ترجمات

من نظرية “النسق العالمي” إلى “الحضارة الديمقراطية”

بقلم: باري جيلز

ترجمة: نورهات حفطارو – باحث ومترجم في مركز الفرات للدراسات

ملاحظة: نُشرت هذه المقالة في كتاب “إنشاء الحياة الحرة – حوارات مع أوجالان” المنشورة في عام 2020 من مطبعة PM .

أَوَدُّ الاسْتهلال بالقول لكم ؛ بأنني أشعر وكأني أراسل صديقاً ورفيقاً ، وجدتُ في نتاجه مصدراً جديداً للأفكار العظيمة والملهمة.

تُوفِّي صديقي العزيز آندريه غوندر فرانك منذ ما يقارب أربعة عشر سنويًا. أعلم بأنه كان ليتوق – مثلي – إلى اللقاء بكم ومناقشة الأفكار. كان ليتأثر على نحو عميق ويشعر بسعادة غامرة مثلي ؛ لو علم أنك قرأت عملنا عن النسق العالمي وأزماته ، دوراته وإيقاعاته التاريخية المُعَمِّرةِ خمسةَ آلافِ عام. سأحاول أن أنقل إليكم في غيابه – بروح الحوار – توسعاً إضافياً في بعض جوانب تحليلاته وتحليلاتنا المشتركة للنسق العالمي.

أعلم أنكم تشاطروننا الرأي في رفض المفاهيم المركزية الأوروبية في التنمية والتاريخ العالمي ، وتتبنّون بطريقة مماثلة منظورًا بديلاً “إنسانيّ المحور”. وأعلم أنكم أخذتم على عاتقكم التحليل والتنظير التاريخي للمساهمة في إيجاد نمط عميق جديد للتحرر الإنساني. نتاجكم عن العصرانية الديمقراطية ، والأمة الديمقراطية والحضارة الديمقراطية يفوق إلى حدٍ بعيد ، ما كنا قادرين على التعبير عنه بوضوح. ولكني على يقين ؛ بأن غوندر فرانك ، كان ليرّحب بحماس شديد ، مثلي ، بهذه المفاهيم ومناقشتها بالتفصيل.

إن منظورنا المشترك “ما بعد المركزية الأوروبية” يتضمن الاعتراف بأن “صعود الغرب” للهيمنة العالمية حدث “متأخراً” للغاية في تاريخ النسق العالمي وبأن هيمنتها مؤقتة في النهاية.  أنت تسعى، مثلنا، إلى إحداث تحوليّ جديد (براكسيس) قادر على بناء عالم عادل وديمقراطي بشكل راديكاليّ. ولكن عملكم قد ذهب أبعد بكثير من عملنا في العمق والإلهام؛ حيث شرحتهم الأشكال الجديدة للممارسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية الراديكالية التي تشكّل مجتمع الحرية الإنسانية والتناغم الإيكولوجي الجديد.

إن القدر الأعظم من عمل فرانك، والذي قد لا تكون على دراية به، يحلل “الأزمة العالمية المتمثلة في تراكم رأس المال” من منظور تاريخي ومعاصر. لقد تطور تفكيره بالتوازي مع الآخرين وحواره معهم؛ بما في ذلك صديقه سمير أمين (والذي التقى به في باريس سنة 1968) وجيوفاني أريجي (والذي قدم لأول مرة منهج “النسق العالمي” لفرانك) وإيمانويل فالرشتاين؛ الذي قام في السبعينيات مع فرانك بتطوير التحليلات المعروفة بنظرية “الأنساق العالمية”. وكانت هذه العملية من نواحٍ عديدة عملية عضوية موجهة من نقد الكولونيالية ووقائع ما بعد الاستقلال؛ مؤدية في حالة فرانك إلى ظهور “نظرية التبعية” Dependency Theory التي تدعو إلى الانفصال الجذري عن التنمية الرأسمالية القومية عَبْر ثورة اشتراكية.

توقع فرانك في عام 1974 أن تستند استجابة العالم الثالث للأزمة العالمية، إلى زيادة الصادرات إلى الأسواق العالمية؛ حيث سيتم تنظيم هذا التحول إلى “النمو القائم على التصدير” في ظل أنظمة قومية استبدادية (بما في ذلك في شرق آسيا وأميركا اللاتينية)، في حين يؤدي حتماً إلى تكديس ديون هائلة لا يمكن تحملها؛ أي أزمة الديون و”زيادة التبعية الخارجية إلى حد كبير”.

وحلل فرانك اتجاهات العولمة، بما في ذلك الاستعاضة عن الاستثمار الإنتاجي بالمضاربة المالية، وما يترتب على ذلك من زيادة في الاختلالات بين المناطق والبلدان في النظام الاقتصادي العالمي. وجادل أن تزايد التحول نحو نظام السوق والخصخصة كرد فعل تجاه الأزمة، من شأنه أن يزيد من تفاقم الفقر واللامساواة، والتهميش، مما يفضي إلى ضغوط هائلة على الثقافة السياسية الديمقراطية وصعود كلٍ من الحركات الاجتماعية التقدمية والرجعية على حد سواء، من أجل ملأ الفراغ الذي نتج عن عَجْز الدولة القومية، وعدم رغبتها في إحداث تغيير جذري. إن عمل فرانك بشأن الأزمة، إلى جانب عملنا المشترك فيما بعد بشأن نظرية النسق العالمي World System Theory، أفضت إلى تصوّر ما بعد قومي Post-national(ist) حول أنماط التنمية (العالمية). وأعتقد أنكم تشاطروننا بعضاً من هذا التصور.

أنا أعلم أنكم قرأتم عملنا المشترك “النسق العالمي: خمسمائة عام أو خمسة آلاف عام؟” (1). ويرسم هذا العمل الخطوط العريضة للدورات الطويلة لتطورات النسق العالمي، التي تعود إلى قرون من الزمن، بل إلى آلاف السنين. ويشمل مفاهيم رئيسة، مثل: أصول النسق العالمي المعمرة خمسة آلاف عام، ومركزية “تراكم رأس المال” في النسق العالمي، ودورات المرحلة B/A الممتدة خمسمائة عام في النسق العالمي، ونمط الهيمنة/المنافسة في النسق العالمي، وبنية المركز-الأطراف/مناطق شبه الطرف النائية في النسق العالمي، وتناقض الاقتصاد/نظام الحكم في النسق العالمي ودورات “أزمات النسق العالمي”. ولا أستطيع أن أتناول بالتفصيل كل هذه المفاهيم هنا، ولكنني آمل أن نتمكن من اللقاء شخصياً ذات يوم وأن نناقشها بكامل تفاصيلها.

ولقد قادنا عملنا إلى الانفصال الجذري، ليس فقط عن تصور فالرشتاين للمنشأ الأوروبي للنسق العالمي (و”منشأ الرأسمالية”)، بل وأيضاً مع الاصطلاحات التأريخية الماركسية، مثل “أنماط الإنتاج” و”التحولات” بينها. وفي مفهومنا بصدد النسق العالمي، الذي أعتقد أنكم الآن تشاركونها من نواح كثيرة، نرى أن العديد من الأنساق الكبرى في تاريخ العالم تبدو وكأنها تتحول أو تستمر بالبقاء على الرغم من كل التغييرات الواضحة في نمط الإنتاج”. في عملي الأخير، كنت أعمل على تطوير تحليل للعلاقات التاريخية بين رأس المال والاقتصاد المحلي (Oikos) و”عدم التناسق الوجودي” في التاريخ. وانطلاقاً من هذه الرؤية، لا يمكن لرأس المال والاقتصاد المحلي التواجد في نفس المجال الاجتماعي والإقليمي في آن واحد. وذلك، لأن وجود وتكاثر رأس المال يتطلب تدمير الاقتصاد المحلي، من أجل خلق علاقات اجتماعية لاستغلال البشر، وغير البشر، والموارد الطبيعية للأرض التي تنتج بالتالي قيمة فائضة لرأس المال (وهو خط التحليل الذي شوهد لأول مرة في البيان الشيوعي ثم طور لاحقاً بواسطة روزا لوكسمبورج). وفي سياق تاريخي عميــق، فإن مهمتنا تتلخص في إعادة خلق الاقتصاد المحلي في مجتمع ما بعد الرأسمالية.

في عمل فرانك قبل الأخير، “الشرق يصعد ثانية-الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي”، والذي تم نشره بعنوان “الشرق يصعد ثانية – القرن التاسع عشر”، تحدى مرة أخرى النظرية السائدة حول “صعود الغرب” والدور المهيمن الذي تلعبه السوق والتجارة “الحرة”، في مقابل الهيمنة الفعلية للعنف والإمبريالية. وفي التحليل النهائي، نؤكد في منظورنا، أن النسق العالمي ككل هو الإطار الذي لا مفر منه للتحليل والممارسة على حد سواء، وأن التنمية العالمية لن تكون موحدة في جميع أنحاء العالم. إن التحولات في الميزة التنافسية (المؤقتة) (التي لا تتحقق دوماً بوسائل “السوق” غير القسرية) ووجود أو غياب “القوة المهيمنة”، هي أنماط تاريخية ثابتة، لا تزال تسيطر على التنمية طويلة الأمد في النسق العالمي. وفي مواجهة الاستبداد القومي والتدخل الإمبريالي وإرهاب الدولة في الشرق الأوسط، عملت أنت والشعب الشجاع في روج آفا، على بناء نموذج جديد، يجسد الديمقراطية الراديكالية، وحرية المرأة، ونظام الإدارة الذاتية، ويمهّد الطريق أمام بناء نوع جديد من الاقتصاد الأيكولوجي الاجتماعي.

وفي هذه الأوقات التي تشهد تسارعاً في تغيّر المناخ وتعميق الأزمات؛ كنتاج قرون من الإمبريالية والعقود القليلة الماضية من النيو لبرالية والدمار البيئي، أصبح نضالكم من أجل الحرية والسلام نضالنا، وطريقك منارة لملايين لا حصر لهم من الذين سيتبعون ذلك. شكراً لك أخي، شكراً لك.

 

باري جيلز: أستاذ دراسات التنمية في كلية العلوم الاجتماعية، جامعة هلسنكي، فنلندا. وقد شارك في تأسيس مجموعة نظرية الأنساق التاريخية العالمية في جمعية الدراسات الدولية في 1989 مع ديفيد ويلكنسون. وضمت هذه المجموعة، الراحل آندريه غوندر فرانك، الذي شاركه البروفيسور جيلز في كتابة، تحليلات جديدة لخمسة آلاف عام للنسق العالمي. البروفيسور جيلز، هو مؤسس ورئيس تحرير مجلةGlobalizations  وزميل في الأكاديمية العالمية للفنون والعلوم. وهو حائز على جائزة James N. Rosenau  من جمعية الدراسات الدولية لعام 2019 في مجال أبحاث العولمة.

 

ملاحظات

  1. آندريه غوندر فرانك وباري جيلز ، “النسق العالمي: خمسمائة عام أو خمسة آلاف عام؟” (لندن: روتليدج ، 1993).
  2. آندريه غوندر فرانك ، “الشرق يصعد ثانية-الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي” (بركلي: مطبعة جامعة كاليفورنيا ، 1998) ؛ آندريه غوندر فرانك ، الشرق يصعد ثانية-القرن التاسع عشر: الاقتصاد الكوكبي في العصر الآسيوي المستمر (لندن: روتليدج ، 2013)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى