ترجمات

كيف تنظر الصين إلى الصراع في أوكرانيا؟.. التداعيات والنتائج

منذ بداية الصراع في أوكرانيا، كان موقف الصين مثيراً للجدل، وفي روسيا كان هناك وجهتا نظر متعارضتان بهذا الخصوص، فقد أكد مؤيدو وجهة النظر الأولى أن الصينيين سيخدعون الروس، فيما اعتقد خصومهم، أن جمهورية الصين الشعبية على وشك مهاجمة تايوان، وبالتالي فتح “جبهة ثانية” للحرب العالمية الهجينة للقوى العظمى.. إذن، أي وجهتي النظر صائبة؟ وما هي المصالح الحقيقية لبكين؟

منذ الأيام الأولى للعملية الروسية الخاصة، بذلت أمريكا جهداً كبيراً، لحمل بكين على الضغط على موسكو لوقف الهجوم. من ناحية أخرى، أدلت الصين بتصريحات غامضة في ذلك الوقت، داعية في الوقت نفسه إلى احترام وحدة أراضي جميع البلدان، والاعتراف بشرعية مخاوف روسيا بشأن أمنها. رداً على ذلك، ألمح الأمريكيون – من ناحية – إلى أن جمهورية الصين الشعبية “تمتثل بالفعل جزئياً للعقوبات”، ومن ناحية أخرى، ذكروا أن بكين “على علم بكل شيء مسبقاً” وحتى أنها “تقدّم المساعدة العسكرية لموسكو”

فيما يتعلق بمسألة “العلم المسبق لبكين”، فيبدو أنها لا تخلو من الحقيقة، وقد اعتبرت بكين، قبل 24 فبراير بوقت طويل، أن حدوث صدام عسكري بين روسيا وأوكرانيا أمرٌ مرجحٌ للغاية، فقبل عدة أشهر من الصراع، أكدت المخابرات التقنية الأمريكية (عن طريق التصوير من الفضاء) أن هناك انتشاراً للقوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية. هذه البيانات، بغض النظر عن توفر معلومات واضحة حول خطط موسكو السياسية، عززت لدى الولايات المتحدة أن فكرة الصراع أمرٌ لا مفر منه، وبالنسبة للصين فهي تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، من حيث قدرات الاستخبارات التقنية الفضائية. لذلك، هذا يرجح فرضية أن الصين كانت أيضاً على علم بما يجري على الحدود الأوكرانية.

من جانب آخر، حوّلت موسكو جزءاً كبيراً من احتياطاتها من الذهب والعملات الأجنبية إلى أصول باليوان. وقد يشير إبرام عقد إضافي لتوريد 100 مليون طن من النفط إلى الصين، خلال زيارة فلاديمير بوتين إلى بكين في 4 فبراير، إلى أن روسيا تستعد لفرض قيود على التجارة مع الغرب.

بالنظر إلى كل هذا، يتوضح أن الصينيين فكروا مسبقاً بالمسار الذي سيتبعونه منذ بداية العملية الخاصة، حتى يومنا هذا، جوهر هذا المسار يتلخص في بعض التصريحات التي تؤكد:

  • أنهم ليسوا مع الصراع الذي يودي بحياة الأبرياء.
  • أن ينتهي الصراع بالسلام.
  • الحثّ على عدم تأجيج الصراع، بفرض عقوبات أحادية الجانب، وتزويد أطراف الصراع بالأسلحة.
  • التأكيد على ضرورة احترام سلامة أراضي وأمن جميع الدول.

تتخلل هذه التصريحات مؤشرات على أنه لولا الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بمعاييرهما المزدوجة، لكان بالإمكان تفادي المأساة.

يسمح هذا النهج لبكين بحلّ مهمتين متعارضتين: الأولى هي الحفاظ على علاقات خاصة مع موسكو، والثانية هي عدم إفساد العلاقات المتدهورة بالفعل مع الاتحاد الأوروبي.

العلاقات مع أوروبا ذات قيمة خاصة بالنسبة للصين، على خلفية المواجهة المتفاقمة مع أمريكا. الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الرئيسي للصين، ومن المهم للغاية بالنسبة لبكين أن تمنع إنشاء تحالف مناهض للصين بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، في الاقتصاد والتكنولوجيا.

تسعى الدبلوماسية الأمريكية إلى إجبار بكين للضغط على موسكو بمعزل عن جوانب أخرى من الحوار مع الصين، حيث تطالب الصين بالتعاون بشأن أوكرانيا، كما اتخذت واشنطن في الوقت نفسه خطوات من شأنها إثارة الاستياء في بكين، حيث واصلت تعزيز التعاون العسكري – التقني مع تايوان خلال هذه الفترة، كما أنها اتخذت قرارات كانت استفزازية بشكل واضح. على سبيل المثال، منعَ الرئيس “بايدن” وزارة خارجيته من استخدام الخرائط التي تظهر تايوان بنفس لون مساحة البر الرئيسي للصين، في حين بدأ الكونجرس مناقشة مشروع قانون لإعادة تسمية الممثليات غير الرسمية للولايات المتحدة وتايوان، واستبدال كلمة “تايبيه” (عاصمة الجزيرة) في أسمائهم بكلمة “تايوان”. مثل هذه الخطوة، التي أعطت هذه الممثليات سمات إضافية كالسفارات، اتخذتها ليتوانيا العام الماضي، مما أدى إلى التوقف الفعلي للحوار الصيني الليتواني.

في أوائل نيسان /أبريل الفائت، تم الإعلان عن أن رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي” ستزور الجزيرة. صحيحٌ أن هذه الزيارة أُلغيت في وقت قريب جداً – بسبب مرض بيلوسي بحسب ما تم تداوله – لكن، على ما يبدو، كان رد الفعل الحادّ للغاية لبكين هو السبب الحقيقي وراء ذلك. ومع ذلك، في منتصف أبريل، قام وفد ممثل من الحزبين (الديمقراطي، والجمهوري) برئاسة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس “روبرت مينينديز” بزيارة الجزيرة، والتي ردت عليها جمهورية الصين الشعبية بإجراء مناورات عسكرية في مضيق تايوان.

واصل الأمريكيون الضغط على الصين بعدة طرق أخرى، بما في ذلك اتهامها بارتكاب إبادة جماعية بحق  الأويغور. للمقارنة: في عام 2017، ومن أجل حشد دعم بكين وفرض عقوبات صارمة ضد كوريا الشمالية، أجّلت إدارة ترامب بدء حرب تجارية ضد الصين لأكثر من عام، أما الآن فالأمريكيون لا يَعِدون جمهورية الصين الشعبية بأي امتيازات، ويحثونهم على الانضمام إلى مجموعة الضغط على موسكو، ولكنهم فقط يهددونهم بطرق مختلفة.

من الصعب تحديد ما يفسر هذا النهج. وقد يكون سبب هذا التوجه هو الافتقار إلى التنسيق وضعف التخطيط في واشنطن، وأيضاً من المحتمل أن الأمريكيين في البداية لم يعتقدوا أن بكين ستقدم تنازلات، وبالتالي لم يحاولوا تقديم أي خيار مقبول لها، لكنهم بدلاً من ذلك فعلوا كل شيء حتى تؤدي المؤامرة الأوكرانية إلى إحداث شرخ في علاقات الصين مع أوروبا.

الاتهامات التي وُجّهت لجمهورية الصين الشعبية بتقديم نوع من المساعدة العسكرية الفنية لموسكو، والتي نشرها الأمريكيون عبر وسائل الإعلام، ومن خلال القنوات الدبلوماسية، خدمت على ما يبدو هذا الغرض فقط. لكن في الواقع، من غير المرجح أن تكون الصين قد قدمت هذه المساعدة.

تمتلك روسيا إنتاجها العسكري القوي الخاص بها، وقد زَوّدت الصين بمعدات عسكرية لسنوات عديدة. في الوقت نفسه، لا توجد اتفاقيات بين البلدين بشأن توحيد المعدات العسكرية والذخيرة. في كثير من الحالات، يستخدمون مقاييس مختلفة من الأسلحة، حتى المعدات العسكرية الروسية المقدمة إلى جمهورية الصين الشعبية مصنوعة في إصدارات تختلف عن تلك الموجودة في الجيش الروسي. سيستغرق تدريب الجيش الروسي على استخدام الأنظمة الصينية المتطورة تقنياً وقتاً طويلاً. وفي المحصلة، لا يوجد دليل على مثل هذا التعاون.

في الوقت نفسه، وفي سياق العقوبات المفروضة على روسيا، تسعى الصين إلى توسيع التعاون الثنائي، وسد الفراغات في السوق الروسية، التي تشكلت بعد رحيل الشركات الغربية. تحدّث السفير الصيني لدى روسيا “تشانغ هانهوي” بشكل مباشر وصريح حول أن رجال الأعمال الصينيين يجب أن يستغلوا هذه الظروف.

ثم أنه في الوقت نفسه أيضاً، ستسعى الصين لتقليل خطر فرض عقوبات ثانوية على أعمالها، فأكبر الشركات والبنوك الصينية التي تُقدّر وتتقيّد بالعلاقات الدولية ستحدُّ من علاقاتها مع روسيا، كما كان الحال بعد عقوبات 2014. العمل مع روسيا – في ظل هذه الظروف – سيكون إما عن طريق شركات صينية، تخضع هي نفسها لعقوبات، أو شركات “من الدرجة الثانية” عملت حتى الآن في السوق الصينية المحلية، ولا تخشى العقوبات.

نتيجةً للتغييرات الجارية، ستصبح الصين الشريك التجاري الرئيسي لروسيا في غضون عامين، لتحل محل الاتحاد الأوروبي في هذا الدور. في الوقت نفسه، ستتلقى الصين الموارد الطبيعية الروسية بخصمٍ كبير (بسبب عزلة روسيا عن العديد من الأسواق البديلة). سيتم دفع تكاليف عمليات التسليم باليوان الصيني، وسيتم تنفيذها على طول الطرق القارية، محميةً من أي أعمال عدائية أمريكية. سيتطلب إعادة توجيه التجارة إلى جمهورية الصين الشعبية توسعاً كبيراً في البنية التحتية اللوجستية الروسية إلى الشرق، وتجري بالفعل مناقشة الخطوات في هذا الاتجاه.

أعطت الأزمة الأوكرانية زخماً للمناقشات حول مصير تايوان، ويتم التركيز على مناقشة الاستنتاجات التي توصلت إليها الصين من العملية الخاصة الروسية وكيف ستأخذها في الاعتبار عند التخطيط للاستيلاء على الجزيرة. وهناك حديث عن التنسيق المحتمل لخطوات عسكرية من قبل روسيا في أوكرانيا والصين في تايوان. وهناك حديث عن أن الخطوات التي اتخذتها روسيا في أوكرانيا، يمكن أن تطبقها الصين في تايوان.

إن التقارير الغربية حول الفهم الصيني لـ “التجربة الأوكرانية” هزلية بطبيعتها: فهي أساساً حجج علماء االصينولوجية الأمريكيين، الذين يستخلصون معلومات حول الصراع في أوكرانيا من الصحف الغربية، وبناءً على ذلك، استخلصوا استنتاجات حول ما يفكر فيه الجنرالات الصينيون بالعملية الخاصة. من المحتمل أن يكون لدى هؤلاء معلومات مفصّلة للغاية حول هذا الموضوع، سواءً المعلومات الاستخبارية الفنية الخاصة بهم، أو المعلومات التي تأتيهم من مصادر على جانبي النزاع، لكنهم لم يعلنوا بعدُ عن أفكارهم حول هذا الموضوع.

في الوقت نفسه، تُعدُّ العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أكبر صراع عالي التقنية منذ أكثر من 30 عاماً. سيكون له بلا شك تأثير على الشؤون العسكرية لأجيال قادمة. ومع ذلك، فإن وصف هذا الصراع في المصادر المفتوحة مشوّهٌ للغاية الآن، ويكتنفه الكثير من المعلومات المضللة التي ينشرها كلا الجانبين. ربما سيكون من الممكن التحدّث عن بعض الاستنتاجات منه في وقت لاحق.

أما فيما يتعلق بإمكانية “العمل المنسق”، فإن قرار مهاجمة تايوان – إذا تم اتخاذه – سيمليه في المقام الأول اعتبارات سياسية، ولا شيء آخر. لن تتخذ الصين قراراً بشأن مثل هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر، إلا إذا تأكدت من أن المحاولات الأخرى “لإعادة التوحيد السلمي” للبلاد ستفشل. من الصعب تحديد متى ستصل بكين إلى هذا الاستنتاج، لكن من المنطقي افتراض أن الانتخابات العامة التايوانية في يناير 2024 قد تصبح نقطة تحوّل.

قد يكون لبعض جوانب العملية الروسية، المتعلقة بشلّ الدفاعات الجوية الأوكرانية القوية – مهمة تؤديها بشكل جيد القوات الجوية الروسية بشكل عام، مع تعديلها لعدد محدود من القوات – آثاراً على التخطيط الصيني. في الوقت نفسه، يمكن للصينيين استخدام قوات أكبر بكثير لشلّ الدفاع الجوي وتدمير القوات الجوية التايوانية بمسرح عمليات أصغر بكثير من الأراضي الأوكرانية (تبلغ مساحة تايوان حوالي 36 ألف كيلومتر مربع، أما أوكرانيا فتبلغ 603 ألف كيلو متر مربع) .

قد تكون قصة تدمير الطراد الروسي القديم “موسكفا” ذات أهمية محدودة للصينيين، نظراً لوجود عدد قليل من هذه السفن القديمة تقنياً، والمتبقية في الأسطول الصيني. السفن الحربية الصينية الرئيسية (مدمرات نماذج 052D،052C ،052DL ، 055) تتمتع بمستوى تقني أعلى بكثير من أي “سفن من الدرجة الأولى” الروسية من البناء السوفياتي.

قد تكون الخبرة الواسعة للقتال، التي اكتسبها الجيش الروسي، مطلوبة للصينيين عند التوغل في عمق الجزيرة، بعد الهبوط عليها. لكن عنصر الأرض في الصراع من أجل تايوان لن يكون حاسماً. على عكس الصراع في أوكرانيا، ستنشب معركة جوية – بحرية في تايوان، مع الدور الرائد للأسطول، وسيكون الدور الرئيسي هو للأسطول البحري- وهنا ستكون أهمية التجربة الأوكرانية محدودة للغاية.

لا شك أن الصين تأخذ في الاعتبار، أنه نتيجة للصراع الأوكراني، ستتركز قوات عسكرية أمريكية كبيرة في أوروبا، ولسنوات عديدة، مما سيجعل من الصعب على الأمريكيين الاستجابة لأزمة مضيق تايوان. لكن هذا لا يعني أن واشنطن لا تفكر في هذه المشكلة، وسنرى في الأشهر أو السنوات القادمة محاولات لحلها، ربما عن طريق تعزيز حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين.

ستعزّز الصين بلا شك مواقفها السياسية والاقتصادية في أعقاب الأزمة الأوكرانية، وهو احتمال كبير جداً، وستكون قادرةً على استلام المواد الخام الروسية باليوان، وبسعر مناسب، وستحل أيضاً محل المنتجين الأوروبيين في عدد من قطاعات السوق المحلية الروسية. وستواصل أيضاً اتباع سياسة مرنة تجاه موسكو، وتسعى لتخفيف عبء العقوبات عليها قدر الإمكان، لكن أكبر شركاتها الدولية ستحدّ من التعاون.

من الصعب الحديث عن أي مساعدة عسكرية من الصين لروسيا في هذه المرحلة، ومن غير المرجح أن يكون تأثير الأزمة الأوكرانية على توقيت واحتمال عملية صينية محتملة في تايوان حاسماً.

………………………………………………………..

الكاتب: فاسيلي كاشين .. باحث في المجلس الروسي للعلاقات الدولية.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى