دراسات

الكاوس كحالة اجتماعية

مقدمة

زامن جيلنا مرحلة عصيبة جداً، حيث يصفها البعض على أنّها مرحلة انتقالية، والبعض الآخر ينعتها بغير العادية كما يسميها هوفمان، وآخرون يصفونها بالكاوس، حيث البحث عن النظام والاستقرار في اللااستقرار واللانظام، والأغلبية الساحقة يُطلقون عليها تسمية من قبيل الفوضى (الفوضى الخلاقة، الفوضى العارمة، أو الفوضى البينية). إذا ما هي نوعية هذه الفوضى؟ وما هي أسبابها؟ وهل من أمثلة تاريخية مشابهة؟ وكيف تتحوّل نتائج الكاوس إلى أسباب بروز تحدّيات مستعصية؟ كيف يحدث فقدان القيم الاخلاقية في مرحلة الكاوس ليتحول إلى الصفة البارزة لهذه المرحلة؟ ما الاحتمالات التي يمكن أن تتبلور في مثل هذه الظروف؟ وكيف يمكن للإنسانية التملّص من الكاوس إلى بر الأمان بأقلّ الخسائر؟

طبعاً ولكي يسنح لنا إجراء تعريف دقيق لهذه الحالة وبالتالي لهذه المرحلة، والتي يدور حولها الكثير من الجدل والنقاشات، وإدراكها سيكون بداية التنصّل منها، لابدّ من البحث أولاً عن مفهوم ومعنى الكاوس.

 تعريف الكاوس

الكاوس: مصطلح استخدمه الإغريق القدامى بمعنى، الفراغ، الظلام الدامس، العمى، وفي اللغة الفرنسية يأتي بمعنى على حافة الهاوية(1).

أما المتداول العام والشائع لهذه الحالة فيُنعت بالفوضى، ولكن وبسبب استعمال مصطلح الفوضى بشكل واسع، يؤدي بنا إلى الكثير من المغالطات والتشويش على فهمنا للمرحلة، فمثلا المدرسة تعيش حالة الفوضى عندما يغيب عنها طاقمها الإداري، والمدينة تكون في حالة الفوضى عندما تغيب عنها مؤسّساتها الإدارية، ولكن الفوضى أو الكاوس الذي نحن بصدده ليس بمماثل لهذه الأمثلة التي أوردناها.

استعمل الكاوس بمعنى الفراغ في اللغة الإغريقية القديمة، وقد سمّى الإغريق القدامى اسم الربّة بالكاوس؛ أي كان لديهم “الربة كاوس” لقناعتهم أنّ الفراغ خلّاق، وكلّ شيء يأتي أو يُخلق من الفراغ الذي هو المادة التي لا شكل لها. إنّ قرينة الوجود – الفراغ بإمكانها أن تكون أكثر توضيحاً في هذه الحالة، حيث لا وجود دائم، لا فراغ دائم، إنّهما على علاقة عكسية، ولكنّهما متلازمان بذات الوقت، ينتهي الفراغ حيث يبدأ الوجود، وقد سمّيت في فيزياء الكوانتم هذه اللحظة بلحظات  كوانتوم، بمعنى لحظات الخلق.

هل للمجتمعات قابلية تحمّل حالة الفراغ؟  الفراغ من ماذا؟ وأيّ نوع من الفراغ المقصود هنا؟

يعتبر الكاوس من الناحية الاجتماعية محور هذا البحث، وقد كتب عنها الكثيرون، وهذه الدراسة تركّز على عدّة جوانب في هذا الموضوع.

أسباب ظهور الكاوس

بداية لابدّ أن نبحث عن أسباب ظهور الكاوس في عالمنا، حيث وضع سببين رئيسين لهذه الحالة:

1ـ الأزمة البنيوية.

2ـ الدوغمائيات الدينية.

إنّ النظام العالمي ومنذ نشوءه في القرن السادس عشر وإلى اليوم لم يخلُ من حالات الأزمة، ولأزماته عدّة أنواع؛ الأزمات الدورية: وهي أزمات مرحلية مؤقتة والطابع الأساسي لهذه الأزمة أنّ النظام وعن طريق بعض الإصلاحات أو الترقيعات والترميمات بإمكانه أن يتجاوزها.

الأزمة البنيوية: وهي التي تهمّنا في هذه الدراسة، والتي يسمّيها البعض بالأزمة طويلة الأمد. إنّ طابع هذه الأزمة هي أنّ تجاوزها غير ممكن أو حتى مستحيل، لا الإصلاحات ولا الترميمات مجدية. للنظم ككلّ شيء عمر محدّد، حيث يبدأ بمرحلة النشوء أو ما يسمّى بمرحلة الطفولة إلى مرحلة الازدهار والتوسّع؛ أي مرحلة النضج إلى مرحلة  الأزمة ومن ثم الانحدار والتبعثر.

بدأت هذه الأزمة منذ عام 1970م ومستمرّة ومازالت تتعاظم من دون إيجاد أيّ مخرج لها، سمّيت هذه الأزمة بالبنيوية، لأنّها أزمة شاملة في جميع مناحي الحياة.

أزمة النظام من الناحية السياسيّة

اعتمد النظام العالمي القائم في انتشاره –  ليصبح نظاماً عالمياً – على أساس تكثير وإكثار الدول القومية والأحزاب الكلاسيكية؛ التي هي نموذج مصغّر عن هذه الدول بهيكليتها ونظامها، والآن تعاني الدول القومية والأحزاب الكلاسيكيّة أزمات خانقة؛ ففقدت من خلالها جاذبيتها، حيث كانت في بداية نشوئها تمثّل آمال الشعوب في الحرية والعدالة أو هكذا كانت تعرّف ذاتها، ولكن ومع مرور الوقت بدا بأنّها هي المشكلة بحدّ ذاتها، ولا تحمل لشعوبها طموحاتهم في بناء حياة كريمة؛ مما أدى لظهور ردّات فعل عنيفة وضغوطات من الداخل لتجاوزها والعمل على انهيارها، وخير مثال على ذلك ما بدأ في العراق 2003 حيث شبّه المفكّر أوجلان حالة ما آل إليه وضع العراق بشكل عام ورئيسها بشكل خاص بوضع فرنسا في عهد لويس السادس عشر، وقال في هذا الخصوص (هل تعلم أمريكا أنّها وبقتلها لصدام حسين قد وضعت نهاية للدولة القومية، كما أعلنوا بداية نشوئها بقتل لويس السادس عشر)(2). ومن الخارج أيضا تعيش الدولة القومية ضغوطات جمّة، والسبب طبعاً أنّها أصبحت عائقاً أمام سيلان رأس المال التي تصطدم بالحدود وبيروقراطيات هذه الدول، ولذلك فقد وضع هذا النظام العالمي على أجنداته إسقاطها. إذ بات باني الدولة القومية يحاول هدمها أيضاً، ولكن بالفعل انهارت وتنهار الدولة القومية، ولم تعد بإمكانها تجييش شعوبها عن طريق شعاراتها الزائفة، ولكن ما هو البديل لها؟ هذا هو غير الواضح وأحد أسباب الكاوس.

أزمة النظام من الناحية الاجتماعية

إنّ هذا النظام خلق أزمة خانقة من الناحية الاجتماعية أيضاً، حيث رسّخ نفسه أساساً على خلق وبناء فرد أناني، نهم، غايته في الحياة الركض وراء الربح الأعظمي، وقد خدمته في ذلك  المناهج وعن طريق المناهج التدريسيّة، مما أدّى إلى ضرب وتفكيك المجتمعات، وخلق شعوب كالنمل كما وصفها نيتشه، فحتى مؤسّسة العائلة التي هي في الأساس لبنة هذا النظام، والمبنيّة على أساس ذكوري، وهي بالتالي نموذج مصغّر من النظام الذكوري ككلّ، وتعاني من أزمة جدية، وتواجه الاندثار والتبعثر بشكلها الكلاسيكيّ، ولذلك فكثرة ظاهرة الطلاق ما هي إلا دليل أزمة هذا النوع من العائلة، وتوجد ميول واضحة لدى الأجيال الصاعدة بتجاوز هذه المؤسّسة بشكلها التقليديّ، والتي لها تاريخ طويل، فبالتالي تجاوز هذه الأزمة أيضاً صعب للغاية.

الأزمة البيئية

إنّ الأزمة البيئية هي أيضا إحدى الأزمات التي ليس من الممكن تجاوزها، السبب الرئيس لهذه الأزمة هو أنّ النظام العالمي تعامل مع البيئة بذهنية التشيؤ أو بمنطق  المفعول به، وحاول جاهداً الحصول على كيفية تحكّم الإنسان (الفرد الأناني النهم أو الذات العاقلة) بالطبيعة والبيئة المحيطة به، مما أدى إلى خلق انقطاع كامل بين الإنسان وبيئته، إضافة إلى التلوّث وظاهرة الاحتباس الحراريّ الناتجة عن هذا التلوّث، والتي بدأت تهدّد حياة الإنسان، وممثلو هذا النظام يعقدون الكثير من القمم المناخية، ولكن دون جدوى، لأنّهم لا يتجرؤون على اتخاذ قرارات صارمة، كوضع الشمع الأحمر على العديد من المعامل أو المفاعلات النووية التي تسبّب هذا التلوّث.

وإضافة إلى الكثافة السكانية التي لا حلّ لها والتي تتعاظم كالتيهور وبشكل مخيف، والتي نتجت بالأساس لبحث النظام العالمي عن الأيدي العاملة الرخيصة، فهذا النظام اعتمد في نشوئه وتطوّره على السينات الثلاث (س/S) (سكس/Sex، سبورت/Sport، سينغ/Sing)، فمثلاً تُشير الإحصائيات أنّ نسبة الولادات الناتجة عن العلاقات الخارجة عن إطار الزواج الرسمي في ألمانيا تبلغ 60% (3) ، وقد أثبتت الكثير من البحوث أنّ كلّ مائة ألف عام كان يزداد عدد سكان الأرض مليار نسمة، ولكن توجد إحصائيات تؤكد أنّ عدد سكان كوكبنا منذ ظهور هاموسابيانس وإلى 1950م، كانت 2.6 مليارات نسمة ومن 1950 وإلى اليوم أصبح عدد سكان كوكبنا تقريباً 8 مليارات نسمة؛ أي خلال ستين عاماً ازداد لأضعاف الكثافة السكانية.

وإذا أخذنا بالحسبان الأزمة الاقتصادية الجامحة، وحتى العلم صار في أزمة خانقة، حيث كان هدف العلم – حتى ما قبل هذا النظام – رقيّ المجتمعات، خدمتها، وحلّ مشاكلها وتطويرها، ولكن في عهد النظام الرأسمالي احتكره النظام لمصالحه، تحت شعار (من ملك العلم ملك القوة)، وبذلك بدل أن يكون العلم حلّالاً للمشاكل أصبح خلّاقاً للمشاكل، ويستخدم للتسلّح أكثر من أيّ شيء آخر. تُشير هذه الدلالات إلى مدى فحولة وتعمق الأزمة التي  سميت بالأزمة البنيوية.

مدلولات الكاوس من الناحية الحياتية والعملية

إنّ انهيار الدولة القومية ابتداءً من العراق لها دلالات كثيرة؛ حيث إنّ العراق لا يُشبه أفغانستان أو باكستان أو أيّة دولة أخرى، العراق هو الرحم والجذر والنبع الأم للدين والدولة، فهذا النظام بدأ من العراق كأفعى صغيرة وتعاظمت إلى أن أصبح نظاماً عالمياً، واليوم وقد وصلت رأس الأفعى لتأكل من ذيلها وتنهي ذاتها على صخرة العراق، حيث منبعه الأم. شعب العراق هو أكثر الشعوب التي عاشت الدولة بكلّ تفاصيلها، من (الدولة السومرية إلى الأكادية، فالبابلية إلى الآشورية إلى الدولة المنارشية العباسيّة فالدولة الحديثة) إلى أن فقدت الثقة كاملة بالدولة ومؤسّساتها، وبالتالي تحطّمت كلّ القيم المتمحورة حولهما في ذهنية العراقيين.

إنّ ما فعلته أمريكا بتدخلها في العراق أزاح ذاك الرماد من على النار المتأجّجة في داخلهم، ليتوضّح مدى فقدانهم لهذه القيم، لأنّ ما تمخّض عن مداخلة أمريكا أنها لم تغيّر حكومة صدام حسين فقط، بل ساهمت في انهيار الدولة بكاملها، وكأنّها كانت على غور سحيق، فدولة العراق في العشر سنوات الأخيرة من عهد صدام  كانت قد بدأت النخر في عظامها، فالدولة التي تربّعت على عرش الذهنية البشرية منذ آلاف السنين كظلّ الله مقدسة، ومن يكون جزءاً من هذه الهيكلية المقدسة اللاهوتية أكثر من أن تكون علميّة، والقداسة صفة لاهوتية، من رئيس الدولة إلى أبسط موظّف كانوا يتمتّعون بالقداسة نفسها، وقد بدأت بالفقدان والاضمحلال.

أبرز مثال على ذلك (هو أنّه إن دخل شرطيّ إلى أيّ مكان، كان له كلمته، والناس تخاطبه بكلمة سيّدي، ولم يكن يحسّون بأيّ نقص من قيمتهم أو الشعور بأنّهم عبيد، والسبب أنّه كان يمثّل جزءاً من قداسة الدولة وليس فقط خوفهم من جبروتها، ولكن اليوم – بالرغم من أنّ الدول تملك أسلحة ومعدات أكثر جبروتا من السابق- فحتى أنّ طفلاً صغيراً بات لا ينزل إلى مستوى خطبة ممثلي النظام بذاك الأسلوب، والسبب الرئيس هو اضمحلال مفهوم القدسية والقيم المتمحورة حولها، فلذّة السلطة وصلت إلى عهد صدام في فترة  النصف الأول من حكمه، فملايين الناس كانوا يخرجون إلى الشوارع ليهتفوا باسمه.

كذلك كلّ الأباطرة والملوك، ففي كثير من الأحايين كان أحد الأباطرة مريضاً نفسياً عدا النخبة القليلة التي كان بإمكانها أن تفكّر بشكل مستقلّ، فباقي الشعب لم يستطع أن يفكّر أن إمبراطورهم مجنون، وكان يخرجون ليقولوا له: عاش الإمبراطور! والسبب وجود هالة القدسيّة التي كانت عائقاً أمام التحقّق والشكّ، لذلك فالموضوع لم يكن  متعلّقاً بشخص صدّام، بل كانت مرحلة، وهي ليست بقصيرة، حيث كان كلّ جزء من الهيكلية المقدسة مقدّساً، فما بالك برأس الهرم.

قبل أن تنهار الدولة بالمجمل والدولة القومية بشكل خاص، فقد بدأ انهيارها في ذهنية ودماغ الناس، حين فقدت ألوهيتها، ولم يعد للرُتب والصلاحيات والامتيازات أية قيمة تذكر، فالنُظُم تُبنى وتُفنى بداية في الأذهان، لذا فالعراق يمثّل مركز الكاوس في الشرق الأوسط. لماذا لم نتساءل يوماً عن سبب ليلة سقوط بغداد، وعن عدم مقاومة الشعب العراقيّ، كيف لنا أن نفسر ذلك؟ هل يجوز أن نربطها بعدم النخوة، وأهل العراق معروفون بتمرّدهم وعدم قبولهم للمحتلّين؟ ولكن متى يقاوم شعب ما؟ يقاومون حين يرون أنّ قيمهم التي ينظّمون بها حياتهم ويبنون عليها خيالاتهم ويأخذون من خيالهم قوة معنوياتهم، في خطر وأنّها تُهاجَم، فالعراقيون لم يكونوا مستعدّين بأن يقاوموا لأجل صدام حسين، الذي هو في الأساس منتهي الصلاحية في أذهانهم، وأيضاً لأجل الدولة التي لم تعُد تهمّهم والتي كانوا قد خبروا الكثير من أشكالها دون جدوى، إذاً لم يكن أهل العراق يملكون القيم التي تحفزّهم للمقاومة. لقد انهارت جميع القيم المتمحورة حول الدولة والدين ولم يتبلور البديل.

إذاً الكاوس هو الفراغ المتشكّل نتيجة انهيار وتحطّم القيم القديمة، وعدم تبلور قيم جديدة. إذاً هل بإمكان الكاوس أن يقضي على أحد الشعوب على سبيل المثال؟ ولمَ لا؟ حالة الكاوس خطيرة بالفعل، لأنّ الشعوب تكون في هذه الحالة عُرضة للكثير من التحدّيات، وأقرب مثال هو العراق حالياً، فبالرغم من دخول أمريكا العراق بجيشها الجرّار، لكنّها لم تستطع النصر فيها، والحكومة التي كانت قد حضّرتها أمريكا لم تستطع التربّع على عرش العراق، ومازال العراق يتخبّط، والسبّب هو عدم رضاهم وقبولهم بالموجود، والأهمّ هو عدم امتلاكهم البديل الناجع، هنا لا نقصد الأشخاص بل النظام البديل، إذاً والحال هذه، إلى أين سيتجه العراق فعلاً، أو اليمن أو حتى العرب بالمجمل؟ فهم أكثر شعوب المنطقة عيشاً في فوضى مناحي الحياة.

ربما تكون كلمة الانقراض غير صحيحة ونحن في القرن الحادي والعشرين، ولكن يجب أن لا ننسى أنّنا في القرن الحادي والعشرين رأينا الحفاة وأصحاب اللحى من أمثال داعش وأخواتها. لم يكن متوقّعاً، ولكنهم ظهروا! إذاً في الكاوس كلّ شيء وارد.

أمثلة على حقب الكاوس

الآن لنأتي بأمثلة من التاريخ، وذلك كي تتوضح الفكرة أكثر، وسنأخذ أيام إبراهيم الخليل مثالاً، حيث كان يعبد الأصنام والناس كانوا يملكون القناعة التامة بأنّ هذا الصنم هو إلههم الذي كانوا يصفونه بكلّ ما يتمنّونه لأنفسهم في الحياة، حيث يقولون إنّنا نستمطره، فيُمطرنا. إنّه إلهنا، إله الخير والبركة والخصوبة ووو…إلخ وما إلى ذلك من تمنياتهم، ولكن ومع مرور الوقت بدأت الشكوك تغمرهم حول حقيقة هذا الذي يعبدونه، ومتى بدأ الشكّ يصدّع الحقيقة المطلقة، إلى أن وصل بهم الأمر إلى حالة فقدان كلّ القيم المتمحورة حول ذاك الصنم (الدين)، حيث إنّ كتب التاريخ تروي أنّ الكثير من الذين كانوا يبنون آلهتهم من التمر يلتهمونها في حالة الجوع، إضافة إلى أنّ المعبد الذي يأوي الإله والذي كان يوماً من الأيام أفخر وأعظم مكان، تحوّل مع مرور الزمن إلى مكان يغمره الإهمال، ولم يعد يزوره الذين كانوا في السابق يتمنون بركته، لقد فقد المعبد هيبته وقدسيته في أذهانهم، وبالتالي فقد الناس الرادع، فذاك الإله كان رادعا لهم، والملاحظ أنّ فطنة إبراهيم الخليل كانت في قراءته الدقيقة لأذهان أقرانه، وعلم جيداً أنّ هؤلاء القوم لا يستطيعون أن يستمروا بالقيم المتحطّمة تلك، وبدأ مشواره بتحطيم الأصنام والإعلان عن إله غير مرئي وغير ملموس، له صفات مغايرة، وبذلك خلق للإنسانية قيم جديدة متمحورة حول الإله الجديد، يتربع على عرش السماوات، ولذلك يسمون دعوة إبراهيم الخليل بانطلاقة إبراهيم الخليل؛ لأنّه انطلق من حالة الفوضى إلى حالة تحكمها قيم جديدة، مما أدى الى نوع من الاستقرار والطمأنينة، واستمرّ هذا الوضع إلى مطلع الألفية الجديدة، حيث بدأ الإنسان يشكّك في  مفهوم القدسية والتقديس مرة أخرى.

أما حكاية قوم لوط التي تدّعي الأديان التوحيدية أنّ الله  لعن هؤلاء القوم وانقرضوا، ويضعون السبب الأساسي بإفراطهم وانغماسهم في اللاأخلاقيات، سوف نفهم مما كتب أنّهم القوم الذين أصرّوا و تعاندوا على الاستمرار بتنظيم حياتهم على أساس تلك القيم التي كانت منتهية الصلاحية ومهترئة في أذهانهم، وقد انتهى دورها في أن تكون الرادع الأخلاقي للإنسان، وبإمكاننا أن ننعتهم بأنهم كانوا قرابين للفوضى المعاشة حينذاك.

المثال الآخر الذي فيه وجه التشابه مع الحالة التي نعيشها هو الذي تبلور بعد ثورة التنوير والإصلاح الفلسفي في أوروبا، والتي كانت بنفس الوقت مرحلة ظهور المنهاج العلمي الذي قام بريادته رينه ديكارت وفرانسيس بيكون وروجر بيكون، وتحت اسم العلم هاجموا كافة قيم الشعوب، مما أدى إلى القضاء على القيم القديمة وعدم تبلور قيم جديدة.

والمثال الأخير، بإمكاننا أن نستقيه من الصين وتحت اسم الثورة الثقافية التي قام بها الحزب الشيوعي الصيني، قضوا فيه على كلّ القيم التاوية، ولم يخلقوا قيم جديدة، وإلى اليوم تشتكي الصين من هذه المشكلة.

فقدان القيم الاخلاقية الصفة البارزة للكاوس

قيمنا كانت متمحورة خلال الخمسة آلاف السنة الأخيرة حول الدين والدولة، واللتان هما بالأساس من نفس الرحم، فالدولة كما الدين وجود لاهوتي وبُناتها هم من رجال الدين؛ أي الرهبان، وقد تحطّم كلاهما في ذهن المجتمع وعلى صخرة العراق، وهذا هو المقصد من أنّ الدوغمائيات الدينية أحد أسباب الكاوس، وخاصة في الشرق الاوسط، والتي بدأت مع منع الإمام الغزالي للنقاش واغلاق باب الاجتهاد، حتى وصل إلى يومنا بأنّه لم يعد بإمكان المرء حتى أن يسأل ذاته سؤالاً عن الدين وعن الله، وأصبح الإنسان يخاف ذاته، فكلّما أصبح الشيء قاسياً وابتعد عن المرونة والنقاشات الحرّة تصير قابلية تحطّمه أسهل ووارداً أكثر، وهذا ما حصل في موضوع الدين، حيث لم يعد رادعاً للمنكر بين نسبة لا يُستهان بها من الناس.

هل الخوف من الله والطمع بالجنة هما الرادع للمرء في وقتنا الراهن؟ من الملاحظ في هذه المرحلة أنّ التشكيك في كلّ القيم والتعاليم الدينية أكثر من أيّ وقت مضى! حيث  يرى المرء في نفسه القوة كي يناقش كلّ شيء في هذا المجال ودون أيّ تحفظ. أليس ارتفاع نسبة الإلحاد والملحدين خاصة في بعض الدول العربية التي هي كعبة الدين- كالسعودية مثلاً – مؤشّر على بدء التحقّق والشك بالدين والشريعة؟

باختصار هذه هي الفوضى أو الكاوس الذي كثر عنها الحديث، حيث تحطم وانهيار القيم القديمة وعدم تبلور قيم وعادات وأعراف جديدة.

القيم هي التي تعطي للحياة المعنى والجاذبية وقوة الخيال المستقبلي، وتحديد معالِم الغد المتنظر، ومن الملاحظ بأنّ الناس يشكون من عدم وجود طعم للحياة بالرغم من إيجاد الكثير من الوسائل التي تسهّل الحياة، ويبحثون عن طعم وذوق الحياة فلا يجدونها إلا في الذكريات، ألا يحسّ المرء أنّه يعيش في حالة من المجهول؟ وفي بعض الأحيان يحسّ وكأنّه في الطوفان، وليس باستطاعته أن يعلم ما سيجري حتى في المستقبل القريب، ويعاني الكثيرون من ضعف قوة الخيال وبالتالي الضعف في الجانب المعنوي، لأنّ الخيال يُبنى بالضرورة على القيم التي يؤمن بها، والأنكى من كلّ ذلك هو الإحساس بفقدان الأخلاق والقيم الأخلاقية وهي الصفة البارزة للكاوس، فمثلا أتذكر أنّه في أعوام التسعينات كانت في هذه المنطقة ثقافة جمع التبرعات للحركات المناضلة من بين الشعب، ومن هذه التبرعات كثيراً ما كانت يجمع من الذهب وبمختلف أنواعه من الأحجام الكبيرة وإلى الصغيرة منها، ويتم وضعها عند أية عائلة دون الشك أبداً أنهم يمكن أن يفتحوا ذاك الكيس, ولكن الآن من يأتمن وضع مبلغ من المال عند العائلة نفسها, فأضعف الإيمان سوف يقول في نفسه: لماذا يبقى هذا المبلغ هكذا سوف استثمره إلى أن يُطلب مني، فهو يتجرأ أن يستثمرها دون علم صاحبها، لماذا؟ لأنّ القيم التي يؤمن بها الفرد تكون هي الرادع  الأخلاقي والضابط له، حيث الحرام والعيب كان له تأثير واضح على الحياة الاجتماعية للإنسان، أما إذا فقد المرء القيم الرادعة فلا يبقى رادع أخلاقي أيضاً.

أليس بإمكاننا أن نربط كثرة ظهور الحركات المتطرّفة في هذه المرحلة بهذه الحالة؟ ألا يمكننا أن نربط ظهور داعش وأمثالهم بأزمة النظام وحالة الكاوس التي خلقتها؟ حتى الهجرة التي عاشها الناس في الفترات الأخيرة سببها الكاوس، وعندما كان يُسأل لماذا المخاطرة في البحار؟ كان الجواب أنّني ميت وما يهمّني إن متّ غرقاً في البحر، لماذا كان يشعر بأنّه ميت؟  لأنّ فاقد القيم لا يحسّ بطعم الحياة، ولأنّ ما يُشعرنا بنشوة الحياة هي القيم التي نؤمن بها ونعيش لها.

خاتمة

يمكن لأحدهم أن يسأل وما الضير من تحطيم هذه القيم البالية التي  كانت متمحورة أساساً حول تعظيم وتقديس السلطة والصلاحيات وإزالة التقديس عن الدين والدولة، ويمكن أن تكون فرصة سانحة لظهور نظم أكثر اعتدالاً وأقرب إلى طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي يطمح إلى الحرية والمساواة، وبالفعل فبقدر المخاطر والمهالك التي يحملها الكاوس لنا، بنفس الوقت فهي مرحلة مثمرة أكثر من أيّ وقت مضى، وهي شبيهة بحالة الرشيم، أي حالة ما قبل الخلق، حيث تقدّم فرصة وأرضية مناسبة لانبعاث مناهج جديدة تعيد للحياة معناها ورونقها، وخلق قيم جديدة متمحورة حول الفلسفة الأخلاقية، ولكن بشرط أن تكون لهذه المرحلة قوى ريادية، لها الجهوزية الكاملة، وقد قامت بتحليل صائب، وتملك توجّهات صحيحة لتجاوز هذه الحالة والانطلاق من الكاوس أو الفوضى، فالنصر سيكون حليف القوى التي تملك البديل من جميع النواحي.

هذه مراحل تحمل بين طياتها الكثير من الاحتمالات، والواضح أنّه وفي مثل هذه الأوقات، فإنّ الاحتمال الأنسب سيكون القيام بثورات عظيمة، حيث أنّ ظروف قيام الثورات كانت سانحة دائماً تحت ظلّ الأنظمة الاستبدادية من آلاف السنين؛ لأنّ حجج قيام الثورات هي عدمية العدالة والمساواة والاستغلال والنهب، وهذا ما كان موجوداً وبوفرة، ولكن ظروف انتصار الثورات لا تظهر دائماً، وحالة الكاوس هذه فرصة عظيمة لانتصار الثورات، حيث أنّ مصالح القوى العالمية والمهيمنة في تضارب، ولم تلد فرصة المساومة والوفاق على المصالح في هذه الفترة، فأصدقاء البارحة يمكن أن يكونوا أعداء اليوم وأعداء اليوم يمكن أن يتحوّلوا إلى أصدقاء في الغد القريب، وفي هكذا ظروف؛ أي انطلاقة تكون لها كوادر يملكون روح المسؤولية، وعلى دراية تامة بمهامهم وسوف تخلق تغيّراً جذرياً.

في كثير من الأحيان يتبادر إلى أذهاننا أنّه وفي مراحل المنعطفات التاريخية، وكأنّها قدر أن يقوم  شعب ما، بدور رياديّ لخلاص الإنسانية من هكذا أزمات، ففي بعض الأحيان لعبت القبيلة العبرية أو الشعب اليهودي هذا الدور، وفي بعض الأحايين لعب هذا الدور العرب، وكذا الغرب الأوربي لعب في مرحلة من المراحل هذا الدور الريادي، واليوم وقد شاءت الأقدار أن يكون هذا الدور منوطاً بالشعب الكرديّ، ليصبح سفينة ويأخذ بالإنسانية إلى بر الأمان، فحالة الثورة ووجود البديل الناجع متمركز اليوم في كردستان, والشعب الكردي له توجّهات الخلاص من الكاوس أكثر من أي شعب آخر, وبدأ بخلق قيمه ذاتياً, بعيداً عن الدين والدولة، لا أقول هذا بهدف الدعاية، بل هي حقيقة وواقع، وهي مسؤولية تاريخية ملقاة على عاتق الكرد، ونحاول أن نعمل على بناء نظام يأخذ من الطاقة المتدفقة أو السيّالة أساساً لها؛ أي نظام قابل للتطوّر الدائم والمستديم، حيث مجتمع ديمقراطي وإيكولوجي حرّ.

وإن لم نكن ذوي كفاءة عند قيامنا بهذه الثورة أو نتأخر في تلبية متطلباتها في الوقت المناسب، فإنّ المجال سوف يسنح للاحتمال الآخر، الذي يمكن أن يظهر في هكذا وضع، وهو ظهور أنظمة ديكتاتورية وشوفينية أكثر فتكاً من هتلر وموسوليني وفرانكو وستالين، وستبدأ مرحلة تفتح الطريق أمام المجازر للشعوب الطامحة لنيل الحرية والعيش بكرامة.

ولكي لا تسنح الشعوب الفرصة أمام ظهور أنظمة الفتك لابدّ من إدراك المرحلة بشكل جيّد والعمل الدؤوب دون كلل أو ملل.


(1) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D8%A7%D9%88%D8%B3_(%D9%85%D9%8A%D8%AB%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7)

(2) مانيفستو الحضارة الديمقراطية – عبد الله أوجلان – المجلد الرابع: التاريخ الكوني والشرق الأوسط – ص 52

(3) ألمانيا تسجل أكبر عدد لأطفال مولودين خارج نطاق الزواج

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى