيسلك العديد منهم مسار “الصحافة الصفراء” الرخيصة التي تركز على الفضائح، والإثارة، وتهويل الأمور التافهة، وتهوين الأحداث الهامة. ولعل أصدق وصف عن هذه الحالة ما قاله المفكر الايطالي “ألميرتو إيكو” عندما حذّر من آثار منصات الإعلام الإلكتروني، فقال: “إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من السذج، ممن يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، من دون أن يتسببوا في أي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً، أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل من يحمل نوبل، إنه غزو البلهاء!.

على هذا النحو، فإن الفضاء الإلكتروني الذي يقصف الرأي العام الافتراضي بصورة لحظية، أمسى ملعباً مفتوحاً للجميع، ومن الصعب السيطرة عليه، وتقنين محتواه، سيما مع عصر “الانفجار المعلوماتي” الذي باتت فيه المعلومات تخترق جميع العوائق الزمنية، والجغرافية، والقانونية، إذ بضغطة زر واحدة أصبح بإمكان أي شخص -حتى وإن كان إرهابياً-  إيصال المحتوى إلى المتلقي، دون رقيب أو حسيب.

 في هذا السياق، قد يحسم – نهائياً – هذا النوع الصاعد من الإعلام الجديد، رهان المنافسة مع وسائل الإعلام التقليدية، سيما مع اعتماده قوة التأثير الإعلامي القائم على “التأثير الكمي” من خلال تكرار تقديم المادة، وتنويع أشكال العرض، فيصبح الفرد عاجزاً ومنقاداً بصورة لا إرادية، لا يمتلك إمكانية تكوين الرأي المستقل حول أهم القضايا، وهذا ما يسمى في الإعلام بـ” قدرات التعبئة الدعائية” و”تجييش العقول”، ونحن بالكاد  في طريقنا إلى “السايبورغ”، وهو الكائن الناتج عن دمج الإنسان مع الآلة.

الرسالة الإعلامية رصاصة سحرية

من دون أدنى شك، فإن الإعلام مهنة سامية، حتى وإن أخطأ الهواة، واستغل المأجورون الساحة الفضائية المتاحة، كما أن الصحفي الجيد الذي عهدناه هو عين الجمهور على الحقيقة، لا تخطئ بوصلته، فلا يتاجر بالأحداث لكسب الشهرة، ولا يستغل العواطف، ويخترق القيم الراسخة، وينتقي بعض القصص، ويهمل أخرى، ولا يتصرف بجهل وسوء تدبر، فيصور الضحية في وضعية مؤلمة وصادمة لنفسية الجمهور، دون أدنى احترام لمشاعر أسرته، ولا ينقل المشاهد الآنية للجماهير بطريقة عشوائية، فيغرقهم بالأخبار الحصرية المبتورة التي تنسجم غالباً مع منطق “رأسمال الجبان”.

مرة أخرى، الصحافة رسالة، والرسالة رصاصة سحرية أما أن تصيب الهدف بمهنية عالية، أو أن تخطأ فتمزقه، وتتحمل أوزار الكوارث الناجمة عن ذلك، وتسبب التشرذم، والتعصب بين الأفراد والجماعات.

الإعلام قبل كل شيء شهادة، والصحفي شاهد أمين عليها، بحيث لا يفرغ الأحداث من جوهرها الأصلي، ويبترها من سياقاتها الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، وبالتالي يضلل الجمهور، ويقولبها في أنماط مؤدلجة مقيتة.

من هنا على الصحفي الجيد أن يعي كثيراً الفرق بين الالتزام بسياسات النشر في وسيلته، والخضوع التام لأجنداتها، ففي حين سيكون له في الجزئية الأولى رأياً، واستقلالية مقبولة في اتخاذ القرار، إلا أنه في الجزئية الثانية سيكون عبداً مطاعاً ومأجوراً، لا يملك أي سمة من سمات الإنسان الحر، فيدار كالحجر على رقعة الشطرنج.

الانحياز التام للحقيقة.. والحيادية قاعدة متغيرة

الانحياز يكون مسموحاً به في عالم الإعلام، عندما يجد الصحفي أن ذلك يخدم المصلحة العامة، وأن الحيادية في الصحافة لا يمثل قانوناً منزلاً، بل قاعدة متغيرة حسب الظروف والأحداث، وهذه الأحداث هي تلك التي يكون عليها إجماعاً عاماً من جانب الجمهور، والوسيلة معاً.

لذا يجب التأكيد أننا لم نستند إلى واقعتي الطفلين “ريان”، و”محمد” في مساحات التغطية لنثبت فرضية تثبت أهمية تغطية قصة على حساب أخرى، ما نريد التنويه والتأكيد عليه هنا هو ضرورة العودة إلى جوهر المهنة، أي إلى مسؤوليات المؤسسات الإعلامية في تقديم تغطية إعلامية متوازنة منصفة، تلتزم بأخلاقيات الإعلام كمهنة تتعامل  مع الجميع كأسنان المشط، لا تُستغل، وتخضع للحسابات السياسية الخبيثة، أو للمصالح المادية الدنيئة، فتميع الوقائع وفقاً لأهوائها.

في نهاية المطاف؛ تتجدد المأسي الانسانية، والقصص المؤثرة، وبالطبع في ظرف الحالة غير السوية للمعالجات الإعلامية، سيستمر التعتيم على بعضها بذكاء أو عن ضعف مهنية، فلن يشملهم الضوء، فيما سيتم  التهويل والمبالغة في حجم حكايات أخرى سيسطع أسماء نجومها في الفضاء الأخباري.

ما نتمناه اليوم وغداً، أن لا ننعى قريباً المهنية والاحترافية في العمل الصحفي، كما نعينا وفاة  “ريان” و”محمد” و”آلان” وأبطال العديد من القصص الإنسانية المؤثرة، التي توقف الحديث عنها من جانب المتهافتين، بمجرد انتهاء تاريخ الحدث الرائج.

زر الذهاب إلى الأعلى