ترجمات

روسيا في شرق البحر الأبيض المتوسط: فنّ التوازن

تحاول روسيا – منذُ فترة طويلة – أن تجعل من وجودها في البحر الأبيض المتوسط مرئياً بالنسبة إلى اللاعبين المحليين، والقوى العظمى الأخرى، فهي ليست دولة متوسطية، وليس لديها منفذٌ مباشر إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث يكمن فيه أهم مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية.

ويعود هذا الاهتمام الدائم إلى أوائل القرن الثامن عشر على الأقل، وهو نتيجة تفاعل مجموعة معقّدة من العوامل الجيوسياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية، والدينية، والثقافية المختلفة.

استمرت مشاركة روسيا في شؤون البحر الأبيض المتوسط على مدى القرون الثلاثة الماضية، على الرغم من أن طبيعة هذه المشاركة وحجمها، تباينت على نطاقٍ واسع.

ربما تكون موسكو اليوم، ممثَّلةً بشكلٍ أفضل في البحر الأبيض المتوسط، ​​وخاصة في الجزء الشرقي منه، أكثر من تمثيل الاتحاد السوفيتي في ذروة قوته الدولية، وهذا يُعتبر من أكبر انجازات السياسة الخارجية الروسية، متمثلة في شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ومع ذلك، ما مدى صحّة الادعاء بأن لروسيا نهجها الاستراتيجي المتسق والشامل تجاه المنطقة؟. إن تطوير وتنفيذ مثل هذا النهج، سيكون مهمة شاقة لعددٍ من الأسباب:

أولاً: شرق البحر الأبيض المتوسط ​​كبير جداً، ومتنوع للغاية، بحيث لا يمكن أن يكون له نموذجاً واحداً للعديد من الأزمات والصراعات، التي لها طبيعة مختلفة، وفاعلون، وديناميكيات تنمية.

ثانياً: لا تزال فرص روسيا في المنطقة – لا سيما في المجال الاقتصادي، ومن حيث أدوات القوة الناعمة – محدودة نوعاً ما في الوقت الحالي، ولا تسمح لموسكو باتباع استراتيجية طويلة الأمد، مسترشدة برؤية شاملة مقنعة للأهداف المنشودة لمستقبل للمنطقة. على عكس الاتحاد السوفيتي، لا تمتلك روسيا نموذجاً اجتماعياً واقتصادياً، يمكن أن تقدّمه لبلدان المنطقة، ليكون نموذجاً يُحتذى به.

ثالثاً: تعكس مقاربات روسيا تجاه بلدان معينة في شرق البحر المتوسط، ​​التفاعل المعقّد بين مختلف المصالح السياسية والاقتصادية، وغيرها من المجموعات في موسكو. يمكن أن يتقلّب التوازن المحدد لهذه المصالح من بلد إلى آخر، ومن مرحلة من مراحل التفاعل الروسي مع شريك إقليمي إلى آخر. في بعض الحالات، يمكن للدبلوماسيين أن يلعبوا دوراً حاسماً في تشكيل السياسة الروسية، وفي حالات أخرى – من قبل الجيش ، وفي حالات أخرى – من قبل مجموعات من الشركات الروسية الكبيرة .. إلخ.

بالنظر إلى كل هذه العوامل، يمكن الاستنتاج أنه بدلاً من محاولة إعادة بناء نوع من “عقيدة بوتين” الشاملة للمنطقة، سيكون من المناسب النظر إلى السياسة الروسية على أنها محاولة لتحقيق التوازن المستمر بين عدد من المبادئ والأهداف والأولويات المتباينة، وسبل التفاعل بين الشركاء والمعارضين في شرق المتوسط. في بعض الحالات، يكون هذا التوازن ناجحاً ومستقراً تماماً، وفي حالات أخرى يؤدي الخلل الذي يحدث إلى تعقيدات غير متوقعة، وزيادة في المخاطر السياسية.

دعونا نحاول وصف بعض معضلات التوازن المهمة، التي تتضمنها السياسة الروسية المعاصرة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​ضمنياً أو صريحاً.

الأولويات العالمية أم الإقليمية؟

لطالما اعتمدت مقاربات موسكو لمنطقة البحر الأبيض المتوسط ​​- إلى حد ما – على العلاقات الشاملة لروسيا مع الغرب. إن أي تقلبات سواءً كنت صغيرة أو كبيرة في هذه العلاقات، أدت دائماً إلى عواقب مباشرة ومرئية على موقع روسيا في شرق البحر الأبيض المتوسط. على سبيل المثال، لن يكون من المبالغة القول، إن القرار الأولي بشأن المشاركة العسكرية الروسية في الصراع السوري في خريف عام 2015، كان له بعداً “تربوياً” كبيراً – بعد الفشل الملحمي للغرب في ليبيا، والنتيجة السيئة لتدخّل الولايات المتحدة وحلفائها في العراق. من الواضح أن فلاديمير بوتين كان يهدف إلى تعليم الغرب درساً، حول كيفية التعامل مع دول الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا.

مع استمرار الأزمة الحادة في أوكرانيا وما حولها، كان من المهم جداً للكرملين أن يثبت أنه في شرق البحر المتوسط هو جزءٌ من الحل وليس العكس. ربما كانت هناك آمال في موسكو، بأن النجاح في سوريا من شأنه أن يساهم في تحسين شامل لعلاقات روسيا مع الغرب.

وكما اتضح، لم تنجح هذه الخطة الأولية، لا في سوريا، ولا في ليبيا في المستقبل. سرعان ما أصبح الوجود السياسي والعسكري لروسيا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عاملاً معقداً آخر في العلاقة الصعبة – بالفعل – بين موسكو والعواصم الغربية. لذلك، تحوّل ميزان أولويات الكرملين – تدريجياً – من محاولات إبرام نوع من “الصفقة الكبيرة” مع لاعبين عالميين (بشكل أساسي مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي)، إلى التركيز على جذب لاعبين إقليميين مؤثرين لخططها، مثل دمشق وأنقرة وطهران والرياض والقاهرة، وهلم جرا.

تزامن هذا التحول في الأولويات الروسية، مع انخفاض تدريجي في اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة، ومحاولات فاشلة إلى حد كبير من قبل الاتحاد الأوروبي لتطوير نهج أوروبي موحد لشرق المتوسط. على ما يبدو، فإن موسكو اليوم ليست مستعدة لتهديد الشراكات الإقليمية العديدة، التي أنشأتها من أجل الآفاق غير المؤكدة لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي.

حتى الآن، أثبت هذا النهج أنه مثمر بشكل عام، لكنه قد يفقد فعاليته إذا أولى الغرب مزيداً من الاهتمام بالمنطقة، واستثمر المزيد من الموارد، ورأس المال السياسي في تقويض الشراكات الروسية (على سبيل المثال، من خلال تشجيع تركيا على أن تصبح عضواً أكثر انضباطاً في الناتو) . وبالتالي، من المستحيل استبعاد البعد العالمي للسياسة الروسية في شرق البحر المتوسط ​​بأي حال من الأحوال.

الدفاع عن الشرعية أم الترويج للتغيير؟

اتبعت القيادة الروسية – تقليدياً – نهجاً قانونياً ثابتاً تجاه الأحداث السياسية في العالم بشكل عام، وفي منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط ​​على وجه الخصوص. عارضت روسيا علانية أية محاولاتٍ لتغيير الحكومات “الشرعية” في دول المنطقة، حتى لو كانت هناك ادعاءات كثيرة في الكرملين ضد هذه الحكومة أو تلك.

كما هو معروف، لم ترحّب موسكو بـ “الربيع العربي” لعام 2011، بل أدانت الإطاحة العنيفة بمعمر القذافي في ليبيا، وحسني مبارك في مصر. يعتقد العديد من المحللين الروس أن أحداث “الربيع العربي” كان لها تأثيراً عميقاً على تفكير فلاديمير بوتين، بل وأصبحت أحد العوامل وراء قراره بالعودة إلى الكرملين في عام 2012. دعمت موسكو لاحقًا بشار الأسد في سوريا، بحجة أنه يمثل الحكومة الشرعية الوحيدة في البلاد.

لكن هذا الإصرار على مبدأ الشرعية ليس مطلقاً. على سبيل المثال، في يونيو 2013، لم تشجب روسيا قرار وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي بإقالة الرئيس محمد مرسي. وخلال تصاعد الصراع الأهلي في ليبيا، قدم الكرملين دعماً كبيراً للمشير خليفة حفتر، على الرغم من أن شرعيته كانت أدنى من شرعية حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز سراج، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ومعظم أعضاء المجتمع الدولي. كما لم تبدِ موسكو قلقاً كبيراً من التغيير غير المشروع للسلطة في أفغانستان، عندما حلّت حركة طالبان الإسلامية الأصولية المحظورة في روسيا محل الحكومة الشرعية في كابول، بقيادة الرئيس أشرف غني.

يحصل المرء على الانطباع أن روسيا تطبق نهجها القانوني في المقام الأول على القادة السياسيين في المنطقة، القادرين على الاحتفاظ ليس فقط بحكم القانون، ولكن أيضاً بالسيطرة الفعلية على أراضي بلدانهم. بعبارة أخرى، لا تدافع روسيا كثيراً عن الشرعية بالمعنى القانوني الرسمي للكلمة، بقدر ما تؤيد “النظام والاستقرار”، اللذين يُنظر إليهما على أنهما أهم القيم، ومصادر شرعية لا يمكن الاستغناء عنها لنظام سياسي معين.

دعم العلمانية أم الإسلاموية المعتدلة؟

في شرق البحر الأبيض المتوسط، كما هو الحال في أجزاء أخرى من العالم، فضّلت روسيا – تقليدياً – الأنظمة العلمانية على الإسلاميين، حتى لو وصلت الأخيرة إلى السلطة، من خلال انتخابات نزيهة وديمقراطية. قد يكون هذا التفضيل مرتبطاً بتجربة الكرملين الخاصة مع الإسلاميين في شمال القوقاز، والمناطق الأخرى ذات الغالبية المسلمة، في الاتحاد الروسي. يبدو أنه يوجد في موسكو (كما هو الحال في العديد من العواصم الأخرى) خوفٌ غريزي حتى من الإسلاموية المعتدلة، ناهيك عن تجسيداتها الأصولية والراديكالية. ومن الدلائل أن موسكو لم ترغب في استبعاد جماعة الإخوان المسلمين المصرية من قائمة التنظيمات الإرهابية، حتى بعد وصول الحركة إلى السلطة في القاهرة، وتولي مرشّحها محمد مرسي رئاسة مصر.

ومع ذلك، هناك بعض الانحرافات عن هذه القاعدة العامة، وحتى بعض الاستثناءات الواضحة لها. في بعض الأحيان، يبدو أن موسكو تهتم أكثر بالبيانات التصريحية لشركائها في المنطقة، أكثر من اهتمامها بممارساتهم الفعلية. على سبيل المثال، في ليبيا، دعمت روسيا المشير خليفة حفتر جزئياً، لأنه وضع نفسه كمقاتل ثابت ضد الإسلاموية الراديكالية (بشكل أساسي في شخص الإخوان المسلمين)، على الرغم من أن قواته المسلحة تضمنت وحدات سلفية، وغالباً ما ارتبط حفتر نفسه بمختلف الزعماء الدينيين الأصوليين. علاوة على ذلك، حافظ الكرملين لفترة طويلة جداً على خطوط اتصال مفتوحة مع حماس في فلسطين أو حزب الله في لبنان، على الرغم من أن الحركتين من الأصوليين الإسلاميين، ولن ننسى جمهورية إيران الإسلامية، حيث يصعب تصنيفها كدولة علمانية.. إلخ.

من المنطقي أن نفترض أن نفوذ روسيا في شرق البحر المتوسط ​​- على المدى المتوسط – ​​سيعتمد إلى حد كبير على قدرة موسكو أو عدم قدرتها على الوصول إلى الجماعات الإسلامية المعتدلة في المنطقة، دون الانغماس في أكثر التيارات المتطرفة للأصولية الإسلامية.

الوجود أم السيطرة؟

تدرك القيادة الروسية – تماماً – حقيقة أن إجمالي الموارد الاقتصادية والعسكرية والسياسية، التي يمكن لروسيا استثمارها في شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​محدودة نوعاً ما، مقارنة بحقيقة أن بعض اللاعبين الدوليين الآخرين، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (أيضاً الصين، وحتى دول الخليج)، قادرة على جلبها إلى المنطقة. لذلك، في معظم النزاعات والأزمات الإقليمية، تطمح موسكو بنشاط إلى مكان على طاولة المفاوضات، لكن ليس لديها هدف واضح، يتمثل في رئاسة أي اجتماع تشارك فيه من جانب واحد. هذا هو الحال مع عملية السلام في الشرق الأوسط، حيث تظل روسيا واحدة من الأبطال الدائمين لصيغة الرباعية (الصين، أمريكا، الاتحاد الأوروبي، روسيا). وهذا ينطبق أيضاً على ليبيا وأفغانستان.

المشاركة، وليس السيطرة، تمنح روسيا صوتاً في العديد من القضايا الإقليمية المهمة، دون تحميل موسكو المسؤولية الكاملة عن كل ما يحدث في هذه الزاوية أو تلك من المنطقة. تبدو هذه السياسة معقولة ومبررة، بالنظر إلى العجز الحالي في الموارد في السياسة الخارجية الروسية.

تبرز سوريا كاستثناء ملحوظ للقاعدة العامة. على الرغم من أن موسكو يجب أن تنسق – بطريقة ما – أنشطتها العسكرية في هذا البلد مع طهران وأنقرة، كجزء من عملية أستانا متعددة الأطراف، في سوريا. يبدو أن القيادة الروسية تركز على السيطرة على الصراع قدر الإمكان، وليس فقط كونها واحدة من المهتمين المشاركين في الأحداث الجارية.

تعد خوارزمية تصرفات موسكو هذه، فريدة من نوعها لمنطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. غالباً ما يتم التشكيك في فعاليتها على المدى الطويل. يجادل العديد من الخبراء في روسيا بأنه من الناحية العملية، غالباً ما يتلاعب بشار الأسد بنجاح بالكرملين، بدلاً من الخضوع للسيطرة الروسية. من الصعب أن نتخيل أن روسيا في المستقبل القريب ستستخدم “النموذج السوري” القائم لبناء علاقاتها مع أي دولة أخرى في شرق المتوسط.

الاقتصاد أم الجغرافيا السياسية؟

على الرغم من أن  القادة الروس يحبون التحدث عن بلادهم باعتبارها “مصدّراً للأمن” عالمياً، تود روسيا في معظم الحالات أن ترى لتعاملها مع دول شرق البحر المتوسط ​​جدوى اقتصادية. على سبيل المثال، تتمتع موسكو بعلاقات اقتصادية قوية مع تركيا، وهو ما يفسر جزئياً – على الأقل – المرونة الرائعة للعلاقات السياسية الروسية التركية، على الرغم من العديد من القضايا المهمة التي تختلف فيها موسكو باستمرار مع أنقرة. من بين الدول العربية في المنطقة، تركز روسيا بشكل أساسي على شركاء أثرياء نسبياً مثل العراق ومصر والجزائر، الذين يمكن أن يصبحوا مستهلكين قيّمين للمعدات العسكرية الروسية، والصادرات الزراعية، أو يمكن أن يوفروا فرصاً مربحة لشركات الطاقة، والبنية التحتية الروسية. يمكن القول أن مشاركة روسيا في ليبيا كانت تستند أساساً إلى اعتبارات اقتصادية: ليبيا- دولة غنية قادرة على دفع تكاليف وارداتها ومشاريعها التنموية بالعملة الصعبة.

هنا مرة أخرى، تبرز سوريا كاستثناء ملحوظ. بينما تعمل موسكو جاهدة للحصول على بعض العوائد الاقتصادية المهمة – على الأقل – من استثماراتها السياسية والعسكرية في البلاد، يبدو أن هذا الهدف ليس من السهل تحقيقه، خاصة الآن، بعد أن تعرضت دمشق لعقوبات اقتصادية عديدة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يقدّر الخبراء إجمالي الإنفاق السنوي لروسيا في سوريا بنحو 1-2 مليار دولار، وهي تكلفة ليست باهظة بالنسبة للكرملين. ومع ذلك، من الصعب تخيل أن المشاركة الروسية في سوريا، ستتحول إلى مشروع قابل للتطبيق اقتصادياً في المستقبل القريب. بالنظر إلى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة داخل البلاد، وحقيقة أن الجمهور الروسي يركّز بشكل متزايد على الأجندة المحلية، يبدو ذلك منطقياً أن روسيا ستواصل في المستقبل القريب إعطاء الأولوية لمصالحها الاقتصادية على الطموحات الجيوسياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط. قد يجعل هذا النهج موسكو أكثر تقبلاً للشراكات المحتملة مع اللاعبين الخارجيين، المستعدين لتكملة المشاركة السياسية والعسكرية مع روسيا، بموارد اقتصادية ومالية لا يملكها الكرملين تحت تصرفه.

مشاركة الدولة  أم “القطاع الخاص”؟

تشتهر روسيا في علاقاتها الدولية باعتمادها على مؤسسات الدولة، وكذلك تعتمد قيادة البلاد بشكل كبير على دبلوماسية القمة، والاتفاقيات الملزمة قانونياً بين الدول، والتفاعل المكثف بين البيروقراطيين، الذين يمثلون الوزارات المختلفة والجهات الحكومية الأخرى.

أما الجهات الفاعلة غير الحكومية – من القطاع الخاص، ومن قطاع المجتمع المدني – يتوقع القادة الروس عموماً أن تتبع هذه الجهات الفاعلة الاتفاقيات الحكومية، وتعمل بما يتماشى مع سياسات الحكومة العامة.

يمكن أن يكون هذا النهج فعّالاً بشكل خاص حين العمل مع الأنظمة الاستبدادية والمركزية سياسياً، التي تحاول السيطرة بطريقة أو بأخرى على مؤسسات القطاع الخاص، ومؤسسات المجتمع المدني على أراضيها.

للأسف، فإن العلاقات الثنائية بين الدول، والمعتمدة على مؤسسات الدولة، أكثر تقدماً بكثير من أي تفاعل اجتماعي وإنساني يتم إجراءه على مستوى اللاعبين غير الحكوميين. مع ذلك، تحاول موسكو – مؤخراً – تنويع مجموعة أدوات السياسة الخارجية في المنطقة، مما يسمح للمجموعات والمنظمات الخاصة وشبه الخاصة، بلعب دور أكثر بروزاً واستقلالية.

وفقاً للعديد من الخبراء، اتخذت القيادة الروسية في ليبيا قراراً استراتيجياً، بوضع جزء كبير من مصالحها في هذا البلد تحت إدارة شركات عسكرية خاصة (ما يسمى بـ “مجموعة فاغنر”). تم استخدام مخطط مماثل، وإن كان على نطاق أصغر، من قبل موسكو في شمال سوريا (في منطقة دير الزور). يُقال إن هذا التحول يسمح للكرملين بأن ينأى بنفسه عن بعض الأنشطة عالية الخطورة للجماعات الخاصة، دون أن يفقد السيطرة الشاملة على عمليات تلك المجموعات الخاصة.

شخصيات إسلامية بارزة من روسيا – وأبرزها رمضان قديروف – تُدلي الآن بتصريحات قوية حول التطورات في المنطقة، وقد تتبع سياساتها الخاصة في أماكن مثل سوريا، أو حتى أفغانستان. ليس من الواضح إلى أي مدى تم الاتفاق على هذه البيانات والسياسات مع وزارة الخارجية الروسية، أو الوكالات الفيدرالية الأخرى.

العمل مع الجميع أم مع شريك واحد؟

تتمثل إحدى المزايا النسبية التي تتمتع بها روسيا، في شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​في قدرتها على الحفاظ على علاقات بناءة مع أطراف متضاربة في النزاعات الإقليمية: مع السنة والشيعة، الإيرانيين والسعوديين، الإسرائيليين والفلسطينيين، الأتراك والأكراد، الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، وهلم جرا.

من خلال العمل مع جميع أطراف النزاعات، تحافظ موسكو على تنويع محفظتها الاستثمارية السياسية، وتتوقع الحصول على مكاسب سياسية من أي نتيجة محتملة لنزاع معين. علاوة على ذلك، فإن هذا الموقف الفريد يمنح موسكو أسباباً للادعاء بأنها “وسيط نزيه” – على الأقل في بعض المواقف.

يجب أن يلاحظ أيضاً أن الكرملين يمكنه دائماً الاستفادة من الإمكانات الكبيرة المتاحة له من المتخصصين الروس المؤهلين تأهيلاً عالياً في المنطقة، مع معرفة متعمقة لمختلف البلدان، والمجموعات العرقية والدينية، والأحزاب والحركات السياسية. وهذا يساعد موسكو على تجنب بعض الأخطاء التي يرتكبها – غالباً – لاعبون غير إقليميون آخرون، يعملون في شرق البحر الأبيض المتوسط.

ومع ذلك، يصبح من الصعب الحفاظ على موقف الوسيط العادل والنزيه مع تصاعد الصراع، ويزيد المتحاربون من المخاطر، ويطالبون بمزيد من المساعدة العسكرية، أو الدعم السياسي من موسكو. على سبيل المثال، ربما تكون الشراكة الوثيقة مع بشار الأسد في سوريا، قد عرّضت بالفعل علاقات روسيا الودية طويلة الأمد مع الأكراد السوريين للخطر، وأصبحت الشراكة الروسية الإيرانية في سوريا – تقريباً – العامل الرئيسي الذي يعقّد العلاقات الروسية الإسرائيلية. إن المحاولات المستمرة للحفاظ على موقف “مسافة متساوية” من أطراف النزاع، يمكن في – ظل ظروف معينة – أن تقوض مصداقية روسيا على كلا الجانبين، وقد تسبّب شكاوى واستياء من التناقض الروسي المزعوم، وعدم الصدق، وحتى السخرية السياسية.

تلخيصاً لهذه النظرة العامة الموجزة، تجدر الإشارة إلى أن فن موازنة مجموعة من أهداف السياسة الخارجية، وأدوات السياسة الخارجية، والعلاقات مع العديد من الشركاء الإقليميين في شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​يتطلب نهجاً محسوباً للغاية، ومضبوطاً بدقة لكل منطقة بحد ذاتها من السياسة الروسية في المنطقة.

حتى الآن، تمكنت القيادة الروسية من إبقاء المخاطر المرتبطة بهذا التوازن تحت السيطرة. ومع ذلك، فإن الطريق أمام موسكو وعر إلى حد ما.

ستعتمد الكثير من الديناميكيات الإقليمية، على عوامل لا تعتمد بشكل مباشر على روسيا: على توازن القوى المتغير بين القوى الإقليمية، وعلى نجاحات وإخفاقات جهود البلدان الفردية في بناء دولتها، وكذلك على مستوى وخصائص مشاركة اللاعبين الرئيسيين غير الإقليميين في شؤون المنطقة، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين.

يمكن الافتراض أن العقد المقبل من الوجود الروسي في شرق البحر الأبيض المتوسط، ​​سيكون أكثر صعوبة من العقد الماضي، رغم أنه من الصعب تخيل وضع قد يجبر موسكو على مغادرة المنطقة، أو تقليص وجودها فيها بشكل جذري. على الأرجح، ستحتفظ روسيا بمكانتها، كواحدة من أكثر اللاعبين الخارجيين نشاطاً وتأثيراً في المنطقة.

…………………………………………………….

آندريه كورتونوف.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

الرابط الأصلي للمقال

زر الذهاب إلى الأعلى