دراسات

بزوغ تاريخانية “الأناركية” قولاً وفعلاً

ملخّص

في الحلقة الأولى من هذه الدراسة التحليلية المقتضبة، سوف يتم التركيز على السرد التاريخيّ الوصفيّ في انبثاق “الأناركية” من حيث المفهوم النظري والممارسة السياسية، وظهورها في عالم الحداثة الغربية والثورات التي انفجرت في ربوع أوروبا والعالم، في حين ستضمن الحلقة الثانية، إعادة تقويم الأناركية من زاوية النقد الذاتي عبر نافذة الثورة الروسية والإسبانية، وبعض التجارب المتفرّقة في العالم، بينما ستلقي الحلقة الثالثة الضوء على تجربة روج آفا، وما تنطوي على المفاهيم والممارسات اللاسلطويّة في ظلّ سياسة الحرب والسلم والتأسيس.

فالأناركية نقلَت إلى اللغة العربية بدلالات تكاد تصل إلى مستوى الابتذال والتقبيح، بحكم اختزال المصطلح خطأ في ثوب” الفوضوية”، ربما تماشياً مع مصالح النخب الأيديولوجية المنغلقة على ذاتها، بما فيهم اليساري التقليدي الماركسي، والمؤسّسات القوموية العربية، وما تتبعهما من مؤسّسات الترجمة ودور النشر الانتقائية، غير أنّ إعادة طرح اللاسلطوية أو ما يرادفه” الأناركية” في المنطقة وتحديداً في سوريا، بات ضرورةً ملحةً من حيث مقولة السلطة والحرية، كما أنّ بزوغ تجرية روج آفا- شمال سوريا في ظلّ صراع الحرب والثورة والتمأسس، لفت انتباه التيارات اللاسلطوية على المستوى الدولي، وهو ما يدفعنا إلى أن نفتح هذه الصفحة المنسيّة.

المقدمة

يحثّنا الفيلسوف الألماني الشهير لودفينغ فغتشتاين على الاحتراز من مصائد شبكة اللغة دون التفكير المنطوي على المعنى المقصود؛ فاللغة عند فغنشتاين استعارة تشبه أجزاء لعبة ما، تتبدّل معانيها مرة تلو الأخرى دون التقيّد بشكل محدّد وثابت، ظاهرة تشبه تسريب المياه من بين أصابع اليد، ولا يمكن التحقّق من الدال والمدلول إلاّ بالعودة والرجوع إلى اللوحة الواقعية المتجلية، وهذا ما يشكّل لنا مدخلاً كي نعيد طرح مفهوم الأناركية، والتي نقلت إلى اللغة العربية بدلالات تكاد تصل إلى مستوى الابتذال والتقبيح، بحكم اختزال المصطلح خطأ في ثوب” الفوضوية”، ربما تماشياً مع مصالح النخب الأيديولوجية المنغلقة على ذاتها، بما فيهم اليساري التقليدي الماركسي، والمؤسّسات القوموية العربية، وما تتبعهما من مؤسّسات الترجمة ودور النشر الانتقائية، غير أنّ إعادة طرح اللاسلطوية أو ما يرادفه” الأناركية” في المنطقة وتحديداً في سوريا، بات ضرورةً ملحةً من حيث مقولة السلطة والحرية، كما أنّ بزوغ تجرية روج آفا- شمال سوريا في ظلّ صراع الحرب والثورة والتمأسس، لفت انتباه التيارات اللاسلطوية على المستوى الدولي، وهو ما يدفعنا إلى أن نفتح هذه الصفحة المنسيّة.

إنارة المعنى: ما الأناركية؟

النسق الأناركي من حيث المفهوم يعود في تسميته إلى المفكر الفرنسي بيير جوزيف برودون الذي أراد استعمال معنى الأناركية أمام معارضيه، في وصف بنية الحكومات بأنّها هي من تفتعل الفوضى المدمّرة ضدّ النسيج الاجتماعي السليم، في حين تهدف الأناركية إلى إعادة النظام الطبيعي الوجودي، المبنيّ على الاستقرار والحرية والتضامن في مواجهة النظام المصطنع، الذي فرِض من الأعلى بفعل فئة متحكّمة في رأس السلطة والمال والعقيدة والثقافة السلطوية، وعليه، تدشّن الأناركية نظاما يدير ذاته بحريّة، وفقاً لاحتياجاته الحياتيّة الاقتصادية – السياسية – الاجتماعية والثقافية.

 

يتجلّى ذلك من خلال التوافق فيما بينها على أسس القرابة العضوية مثل: “الأسرة، العشيرة، القبيلة، الإثنية، الأمة”، أو الفئات الاجتماعية “النساء والرجال والشباب والكهول والأطفال” أو على أساس المهن الحديثة التي تخدم المصالح والاحتياجات المشتركة للمجتمع من الأمن والاقتصاد والحريّة، وتالياً تنظّم الأناركية نفسها ضمن الشكل التنظيميّ الإداريّ الحرّ تارة باسم الكونفدراليات الأفقية، وأخرى تحت أيّ كيان ينبع من ماهية الإدارة الذاتية الحرة، وذلك على مساحات جغرافية قد تُشرعن نفسها في القرى والمدن والأقاليم داخل الدول والإمبراطوريات القديمة والحديثة.

على ضوء هذه الخريطة الإدارية والنسقيّة، نتلمّس أنّ الأناركية تنطلق من فكرة رفض المركز الإداريّ والسلطويّ، وهي ترفض بذات الوقت من الناحية الأيديولوجية، ثنائيات كـ”الدولة المتمركزة – والدين السلطوي” وما تشملها العمليات الداخلية على غرار إصدار قيادة محتكرة تعليمات تعسفية في قمة هرم الجهاز البيروقراطي، مقابل الطاعة التي تقدّمها الفئة الخاضعة والموظّفة، كما ترفض مركزية الإنسان وتأليهه رداً على النزعة الذاتية الديكارتية، لأنّ كلّ أشكال السيطرة المركزية مرتبطة بجهاز تسلطيّ متشابك، وقد أدركت الأناركية عقم العلمانية بنقلهم موقع الإله من الكنيسة إلى داخل الدولة ومن ثم إلى السوق، حيث يكشف عن وجه هذا المستور المنظّر الروسي الأناركي بيتر كروبتكين في كتابه” الإله والدولة”. لذا فهي ترفض المقدّس داخل المؤسسات الإداريّة الدولتيّة، سواء الألوهية باسم الدين أو الدولة القومية أو السوق الحرة الرأسمالية، لأنّها تعتبر جزءاً من القمع التسلطيّ التراتبيّ على الوضع البشريّ المتساوي.

يشدّد المؤرخ الأناركي رودولف روكر في تفسير هذه المقاربة بأنّ:” الأناركية ليست نظاماً اجتماعياً ثابتاً ومنغلقاً على نفسه، بل هي اتجاه معيّن في التطوّر التاريخيّ للإنسانيّة التي على النقيض من جميع أشكال الوصاية الفكرية المرتبطة بالمؤسسات الدينية والحكومية، تسعى جاهدة للكشف عن جميع القوى الفرديّة والاجتماعيّة في الحياة وتحريرها، وذلك بالرغم من أنّ الحريّة ليست حالة مطلقة”.1

يجادل روكر في كتابه الأناركيّ الثوريّ دانيال غراين” الأناركية” بنفس الوقت بعدم تسرب الأفكار المثالية في بنية الأناركية:” ليست الحرية بالنسبة للأناركيّ مصطلحاً فلسفياً مثالياً، لكنّها فرصة حيوية وملموسة تسمح لكلّ إنسان أن يبلغ أكمل تطوّر لجميع قدراته ومواهبه التي وهبته الطبيعة إياه، وتحويل ذلك كلّه إلى رصيد اجتماعي وسياسيّ بعيدة عن وصايا الكنسية تقليدياً، وجهاز السلطة المتمركز في بنية الدولة القومية الحديثة”2 وكأنّ هذه المقاربة في القسم الأول من المقتبس المذكور يذكّرنا بمذهب الاستشراق الداخليّ في خاصيّة مفهوم الحرية عند الفلاسفة والمتصوّفين في الشرق الأوسط على غرار ماني والسهروردي وابن عربي.

في الحلقة الأولى من هذه الدراسة التحليلية المقتضبة، سوف يتم التركيز على السرد التاريخيّ الوصفيّ في انبثاق “الأناركية” من حيث المفهوم النظري والممارسة السياسية، وظهورها في عالم الحداثة الغربية والثورات التي انفجرت في ربوع أوروبا والعالم، في حين ستضمن الحلقة الثانية، إعادة تقويم الأناركية من زاوية النقد الذاتي عبر نافذة الثورة الروسية والإسبانية، وبعض التجارب المتفرّقة في العالم، بينما ستلقي الحلقة الثالثة الضوء على تجربة روج آفا، وما تنطوي على المفاهيم والممارسات اللاسلطويّة في ظلّ سياسة الحرب والسلم والتأسيس.

صعود الأناركية على مسرح التاريخ

مع دخول “عصر الثورات” في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، تعالت صيحات منظريّ اللاسلطوية وأدباءها وكتّابها في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا، وغيرها من الدول الأوربية التي شهدت موجة الثورات، تزامناً مع تشييد الدولة القومية والثورة الصناعية، على وقع المجتمع التقليديّ المنهار، واستلهامها الحركات الاجتماعية “الليبرتارية” الساعية إلى الحرية في مواجهة النسق الهرميّ السلطويّ الزائل والمتشكّل حديثاً، ليخفت سطوع نجمة اللاسلطوية مع إحكام الحركات الاشتراكية الماركسية والفاشية خلال الحربين العالمتين قبضتها على مقاليد السلطة في النصف الأول من القرن العشرين، إثر تكالب سياسة القمع المنظّم بحقّها من قبل الجماعات اليمينيّة واليساريّة الماركسيّة التقليديّة، وتصفية شخصيات بارزة ضمن صفوفها، والتنكيل بالآلاف من خيرة مناضليها الكبار في دهاليز السجون، حتى منهم من فضّل الانتحار داخل السجون، ومنهم من تعرض لمأساة النفي القسريّ، وكأنّ لوحة الرسام الإسباني بابلو بيكاسو الشهير” جورنيكا” اختزلت مصير الأفراد الأحرار في ظلّ مشهد قاتم منبثق من رحم الهولوكست والغولاغ والحرب الأهلية في إسبانيا، بمثابة محاكاة صامتة ترسم مرارة مناضلي التيار الأناركي المندفع نحو الحرية، وسط هذا البؤس والركام وخيبة الأمل، ظلّت جنازة المنظّر الروسي الآناركي بيتر كروبوتكين عام 1921 آخر تظاهرة ضخمة لمناصري اللاسلطوية والتي حفرت مكانتها رمزياً في الذاكرة السياسية الأناركية.

من المؤكد، أنّ هذه الممارسات قلّلت من حيوية الحركة التحريرية” الليبرتارية” اللاسلطوية، لكنّها لم تختف كلياً كفكر أخلاقي وسياسي عفوي، لتعاود الظهور على مسرح الأحداث أمام انتعاش رياح الحرية والتمرد والرفض والسخط على غرار ثورة الطلبة والشباب عام  1968 في فرنسا وصولاً إلى الاحتجاجات السنوية والمناسبات المتفرقة ضدّ هيمنة المنظمات الرأسمالية الدولية، وجميع أنماط المؤسّسات الهرمية.

الأناركية من حيث العلاقة الوجودية في تكوينها التاريخي، ترجع تاريخيّة ظهورها إلى ما قبل القرن التاسع عشر، وهي بذلك لا تزعم اكتشافها لنظرية جديدة، بل تجهد عبر عملية ثورية جذرية على استعادة بنية السلوك الإنساني، وثقافته المجتمعية في بداية تكوينه الفطري تبعاً، لما تناوله جان جاك روسو في تحليل الطبيعة الإنسانية المحضة. مؤخراً، انصب الاهتمام البحثيّ على إعادة تفكيك السرديات الميثولوجية الموغلة في قدم التاريخ، لا سيّما في موطن بلاد الرافدين “ميزبوتاميا” جنباً إلى جنب مع تفكيك الذاكرة الاجتماعية الشفوية عبر الأنثروبولوجيا الرمزيّة والبنيويّة، إضافة إلى بعض الحفريّات الأثرية التي تكشف لنا الأسرار والخفايا تلك المجتمعات التي يمكن تسميتها بـ “المجتمعات العضوية” والتي لم يتجذّر فيها النسق الهرميّ الصاعد مع صعود بناء السلطة والدولة والتمدّن.

في العموم، ازدهرت أفكار الأناركية داخل الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بصورة مرتسمة عمليّاً في القرن التاسع عشر في أوروبا كما أشير سابقا، وذلك ضمن سياق التمرّدات والانتفاضات وحركات الهرطقة الدينية الحاصلة في ذلك الوقت، ومن الممكن اعتبار يوتوبيا توماس مور وسان سيمون وغيرهم كبواعث محفّزة لهذه الحركات الثورية، فضلاً عن أنّ البيئة التنويرية في القرن الثامن عشر لعبت دوراً كبيراً في بلورة نسقهم الفكري، وقد يصادفنا التساؤل في هذا الغمار عن سرّ غياب بلورة هذا المذهب تاريخياً وسياسياً في العالم الشرق أوسطيّ رغم انتشار الكثير من التيارات الحداثوية إلى عوالمه السياسي والثقافي والاجتماعي مؤخراً.

من المستحسن أن نحيل الإجابة إلى المفكّر عبد الله أوجلان 3 هذه الإجابة المتكرّرة في مرافعاته, وهي تأكيده بعدم تراكم تاريخ السلطة والدولة والاستبداد في بنية الحضارة الغربية في مرحلة ظهور الحداثة السياسية المتجلّية في القرن الثامن عشر، بخلاف تاريخ استبداد الشرق الطويل منذ تربّع سومر على عرش التاريخ، كما أنّ الذاكرة الاجتماعية كانت لاتزال تحتفظ بشيء من الحياة التي سبقت الاستعباد السلطويّ والدولتيّ والتي عبّرت عنها المجتمعات المحليّة والفلاحين عبر تمرداتهم المتوالية ضد أشكال الحكم الديني والقومي الحديثي المتشكل، لاسيما تلك الثورات التي اندلعت في معظم أوروبا وأمريكا والمكسيك في أعوام 1789-1871، فتلك الثورات استطاعت إسقاط الكثير من الملوك وكسر سطوة الكنسية، وإنشاء نظام علماني وبرلمانيّ، لكن من جديد لم تفلت من توغّل صعود السلطة المركزيّة؛ أي نشوء الدول الحديثة المفرطة في المركزية والتي تصاعدت معها الرأسمالية الاستعمارية، مما مهّد السبيل أمام ولادة الاشتراكية الثورية المناهضة للرأسماليّة من داخل الحداثة الغربية، لتنقسم هذه الاشتراكيّة إلى معسكرين في الأممية الدولية الأولى (الاشتراكية الليبرتارية، كروبتكين ورفاقه – الاشتراكية السلطوية، كارل ماركس- أنجلس).

 خطوط فاصلة بين الماركسيّة والأناركيّة 

ثمة نقاط مشتركة بين الأهداف التي تجمع التيارين خلال صراعهما الطبقيّ وهذا جليّ، من أهمّها تغيير المجتمع عبر تأسيس نظام يستند على العدالة والمساواة، غير أنّ سبب الانشقاق الحاصل بينهما حسب ما ظهرت في مجادلات منظري الأناركية والماركسية هو ليونة الاشتراكية السلطوية تجاه الدولة، في حين كانت الأناركية أكثر وضوحاً في موقفها تجاه إزالة الدولة تحت مظلّة “لا أرباب ولا سادة”، وبذلك تجسّد نضال الأناركية التقليديّة عبر ثلاث محاور، حسب ما تشير أديباتهم: “الدولة – رأس المال – الكنيسة”.

فالأناركية التقليدية اتخذت مساحة أوسع من الاشتراكية السلطوية، التي اكتفت بخوض الصراع الطبقيّ، وقد استلهمتها منظمات الطبقة العاملة فيما بعد، وشخصيات ثورية استطاعت تطوير الفكر اللادولتي على غرار ميخائيل باكونين الأناركيّ الروسيّ الذي كان لاجئاً في ألمانيا، واعتبر إسكان فكرة وجود ضرورة الدولة في عقول الناس بمثابة وهم :”نظريّ يلتهم حياة الشعوب”.3 كذلك فسّر مالاتيستا4 هوية الدولة بأنّها لا :”تخلق الطاقات بقدر ما تبدّد وتشلّ وتدمّر قوى هائلة بأفعالها”.5

بقيت العقدة التي تخلط وتمزج بين الأناركية والاشتراكية السلطوية سائدة في الأوساط العامة، نظراً لاشتراكهما في غايات مماثلة، كإنهاء استغلال الإنسان للإنسان في النظام الرأسماليّ المدشن، وقد رد أدولف فيشر وهو أناركي معاصر في تحديد هذا التميّز القائم بقوله:” كلّ أناركيّ اشتراكيّ، لكن ليس بالضرورة أن يكون كلّ اشتراكيّ أناركي”.5 مما اضطر بعض الأناركيين المعاصرين إلى تبنّي مصطلح أكثر وضوحاً بغرض إزالة هذا الالتباس من خلال الإعلان عن أنفسهم اشتراكيين أو شيوعيين ليبرتاريين.

ويذهب البرفسور الأمريكي والناشط الأناركيّ السياسيّ ديفيد غروبر في وضع تمييز بين الماركسيّة والأناركيّة في مؤلّفه “الأناركية، والثورة والإنسان”. ففي حين يصف الماركسيّة بأنّها مالت لأن تكون خطاباً نظريّاً أو تحليلياً عن استراتيجية الثورة، مالت الأناركية أن تكون خطاباً أخلاقياً عن الممارسة الثورية.

وديفيد غروبر في كتابه “الأناركية والثورة في الإنسان” يوضّح من وحي تاريخ الثورة الروسية حجته: “إنّ الاشتراكيين السلطويين متفقون مع الليبرتاريين بأنّ الدولة رمز العبودية، لكن السلطويين يجدون أنّ ديكتاتوريتهم؛ أي ديكتاتورية البروليتاريا هي وحدها القادرة على الإتيان بالحريّة باعتبارها الصالحة والحامية والعالمة، مما أدّى بالليبرتاريين بتوجيه انتقادات لاذعة لها حول رؤيتهم الداعية إلى ضرورة الحفاظ على استمرارية الدولة بعد الثورة، ووفقا للأناركيين فهم لا يغيّرون إلا المسمّيات، والنقد الليبرتاري في مواجهة الاشتراكيّة السلطويّة سيثبت صحته في النتيجة التي توصلت إليها الثورة الروسية”.

وعطفا على ما ورد، لم يكن الصراع السياسيّ الشامل ضمن دائرة اهتمام الاشتراكية السلطويّة بصفة عامة، خاصة لو نستحضر تاريخ نشوء النقابات العماليّة أو الجمعيّات التي اقتصر نشاطها على الفئة العماليّة، ولم تشمل باقي الفئات والشرائح الاجتماعية، وكأنّهم قلبوا وبشكل معكوس الهرم الليبرالي الاقتصادي، حيث اشعلت ثورة معكوسة من خلال تبوّء دولة الديكتاتورية البروليتارية عبر صراعها الطبقي المتمثّل في الاقتصاد بأنّه المسار الأخير لتحديد التطور التاريخ البشري، في هذه الفرضية انعزل دورها ضمن سياق مناهضة الرأسمالية بمعناه الاقتصادي المعكوس.

بعبارة أخرى، انعزلت الاشتراكيّة السلطويّة عبر صراعها الطبقيّ في عملية قلب الأدوار أو المواقع ما بين الرأسمالية وبين الاشتراكيّة السلطويّة من حيث تبديل الدولة الرأسمالية بالدولة البروليتارية – تبديل هرمية الدولة من الأعلى إلى الأسفل إلى؛ من الأسفل إلى الأعلى.

المعروف أنّ الرسمالية انطلقت من وحدته التحليلية للمجتمع والاقتصاد والتاريخ بناء على نظريّات الاقتصاديين الإنكليز أمثال أدم سميث وريكاردو، بتركيز العملية الاقتصادية في هيئة “البنية التحتيّة” كرافعة للوجهة الأساسية للتطور التاريخي، وهي مقولة قبلت بها الاشتراكيّة السلطوية في قالب الاقتصادوية الاختزالية، على أنّها بمثابة الوجهة التاريخيّة لتطوّر المجتمعات، ويستوجب للبروليتارية الاستحواذ عليها، على الرغم من محاولات نقديّة جادة من قبل روزا لوكمسبورغ وانطوني غرامشي في تقويم هذا المسار التحليليّ الضيّق، لكن العدوى بقيت تفعل فعلتها في جسم الحركات الاجتماعية الثورية.

قصارى ما ذُكر أعلاه، تراجعت الحركة الأناركيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وانغلقت على نفسها لمدة طويلة، حيث انقطعت عن النقابات العماليّة بعد أن قام الديمقراطيون الاشتراكيون باحتكار النقابات، كذلك فإنّ الشعار الأناركيّ “الدعاية عبر الفعل” قد انعكست سلباً عليها، نتيجة انزلاق تيارات متناثرة إلى استخدام العنف والمتفجرات والاغتيالات، مما جعلها منعزلة عن الجماهير بحكم تثوير الدعاية المضادّة أيضاً بطبيعة الحال، لذلك كان لابدّ للحركة الأناركية مراجعة ذاتية شاملة من خلال التخليّ عن أعمال العنف أولاً، والتوجّه نحو الجماهير لنشر الأناركيّة بشكل أوسع، والعمل على اختراق النقابات العمالية التي احتكرها الديمقراطيون الاشتراكيون.

كل ذلك لم يكن طريقا مفروشاً بالورود، فالصراعات بين المذاهب الأناركية كانت شديدة التعقيد والتشابك والتضارب، وخصوصاً التناحر القائم بين الأناركية الليبرتاريّة – الأناركيّة السلطويّة” من حيث الاتفاق حول الإجراءات التي تحدّ من مركزيّة الدولة أو إلغائها كلياً، أو عن تلك النقاشات الحادة حول كيفية آلية تطبيق الكوميانات، والأهمّ؛ انتشار الانحرافات الايديولوجية في صميم الحركة الأناركيّة نفسها، فقد توجّس العقائديون من النقابات العماليّة واتهموها بالتطبيع مع المجتمع الرأسمالي، واعتبروا أنّ النقابات تقوقعت في المطالب والمكاسب الآنية وتحوّل مسارها الإداريّ نحو تمكين سلطة البيروقراطية داخل هياكلها الإدارية.


اقرأ أيضاً:  

إعادة تموقع مكانة الأناركيّة في الثورة الروسية والاسبانية

الأناركية في روج آفا… من إعادة التقويم إلى مزاولة الفعل السياسي


  • الأناركية من النظرية إلى التطبيق, دانيال غيران, ترجمة عومرية سلطاني, الطبعة الأولى (تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، 2014) ص 27.
  • المصدر نفسه, ص 27- 28.
  • ينظر بشكل عام مرافعات المفكّر عبد الله أوجلان، تجدها في الموقع الرسميّ، الأمة الديمقراطية لمؤلّفاته بتسع لغات (http://netewademokrat.info/ar/ar/)
  • الأناركية من النظرية إلى التطبيق, مصدر سابق, ص 64.
  • إيريكو مالاتيستا أناركي إيطالي عرف بجرأته وثوريته فقد قاد حركة التمرد في ريف إيطاليا ويعزى إليه تطبيقه لتكتيك الفعل المباشر كسبيل لتحقيق الفكرة الأناركية.
  • الأناركية من النظرية إلى التطبيق, مصدر سابق, ص 64.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى