ترجمات

ما الذي حققته الدبلوماسية الروسية بعد مرور ثلاثين عاماً على انهيار الاتحاد السوفيتي

عند انهيار الاتحاد السوفيتي، لم يفكر أحد – بجدية – في الآفاق طويلة المدى للسياسة الخارجية الروسية، لأنه -على الأقل- في نهاية عام 1991، بدت نهاية التفكك السوفيتي غير واضحة، لكن إمكانية إعادة انشاء دولة واحدة على أنقاض الاتحاد السوفيتي لم يكن بالأمر المستحيل.

من ناحية أخرى – في تلك اللحظة التاريخية – توقّع الكثيرون أن انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة  سيترتب عليه تحوّلات جذرية في العلاقات الدولية ككل، وسيدخل العالم مرحلة جوهرية جديدة من التطور الذي كان من المستحيل بعد ذلك التنبؤ بقوانينها.

مع مرور الوقت أصبح من الواضح أكثر فأكثر، أن الاتحاد السوفيتي أصبح شيئاً من التاريخ، بينما لم يتغير بقية العالم كثيراً، كان على روسيا الجديدة أن تلعب في هذا العالم بشكل أساسي وفقاً لقواعد القوة القديمة، بقية العلاقات الدولية – في الغالب – هي لعبة بين عدد قليل من القوى الرائدة، ولم تفقد القوة العسكرية دورها المركزي في السياسة العالمية، ولا توجد حكومة عالمية تبدو في الأفق المنظور، لا يزال العالم مكاناً خطيراً، وغير مريح إلى حد ما، حيث لا تحصل على ما تستحقه، ولكن على ما تستطيع أن تساومه مع الآخرين.

بناءً على هذه الحقائق، سنحاول تسليط الضوء على أهم خمسة انجازات لروسيا على المسرح العالمي، وإبراز خمس مشاكل لايزال على روسيا العمل عليها.

الإنجازات

1-  الحفاظ على التكافؤ النووي

قبل 30 عاماً كانت هناك شكوك كبيرة في العالم، حول قدرة موسكو على الحفاظ على التكافؤ مع واشنطن في التسلح الاستراتيجي، وبدا أن روسيا ستضطر إلى الانتقال إلى (الدوري الثاني) للنادي النووي، والانتقال إلى استراتيجية (الحد الأدنى من الاحتواء)، على غرار بريطانيا وفرنسا، ومع ذلك تم الحفاظ على التكافؤ النووي، وظلت روسيا قوة عظمى نووية، التي فرضت على واشنطن التنسيق الثنائي مع روسيا للحد من التسلح.

2-  تحديث القوات المسلحة

 في نهاية 1991 كان الجيش السوفيتي مثله مثل الاتحاد السوفيتي في حالة تفكّك، أظهرت عمليات مكافحة الإرهاب في شمال القوقاز في التسعينات، وجود مشاكل بنيوية في تدريب وتجهيز القوات المسلحة الروسية.

ساعدت الجهود التي بُذلت في الفترة اللاحقة على زيادة فعالية هذه القوات، وخلق إمكانية القيام بعمليات حفظ السلام، وإرساء الأسس، لإبراز القوة العسكرية الروسية على مسافة كبيرة من الحدود الوطنية، والدليل الواضح على قدرات موسكو الجديدة هو العملية العسكرية في سوريا، والتي بدأت عام 2015.

3-  مكانة خاصة في التسلسل الهرمي العالمي

تمكّنت روسيا من الاحتفاظ بمكانة الاتحاد السوفيتي، كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ونتيجة لذلك استخدمت الدبلوماسية الروسية – بنشاط – حق النقض في اجتماعات مجلس الأمن.

لفترة طويلة (من 1997 – إلى 2014)، كانت موسكو عضواً في مجموعة الثمانية، وانضمت روسيا إلى منتدى التعاون الاقتصادي لأسياد المحيط الهادي، وشاركت في جميع قمم مجموعة العشرين، وأصبحت أحد مؤسسي منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس.

على المسار الأوروبي، تظلّ موسكو أحد الأعضاء البارزين في منظمة الأمن والتعاون، في أوروبا ومجلس أوروبا.

هذا الوضع في المنظمات والمؤسسات المتعددة الأطراف، يجعل من الممكن تعزيز الوجود السياسي الروسي في مناطق مختلفة من العالم.

4-  العلاقات مع الصين

على مدى ثلاثة عقود، استطاعت روسيا بناء نموذج جديد للعلاقات مع الصين، بما في ذلك إزالة السلاح من الحدود المشتركة، وحل القضايا الإقليمية المتبقية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري والتقني والإنساني النشط، كذلك تنسيق التوجهات المهمة للسياسة الخارجية للبلدين.

في الوقت نفسه لم تجد موسكو نفسها بعدُ في موقع (الشريك الصغير) لبكين، ولم تفوّت فرصة بناء شراكات ثنائية مع خصوم الصين في آسيا، إن التعاون مع الصين يعني معاملة الدولة الأكثر تفضيلاً في الوصول الى أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد العالمي، وإلى العديد من المجالات الواعدة للتطور التكنولوجي.

5-  مكانة في الأسواق

كان الاتحاد السوفيتي شبه معزول عن الاقتصاد العالمي، بصرف النظر عن التكامل الاقتصادي مع حلفائه من المعسكر الاشتراكي، على مدار ثلاثين عاماً تمكّنت روسيا من احتلال مكانة بارزة في العديد من الأسواق العالمية المهمة، بما في ذلك أسواق الهيدروكربون والطاقة النووية، وتجارة الأسلحة، وعدد من أسواق المواد الغذائية.

اكتسبت الشركات الروسية الكبيرة، مكانة دولية هامة، ودخلت نخبة الأعمال التجارية العالمية في صناعاتها، ما يسمح لروسيا بالمشاركة – بنشاط – في تحديد قواعد اللعبة، والتأثير على الأسعار، في أسواقها ذات الأولوية (على سبيل المثال في أسواق النفط العالمية، في أطار منظمة أوبيك).

المشاكل

1- الصراعات مع الجيران

 بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كان هناك أمل في أن تكون روسيا محاطة بـ (حزام حسن الجوار)، أي أن علاقات موسكو مع عواصم الجمهوريات السوفيتية السابقة ستكون ودية، أو على الأقل شراكة؛ علاوة على ذلك، تم وضع خطط للتكامل الاقتصادي العميق، في جزء كبير من الفضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك في الوقت الحالي، تمتلك روسيا علاقات معقدة ومتضاربة أحياناً، مع العديد من جيرانها، بما في ذلك دول البلطيق، وأوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا جزئياً.

ظهرت مجموعة كاملة من الدول والأقاليم غير المعترف بها، أو المعترف بها جزئياً، على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق (بريدستورفيا _ جمهوريا دنباس الشعبية، وجمهوريا لوغانسك الشعبية –أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية)، التي تضطر موسكو إلى تقديم الدعم المالي والسياسي لها، والتي تخلف صعوبات إضافية في الحوار بين روسيا وجيرانها.

2- المواجهة مع الغرب

بعد شهر عسل قصير، بدأت علاقات روسيا مع شركائها الغربيين تتدهور، بشكل لا رجوع فيه. وفي النتيجة تم إنهاء التفاعل بين روسيا وحلف الشمال الأطلسي تقريباً، وتم تقليص معظم برامج التعاون بين روسيا والاتحاد الأوروبي. أصبحت روسيا هدفاً للعديد من العقوبات الغربية، وبدأت حروب رد السفراء بين موسكو والعواصم الغربية.

وكما تغير الانطباع المهيمن لروسيا في الغرب إلى الأسوأ، وبات يُنظر إلى روسيا على أنها دولة استبدادية وعدوانية، ومعادية للغرب، ولا يمكن التنبؤ بسياستها.

3- الخروج من عمليات العولمة

على الرغم من أن روسيا قد احتلت مكانة بارزة في بعض أسواق السلع الهامة بالنسبة لها، إلا أن الحصة الإجمالية للبلاد في التجارة العالمية لاتزال ضئيلة، لاتزال البلاد مستبعدة من سلاسل الإنتاج والتكنولوجيا العالمية الهامة، حيث تبدو بنية الصادرات الروسية قديمة. فشلت موسكو في وضع نفسها كواحدة من المراكز المالية العالمية الرائدة. كما أنها لم تصبح واحدة من الدول الرائدة في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، علاوة على ذلك طيلة الثلاثين عاماً تقريباً، تجاوز تهريب رؤوس الأموال إلى خارج روسيا ما ورد إليها بشكل كبير.

إن ظهور الأنظمة التكنولوجية الجديدة مع تطور الاقتصاد العالمي (على سبيل المثال في إطار ما يسمى انتقال الطاقة) يطرح تحديات معقدة بالنسبة لروسيا.

4- فشل في تعبئة الشتات

لاتزال روسيا ليست فقط مانحاً مالياً، ولكن أيضاً مانحاً فكرياً لبقية العالم، وفقاً للتقديرات الأكثر تحفظاً، خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، غادر البلاد عدة ملايين من المواطنين – معظمهم من الشباب، وذوي المؤهلات العالية، والحيوية، والطموح. يوجد في العديد من بلدان العالم اليوم الكثير من الناطقين باللغة  الروسية، والناجحين في أعمالهم، من الصعب إيقاف تدفق المهاجرين من روسيا في الوقت الحالي، ولكن حتى الآن لم تنجح روسيا حتى في إقامة تعاون فعّال مع الشتات الروسي.

5-التقيّد بـ (القوة الناعمة)

تمتلك روسيا إمكانات كبيرة بما يسمّى (القوة الناعمة)، لكن هذه الإمكانات أبعد ما تكون عن الاستخدام الأمثل، غالباً ما يكون الجمهور المستهدف من قبل موسكو في الخارج، هم ممثلين للجيل الأكبر سناً، بالإضافة إلى المهيمنين السياسيين من اليمين أو اليسار. يتناقص مجال استخدام اللغة الروسية بشكل مطرد حتى على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، ناهيك عن الخارج البعيد. في سياق استمرار تفاقم المواجهة مع الغرب، تزداد صعوبة الحفاظ على العلاقات التعليمية والعلمية والإنسانية مع الشركاء في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية.

…………………………………………………….

تأليف: آندريه كورتونوف.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى