دراسات

إعادة تموقع مكانة الأناركيّة في الثورة الروسية والاسبانية

يستشهد الكاتب الفرنسي الثوري دانيال غيران في كتابه الموسوم بـ “الأناركية” بجملة مؤثِّرة على لسان المنظِّر الأناركيّ الشهير بيتر كروبوتكين مأخوذة دلالتها من وحي الدروس المستخلصة من التجربة الثورية: “لقد علّمتهم ما كان يحتاجون إليه فعلاً، علّمتهم ما هي الأخطاء التي لا يجب ألا ترتكبها الثورة”. بهذه العبارة النقدية، سنتطرّق في الحلقة الثانية من هذه الدراسة البحثية إلى إعادة النظر في دور الحركة الأناركية ضمن سياق سرديّة تناول الثورة الروسية والإسبانية.

تعالت صيحات الأناركية من إعادة بناء نفسها نقدياً من رحم مرارة نتائج الثورة الروسية (أكتوبر 1917) والتي كانت عبارة عن ثورة شعبية بتوجيه أناركيّ، بل تمتدّ جذورها الصلبة منذ انتفاضة عام 1905 ضدّ السلطة القيصرية الروسية، وبسبب الضعف النسبيّ للأناركيين الروس، من حيث الإعداد الأيديولوجي والافتقار للتجانس في نظام السوفياتات “المجالس المحلية” والافتقار إلى التجربة الثوريّة في لحظة أفول النظام القديم، حال دون استغلالهم لذلك الوضع الاستثنائي لنشر أفكارهم على مستوى البناء السياسيّ والقانوني الذاتي على قاعدة (كلّ السلطة للسوفيتات وليس للحزب البلشفي)، مما عرّضته إلى هزيمة موجعة مؤلمة، عقب تكالب البلاشفة على ميراثهم الثوريّ وتوظيفهم ضمن استراتيجية السيطرة على جهاز الدولة.


اقرأ أيضاً: 

بزوغ تاريخانية “الأناركية” قولاً وفعلاً

الأناركية في روج آفا… من إعادة التقويم إلى مزاولة الفعل السياسي


بعد فقدان الفئات التحريريّة المستقلّة بذاتها “الأناركية” إدارتها الذاتية أخيراً في شكلها الدفاعي في موقعة كرونستاد على يد البلاشفة عام 1921، سارع الجهاز الدعائي لدى البلاشفة بترسيخ رواية حكر الثورة على الجيش الأحمر، وقيادتها الثورية السلطوية وذلك ببراعة ملتوية، وجعلها مكسباً حزبياً والتي تمثلت في زعامة الحزب الشيوعي الروسي عبر الرافعة البيروقراطية الحزبية المفرطة، وكذلك مراكمة الاقتصاد المركزيّ المدعوم من الحزب البلشفي، مع تقويض شروط الديمقراطية الحقّة من حرية التعبير والتنظيم الذاتي وخلق الفضاء الثوريّ الحرّ.

توطدت أركان هذا النموذج السلطويّ البلشفيّ في الأرض على نموذج “ديكتاتوريا البروليتاريا” الذي يفتقر إلى المساواة والحرية المنشودة، نظراً لهيمنة الأقليّة البلشفيّة الحزبيّة على مقاليد الحكم وصناعة القرار السياسيّ والاقتصاديّ مع تضخيم الجهاز البيروقراطي المرافق، بحيث تنوّعت أشكال القمع الشمولي مسنداً ظهره على تبريرات، تفيد بالضرورة الثورية السلطوية في المرحلة الأولى، وهذا ما رفضه بشدّة المنظِّر الأناركيّ الروسيّ الذي كان يعاصر لينين “كروبوتكين” واعتبره وهماً وضلالاً، فتشكيل أرستقراطية جديدة ستفتح دورة جديدة لاستغلال الناس، وإخضاعهم تحت يافطة تحقيق الأحلام المؤجّلة في باطن المستقبل المجهول، وهي رؤية يتقاسمها كروبوتكين مع مؤسِّس نظريّة الأناركية الفرنسيّ “جوزيف برودهون” في انتقاداته اللاذعة ضدّ المقاربة الشيوعية السلطوية بوصفها: “نظام حكوماتي وسلطويّ وديكتاتوري وشمولي، وهي شديدة المركزية في الهيمنة والتحكّم”.

من بين أكثر التصوّرات النقدية التي طرحها الأناركيّة في مواجهة الثورة الروسيّة، تجلّت في بنية النظام الشيوعي الروسي الذي استنسخ أجهزة السلطة والاحتكار من مورث السلطة القيصرية المنهارة، محاولاً أن يتقمص دور الطبقة البرجوازية في كنف الطبقة الاشتراكية، لا سيّما في مقاربتهم الدولة والسلطة، فهو لا يمنح الحرية الفرديّة المنسجمة مع الحريّة الجماعيّة داخل التنظيم التعاونيّ والمحليّ والكونفدراليّ الذاتيّ، بل تستجمع معظم القوى والتنظيمات المحليّة والإقليميّة، على غرار صيغة الدولة القوميّة البرجوازية التي ظهرت ملاحمها في الجمهورية الفرنسية الثالثة عقب القضاء على كومونة باريس.

يسعى باكونيين في هذه المرحلة أن يكشف المستور من حقيقة هذا الأمر حين يتبرأ من المقاربة الشيوعية السلطوية بطريقة راديكالية: “أبغض الشيوعية لأنّها تنفي الحرية أولاً، لا أستطيع تصور الإنسانية بدون الحرية، لست شيوعياً، لأنّ الشيوعية تمتصّ طاقات المجتمع لتسخّرها في خدمة الدولة، ومن ثم تؤدي إلى تمركز الملكية بأيدي الدولة، بينما ما أريده هو إلغاء الدولة، وأريد اقتلاعاً جذريّاً وأبديّاً لمبدأ السلطة الوصائي المرتبط بالدولة”.

ربما باكونين وهو يعارض بنية الدولة – الأمة في صيغة الشيوعيّة اللينينيّة، يكشف مدى حساسيته من نزعة الدولة القومويّة المعاصرة العنفيّة رغم عدم ذكره لهذا المصطلح لغوياً، غير أنّ مساعيه تنصبّ بصورة واضحة في هذا المسار، حيث يستطرد باكونين برفضه هذا الوحش الذي يبتلع القدرات الذاتية البشريّة حينما يعرفّ بأنّ: “هذه الدولة التي تتخذ الرعاية الأخلاقية والتمدّن ذريعة لممارسة القمع والاستغلال والاستعباد والفساد، إنّما أريد تنظيماً للمجتمع وللملكية الاجتماعية يكون من الأسفل للأعلى عبر التجمّع الحرّ، وليس من الأعلى للأسفل، لذا أجد نفسي جماعاتياً ولست شيوعياً”.

في حين يتخذ الأناركيّ شتيرنر المندفع لحماية الفرد في تعميق انتقادات بنيويّة في تناوله لموضوع التمركز الحزبيّ في إشارة منه إلى الحزب الشيوعي الروسي، فالأحزاب بنظره تقيّد من حريّة التفكير الحرّ لدى الأفراد عبر فرض الالتزامات الحزبية، والولاء الكلّي لها عبر نكران الذات وفرض الخنوع والخضوع، بوصفه الحزب الطليعي الأوحد والشامل فيعلن موقفه: “يجب أتباع الحزب دائماً وأبداً، وفي أي وقت وفي كلّ موقف، وتبنّي ودعم مبادئه الأساسيّة بشكل إلزاميّ، وأن يرضخ الأعضاء لرغبات الحزب حتى التافهة منها، والانتماء إلى الحزب روحاً وجسداً”.

موقف تشيرنر من إبراز دور الفرد ليس بهدف تكوين فرد أناني، بل يهدف إلى استعادة الطاقة والمبادرة والإبداع لدى الفرد لتخدم الجَمعية الإنسانية؛ فالإنسانيّة لا تتطور بسحق الفرد، بل بتنمية قدراته التي تتجسّد في الحرية الجماعيّة الذاتية، ربما روزا لوكسمبورغ تشارك تشيرنر في هذه النقطة، كونها تصدّت بشراسة في تعرية التوغّل الحزبيّ البلشفيّ في تحطيم الحياة الديمقراطية.

في حين يحاول الأناركي الأمريكي المعاصر ديفيد غروبر اتخاذ موقف متوازن من هذه السجاليّة التاريخيّة المتأرجحة ما بين الحرية الفردية والجماعية: “الأناركيّة مركّبة من أفضل ما في الليبرالية، ومن أفضل ما في الشيوعيّة، وقد تطوّر بها وحوّلها إلى أفضل ما في تقاليد اليساريّة التحريرية التي تعمل باتجاه مجتمع مساواتي وطوعي ولا مراتبي، ومشروع الليبرالية في أوسع معانيه هي ضمان الحريّة الشخصية، ومشروع الشيوعيّة الشامل هو ضمان الصالح المجتمعي”.

ويضيف غروبر: “كلا المفهومين جديران بالتقدير، لكن لسوء الحظّ لا يمكن تحقيق الحريّة بهذه الطريقة الملتوية، لذا كانت القفزة الكبرى للأناركية هي الجمع بين الذات الفردي والمجتمع في رؤية سياسية موحدة، فقد نبذت في آن واحد الدولة والملكية كعمود ارتكازي معتمد، بدل ذلك التنظيم الذاتي – العون المتبادل”.

على المستوى العمليّ، تورّمت فوبيا البلشفية ضدّ الأناركيين في جهاز الحزب، والذي كان ستالين أحد مهندسيه، حيث عملت على الحدّ من نشاطهم وحظرهم واستعمال القوة لمنع أعمال الليبرتاريين، ولم تكتف سلطة البلشفية بهذا فقط، بل أطلقت تسمية الثورة المضادة ضدّ كلّ من يعارض سلطتها وتهديدهم، إما بالقبول بالبلشفية أو بالعودة إلى النظام القيصريّ الرجعيّ، واتهمت كلّ من يحضر مؤتمرها بالخيانة العظمى، وقطعت عنهم المؤن والذخيرة، بل تحوّلت الثورة إلى مقتلة عندما قامت بقصف حصن كرونستاد بالمدافع، والتي تحصّن فيها المنتفضون ضدّ الحكم البلشفي، وقبل إخضاعهم بالقوة العسكرية، أصدر المنتفضون بياناً جاء فيه: “دعوا العالم يعرف، من نزيف دماء الأبرياء المسال بأنّ هذا الذنب سيثقل كاهل الشيوعيين اللاهثين خلف السلطة كالمجانين”. بعد اخماد الانتفاضة قامت البلاشفة بإعدام واعتقال المئات من الأناركيين، إذ اختزل المفكر عبد الله أوجلان عقب انهيار الاتحاد السوفيتي هذه المقاربة التاريخية بكلمات معبّرة ومكثفة في آن معاً: “إنّ الاقتراب الديكتاتوري السلطوي من ظاهرة الحكم، أدى دوره المساعد في إفلاس التجربة السوفيتية”.

الثورة الروسيّة لم تكن عديمة الجدوى كلياً، من حيث الدروس والعبر المستخلصة بالنسبة للأناركيّة، فهم استطاعوا تأسيس أرضيّة لفكرة الأناركية التي لم تعد تقبل الجدل حولها، وهي أنّ وسائل الإنتاج لابدّ أن تكون جماعية – تشاركية، وهذا ما خلق أملاً بأنّ الاشتراكية ستنتصر يوماً على النظم الدولتية، كما أنّ تجربة السوفيتات “المجالس المحلية” كانت بمثابة مراجعة ذاتية لحركة الأناركية.

في العموم، فجّر دويّ ثورة أكتوبر الخارطة العالميّة في العالم الرأسمالي، ولدى الشعوب والطبقات المضطهدة، وألهبت خيال الأناركيين النقابيين في إسبانيا أيضاً بادئ الأمر، بيد أنّ حبل الإعجاب سينقطع حالما أدركوا النتائج التي آلت إليها الثورة حتى أصيبوا بالإحباط، وما قاله الأناركيّ الفرنسيّ غستون ليفاس بعد مشاركته في المؤتمر الثالث للشيوعيّة الأممية وعودته إلى إسبانيا يلخّص الأوضاع الثورية الغامضة: “إنّ الفشل الذي وقع في روسيا، ليس بسبب مسار الثورة، وإنما في هيئة الدولة، حيث يتوارى خلف الثورة التي تنبض بالحياة، الأجهزة الدولتية التي شلّت الثورة وقتلتها”، لذلك قرّروا الانسحاب من الأمميّة الثالثة، وستمثّل هذه القطيعة منذ ذلك الوقت تدشيناً للبغضاء الشديدة التي ستحملها موسكو ضد للأناركيّة الإسبانية، وستنعكس على أحداث الثورة التي ستندلع هناك.

رواية دانيال غيران عن الثورة الاسبانية

لو نتابع تناول دانيال غيران صاحب كتاب “الأناركية” في تعقّب مسار الأناركيّة خلال الثورة الإسبانية، سنلاحظ أنّ الأناركيين الإسبان استطاعوا الاستفادة من دروس الثورة الروسية التي سبّبت لهم خيبة أمل، وعلى إثرها أرادوا التحضير للثورة الإسبانية على نحو مختلف مما حصل في روسيا، ومن أجل حماية الإرث الاشتراكيّ التحريري الثوريّ، فإنّ الأناركيين الإسبان عمدوا إلى توعية جماهيرها عبر ترجمة الكتابات الأساسيّة للأمميّة الأناركية إلى الإسبانية، إضافة إلى النقاشات المنتظمة والدائمة في اجتماعاتهم واتحاداتهم النقابية حول مشكلة الثورة الاجتماعية.

قسّمت البنية الاجتماعية الإسبانية ما بين الشمال الصناعي والجنوب الشرقيّ الريفيّ، جهود الأناركيّة التحريرية ما بين الريف الذي ينطبع عليه الإرث الكومينالي التاريخيّ، لا سيّما في فالنسيا وسرقسطة وإشبيلية، في حين تركّزت على الجهة الأخرى، النزعة الاندماجية النقابة المدنية في كتالونيا، هذه القاعدة المزدوجة، العمالية الصناعيّة والفلاحيّة الزراعيّة، شتّتت الأناركية التحريرية التي كانت التيارات النقابية في البلاد تدعوا إليها.

هذا التقسيم والتناقض في الطرح، كان ينبع من التقسيم بين مناصري كروبوتكين وتلامذته الذين كانوا ينظرون إلى الكوميونات الفلاحية كنوع من ميراث فلاحيّ تعاونيّ تاريخيّ سائد منذ القرون الوسطى في إسبانيا وغيرها من المناطق الريفية الأوروبية، بينما مناصرو فكرة النقابيّة، وهم كانوا من تلاميذ باكونيين الذين تجاوزا فكرة العصر الذهبي التقليديّ لصالح التكامل الاقتصادي العصريّ الحداثويّ، لم يقف هذا التشرذم حجرة عثرة عند حزب الاتحاد والعمل، الذي استطاع أن يقفز على هذه الازدواجية بفضل قربه روحياً ومادياً من العمال والفلاحين، وذلك في دمج أفكار الكوميونة والنقابة في وعي الأعضاء المناضلين.

كان النصر الانتخابي للجبهة الشعبية في فبراير 1936 بداية الثورة الإسبانيّة، والتي سرعان ما استجاب لها الشعب دون أن ينتظر حتى تشكيل الحكومة الجديدة بالتوازي مع الانقلاب العسكري الفاشل الذي قام به الجنرال العسكري الفاشي فرانكو، واستطاع الغضب الشعبيّ إفشال الانقلاب العسكري الذي قاده فرانكو كردّ فعل على الحكومة الشعبية، هذا الانقلاب الذي كان تدعمه القوى الفاشية الألمانية والايطالية إضافة إلى الأرستقراطية الملكية والكنيسة في إسبانيا، المفارقة الحادة أنّ الثورة الإسبانية قد اندلعت في ظلّ شروط دولية كانت فيها القوى الديمقراطية في أوروبا تتراجع أمام تمدّد القوى الفاشية، حيث موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا، ربما من هذه الزاوية تكمن أهميّة ثورة إسبانيا الشعبية على المستوى الأوروبي، من حيث قدرتها على انحسار المدّ الفاشيّ، ويذكّرنا حسب ما يقوله جورج أورويل في روايته الشهيرة “الحنين إلى كتالونيا” أنّ بريطانيا نفسها كانت تؤازر حينها حكومة الفاشية بقيادة فرانكو في إسبانيا بغرض كسب الفاشية الألمانية التي لم تتحوّل بعد إلى العدو المرعب ضدّ مصالحها الحيويّة.

هذا الانفجار الثوريّ العفويّ، دفع الفئات الثوريّة إلى مستوى تنظيم نفسها، وتشكيل إدارتها الذاتية، عبر اللجان الشعبية المحليّة بغرض حماية الثورة التي لم تعد مجرّد ثورة تدافع عن الجمهورية ضدّ الفاشيّة، بل شملت في هدم البناء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التقليدي بطريقة ثورية راديكالية دون الحاجة إلى تكرار النمط السوفياتي التدريجي الذي يعزل التغيّر في البناء الاقتصادي حصراً، مع البقاء على البعد الهرميّ الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، وعليه، صادر الثوار في كتالونيا أملاك الدولة والكنائس، وسيطروا على بعض المباني التي كان يحتلها جنود الفاشية، ونظّمت الصناعة الثقيلة والنقل على شكل تعاونيات ودوريات عمالية، بدلاً من الشرطة القديمة المنحازة للفاشية، وتأسّست كومينات أناركية، كما سيطرت النقابات الأناركية على معظم الصناعات الرئيسية بهدف تأمين الغذاء اليوميّ للسكان، في حين جرى تأسيس “بيت الشعب” الذي كان بمثابة البرلمان، مع نشر الأعلام الحمراء والسوداء في الشوارع وعلى المتاريس، حتى أمست قوة السلطات الرسمية في البلاد مجرد أشباح أمام الاندفاع الثوري، إنّها لحظة الزلزال العفوي الثوري.

كيف انقلب هذا الوضع الثوري الناشئ إلى العقم والفشل؟ وهو ذات السؤال الذي كان يحيّر النقاد الذين انشغلوا في تفكيك الثورة. في الواقع، لم يتطوّر النموذج الاقتصادي والاجتماعي بالصورة المطلوبة في بنية الإدارة الذاتية، بسبب خاصية الحرب التي فرضت على جميع الأطراف اليساريّة داخل الجبهة الجمهورية أن تقفز نسبياً على الثورة الاجتماعية لصالح المواجهة العسكرية ضدّ فاشية فرانكو، وكانت الأولويات العمليّة تفرض نفسها في هذا الأثناء بخلق جبهة عسكرية موحدة مع إصرار التيار الأناركي بوجوب إنجاز الثورة الاجتماعية والاقتصادية دون تأجيل، وذلك عبر الحلّ التوفيقيّ المؤقت بغرض شحذ الطاقات الثورية في مواجهة الخطر الفاشي، بيد أنّ مقاربة الحزب الشيوعي الإسباني وقفت بالضدّ تأمين الملكية الجماعية لصالح الطبقة العمالية والفلاحية، والذي كان يشكّل النواة الجوهرية في البرنامج الثوري الأناركيّ، وبطبيعة الحال، هذا الاقتراح السياسيّ كان مدعوماً من ستالين نفسه، وبعض القوى الشيوعيّة الماركسية في فرنسا ايضاً، في هذه الأثناء كان الدعم الروسي العسكري مشروطاً، وهو أن يمر حصراً من منافذ الحزب الشيوعي الإسباني الحليف الوثيق لستالين وحرمان باقي القوى الثورية، منها الأناركية والتروتسكية.

تذرع الحزب الشيوعي الاسباني في هذا التوقيت بوجوب إبرام التحالف المؤقت مع بعض القوى الرجعية التقليديّة، والمحافظة على صون ممتلكاتهم الخاصة، بسبب ضرورة توحيد الجبهة الداخلية ضدّ فرانكو، وكان ذلك مؤشّراً ملموساً على ضرب نفوذ الطبقة العاملة والفلاحية في حيازة الملكيّة العامة، مثل الصناعة الثقيلة والزراعة وحركة الأموال والتبادل التجاري، بل برّرت السلطة المركزية بأهميّة أن تخضع الثروة والملكيّة تحت حماية السلطة المركزية لأغراض تتعلّق بالمواجهة العسكريّة، وتالياً كان الشكل الحكومي المتشكل في مدريد في مواجهة فرانكو، يحاول تضمين مصالح الفئات البرجوازية والطبقة الإصلاحية في بنية الدولة المركزية، مع أهمية تهميش وإقصاء الأحزاب والجمعيات الأناركية والتروتسكية حسب التوصيات التي كانت تأتي من موسكو.

هذه المعطيات التي ظهرت على السطح، بدأت تترجم فعلياً بغرض تقويض وتحجيم من سلطة الإدارة الذاتية لصالح تكريس الاقتصاد المركزيّ والسياسية المركزيّة البيروقراطية في الحكومة والبرلمان، معطوف عليهما تحشيد أجهزة العنف المركزيّ عبر ضرب القوات الدفاع الذاتيّ المحليّ، ولعلّ تصفية قوات حماية الذاتية المكوّنة من الطبقة العاملة في برشلونة عام 1937 على يد الحزب الشيوعي الإسباني المركزيّ بمثابة التطور الدراماتيكي الذي تداخلت الصراعات البينية بين الشيوعية السلطوية والأناركية التحريرية، حيث تطوّر الأمر إلى اشتباكات عنيفة أسقطت حوالي 400 قتيل ومئات من الجرحى من الطرفين، لم تمرّ أيام على تلك الحادثة، حتى تم حظر ميليشيات التروتسكيين والأناركيين من قِبل الحكومة المركزية في مدريد، والقبض على أعضائها وتصفية قياداتها تحت غطاء اتهامات كثيرة ممن بينها العمالة لفرانكو والفاشية والنازية ومن ثمّ خيانة الثورة، مما حال شيئاً فشيئاً إلى تعزيز السلطة المركزية الشيوعية على حساب تقويض مؤسسات الإدارة الذاتية، سواء على المستوى الصناعي في برشلونة، وكذلك على تدمير التجربة الزراعية الحرّة داخل الكوميونات في الجنوب، وفي نهاية المطاف، تلقّى الحلّ المركزي الثوري على الطريقة الروسية نفسها، هزيمة نكراء على يد الفاشية الفرانكوية؛ أي أنّ النموذج الروسي المركزي لم ينجح في أن يكون جواباً للثورة الإسبانية.

في العموم، لا يمكن إغفال دور العوامل الخارجية في تصفية الثورة الإسبانية، ولعلّنا نتذكر رواية “الحنين إلى كتالونيا” في تفكيك أسباب انهيار الثورة، حيث فسّر أورويل انتصار فرانكو بقوة الدعم الخارجي واستمراره من قِبل ألمانيا وإيطاليا مقابل ضعف وتقطع الدعم البريطاني والفرنسي وحتى السوفيتي للثورة، فالبعد الخارجيّ ودوره الحاسم عامل آخر يجب أخذه في الحسبان، حتى لا نقع ضحيّة لنقد ذاتي مُدمّر، في التحليل الأخير، لم يتوقّع أورويل أن تنتصر الثورة لحقيقة بسيطة، وهي ضعف تسليحها الفاضح مقارنة بقوة فرانكو الواضحة، والفضل في هذا كلّه لتماسك حلفائه وتخاذل حلفاء الثورة، هذه ثورة مخذولة، قتلتها السياسة الإقليمية قبل أن تقتلها خلافات أهلها، أو قاما بذلك معاً لو أردت أن ترى ذلك.

حرمت الأناركية من موطئ قدمها الوحيد في العالم بسبب هزيمة الثورة الإسبانية، فقد خرجت من هذه التجربة وهي مسحوقة ومشتتة الأوصال، وكابدت مرارة النقد والتشهير على مآل فشل الثورة، وربما قدمت تنازلات مؤلمة للجبهة الثوريّة كي لا تتحمل لوحدها مسؤولية انتصار فرانكو، وتعرّضت للنقد الذاتي القاسي، لكنّها كما قالت إيما غولدمان: “بدا تطبيق الملكية الجماعية في الزراعة والصناعة كأعظم إنجاز قد تحقّقه أيّ مرحلة ثورية، وزيادة على ذلك، حتى لو انتصر فرانكو وأفني الأناركيون الإسبان، فستظلّ فكرتهم حيةً”.

على ضوء ما سبق، اعتلت الاشتراكية السلطوية المشهد الدوليّ بعد الانتصار الستاليني على النازية الهتلرية، وساهم درجة التقدّم التقنيّ الذي حقّقه الاقتصاد الروسي الستاليني في تعزيز هذه الصورة الظاهرية أمام الرأي العام الدولي، لكن بقيت إشكالية السلطة المركزية ولامركزية الإدارة الذاتية كشبح يطارد مسيرة الاشتراكية السلطوية، في حين ذهبت شخصيات وحركات ثورية تنبش صفحات التاريخ المنسي في كل من المجر واليوغسلافيا والجزائر، لعلّهم يسترشدون خلال ثوراتهم الهادفة إلى تحقيق تأمين الاقتصاد المجتمعي وتعزيز الحرية المجتمعية، ليجدوا في مقولة الأناركي الفرنسي المعروف برودهون ذاك اللغز الذي يعتري سيل الثورات في عدم استطاعتها ترجمة الحرية على الأرض الواقع، حينما يغدو جهاز الدولة جاثماً في قتل طموحات الأحرار: “لا تحتمل الدولة وجود سلطة أخرى غير سلطتها الخاصة، فهي تعاني رهاباً تجاه سلطة العمال في المصانع، وتفضّل سياسات التأميم والتي تعني مباشرة إدارة الدولة عن طريق موظفين تعينهم”.

 


المراجع والمصادر:

  • الأناركية من النظرية إلى التطبيق, دانيال غيران, ترجمة عومرية سلطاني, الطبعة الأولى (تنوير للنشر والإعلام، القاهرة، 2014).
  • ينظر بشكل عام مرافعات المفكّر عبد الله أوجلان، تجدها في الموقع الرسميّ، الأمة الديمقراطية لمؤلّفاته بتسع لغات (http://netewademokrat.info/ar/ar/).
  • الحنين إلى كاتالونيا، جورج أورويل، ترجمة: عبد الحميد الحسن، ط1، وزارة الثقافة دمشق، 2002.
  • يمكن الرجوع بشكل عام لكتابات ومؤلّفات كل من(ماكس سترينر، جوزيف برودون، ديفيد غروبر، غاستون ليفاس، إيما غولدمان) عن الأناركية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى