دراسات

الكردلوجيا.. والفولكلور الكردي

مقدّمة:

الاستشراق اصطلاحاً: حركة فكرية ثقافية نشأت في الغرب، وتعزَّز عملها في بداية القرن العشرين، تتمحور أهدافها العامة حول دراسة الشعوب في الشرق، تاريخها، ثقافاتها، آدابها ولغاتها، دياناتها، تراثها، فولكلورها، وعوالمها الزاخمة والمتنوعة، فلا تقتصر مجالات هذه الحركة – إذاً – على الدراسة في مجال محدّد، بل تشمل كلّ ما يتعلّق بتلك الشعوب، وذلك بهدف معرفة طبيعتها وفلسفتها ونظرتها للحياة، واستكشاف مواطن القوة والضعف فيها.

بمعنى آخر: دراسة البنى الثّقافية لشعوب الشّرق بعيون غربية، والمستشرقون بذلك هم مجموعة العلماء الغربيون الذين يقومون بتلك المهام على أرض الواقع، خلال سائل وأساليب عدة، مثل: تأليف وإصدار الكتب والموسوعات وإجراء الترجمات والتحقيقات حول المخطوطات الفولكلورية وإصدار المجلات، وكتابة التقارير والأبحاث وعقد المؤتمرات، وتأسيس دور النشر الاستشراقية ومراكز الأبحاث والأكاديميات، وفتح معاهد وكليات خاصة بهذا العلم.

وقد عرّف أحد المفكرين العرب الاستشراق على أنّه: “مجموع الدراسات التي يقوم بها أهل الغرب عن الشرق، الديانة والأعراف والثقافة، فقد أطلق على الدراسة التي تعنى بدراسة العالم الشرقي مصطلح الاستشراق، وأطلق على الغربيين الذين يقومون بالدراسة الاستشراقية أنهم جماعة من المؤرخين والكتاب الأجانب الذين خصّصوا جزءا من حياتهم في دراسة الشرق، وتتبع المواضيع التراثية والتاريخية والدينية، والاجتماعية له.”[1] وتعدُّ (الكردلوجيا) حقلاً من حقول الاستشراق، يشتمل على كلِّ ما يتناول المعرفة المتعلّقة بحياة الكرد وبلادهم، سواء كان البحث في نصّ أو ملحمة تراثية، أو نوع من أنواع الفنون الأدبية الشفاهية، ولعلم الكردلوجيا غايات وأهداف لا تختلف كثيراً عن الأهداف العامة للاستشراق.

– نشأة الاستشراق ودوافعه

إنَّ من الصعوبة بمكان تحديد تاريخ معين لنشأة هذا الاتجاه، أو اكتشاف دليل قاطع يدلُّ على ذلك، حيث اختلف الباحثون، وعبَّروا عن اجتهادات عدّة لبداية هذا النشاط، فهناك من رأى أن البدايات الأولى للاستشراق كانت مع ترجمة معاني (القران الكريم) إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن رأى أنها كانت في القرن العاشر الميلادي، بينما أرجع آخرون تلك البدايات إلى القرن التاسع عشر.  

وكما اختلف الباحثون حول ماهيّة الاستشراق، وتحديد تاريخ معين لبداياته، فقد اختلفوا – أيضاً – في تبيان أسبابه ودوافعه، فعلى الرغم من الطابع العلمي الذي صُبغ به في مراحله الأولى، إلا أنّ الاستشراق ظلّ مصدراً للكثير من التساؤلات، بخاصة حول النوايا السياسية والاستعمارية، وعرضة للانتقاد والتشكيك في مراميه ومقاصده ومصداقيته، بصفته وليد الصدام بين الحضارتين في الشرق والغرب، ونتاج التباين بينهما.

كما أثارت هذه الحركة قضايا علميّة كثيرة، وكانت بمثابة طريق ممهد يُوصل إلى معرفة الشرق معرفةً دقيقة، بمعنى أنّه لعب دوراً بارزاً في بناء الأيديولوجيات الاستعمارية فيه، ومن الأمثلة التي يمكن سوقها هنا، اعتماد (نابليون بونابرت) على جهود المستشرقين الفرنسيين، واستشارتهم في كلِّ الأمور أثناء حملته على مصر. وعلى الرغم من ذلك يمكن القول أنَّ هذه الظاهرة احتلت مكانة علمية، ولعبت دوراً هامّاً في القضايا الثقافية في الشرق، وبلورة الكثير من مفاهيم الفكر والأدب والفن. كما عدّت من الاتجاهات التي تركت بصماتها على معالم الحياة في الشرق من النواحي السياسية والاجتماعية والتعليمية.

لقد شكَّل هذا الاتجاه الفكري إحدى أهم القضايا جدلاً في إطار العلاقات الثقافية الفكرية بين الشرق والغرب، وجزءاً لا يتجزأ من قضية الصراع الحضاري بين الطرفين، وبالتالي أثَّرت في صياغة التصوّرات الغربية عن الشرق تأثيراً بالغاً، وفي تشكيل مواقف الغرب إزائه خلال قرون عدة، وبناءً على ذلك فإنّ أهم أهداف الاستشراق هي: الهدف السياسي الاستعماري، الهدف الديني العقدي، الهدف الاقتصادي التجاري، الهدف العلمي والفكري والثقافي.

– الكردلوجيا.. التاريخ والبدايات:

الكردلوجيا اصطلاح يجتمع عليه الباحثون كعلم نشأ في بلدان الغرب، يُعنى بدراسة الثقافات والعقائد والفنون والآداب المتعلّقة بالكرد، وما يمتلكونه من المعارف في مختلف المجالات، وما يتميزون به من الخصائص والسمات والقيم الحضارية، بهدف تقديم صورة واضحة وجليّة عن المجتمعات الكردية من الأوجه كافة.

ونظراً للأهمية الكبيرة لبلاد الكرد، فقد نشط هذا المجال أيما نشاط، وتأسّست – لذلك – معاهد علمية متخصِّصة، حتى أن بعضهم انصرفوا كلياً إلى البحث والتحرّي والتحقيق في ميادين هذا العلم، وعاشوا ردحاً طويلاً في المناطق الكردية، وتحدَّثوا باللهجات التي يتحدث بها سكان تلك المناطق. ويذهب بعض الدارسين الكرد إلى أن الموقع الجيوبوليتيكي لبلاد الكرد، وطموحات الغرب لإحتلال الشرق، بضمنه كردستان التي كانت مقسّمة بين العثمانيّن والصّفويّين، كانت من أبرز دوافع نشأة الكردلوجيا، التي ستفتح الآفاق واسعة إلى معرفة الشَّعب الكردي على الصّعد كافة، بغية تحقيق الغايات المذكورة.

  عن تاريخ هذا العلم، يرى الكاتب والباحث (جلال زنكبادي) أن جذوره ضاربة في عصور التاريخ القديم، إبان الحروب الناشبة بين الإمبراطوريتين اليونانية والفارسية، حيث كانت كردستان – آنذاك – مسرحاً لحرب هوجاء، ويرى بإمكانية اعتبار القائد اليوناني زينفون (430 /354 ق.م) الذي أورد ذكر الكردوخيين في كتابه (رجعة العشرة آلاف) مع المؤرخيْن: هيرودوت (484 /425 ق.م) وسترابون (64 /23 ق.م) اللذين أوردا – أيضاً – معلومات حول الكرد، من أقدم المستشرقين بشكل من الاشكال[2].

أما البدايات الفعلية للكردلوجية، فتشير الدراسات الى المستشرقين الإيطاليين، لكونهم أول من استكشفوا الكرد وبلادهم، وتُقسَّم مؤلفاتهم الى مخطوطة ومطبوعة، ولعل أول آثارهم المطبوعة تنسب الى الرحالة (ماركو بولو)، الذي وصف كردستان، وذكر أنَّ الكرد شعب محارب. وجاء من بعده آخرون زاروا كردستان ودوَّنوا ملاحظاتهم عن زياراتهم، مثل (مونتيكروتشي). ثم يأتي الألمان من حيث الاهتمام العلمي المبكر بالكرد بالدرجة الثانية، فقد زار الرحالة (يوهان اسكلتبرغر) كردستان، وطبع مشاهداته في كتاب عام 1473م. بعد ذلك تعدَّدت المصادر الأوربية التي تناولت الكرد، ووثَّقت دراساتها وأبحاثها حول التراث الكردي بشكل خاص.

  إلا أنَّ الاستشراق الروسي، والكمَّ الكبير من الدراسات حول الكرد، بدءاً بالقرن الثامن عشر،  وحتى الوقت الحاضر، كان منعطفاً كبيراً في تاريخ الكردلوجيا، حيث استقطب الشعب الكردي وبلاده، الرحالة والمؤرخين والمستشرقين الروس، خصوصاً أنَّ المسافة متقاربة من الناحية الجغرافية. وقد بلغت (الدراسات الكردلوجية الروسية) ذروتها من حيث الكمّ والنوع في العهد السوفيتي، حتى  وصف بالعصر الذهبي للكردلوجيا عموماً، وتم – آنذاك – تأسيس العديد من المعاهد والأقسام في الجامعات لتختصَّ بالدراسات الكردية، وخاصة في مدن: موسكو، لينينغراد (بطرسبورغ)، باكو، ويريفان.

لقد كتب الكردلوجيون الروس مئات الكتب والمخطوطات وغير ذلك عن الكرد وتراثه الزاخر باللغتين الكردية والروسية، ولا يزال عدد كبير من تلك المخطوطات حبيسة الجدران في مكتبات روسيا وجمهوريات ما وراء القفقاس: (أرمينيا وجورجيا وأذربيجان) والخزائن الفارسية والتركية والأروربية. كما يُذكر الاهتمام الكبير من قِبل بعض الباحثين الفرنسيين والبريطانيين في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، وكتابتهم لعشرات الكتب والدراسات التاريخية والاجتماعية والجغرافية حول الكرد وأهمية بلادهم. ويُشار – هنا – في بعض الدراسات إلى أنَّ أسباب هذا الاهتمام تعود إلى الأسباب السياسية والاستعمارية بالدرجة الأولى كما سبق، قبل أن تكون معرفية أو علمية. ويقسّم الدكتور (خليل جندي) المراحل التي مرَّ بها علم الكردلوجيا إلى ثلاث مراحل، وهي[3]:

– المرحلة الأولى: صراعات الدول الأوربية إثر الثورة الصّناعيّة؛ للإستيلاء على سوق كردستان، وقد إستمرّت حتى اندلاع الحرب العالميّة الأولى.

– المرحلة الثانية: الكولونياليّة – الإمبرياليّة، التي ابتدأت مع الحرب العالميّة الأولى، ومابرحت لحد الآن؛ للاستيلاء على ثروات كردستان، لاسيما البترول.

– المرحلة الثالثة: في عصر التكنولوجيا والعولمة بعد (11أيلول 2001) بالأخص، وهي تشمل سائر المعمورة، وليست كردستان حصراً.

– أهم الكردلوجيون والفولكلور الكردي

بات واضحاً مما سبق أنَّ أبرز المجالات الثقافية التي عمل فيها الكردلوجيون: تدوين أنواع الأدب الشَّعبي الكردي، وتحقيق الملاحم والحكايات الشعبية، والأشكال التراثية الأخرى للكرد. وقد برزت مجموعة كبيرة من المستشرقين والأكاديميين والباحثين من جنسيات مختلفة، ممن زاروا كردستان، وأقاموا في مدنها خلال مراحل تاريخية مختلفة، واهتمت بقضايا الثقافة والأدب واللغة الكردية بشكل عام، ودرسوا تراث الشعب الكردي وعاداته وتقاليده المتوارثة، ضمن دراساتهم التاريخية للمجتمع الكردي بشكل خاص، فبحثوا ونقَّبوا وجمعوا وصنَّفوا ودوَّنوا شهاداتهم في الفولكلور الكردي، وسجَّلوا الكثير من الملاحظات الميدانية بهذا الخصوص. وكان هؤلاء المستشرقين – بحسب شهادة أغلب الباحثين الكرد – أول من اهتموا بقضايا التراث الشَّعبي الكردي، بل أسبق من الكرد أنفسهم في دراسة وترجمة ونشر أشكال هذا التراث الإنساني، فاسهموا – بذلك – بدور بارز في حفظ أجراء هامة من التراث الشَّعبي (الشفاهي) الكردي الغزير، وصيانته ليكون مصدراً يُعتمد عليه أثناء دراساتهم عن الكرد، لدرجة أصبحت نتاجاتها مركزاً هاماً لهذه الدراسات. ولعل أهم ما قاموا بدراسته وجمعه: الأساطير والملاحم البطولية والقصص والحكايات والألغاز والأحاجي الشَّعبية والأمثال والأقوال السائرة.

  لقد أشار معظم العلماء الكردلوجيّين، إن لم نقل كلّهم، من خلال دراساتهم وكتبهم وترجماتهم إلى الوفرة والغنى اللامتناهي للتراث والفولكلور الكردي، والذي يبدو جلياً في تنوع الأشكال الأدبية الشفاهية، وأوضحوا جليّاً ارتباط هذا الفولكلور بحياة الشعب الكردي، بصفته المرآة التي تعكس فلسفة الشعب الكردي ونضاله الإنساني في سبيل تحقيق الأهداف السامية، إلى جانب أنه مصدر أساسيّ لتطور الأدب الكردي.

كما أشار الكثير من المختصّين إلى أنَّ الفولكلور الكردي ينتشر ليس بين الشعب الكردي فحسب، بل لدى شعوب الشرق المجاورة له، في إشارات واضحة إلى اقتباسها الكثير من أشكال هذا الفولكلور. يقول الأديب الراحل (خليل كالو): “يرى أغلب المستشرقين والباحثين في حقل تراث الشعوب بأنَّ التراث الشَّعبي الكردي من أغنى الآداب الشعبية المحافظة على طابعها الأصيل التي تعكس حقيقة هذا الشعب وطبيعة بلاده بالرغم من تعرضه للغزوات المتكررة والتقسيم ثقافياً وسياسياً والتي سعت مجملها إلى محو طابع الكردايتي عنه، ولكن استمراره بنفس الوتيرة والإحساس والإرادة دليل على الأصالة والتماسك”[4].

ومن أهم علماء الكردلوجيا، وأكثرهم موضوعية تجاه الكرد، وإسهاماً في التنقيب عن تراثهم الشَّعبي، يُذكر: القسّ الإيطالي موريتز كارتزوني، الذي وضع كتاباً معجمياً في قواعد اللغة الكردية- اللهجة الشمالية باللغة الإيطالية، عام 1787، وأيضاً: الكسندر ﮊابا، خاجاتور أبافيان، فلاديمير مينورسكي، باسيلي نيكيتين، يوسف أوربيلي، هـ. ماكاس، توماس بوا، روجيه ليسكو، مرغريت رودينكو، ش. س. موسيليان، سنتناول إسهامات أهمهم بشيء من الإسهاب:   

خاجاتور أبافيان: الباحث الأرمني الذي خَبِر حياة الكُرد، ونشر سلسلة مقالات عنهم بعنوان: الكرد، في مجلّة (القفقاس) التي كانت تصدر في مدينة تبليس، تناول فيها تاريخ الكرد وثقافتهم ولغتهم وتراثهم وحياتهم الاجتماعية في أواسط القرن التاسع عشر. وقد عُرف بكونه من أكثر المختصيِّن بالشأن الكردي اهتماماً باللغة والتراث والفولكلور الكردي، وإعجاباً بالملحمة الشَّعبية الكردية على وجه الخصوص.

فلاديمير فيودورفيج مينورسكي: /18771966/ لقد كان تأثير هذا الكردلوجي الروسي تأثيراً واضحاً في المؤرخين الكرد الرواد في النصف الأول من القرن العشرين، فحين شرع هؤلاء بتدوين تاريخ أمَّتهم في آواخر العشرينات، كانوا يعرفون – حق المعرفة – المكانة الرفيعة لمينورسكي، ويقدرون عالياً دراساته القيِّمة عن الكرد، حتى أنَّ بعضهم يعتقدون أنَّه كان أهم عالم كردولوجي في القرن العشرين. يقول الباحث جودت هوشيار: “لقد كان مينورسكي أول من أثبت بالشواهد التاريخية والدلائل اللغوية وبالتحليل العلمي والمنطقي أنَّ الكرد من أصل آري، وأنهم أحفاد الماد، وأن لغتهم لغةٌ مستقلة.. وتشكل هذه النظرية حجر الزاوية في دراسة التاريخ الكردي القديم.. لقد أحب مينورسكي كردستان وشعبها، وكرَّس جانباً كبيراً من نشاطه لدراسة المجتمع الكردي، وكان مشاركاً فعالاً في كافة الأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة خلال اثنى عشر عاماً من عمله الدبلوماسي فيها /19051917/ بالرغم من الظروف المحفوفة بالمصاعب.”[5]

لقد أولى (مينورسكي) التراث الكردي اهتماماً كبيراً، ونشر مجموعة ثمينة من النصوص التراثية الكردية في باريس عام 1950. كما يحتوي أرشيفه على مخطوطات قيِّمة، اقتناها خلال عمله بين الكرد في إيران وتركيا، إلى جانب رسائل متبادلة مع كبار المستشرقين والعلماء والشخصيات الكردية البارزة، ووثائق على جانب كبير من الأهمية تتعلق بالقضية الكردية.

باسيلي نيكيتين: من أشهر الأسماء الذين عملوا في هذا المجال، وصاحب نتاجات علمية كثيرة عن الشَّعب الكردي، تتسم جميعها بالعمق والشمولية والموضوعية. ويذهب الباحث جودت هوشيار: “إلى أنَّ مصير نيكيتين يشابه مصير مينورسكي، وهو أيضاً كردلوجي رفيع المستوى، وكلما جرى الحديث عن أحدهما لابد للمتتبع المنصف أن يشير الى جهود الآخر، فإن جهود أحدهما ونتاجاته مكملة للآخر.. إن مدرسة مينورسكي- نيكيتين التأريخية الكردلوجية، قد أزدهرت وقدَّمت عطاءات علمية متميزة وقيمة.. ولعل دراسته المنشورة في عام 1915 تحت عنوان: الكرد: ملاحظات وانطباعات، من أهم الوثائق المتعلقة بالكرد.” [6]

كان (نيكيتين) من أهم المتعلِّقين بالتراث الكردي والعاشقين له، لذا فقد كتب عنه الكثير، وأبرز خصائصه وسماته، وعمل على إنجاز بعض التحقيقات الهامة في الملاحم الشَّعبية الكردية. يقول (نيكيتين) عن التراث الكردي: “إنَّ الأدب الكردي هو الفولكلور الكردي في الدرجة الأولى، وإننا لا نجد في ذلك الفولكلور بقايا وتراث الأجداد في الماضي فحسب، بل إن ذلك الفولكلور يبرهن القدرة على الحياة التي تزيد يوماً بعد يوم، ذلك النتاج غني وتمنحه الطراوة والسعة، وليس في النادر أن نجد عناصر نتاج الشعوب الجارة تصب وتغني في قالب كردي”.[7]

يوسف ايكوروفيج أوربيلي: يعدُّ الكردلوجي الأرمني أوربيلي، الذي عاش بين عامي /18871961/ من أبرز علماء هذا الاختصاص، حيث أولى اللغة والثقافة الكردية عناية كبيرة، وأعدَّ كتاباً في قواعد اللغة الكردية ومعجماً كردياً- روسياً، وكان أول من أشار إلى مكانة الشاعر (أحمد خاني) مؤسس الأدب الكردي الكلاسيكي، وقال بأنه أحد أعظم شعراء الشرق في القرون الوسطى. يقول الباحث الكردي هوشيار: “يمكن اعتبار أوربيلى المؤسس الحقيقى للمدرسة اللينينغرادية السوفيتية في الكردلوجيا، ففي عام 1928 حين أرسلت السلطات الأرمنية عدداً من الطلبة الكرد الى جامعة الكادحين في لينينغراد، كان أوربيلى هو لولب القسم الذي افتتح في الجامعة المذكورة لتدريس اللغة الكردية وأثنوغرافيا الكرد.” [8] ويتابع بقوله: “إن أهم عمل قام به (أوربيلي) في مجال تطوير الكردلوجيا هو إشرافه على تأسيس قسم مستقل للكردلوجيا في معهد الاستشراق في لينينغراد عام 1958.. وقد شكلت هذه الخطوة نقطة تحوّل أساسية لتطوره في العهد السوفييتي، وضمَّ القسم أهم الكردلوجيين الروس والكرد السوفييت، الذين قدموا لاحقاً إنجازات علمية كبيرة. ويكفى أن نشير الى بعض الأسماء اللامعة من الذين عملوا في هذا القسم بإشراف أوربيلي: كوردييف، تسوكرمان، رودينكو، جليلي جليل، موسيليان، سميرنوفا، يوسوبوفا، ديمينتيفا.” [9]

نيكولاي مار: البروفسور واللغوي وعالم الآثار الروسي الجورجي الأصل، الذي قام بتسجيل العديد من النصوص الكردية الشفاهية، وفي مقدَّمتها النصوص الشعبية لملحمة: “مم وزين” لأحمد خاني، والتي ما زالت تحتفظ بقيمتها العلمية الكبيرة. يقول (مار) في إحدى مقالاته التي نشرها عام 1912: “إنَّ الحكايات والاغاني الكردية منتشرة بين الشعوب المجاورة مثل, الفرس والترك والارمن وغيرها من شعوب المنطقة.”

مرغريت رودينكو: يعدّها الكثير من الباحثين؛ الرائدة الحقيقية في مجال إحياء التراث الكردي، فقد بذلت جهوداً مضنية في جمع أجزاء مهمة من التراث الشَّعبي الكردي من أفواه الرواة في مناطق كرديّة من جمهوريات ما وراء القفقاس، وتحقيق أهم المخطوطات من المجموعة اللينينغرادية, وفق منهج علمي حديث، وترجمة ونشر نماذج شائقة من الحكايات والاساطير والقصص الكردية والأمثال السائرة الكردية إلى اللغة الروسية، فكانت إنجازاتها حافزاً قوياً للعديد من الباحثين الكرد لولوج ميدان تحقيق المخطوطات الكردية الموزعة على مكتبات العالم. لقد نشرت هذه الكردلوجيّة كتاباً بعنوان: (مجموعة الكسندر ژابا من المخطوطات الكردية) التي جمعها البولندي الأصل والروسي الجنسية الكسندر ژابا عام 1957 بمساعدة بعض الشخصيات الكردية، أهمهم (الملا محمود البايزيدي). وتتألف هذه المجموعة بحسب (رودينكو) من 54 مخطوطة منها 44 مخطوطة باللغة الكردية, وهذه المخطوطات تتضمن نتاجات في شتى جوانب الثقافة والفولكلور الكردي، وهي محفوظة في مكتبة سالتيكوف في بطرسبورغ، كما توجد مجموعة ثمينة أخرى من المخطوطات الكردية في مكتبة معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم في المدينة ذاتها. يقول جودت هوشيار: “الحديث عن المستشرقة الروسية رودينكو (19301976) يعني الحديث عن المخطوطات الكردية, فقد أفنت زهرة شبابها، وكرَّست كلّ طاقتها العلمية الخلاقة خلال اكثر من ربع قرن في سبيل الكشف عن ذخائر التراث الكردي المتمثلة في المخطوطات الكردية القديمة وتحقيقها وترجمتها الى اللغة الروسية ونشرها، وقد حققت في هذا المجال إنجازات باهرة.[10]

ش. س. موسيليان: لقد خدمت هذه الباحثة الأرمنية والصديقة الوفية للشعب الكردي, وبكلّ إخلاص وتفان؛ تاريخ الكرد وثقافتهم خدمات جليلة منذ الثمانينيات من القرن الماضي في قسم الدراسات الكردية بمعهد الاستشراق في بطرسبورغ، واستطاعت إنجاز العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية المهمة التي تتناول الكرد، وخصوصاً في التراث والفولكلور. تتحدّث موسيليان: عن الفلكلور الكردي بقولها: (إنَّه غنيٌ بتعدد جوانبه، وحتى يومنا هذا ثمة نتاجات كثيرة مُنتشرة بين الكرد، وهذه النتاجات الأدبية، المنتمية إلى مراحل مختلفة، تعكس خصائص الحياة المعيشية للأكراد، ونضالهم ضدَّ المعتدين والمضطهدين، وكذا حُبهم ووفاءهم للصديق، وطموحهم للحرية والسعادة. كما تعكس هذه النتاجات أفراح الإنسان الكردي البسيط، ومآسيه وأمانيه وأحلامه.” [11]

إجمال:   

إن إصطلاح الكردلوجيا هو إصطلاح واسع، اشتغل فيه الكثير من العلماء والباحثين ممن ينتمون إلى جنسيات محتلفة، وتناولوا مجالات الدراسات الكردية من الناحية العلمية، وسعوا إلى تحليل النصوص التراثية تحليلاً منصفاً، فكانت ثمرة عملهم إنجاز الكثير من الكتب والبحوث والدراسات، والترجمات في مجالات اللغة والأدب والتراث، وإخراج مجموعة من الآثار الأدبية الكلاسيكية إلى دائرة الضوء ودراستها وفق رؤية علمية، وقد كانت – قبلهم – قابعة في زاويا الإهمال والنسيان.

وعلى الرغم من دور (الكردلوجيا) الكبير في رسم السياسات الغربية إزاء -كردستان، وعمل الكثير من الكردلوجين كمستشارين وموظَّفين لدى سلطات بلدانهم، إلا أن نشاطهم وجهودهم في خدمة الأدب والتراث الكردي كانت جهوداً كبيرة ومفيدة، وكذلك دورهم في نشر التراث الأدبي الكردي. وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: هل يمكن – نحن الكرد – أن نعتمد على أعمالهم ومؤلفاتهم كمصادر للمعلومات عن أدبنا وتراثنا؟ وأن نستند إليها في إعادة كتابة تاريخنا، في حين أن الكثير من مؤلفات الكتّاب العرب الذين أرَّخوا للأدب العربي، كان فيها تشكيكاً واضحاً في نوايا المستشرقين، وفي أحيان أخرى الاستغناء عن كتاباتهم نهائياً. هنا يمكننا القول: إن وضع الكرد هو وضع مختلف – إلى حدّ كبير – عن غيرهم من الشعوب، إذ أنهم افتقدوا إلى المؤسسات العلمية والثقافية والتراثية لعقود طويلة، فأتى العمل الكردلوجي كنوع من التعويض عن ذلك النقص، ولعل ذلك ما يفسِّر النظرة الاعتدالية والإيجابية إلى حدّ كبير من قبل الكرد لهذا العلم. يقول (زنكبادي): من خلال تحليل العديد من النصوص والدراسات، فلا يمكن اعتبار كل ما كتبه الكردلوجيون عن الكرد صحيحاً أو إيجابياً بالضرورة، كما أن معظم النصوص لاتخلو من الاستثمار السياسي والأيديولوجي، إلا أن المعلومات والتوصيفات التي قدموها هي مفيدة للكرد بشكل عام.

إنَّ الإيجابيات التي أفرزتها (الكردلوجيا) كثيرة جداً، فقد صدرت – بفضلها – آلاف الكتب والدراسات والمقالات والتقارير الإعلاميّة وغيرها عن الكرد، وتعرَّفت شعوب العالم على الشعب الكردي وخصائصه، عبر الاشتغال على ترجمة تلك النتاجات إلى العديد من اللغات العالمية، إلا أنَّ أهمّ مغنم في هذا المضمار – كما يرى أغلب الباحثين الكرد – هو تأكيد العلماء الكردلوجيّون على استقلاليّة الكرد كأمّة من الأمم، وقوميّة لها تاريخها وهويّتها الثقافيّة، وإستقلاليّة لغتها الكرديّة عن اللغات الأخرى، وتعميق البحوث الخاصّة بالكرد وكردستان عموماً. يقول الدكتور نجاتي عبدالله: “مهما كانت مقاصد المستشرقين والكردلوجيين وغاياتهم؛ فقد تحوّلت الكردلوجيا – إلى حدّ ما – لصالح الكرد؛ لأنها سلّطت الضوء على زوايا وخبايا كثيرة معتمة في تاريخ الكرد؛ فقد أنقذ الكردلوجيّون الكثير من مخطوطاتنا ومدوّناتنا وصفحات تاريخنا من الفقدان والضياع، بلْ لولاهم؛ لكانت خبايا وزوايا تاريخ بلادنا أشدّ عتمة ممّا عليه الآن، ومع ذلك، لا يعني قولي هذا أن نحسب كلّ ما كتبوه وقالوه (رُقى) مباركة؛ فهناك كردلوجيّون تناولوا الكرد لمآرب خاصّة بهم.” [12]


– الهوامش والإحالات:

  • الاستشراق، تأليف: إدوارد سعيد، ترجمة: صبحي حديدي، ط/ 1 عام 1996، دار الفارس، القاهرة، جمهورية مصر العربية.
  • الكردلوجيا “موسوعة موجزة”، تأليف وترجمة الباحث الشاعر جلال زنكبادي، جامعه صلاح الدين، هولير عاصمة إقليم كردستان العراق، عام 2014.
  • المصدر السابق، ص9
  • الحِكم والأمثال الشَّعبية الكرديّة، تأليف المرحوم: خليل كالو، وهو كتاب يضمّ حوالي 2000 مَثَل مختار من التراث الأدبي الشَّعبي الكردي، المقدّمة.
  • منظمة بنت الرافدين، مينورسكي.. من الدبلوماسية الى الكردلوجيا، دراسة، جودت هوشيار.
  • المصدر السابق
  • الأكراد، تأليف: باسيل نيكيتين، دار الروائع، بيروت، بلا سنة طبع، ص 231233.
  • موقع مركز كلكامش للدراسات والبحوث الكردية، المستشرق يوسف أوربيلي والكردلوجيا، دراسة، جودت هوشيار- حزيران/ يونيو 2006
  • المصدر السابق
  • مرجريت رودينكو، عاشقة التراث الأدبي الكردي، جودت هوشيار ، الحوار المتمدن، العدد: 1217، حزيران/ يونيو 2005
  • من الفلكلور الكُردي، قصص غنائية، حكم وأمثال، د.محمد عبدو النجاري، مطبعة الكاتب العربي- دمشق، ص29.
  • الكردلوجيا: نشأتها، تطوّرها، دورها وآفاقها، دراسة، جلال زنكبادي- الوطن الجزائري، صحيفة إخبارية إلكترونية جزائرية شاملة، 2014.

 


– مراجع الدراسة:

– الاستشراق في الميزان، تأليف: منذر معاليقي، منشورات: المكتب الإسلامي، بيروت، ط/1 عام 1998.

– الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، تأليف الدكتور: مصطفى السباعي، منشورات: دار الوراق للنشر والتوزيع.

– الاستشراق تعريفه، مدارسه، آثاره، تأليف: الدكتور محمد فاروق النبهان، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة- إيسيسكو، عام 2012

– النقد الثقافي (قراءة في الأنساق الثقافية العربية)، تأليف: عبد الله محمد الغذامي، منشورات: الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، جمهورية مصر العربية، ط/1 عام 2010.

– إدوارد سعيد والمؤثرات الدينية للثقافة، تأليف: وليام هارت ترجمة: قصي أنور الذبيان، منشورات: هيئة أبو ظبي للتراث والثقافة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ط/1، عام 2011

– مفهوم الإستشراق في فكر إدوارد سعيد، هالة ماضوي، جامعة محمد بوضياف المسيلة، الجزائر، 2016.

– الكردلوجيا “موسوعة موجزة”، تأليف وترجمة الباحث والشاعر جلال زنكبادي، منشورات: جامعه صلاح الدين، هولير عاصمة إقليم كردستان العراق، 2014.

– ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ، تأليف: جودت هوشيار، مطبعة كاروان، أربيل، عام 2011.

– جلال زنكبادي في موسوعته الموجزة الكردلوجيا، دراسة، حيدر عمر- موقع إيلاف، يومية إلكترونية تصدر في لندن، أيلول/ سبتمبر 2015، الموقع الإلكتروني: /http://elaph.com

– مينورسكي.. من الدبلوماسية الى الكردلوجيا، دراسة، جودت هوشيار- بنت الرافدين، منظمة تهتم بالمرأة العراقية ونشاطاتها، الموقع الإلكتروني: /http://www.brob.org

– المستشرق يوسف أوربيلى والكردلوجيا، دراسة، جودت هوشيار- موقع مركز كلكامش للدراسات والبحوث الكردية، حزيران/ يونيو 2006 الموقع الإلكتروني: http://www.gilgamish.org/

– حول بعض التأويلات الخاطئة لمصطلح ال (كردلوجيا) دراسة، جودت هوشيار- الحوار المتمدن، العدد: 3575 كانون الأوّل/ ديسمبر 2011، الموقع الإلكتروني: /http://www.ahewar.org  

– عن الكردلوجيا في روسيا والإتحاد السوفياتي (مسرد)، ترجمة وإعداد: جلال زنكبادي، مدرات كرد، موقع ثقافي مستقل للدراسات والترجمة. الموقع الإلكتروني: http://www.medaratkurd.com/

– الكردلوجيا: نشأتها، تطوّرها، دورها وآفاقها، دراسة، جلال زنكبادي- الوطن الجزائري، صحيفة إخبارية إلكترونية جزائرية شاملة، 2014. الموقع الإلكتروني: http://www.elwatandz.com/

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى