ترجمات

كيف ساعدت أفكارُ والدي الكُردَ في خلق ديمقراطيّة جديدة؟

في يوم ربيعيّ معتدل في فيرمونت في نيسان / أبريل 2004، كان والدي، المؤرّخ والفيلسوف موراي بوكتشين، يتبادل معي أطراف الحديث، الأمر الذي كنّا نفعله كلَّ يوم تقريباً؛ كنّا نتحدّث عن كلِّ شيء وكلِّ شخص – الأصدقاء والأسرة والمفكّرين من كارل ماركس وكارل بولايني (الذي كان معجباً به) إلى الرئيس جورج دبليو بوش (الذي لم يكن يحبّه) وجورج سمايلي وشخصية جون لو كاري الخياليّة الذي كان يشبهه وكان مولعاً به.

توقّف عن الحديث، وفجأةً كشف عمّا بدا أنَّه خبرٌ غريب، حيث قال: “من الواضح أنَّ الكُرد كانوا يقرؤون أعمالي ويحاولون تطبيق أفكاري”. قالها بطريقةٍ عَرَضيّة ومُرتَجلة، كما لو أنَّه لم يصدق الأمر بنفسه.

كان والدي، البالغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً في ذلك الوقت، قد أمضى ستّة عقود في كتابة المئات من المقالات وأربعة وعشرين كتاباً صاغ فيها رؤيةً مناهضةً للرأسماليّة تتمثَّل في مجتمع إيكولوجيّ، ديمقراطيّ، قائم على المساواة، من شأنه القضاء على هيمنة الإنسان على الإنسان، ووضع الإنسانيّة في مَوْضع تناغمٍ مع العالم الطبيعيّ؛ مجموعةٌ من الأفكار التي أطلق عليها اسم “الإيكولوجيا الاجتماعيّة”. على الرغم من أنَّ عمله كان معروفاً داخل الدوائر اليساريّة الأناركيّة والليبراليّة، إلّا أنَّه لم يكن اسماً مألوفاً كثيراً.

في ذلك الأسبوع و بشكلٍ غيرِ متوقَّع، تلقّى والدي رسالة من وسيط، مكتوبةً بالنيابة عن الناشط الكُردي المُعتَقَل عبد الله أوجلان، رئيس حزب العمّال الكردستاني (PKK)، وبصفته مشاركاً في تأسيسه، ومنظّره الوحيد، وزعيمه بلا منازع، كانَ أوجلان يتمتع بسمعة جيدة كبيرة جدّاً، لكن لا شيء عن أيديولوجيته بدا وكأنه يشبه أيديولوجيّة والدي.

أُسِّسَ حزب العمال الكردستانيّ في عام 1978 كمنظمة ثوريّة ماركسيّة لينينيّة، وكان يشنُّ لثلاثين عاماً حرباً ثوريّة نيابةً عن حوالي 15 مليون كُردي يعيشون في تركيا ممن عانوا من تاريخ طويل من العنف.

لعقود من الزمن، منعت تركيا الكُردَ من التحدّث بلغتهم الخاصّة، وارتداء الأزياء التقليديّة، واستخدام الأسماء الكرديّة، وتعليم اللغة الكرديّة في المدارس، أو حتى عزف الموسيقى الكرديّة. اعتُقل الكُرد بصورة روتينية وتعرضوا للتعذيب بسبب أيِّ نوع من التعبير عن هويتهم الثقافية أو معارضتهم لإيديولوجيا تركيا المتمثلة بالعلم الواحد، والشعب الواحد، والدولة الواحدة، التي نشأت في أوائل القرن العشرين، وتجسّدت بشكل كامل في الكمالية، وعانت في ظل الحكم السلطوي للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه الإسلامي.

مثل حركات التحرّر الوطني الأخرى في السبعينيات، أُسِّسَ حزب العمال الكردستاني في الأصل لنيل دولة كرديّة مستقلّة، وقد سَعى لتوحيد الكُرد، على موطنهم الذي وُجدوا فيه منذ خمسة آلاف عام – وهو رُقعة من الأرض تُعرف باسم كُردستان – والذي قُسِّمَ بشكل تعسّفي بين تركيا وإيران والعراق وسوريا عقب الحرب العالميّة الأولى.

في العقود التي تلت ذلك، كثيراً ما بدا وكأنَّ هذه الدول الأربع تتنافس على التمييز الذي يمكن أن يسبّب المزيد من المعاناة للشعب الكردي، وقد شمل أعمال العنف المتقطّعة الشبيهة بالإبادات العرقيّة التي ألحقتها هذه الدول القوميّة “الحديثة” بالكُرد، كالاستهداف بالغازات الكيماوية، والتفجيرات، وعمليات التهجير، والدمار البيئي، وتدمير تامّ لقرىً بأكملها. في العقود التي تلت عام 1984، عندما بدأ حزب العمال الكردستانيّ نضالاً مسلّحاً، قُتل حوالي 40000 شخص معظمهم من الكُرد، وكان أوجلان الزعيمَ الأيديولوجيّ والتنظيميّ لحزب العمال الكردستانيَ طوال كل هذه السنوات من النضال.

نيكوس إيكونوموبولوس / صور ماغنوم |   الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في معسكر تدريب لحزب العمال الكردستاني في سهل البقاع، لبنان، 1991

أُسِرَ أوجلان في كينيا عام 1999 بعد أن اضطرَّ للخروج من سوريا -حيث عاشَ هناك لمدة عشرين عاماً- ثمَّ نُقِل إلى جزيرة إيمرالي التركيّة النائية في بحر مرمرة الداخلي، وقد حوكم واُدينَ بتُهم الخيانة،  وخُفِّف حكم الإعدام الصادر ضدّه إلى السجن المؤبّد لأنّ تركيا كانت تحاول آنذاك الانضمام للاتحاد الأوروبي الذي يعارضُ عقوبة الإعدام. ومنذ ذلك الحين أوجلان مسجون في زنزانة يراقبها مئات الحرّاس في إيمرالي، مع عدد قليل من السجناء الآخرين إن وجدوا.

على الرغم من عزلته – حيث لم يُشاهد منذ نيسان / أبريل 2016، ومَنْعِه من الاتصال بمحاميّيه منذ عام 2011 – يظلُّ أوجلان نبراس حركة التحرر الكردستاني في تركيا وسوريا، بالإضافة لأنصاره الكثيرين في الشتات الكرديّ.

عندما كتب وسيط أوجلان -وهو مترجم ألماني يدعى رايمر هايدر- إلى والدي في عام 2004، أخبره هايدر أنَّ الزعيم الكرديّ كان يقرأ الترجمات التركيّة لكتب والدي في السجن، واعتبر نفسه حقيقةً “طالباً جيداً” لوالدي. واستطرد هايدر:

لقد أعاد بناء استراتيجيته السياسية حول رؤية “مجتمع إيكولوجي ديمقراطي” وطوّر نموذجاً لبناء مجتمع مدني في كردستان والشرق الأوسط … وقد أوصى بكتب بوكتشين لكل رئيس بلديّة في جميع المدن الكرديّة وأراد من الجميع قراءتها.

اتّضح أنّه بعد اعتقاله، تمّ منح أوجلان إمكانية الوصول إلى المئات من الكتب، بما في ذلك التراجم التركيّة لعدد كبير من الكتب التاريخيّة والفلسفيّة من الغرب، وقد مُنحَ هذه الكتب عندما حاول استنباط استراتيجية قانونيّة للدفاع عن نفسه خلال محاكمته بتهمة الخيانة وخلال الطعون اللاحقة لذلك؛ كان يهدف إلى شرح تصرفاته بوصفها ثوريّة من خلال دراسة الصراع التركيّ – الكرديّ على مدار القرن العشرين في إطار تحليل شامل لتطوّر الدولة القوميّة، بدايةً في ميزوبوتاميا القديمة.

بدأ أوجلان كتابة ما سيصبح مجلّدات تاريخيّة متعدّدة، سعى فيها إلى اقتراح حلٍّ ديمقراطيٍّ للقضيّة الكرديّة، حلٌّ لن يؤدّي فقط إلى تحرير الشعب الكرديّ، ولكن أيضاً سيؤدّي إلى إقامة علاقة متناغمة بين الأتراك والكُرد، لا وبل بين جميع شعوب الشرق الأوسط.

في سياق هذا العمل، تأثّر أوجلان بعدد من المفكّرين، بما فيهم فرنان بروديل وإيمانويل والرشتاين وماريا ميس وميشال فوكو، إضافة إلى ذلك، قام أوجلان بالاهتمام بأصوات جيل من النساء الكرديّات بقيادة  ساكنة جانسيز، وهي أحد مؤسّسي حزب العمّال الكردستانيّ وشخصيّة أسطوريّة نَجَت من سنوات من التعذيب الذي يفوق الوصف في السجون التركيّة في الثمانينات، وشُجِّعَت من قبل أوجلان لكتابة مذكّراتها.(اغتيلت جانسيز مع ناشطتَين كُرديّتين من قبل عميل تركيّ في باريس عام 2013).

أثّرت جانسيز على مئات النساء الكرديّات في السجون وفي معسكرات تدريب الـ PKK، بما في ذلك الرئيسة المشتركة السابقة لبلدية مدينة ديار بكر التركية، جولتان كيشاناك، التي اعتُقلت مؤخراً وتعرّضت أيضاً للتعذيب في السجن في الثمانينيّات.

متأثراً بتضحية واستقلالية المرأة كاللاتي تم ذكرهن، شرع أوجلان في التسعينات بتطبيق تحول جذريّ في حزب العمال الكردستاني من منظمة ذكورية مسلّحة عازمة على الاستيلاء على سلطة الدولة باتباع النهج الماركسي اللينيني إلى منظمة شدّدت على قيم النسوية، وبحثت عن شكل من أشكال الاشتراكية مختلفٍ تماماً عن ذلك المرتبط بالاتحاد السوفييتي السابق. ومع ذلك، فإنَّ العديد من السمات المميزة للفلسفة السياسية التي بدأ أوجلان تبنيها في العقد الأول من القرن الحالي ترتكز بقوّة على فكرة والدي عن الإيكولوجيا الاجتماعية وممارستها السياسية: “البلديات المستقلة” أو “المشاعية”.

رأى والدي المشاكل البيئية كمشاكل اجتماعية في جوهرها – بهرميتها وهيمنتها – التي كان لا بدّ من حلّها بغية معالجة الأزمة البيئية. وكتب في ذلك: “ربّما كانت الحقيقة الدامغة المتمثلة في أنّ المتطرفين في عصرنا لم يواجَهوا بشكل كافٍ، هي حقيقةُ أنّ الرأسمالية أصبحت اليوم مجتمعاً، وليست مجرّد اقتصاد”. كما أكّد على أنّ التغيير الاجتماعي سيحتاج إلى معالجة مسألة  سلب الرأسمالية للروح البشرية والبيئة عن طريق تفكيك العلاقات البشرية الهرميّة وتطبيق اللامركزيّة في المجتمع بحيث يمكن أن تزدهر فيه  أنماط من النظم الديمقراطية الشعبية.

هذه النظرية الاجتماعية لبوكتشين، التي استوعبها وفصّلها أوجلان تحت اسم “الكونفدرالية الديمقراطية”، تُوجِّه الآن الملايين من الكُرد في سعيهم لبناء مجتمع غير هرمي وديمقراطية قائمة على المجالس المحلية.

مع دخول الحرب الأهلية السورية عامها الثامن، أَلِفَ معظم الغربيّين صور رجال ونساء حاملي سلاح الكلاشنكوف من وحدات حماية الشعب الكردي، وتُعرف -على التوالي- باسم YPG، ومعظمهم من الذكور، و YPJ، وهي وحدات نسائيّة خالصة. قاتلت هذه الميليشيات ومات الآلاف منهم في ساحات المعارك في سوريا ممثّلين الوحدات الرئيسية لقوات سوريا الديمقراطية؛ القوّة متعددة الأعراق التي تدعمها الولايات المتحدة في الحملة ضدّ داعش. قليلاً ما يبرز السبب الذي يقاتلون من أجله، فالفرصة لا تتمثّل فقط في تحقيق تقرير المصير السياسي، ولكنها تتمثّل أيضاً في تحقيق شكلٍ جديد من أشكال الديمقراطية المباشرة التي يكون فيها لكل فرد من  المجتمع صوت متساو في المجالس الشعبية التي تعالج قضايا أحيائهم وبلداتهم، أيّ الديمقراطية بدون دولة مركزية.

بسبب القمع في تركيا، فقد نضجت هذه الأفكار إلى أقصى حدّ لها في المنطقة الكرديّة تاريخيّاً؛ في شمال شرق سوريا.

في عام 2012، انسحبت القوات السورية التابعة لحكومة الرئيس بشار الأسد من هذه المنطقة للتركيز على محاربة المتمردين في أماكن أخرى.

كان الكرد السوريّون يراقبون إخوانهم وهم يطبقون بعض أفكار أوجلان في بلدات ومدن ذات غالبية كردية في الجانب الآخر من الحدود في جنوب شرق تركيا مثل مدينة ديار بكر، وكانوا يستعدّون لنيل فرصتهم، حيث بدأوا بوضع الأفكار نفسها موضع التطبيق في ثلاث “كانتونات” في سوريا؛ الجزيرة وكوباني وعفرين، التي يقطنها مجتمعةً ما يقدّر بنحو 4.6 مليون نسمة، بما في ذلك 2 مليون من الكرد السوريين، فضلاً عن تعداد أقل من العرب والتركمان والسريان والأقليات العرقيّة الأخرى.

تمارس مجالس الأحياء متعددة الأعراق نفوذها في هذه الكانتونات، والروح الشعبيّة السائدة تشدّد على تقسيم متساوٍ للسلطة بين النساء والرجال، وعلى نظرة بيئيّة، غير هرميّة، وغير طائفيّة متميزة، واقتصاد تعاونيّ مبنيّ على مبادئ معاداة الرأسمالية. حقّق الشعب في هذه الكانتونات تلك الإصلاحات في مواجهة تحديات كبيرة تشمل تضاعف عدد السكان بسبب لاجئي الحرب القادمين من مناطق أخرى من سوريا، بالإضافة إلى الحظر الذي فُرضَ على الغذاء والإمدادات من تركيا شمالاً، ومن كردستان العراق شرقاً، حيث كان الزعيم العشائري الكردي مسعود البارزاني يتولّى إدارة دويلة رأسمالية تعتمد على تركيا في التجارة لأكثر من عقد من الزمن.

في عام 2014، أرسَت الكانتونات الثلاث استقلالها الذاتي تحت مسمّى الفيدراليّة الديمقراطيّة لشمال سوريا، التي أصبحت معروفةً باسم روج آفا؛ بمعنى “الغرب” في اللغة الكردية، (تعتبر سوريا هي الجزء الغربيّ الأقصى من كردستان العظمى)، وعلى الرغم من أنّها لا زالت تُعرف بشكل غير رسمي باسم روج آفا، إلا أنّ الكُرد أسقطوا الاسم رسميّاً عام 2016، اعترافاً بالطبيعة متعدّدة الأعراق للمنطقة، والتزاماً منهم بحرية الجميع، وليس فقط حريّة الشعب الكردي.

تأسّست الفيدراليّة الديمقراطيّة بناءً على وثيقة سُميَت “ميثاق العقد الاجتماعي”، حيث تنصّ ديباجته على التطلّع إلى بناء “مجتمع خالٍ من السلطويّة والنزعة العسكرية والمركزيّة وتدخّل السلطة الدينية في الشؤون العامة”، كما أنّه “يُقِرّ بوحدة أراضي سوريا، ويطمح إلى الحفاظ على السلام الداخلي والدولي”؛ ذلك يمثِّل تنازلاً رسمياً من الكرد السوريين عن فكرة إقامة دولة مستقلّة لشعبهم، وعوضاً عن ذلك، فهم يتصورون نظاماً اتّحادياً للبلديات التي تدير نفسها بنفسها.

في البنود الستة والتسعين التي تلي ذلك، يضمن العقد لجميع الجماعات العرقية الحق في التدريس والتعلّم بلغاتها، ويلغي عقوبة الإعدام، ويصادق على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات المماثلة، ويتطلّب ذلك من المؤسّسات العامّة العمل من أجل القضاء التام على التمييز الجندري (الجنسوي)، كما يتطلّب بموجب القانون أن تشكّل النساء نسبة 40% على الأقل من كل هيئة انتخابية، وأن يعملن والأقليات الإثنية، كرؤساء مشاركين على جميع مستويات الإدارة الحكومية.

يعزّز العقد الاجتماعي أيضاً فلسفة الإشراف البيئي التي توجّه جميع القرارات المتعلقة بتخطيط المدن، والاقتصاد، والزراعة، وتُدير جميع الصناعات، حيثما أمكن، وفقًا للمبادئ الجماعية، حتى أنَّ العقد يضمن الحقوق السياسية للمراهقين.

من بين التحديات العديدة التي تواجهها الفيدراليّة الديمقراطيّة، هي أن تجربتها ظهرت في منطقة حرب. تضرّرت مدينة كوباني والمنطقة المحيطة بها بشدة نتيجة الضربات الجوية الأمريكية ضد داعش قبل أن تهزم وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة الميليشيا الجهادية هناك، بعد معركة استمرت ستة أشهر عام 2014.

الولايات المتحدة وحلفاؤها يقدّمون مساعدات عسكريّة لقوات سوريا الديمقراطيّة دون الإنسانيّة منها، وكانت إعادة إعمار كوباني والعديد من الأجزاء الأخرى التي دمرتها الحرب من الفيدراليّة بطيئة للغاية، في حين أنَّ المناحي الطوباوية من روج آفا قد جذبت بضع مئات من المتطوعين المدنيين الدوليين الذين يعملون على قضايا النفايات البيئية، وزرعوا 50,000 شتلة في مسعىً “لجعل روج آفا خضراء مرة أخرى”، تعاني المنطقة نقصاً في المياه بسبب تركيا التي أقامت سدوداً ضخمة، والتي أبطأت بشكل متعمَّد تدفّق نهري دجلة والفرات إلى حدّ  كبير، فضلاً عن غمر التجمعات الأثريّة على الجانب التركي من الحدود.

في ظلّ مجتمع كامل تم تعبئته من أجل المجهود الحربي، هناك دعاوى مطعون فيها حول الجنود الأطفال، وتهجير القرويين العرب، وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق التي يسيطر عليها الكُرد.

داخلياً، هناك تحدٍّ متمثّلٍ في مقاومة الجمود الأيديولوجي الذي غالباً ما يطال الحركات من خلال متحدّث رسمي يتمتع بالكاريزما في الوقت الذي ترتدي فيه النخبة عباءة القائد على حساب الآراء المعارِضة.

ربما من الأمور الأكثر أهمية، أنّه يبقى أن نرى ما إذا كانت تركيا، التي أعربت عن رغبتها في طمس مشروع روج آفا، سوف يتم إضعافها أو سوف تُعطى الضوء الأخضر من خلال مجموعة من القوى العالمية الثلاث – روسيا وإيران والولايات المتحدة – التي تتنافس للسيطرة على سوريا، ومع ذلك، فإنَّ نية العقد الاجتماعي واضحة؛ لبناء مجتمع قائم على أساس القاعدة الشعبيّة والديمقراطية واللامركزية كالذي تصوره كل من والدي وعبد الله أوجلان على حدّ سواء.

موراي بوكتشين، حوالي عام 1950

كانت زايتل، جدّة موراي بوكتشين المولود في برونكس عام 1921، من أوائل المؤثّرين عليه، وهي ثائرةٌ روسية هاجرت إلى الولايات المتّحدة في أعقاب ثورة 1905. ووصف لي والدي لاحقاً نضال جدّته ورفاقها بالقول:

تحت هذه الأعلام الحمراء، حالمين بتحرير الإنسان، كانوا يملكون هدفاً يتمثّل بمجتمع لا طبقي خالٍ من الاستغلال؛ كانت تلك أسطورتهم ورؤيتهم وأملهم.

بالعيش في عالم ما قبل الصناعة، حيث كانت العائلات في الواقع عبارة عن عائلات كبيرة، تتّسمُ بإحساس متبادل بالثقة، فقد كان لديك حياة مجتمعية مكثّفة تتميز بالتكافل، وبحساسية ثقافية عالية، وبرؤية ثقافية راديكالية.

كافحت عائلة بوكتشين لوحدها؛ قد كانت والدة والدي قد تخلى عنها زوجها عندما كان موراي طفلاً صغيراً؛ وغالباً ما كان يصيبهم الفقر بعد وفاة جدته، عندما كان في التاسعة من عمره. في نفس الوقت تقريباً عام 1930، أصبح عضواً في منظمة روّاد الشباب في أمريكا، وهي منظمة شبابية شيوعية، وفي سن الثالثة عشرة، “اختير” عضواً في رابطة الشباب الشيوعي، وأشار إلى ذلك بالقول: “عوملنا كما لو كنّا بالغين”، وكان ذلك التعامل يطبّق حتى على أصغر أعضاء الحزب. كان من المتوقع منهم أن يكونوا قد قرأوا بيان الحزب الشيوعي والعديد من النصوص الأخرى؛ فتمّ إرسالهم إلى الشوارع لبيع وثيقة الحزب، كما دعموا جهود اتحاد العمال.

زاد الكساد العظيم “الوعي الطبقي” لوالدي وزاد من التزامه بالتغيير الاجتماعي، وقد تم إجلائه ووالدته من المساكن في برونكس. كشاب ثوريّ، شحذ مهاراته الخطابيّة في بوتقة النقاش في متنزه كروتونا.

أشار والدي لاحقاً أنّ فترة الثلاثينات كانت “فترة صاخبة للغاية” بالقول:

من الصعب جداً إعطاؤك أيَّ فكرةٍ عن المدى الذي يشعر فيه المرء بشيء جديد كلّ يومٍ تقريباً؛ شيءٌ ما مثيرٌ سياسياً وخطيرٌ إلى حدّ ما كان يحدث، على سبيل المثال، كان لدينا اجتماعات متواصلة على قارعة الطريق، وكنت أتنقلُ مع أصدقائي من اجتماع إلى آخر، وأخيراً، بدأت أتحدث واقفاً على ما تسمونه اليوم صناديق الصابون(1). في هذه الأثناء، حاولت كسب رزقي ببيع الصحف وحمل الآيس كريم على ظهري في متنزه كروتونا في صندوق ضخم عازل للحرارة، حيث لاحقتني الشرطة، بالمناسبة، لأنه كان من غير القانوني في تلك الأيام بيع الآيس كريم، وكانت الامتيازات والتسهيلات تُمنح في المقام الأول للأكشاك التي أعطتها إدارة الحديقة للناس. وبهذا بدأت في كسب خبزي كعامل في سن الثالثة عشر والرابعة عشر.

على الرغم من دراسته شديدة الدقّة للنقاط الحساسة في النظرية الماركسية من قبل الحزب الشيوعي، إلا أنّه لم يكن مرتبطاً بالأرثوذكسية، واتجه بدايةً ليصبح تروتسكيّاً، تاركاً الحزب الشيوعي بعد توقيع حلف هتلر – ستالين، وأصبح بعد ذلك أناركيّاً، وهو ما بقي عليه طوال ما يقرب من أربعة عقود بين الستينيات والتسعينيات، وفي نهاية المطاف، تخلّى عن هذا المصطلح أيضاً، مجادلاً بأن الأناركية قد آلت بسهولة إلى سياسة ركزت على الممارسة الشخصية للحرية على حساب العمل الشاق الذي يتطلبه بناء المؤسسات السياسية القادرة على تحقيق تغيير اجتماعي مستديم.

لم يلتحق والدي قط بالجامعة، وكشخص عصامي، ربما لم يشعر أبداً أنّه محصور داخل أيّ مسلك من مسالك البحث الفكري. تنوعت قراءاته على نطاق واسع وعميق، من موضوعاتٍ كعلم الأحياء والفيزياء إلى التاريخ الطبيعي والفلسفة. إنَّ خبرته في العمل الصناعي – بالانتقال إلى بايون في نيوجيرسي، والعمل في صبّ الصلب في مسابك ساخنة – ما هو إلا تأكيد على تعاطفه مع المشروع الاشتراكي. لاحقاَ، وعلى الرغم من أنّ الفترة التي قضاها كممثّل نقابي في شركة عمال الكهرباء المتحدون علّمه أن البروليتاريا الأمريكيّة -المعنيّة بقضايا الخبز اليومي، والإصلاحات الجزئيّة- من غير المرجّح أن تكون العامل الثوري الذي تنبأ به ماركس.

بدأ والدي بأخذ موقفٍ من المبادئ الأخرى للماركسية، بما في ذلك تشديدها على سلطة الدولة المركزية وإصرارها على “استحالة القوانين الاجتماعية”.

في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بدا جليّاً له أنَّ التطور الرأسمالي كان في تعارض عميق مع العالم الطبيعي. وقال بأن تلوث الهواء والماء، والإشعاع، ومشكلة بقايا المبيدات في الغذاء، وتأثير المخططين المتعجرفين في المناطق الحضرية مثل روبرت موزس، أسبابٌ تدعو إلى إعادة تقييم تأثيرات الرأسمالية مع الأخذ بالاعتبار المخاوف البيئية بالإضافة إلى الاقتصادية.

في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، كان بوكشتين يناقش التدهور البيئي باعتباره أحد أعراض المشكلات الاجتماعية الراسخة، أفكارٌ صاغها في مقال غير مسبوق عام 1964 بعنوان “علم البيئة والفكر الثوري”، والذي وضع علم البيئة كمفهوم سياسي، وجعل من حماية البيئة جزءاً لا يتجزأ من مشروع التحول الاجتماعي. اعتقد ماركس أن ندرة الطبيعة هي التي أدت إلى الاستعباد البشري، وناقضه بوكشين في ذلك مجادلاً بأنّ فكرة السيطرة على الطبيعة سُبِقَت سطوةَ الإنسان على الإنسان، ونجمت عنها، كما يؤكّد بوكتشين على أنّه فقط من خلال القضاء على التسلسل الهرمي الاجتماعي (من جنس، عرق، توجّه جنسي، عمر، وحالة) يمكننا أن نبدأ في حلّ الأزمة البيئية. وقال، مناقضاً ماركس، أنّ الحريّة الحقيقية لن تتحقق بمجرد القضاء على المجتمع الطبقي؛ بل إنها تستلزم القضاء على جميع أشكال الهيمنة. ولاحظ في وقت لاحق “بشكل مأساوي، أنّ الماركسية أسكتت فعلياً جميع الأصوات الثورية السابقة لأكثر من قرن، وحجز التاريخ نفسه في قبضةٍ جليديةٍ لنظرية برجوازية في التنمية المبنية على الهيمنة على الطبيعة ومركزية السلطة”.

بدأ والدي لأول مرة في صياغة هذه الأفكار في سلسلة من المقالات في منتصف الستينات بعناوين مثل “أناركية ما بعد الندرة”(2)، “نحو تكنولوجيا مُحرَّرة”، و”أصغِ أيها الماركسي!”؛ المقالات التي وجَّهت جيلاً شاباً من النشطاء المناهضين للحرب نحو فهمٍ أعمق للأمراض الاجتماعية التي شعروا بأنها تتطلب نظاماً اجتماعياً جديداً. خلال هذه الفترة، ناقش مع العديد من الشخصيات اليسارية المهمة وأثَّر عليها، من إلدريدج كليفر ودانييل كون-بنديت إلى هربرت ماركوز وغاي ديبورد، كما ضغط على الثوار الفرنسيين في أحداث مايو (أيار) عام 1968 لعدم الرضوخ لجهود الحزب الشيوعي في تطويق الحركة الطلابية؛ دفع زعماء حزب الفهود السود مثل كليفير وهاوي نيوتن إلى التخلي عن امتثالهم للعقيدة الماوية القائلة بأنّ الثورات تصنعها كوادر منضبطة توجهها قيادة مركزية، كما التقى مع ماركوز لحث هذا المنظّر الماركسيّ المخضرم على تبنّي وعي إيكولوجي أعمق.

على مر السنين، تناولت الحملة المناهضة للطاقة النووية، ونشطاء مناهضة العولمة، ولاحقاً حركة “احتلوا وول ستريت” بعض نظريات بوكشين حول مجموعات التقارب، والتجمعات الشعبية، والنسوية البيئية، والديمقراطية الشعبية، والحاجة إلى القضاء على التسلسل الهرمي، وأدرجت هذه المجموعات أفكار والدي- غالباً دون دراية بمنشئها – لأنها قدمت طرقاً للعمل والتنظيم التي قدمت بدورها تصوّراً للتغيير الاجتماعي الذي سعوا إليه.

بحلول الثمانينيات، كانت أعماله مؤثرة على الحركات البيئية في أوروبا، واليوم، تكتسب حركة البلديات المستقلة القائمة على أفكاره زخماً في المدن حول العالم. على الرغم من أنّه، قبل روج آفا، نادراً ما كان يُذكر اسم موراي بوكتشين في التقارير الإخبارية السائدة.

انتقل والدي من الجانب الشرقي الأدنى في نيويورك إلى فيرمونت في عام 1971 حين كان عمره خمسين عاماً، وانفصل عن أمي بياتريس بعد زواج دام اثنتي عشرة سنة، لكنّه استمرّ في العيش معها لسنوات عديدة، وظلّت رفيقته السياسيّة ومقرّبة منه لبقية حياته، وفي فيرمونت، أصبح ناشطاً في الحركة المناهضة للطاقة النووية، في حين قادت هي المعارضة باتجاه مساعي عمدة بيرلنغتون بيرني ساندرز للقيام بتنمية تجاريّة ضخمة على الواجهة البحرية في برلنغتون، ومعاً أطلق والداي برلنغتون جرينز(3)، إحدى أولى الحركات البلدياتيّة في الولايات المتحدة، وكتب كتابه “إيكولوجيا الحرية” في منزلهم في برلنغتون، ونُشر عام 1982 كما تُرجم إلى اللغة التركية بعد اثني عشر عاماً.

تعقّب والدي ظهور التسلسل الهرمي من عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر، حيث درس التفاعل بين ما أسماه “إرث الهيمنة” و “إرث الحرية” في تاريخ البشرية.

إلى جانب ميل الحضارة الإنسانية لتصبح أكثر طبقيّة اجتماعيّاً، مما خلق حالة ضخمة من عدم المساواة، وأعطت الدول القومية قوّة لا لزوم لها، إلا أنّه كان هناك تقليد ثريّ للحرية، من ظهورها الأول ككلمة في الألواح المسمارية السومرية، إلى استخدامها من قبل فلاسفة مثل أوغسطين، وظهورها في الفكر اللادولتي الطوباوي الراديكالي لمفكرين مثل تشارلز فورييه.

إنَّ إرث الحرية يقدّم رؤية موازية للتنمية البشرية المحتملة التي تتحدى حكمة ماركس المُسلَّم بها بأنَّ الدولة والرأسمالية كانتا “ضرورة تاريخية” للنهوض بالمجتمع نحو الاشتراكية. قال والدي في ذلك بأنهما لم تكونا غير ضروريتين فحسب، بل زاد على ذلك بأنّ الاعتقاد الماركسي التقليدي في الدور التاريخي “التقدمي” للرأسمالية قد أعاق تشكيل اليسار التحرري الحقيقي.

قرأ أوجلان “إيكولوجيا الحرية” واتفق مع تحليلها، وفي كتابه “الدفاع عن الشعب”، الذي نُشر باللغة الألمانية في عام 2010 (سيصدر قريباً باللغة الإنجليزية)، كتب أوجلان:

إنّ تطوّر السلطة والهرميّة، حتى قبل ظهور المجتمع الطبقي، يمثّل نقطة تحول هامّة في التاريخ. لا قانونَ في الطبيعة يقتضي أن تتطور المجتمعات الطبيعية إلى مجتمعات هرمية قائمة على الدولة. لنا أن نقول على أقصى تقدير أنّه قد يكون هناك ميل لذلك. حتميّة المجتمع الطبقي بحسب الاعتقاد الماركسي هو خطأ جسيم.

في معرض شرحه لأمثلة المساواة والتكافل التي ميَّزت المجتمعات المبكرة، قال والدي بأنّ الرأسمالية لم تكن نتاجاً نهائياً حتمياً للحضارة الإنسانيّة، وأشار إلى أنّه يمكن تحقيق انتعاش الحافز نحو التعاون، والتكافل، والاستدامة الإيكولوجية في مجتمع حديث عن طريق بناء اقتصاد إيكولوجي أخلاقي قائم على الاحتياجات البشرية، وتعزيز التكنولوجيات التي يمكن أن تحقق لامركزية الموارد، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبناء مجالس ديمقراطية شعبية تُمكِّن الناس على المستوى المحلي.

إيلاء والدي الأهمية للهرميّة أخذ جانباً مميزاً من جهود أوجلان في إعادة تعريف المشكلة الكردية. في كتابه “جذور الحضارة”، وهو أول مجلّد منشور لأوجلان من مؤلفاته في السجن، قام هو أيضاً بتعقّب تاريخ المجتمعات الاشتراكية المبكرة والتحول إلى الرأسمالية. احتفى كبوكتشين بتكوين المجتمعات المبكرة في ميزوبوتاميا الكبرى؛ مهد الحضارة ومنشأ الفن واللغة المكتوبة والزراعة، ولقد ذكَّرَنا بأنّ روابط القرابة القوية التي لا تزال تمثّل حياة الأسرة الكردية – العلاقات التقليدية للعائلات الكبيرة والثقافة الشعبية – يمكن أن توفّر الأساس لمجتمع أخلاقي جديد يمزج أفضل جوانب قيم التنوير مع إدراك كومينالي وإيكولوجي.

يذهب أوجلان أبعد من بوكتشين في الأهمية التي يوليها للنظام الأبوي. كان والدي قد درس كيفية نشأة الهرميّة من حاجة الشيوخ في المجتمع للحفاظ على قوّتهم مع تقدمهم في السن من خلال مأسسة أوضاعهم الاجتماعية على شكل شامانيين، ولاحقاً على شكل كهنة – وهي عملية تضمنّت هيمنة الرجال على النساء. ومع ذلك، يرى أوجلان أنّ النظام الأبوي هو سمة مميِّزة للحضارة الإنسانية؛ وكتب في كتاب بعنوان “تحرير الحياة: ثورة المرأة” (صدر باللغة الإنجليزية في عام 2013): “إنّ تاريخ الحضارة الذي يعود إلى 5000 عام هو في الأساس تاريخ استعباد المرأة”، ويضيف: “إنّ عمق استعباد المرأة والإخفاء المتعمّد لهذه الحقيقة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالارتقاء داخل مجتمع من السلطة الهرمية والدولتيّة”. إنّ تعطيل هذه العلاقات المؤسسية والنفسية الراسخة للسلطة سوف يتطلب، من وجهة نظر أوجلان، رؤية جديدة للمجتمع وتفكيراً شخصياً جذرياً من جانب الرجال.

كان اهتمام أوجلان بتحرير المرأة سابقاً لوجوده في إيمرالي، ولم يكن أبداً هذا الاهتمام مسألةً نظرية. في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينات، انضمت النساء الكرديات من سوريا وتركيا إلى حزب العمال الكردستاني بأعداد متزايدة، حيث كُنَّ يعانينَ من القمع الشديد على أيدي الدولة التركية، وتركْنَ قراهن وبلداتهن للذهاب إلى معسكرات التدريب التابعة لحزب العمال الكردستاني في سهل البقاع في لبنان وجبال قنديل في العراق، وساعدت المرأة على ارتفاع عديد مقاتلي حزب العمال إلى 15000 بحلول عام 1994، حيث كُنَّ يشكلن ثلث القوات. إنّ المرأة، في الوقت الذي تدربت فيه كمقاتلة ضمن مجموعات متحركة صغيرة (كريلّا)،  قرأت أيضاً نصوصاً خاصة بالمرأة وأخرى ثوريّة، وذلك تماشياً مع تركيز حزب العمال الكردستاني على الدراسة والتعليم، وقد دعم أوجلان، الذي كان قد أعاد تقييم مشكلة “الشخصية الذكورية المهيمنة” في حزب العمال الكردستاني، مطالبهن المتمثلة بالمساواة في الحقوق، وتنظيمهن ضمن منظمات ميليشاوية منفصلة ومؤسسات خاصة بهن. توضّح ميريديث تاكس ذلك في كتابها الأخير “الطريق غير المنظور: المرأة تحارب الدولة الإسلامية” بالقول أنّ إنشاء وحدات نسائيّة صرفة في حزب العمال الكردستاني شكّل أمراً حاسماً في “إعطاء المرأة الثقة والخبرة القيادية من أجل تحقيق قفزة نحو إنشاء جيش نسائي منفصل تماماً”.

مثله مثل بوكتشين قبل سنوات، خاب أمل أوجلان أيضاً في اشتراكية الدولة، وذكر لصحفيّ في مقابلة له عام 1991 “لا تنظر إلى الاتحاد السوفياتي على أنّه إله الاشتراكية، وأنّه الإله الأخير لذلك”، وأردف: “إنّ حلم اليوتوبيا الاشتراكية ليس فقط ماركسي-لينيني، بل إنه قديم قدم البشرية”.ومع اقتناعه تدريجيّاً بأنّ الدولة نفسها كانت المشكلة، بدأ بإعادة صياغة هدف حركته ليس كأمّة كرديّة، بل ككيان ديمقراطي يتمتع بحكم ذاتي مستقل ضمن فيدرالية أعطت نفس الحكم الذاتي لكل المجموعات المنضوية فيها ( وهو نوع من الأنظمة السياسية يختلف اختلافاً كبيراً عن أي نظام موجود حالياً في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر تقريباً.

كتب بوكتشين في مقالة صدرت عام 1985 بعنوان “إعادة التفكير في الأخلاق والطبيعة والمجتمع”: “إن الدولة القومية تجعلنا أقلَّ إنسانية”، “إنها تتعالى علينا، وتتملّقنا، وتُضعِفنا، وتسلبنا جوهرنا، وتهيننا ليس فقط جسدياً ونفسياً، بل أيديولوجياً أيضاً …وكثيراً ما تقتلنا في مغامراتها الإمبريالية … نحن ضحايا الدولة القومية، وليس ناخبيها”. جاء أوجلان ليشارك هذا الرأي؛ ففي عام 2005 أصدر “بياناً” مفاده أنّ “الجذور السياسية لحلّ الأمة الديمقراطية هي الكونفدرالية الديمقراطية للمجتمع المدني، وهي ليست الدولة”. بل يجب أن تستند إلى “الوحدة الكومينالية” وهي بناء إيكولوجي اجتماعي واقتصادي، “لا يهدف إلى تحقيق الربح” بل إلى تلبية الاحتياجات المحددة بشكل جماعي للأشخاص الذين يعيشون هناك، وكانت الوثيقة بمثابة رؤية كان يأمل في أن تتبناها جميع أنحاء كردستان، بما في ذلك 6 ملايين كردي في إيران ومثلهم عدداً في العراق.

وهنا، تبنّى أوجلان برنامج والدي في كتاب “صعود التمدّن وتدهور المواطنة” ( سُمّيَ لاحقاً “التمدّن بلا مدن”)، والذي قرأه أوجلان في السجن، وأوصى بها لرؤساء بلديات باكور؛ جنوب شرق تركيا. في هذا المجلّد، درس والدي تاريخ المدينة الحضرية الكبرى، من أثينا إلى كومونة باريس وغيرها، في محاولة “لإصلاح المدينة، بهدف تصوّرها لا كتهديد للبيئة، بل كمجتمع إيكولوجي أخلاقي متفرّد بالإنسان” والذي يمكن أن يكون مركزاً لسياسة حديثة لديمقراطية المجالس، وهي “فنٌ يدرك فيه كل مواطن ومواطنة تماماً حقيقة أن مجتمعه/ها يعهد بمصيره إلى استقامته/ها وعقلانيته/ها. وكتب أيضاً أنَّ”المدينة” يجب أن “يُنظَر إليها على أنّها نوع جديد من الاتحاد الأخلاقي، وشكل من أشكال التمكين الشخصي من الناحية الإنسانية، ونظام صنع قرار تشاركي إيكولوجي، ومصدر مميّز للثقافة المدنية” وجادل بأنّ ممارسة سياسة ثورية قائمة على البلديات، يمكن للناس في الحقيقة أن يخلقوا مجتمعاً ديمقراطياً جديداً داخل الإطار القديم، منتزعين بذلك السيطرة من الدولة المركزية.

وُضعت هذه الأفكار “الكوميناليّة” موضع التطبيق في مدن وبلدات الفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا. يبدأ نظام ديمقراطية مجالس متطوّر من مستوى “الكومون” (تجمّعات مكونة من ثلاثين إلى أربعمائة أسرة)، ترسل الكومونة نواباً إلى مجلس الحي أو القرية، والذي بدوره يرسل النواب إلى مستوى الناحية، وفي نهاية المطاف إلى المجالس على مستوى الإقليم. يعمل المواطنون في لجان الصحة والبيئة والدفاع والمرأة والاقتصاد والسياسة والعدالة والإيديولوجيا. يحق لكل شخص إبداء رأيه. وعملاً بأفكار أوجلان بشأن المسائل المتعلقة بالمرأة، فإنَّ مجالس المرأة تتمتّع بسلطة نقض القرارات التي تتخذها المجالس الأخرى، عندما يتعلق الأمر تحديداً بمصالح المرأة.

Young Kurdish fighters, affiliated with the YPG, in Heras, the nearest village to the front-line with the Islamic State in Syrian Kurdistan (Rojava). The village is under the protection of the YPG, the national army of Syrian Kurdistan. (Photo by Martyn Aim/Corbis via Getty Images) مقاتلين كُرد من وحدات حماية الشعب في بلدة هيراس بالقرب من خط مواجهة روج آفا الأمامي مع داعش، سوريا 2014

وعلى الرغم من أن حزب العمال الكردستاني ما زال يمثل قوة المعارضة الرئيسية لمعظم الكرد الذين يعارضون سياسات الرئيس أردوغان في تركيا، إلّا أنّه كان هناك انقسامات داخل الحركة، ولا سيما في منتصف العقد الأول من القرن الحالي عندما بدأ أوجلان في تنفيذ النظام الكونفدرالي الديمقراطي بشكل جدي. ومع ذلك، فإنها دليل على شخصية قيادته -التي عانت ما يقرب من عقدين من السجن- لدرجة أنّ غالبية كبيرة من الشعب الكردي اتبعت الطريق الذي رسمه. على الرغم من كل هذا، يبقى حزب العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب السوداء التي تحتفظ بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، وتستمر وسائل الإعلام الغربية على نحو غير مفهوم في وصف أوجلان وحزب العمال الكردستاني بالـ”الماركسي-اللينيني” بعد أكثر من عقد من الزمن من التخلي عن تلك الأيديولوجية بشكل رسمي، في ممارساتهم وفي الآلاف من صفحات كتب أوجلان.

أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من جانب واحد بالتزامن مع انتخابات تركيا التي جرت في تموز / يونيو 2015، والدليل على التزام الحزب أمام القاعدة هو أن الديمقراطية كانت في أوجها في المدن والبلدات الكردية جنوب شرق تركيا، حيث كانت النساء يشغلن مناصب مثل منصب الرئيسة المشتركة للبلدية، ويعملن في مختلف مجالات إدارة المدينة.

فاز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات بـ 13% من مجموع الأصوات، حاجزاً لنفسه مكاناً كثالث أكبر حزب في البرلمان التركي.

أوقف أردوغان دون سابق إنذار محادثات السلام التي بدأت بدعوة من أوجلان عام 2013، وشنّ هجوماً متواصلاً على المناطق الكردية؛ أسفرت الحملة العسكرية ومقاومة PKK عن مئات الضحايا وآلاف المعتقلين. صلاح الدين دميرتاش؛ قائد حزب الشعوب الديمقراطي والذي يتمتع بشخصية كاريزمية، قد ترشح للرئاسة من زنزانته في الانتخابات المفاجئة التي أطلقها  أردوغان في الرابع والعشرين من تموز/يونيو من العام المنصرم.

في أيار/مايو 2018، عرّفت محكمة الشعوب الدائمة(4) حزب العمال الكردستاني على أنه لم يكن مجموعة إرهابية بل مقاتلين في “نزاع مسلح غير دولي”، وأدانت أردوغان شخصياً بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الكردي على إثر فشله في الالتزام باتفاقيات جنيف على مدار 18 شهراً في الفترة بين حزيران/يونيو 2015 حتى كانون الثاني/يناير 2017.

كذلك أدانت المحكمة تركيا -عبر قرار أُعلن في البرلمان الأوروبي في بروكسل- بالقيام بعمليات من نوع الراية الكاذبة؛ “الاغتيالات الموجَّهة، الإعدامات خارج نطاق القضاء، الإخفاء القسري” وتدمير المدن الكردية وتهجير ما يقرب من 300.000 من المدنيين، كما أُدينت تركيا بـ”إنكار حق الشعب الكردي في تقرير مصيره من خلال فرض الهوية التركية وقمع مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في الدولة”، وحثّت المحكمة على الاستئناف الفوري لمحادثات السلام مع الكرد في تركيا، ودعت تركيا أيضاً إلى وقف جميع عملياتها العسكرية ضد الكرد في سوريا.

إصرار تركيا على أن الكرد السوريين “إرهابيين” بسبب انتمائهم الإيديولوجي لأوجلان قد أجبر الولايات المتحدة على اتباع مسار حساس ودقيق في دعم وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة كجزء من قوات سوريا الديمقراطية، وإنكار ارتباطهم بحزب العمال الكردستاني مع الحفاظ على اعتبار الـPKK في تركيا مجموعة إرهابية.

في المحصلة، بينما يصرّح المسؤولون العسكريون الأمريكيون جهاراً عن دعم الكُرد كـ”أفضل الشركاء في الميدان” في الحرب ضد داعش في سوريا، فإن وزارة الخارجية تغض الطرف عن انتهاكات أردوغان المستمرة لحقوق الإنسان مردداً في خطاباته الرنانة بأنه لا بدّ من تدمير الـPKK؛ وهي سياسة يقول عنها الشعب الكردي بأنها بمثابة موافقة ضمنية على الحرب ضد الكرد كلهم.

تضافرت هذه السياسة الأمريكية مع صمت القادة الأمريكيين والأوروبيين عن اعتداءات الحكومة التركية على مواطنيها الكرد في الفترة بين عامي 2015 و 2017، الأمر الذي شجّع أردوغان على إرسال قواته وميليشياته من بقايا الجيش السوري الحر -بما فيهم جهاديين ومقاتلي داعش السابقين- إلى مقاطعة عفرين في سوريا في 20 كانون الثاني/يناير من العام 2018 مخلفاً زهاء 170.000 من النازحين من عفرين؛ العديد منهم مشرّدون وينامون في العراء.

المكان الذي كان قبل ذلك موطناً للسلام والتعددية الثقافية والذي كانت تشغل المرأة فيه نسبة 50% من المناصب العامة، هو الآن يخضع للحصار، وهناك تقارير عن حالات اختطاف للنساء والفتيات، وعن الكرد الذين طُردوا من منازلهم وأعمالهم، وأخرى عن التطبيق الجزئي للشريعة الإسلامية.

تلقت تركيا في عمليتها هذه دعماً مبطناً من الولايات المتحدة التي رفضت الوقوف إلى جانب أردوغان على حساب حلفائها الكرد، وللأسف، كان الإعلام الأمريكي مقصراً في تغطية الدمار الناتج.

بوكتشين 1991 (لودفينغ راوخ)

توفي والدي في 30 تموز/يوليو عام 2006 عن عمر ناهز خمسة وثمانين عاماً، وذلك كان بعد عامين بعد تواصل وسطاء أوجلان معه.

التهاب المفاصل منعه من الجلوس والكتابة خلف شاشة الحاسوب، لذا فقد انتهت مراسلاته مع أوجلان بعد تبادل رسالتين فقط من كل طرف، وفي رسالته الأخيرة أرسل والدي أفضل التمنيات لأوجلان حيث كتب:

“أمنيتي هي أن يتسنّى للشعب الكردي يوماً ما أن يقيم مجتمعاً حرّاً رشيداً والذي سيسمح لتألقهم بالازدهار مجدّداً، هم محظوظون بالفعل لأن لديهم قائداً صاحب ملكات كالسيد أوجلان لقيادتهم”.

عند وفاة موراي بوكتشين، أصدر حزب العمال الكردستاني بياناً من صفحتين مشيدين به كـ”واحد من أعظم علماء الاجتماع في القرن العشرين” وجاء في البيان أيضاً: “لقد قدم لنا فكرة الإيكولوجيا الاجتماعية، ولهذا السبب ستتذكره البشرية بالعرفان والامتنان”، وأضاف البيان: “نتعهد بأن بوكتشين سيبقى حياً في نضالنا، وسنقوم بتنفيذ هذا الوعد مع أول مجتمع يؤسس كونفدرالية ديمقراطية حقيقية”.

لو عاش والدي ليرى أفكاره تُطبّق في روج آفا وجنوب شرق تركيا، لعرف حق المعرفة بأن أفكاره الثورية قد أُعيد إحياؤها في أحد أجيال الشعب الكردي، وكان ليكون مأخوذاً بأن روج آفا قد أصبحت تأكيداً تاريخياً آخر عن التوق إلى الحرية التي شعر بها بنفسه وكرّس حياته لأجلها.

NYR Daily | ترجمة: مركز الفرات للدراسات – هوزان هادي.


1 –  صندوق الصابون هو منصة مرتفعة يرتكز عليها المرء لتقديم خطاب مرتجل، غالباً حول موضوع سياسي. نشأ هذا المصطلح في الأيام التي كان فيها الخطيب يرفع نفسه من خلال الوقوف على صندوق خشبي يستخدم في الأصل لشحن الصابون أو غيرها من السلع الجافة من مصنعٍ إلى متجر بيع بالتجزئة. المترجم.

2 – تشبيهاً بـ”اقتصاد ما بعد الندرة” وهو اقتصاد افتراضي يمكن أن تنتج فيه معظم السلع بوفرة وبحد أدنى من العمل البشري اللازم، بحيث تصبح متاحة للجميع بتكلفة زهيدة أو حتى مجاناً. المترجم.

3 – أنشئت في عام 2007، وهي جمعية بيئية غير حزبية، غير ربحية، تعمل مع المجتمع لحماية البيئة، والتخفيف من تغير المناخ لجعل بيرلينغتون أكثر صحة وبيئية، من خلال التوعية والمناصرة والمبادرات. موقع جمعية برلنغتون.

4 – محكمة الشعوب الدائمة: أُسست عام 1979 استكمالاً لأعمال محكمة راسل التي حققت في جرائم الحرب في فيتنام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى