ترجمات

إدلب اليوم: “طلبنة” هيئة تحرير الشام وتشرذم الجيش الوطني السوري

على خلفية الأحداث في أوكرانيا، والتحضير للعملية العسكرية التركية في سوريا، تبقى العمليات الجارية في محيط إدلب، في الشمال الغربي من سوريا (التي تسيطر عليها جماعة تحرير الشام الإرهابية)، غير ظاهرة للعيان، علاوة على ذلك، في المناطق المتاخمة لشمال حلب، في “المنطقة العازلة” غير الرسمية، وفي مناطق العمليات التركية السابقة، التي تقع تحت سيطرة “الجيش الوطني السوري” الموالي لتركيا كـ”درع الفرات” (أعزاز- الباب – جرابلس)، و”غصن الزيتون” (عفرين).

في غضون ذلك، منذ بداية عام 2022، اندلعت أحداث مهمة هناك، تتعلق بتعزيز موقف متطرفي هيئة تحرير الشام، الذين يحاولون إخضاع ما تبقى من مجموعات الجيش الوطني السوري  في إدلب، وإدراجهم في صفوفهم، من أجل الإبقاء على قوة وحيدة معادية لدمشق في الشمال الغربي السوري، وهي هيئة تحرير الشام، مستفيدة بذلك من التشرذم المتبقي، وحتى المتزايد للجيش الوطني السوري.

تسعى هيئة تحرير الشام إلى بسط نفوذها على شمال حلب، وهي “منطقة عازلة” لم تتواجد فيها هيئة تحرير الشام من قبل، والهدف النهائي للراديكاليين هو توحيد كل معارضي نظام الأسد حول أنفسهم، وتأمين كل المساعدات الخارجية من كل من تركيا، والمنظمات الدولية، وغير الحكومية. بالإضافة إلى ذلك، إذا تحولت هيئة تحرير الشام إلى الخصم الوحيد للنظام السوري -كما تقترح قيادتها- فستصبح الجماعة شريكاً بلا منازع لعدد من الدول في العالم العربي والغرب، وبذلك تضمن لنفسها البقاء مستبعدة من قوائم الإرهاب، على الأقل.

تعمل قيادة الجماعة – التي يرأسها أبو محمد الجولاني- على تحديد وتدمير خلايا الجماعات الأخرى “الأكثر راديكالية ” في إدلب، في محاولة لتقديم نفسها كهيكل قادر على التخلي عن آرائها الراديكالية السابقة، وأن وجودها مفيد في الحرب ضد المنظمات الإرهابية الأخرى، بما في ذلك مع “رفاق السلاح” السابقين، الذين اعتبروا مثل هذا الخط القيادي لهيئة تحرير الشام على أنه “ردّة”.

يمكن وصف هذه العملية بـ “طلبنة” هيئة تحرير الشام، حيث يتبع الراديكاليون السوريون مسار شركائهم الأفغان، محاولين أن يصبحوا التنظيم الوحيد، ويقمعون الآخرين (بمن فيهم الأكثر اعتدالاً) في مناطق المعارضة في سوريا، وإجبار الفاعلين الدوليين على التعامل معهم، على الرغم من اعتبارهم “منظمة إرهابية”.

من “جهاد النخبة” إلى “جهاد الأمة

يعود تعزيز مواقع هيئة تحرير الشام – بالدرجة الأولى – إلى قُدرة قيادة هذا التحالف على إخضاع جميع الفصائل المدرجة في هذا الهيكل بشكل كامل لإرادتها، التي تفتقر لأي إمكانية للحكم الذاتي، والتي يكون أفرادها مختلطين مع الآخرين، حيث عجزت فصائل المعارضة السورية عن تحقيق هذا الشيء في محاولاتها الاندماجية، بما في ذلك مشروع الجيش الوطني السوري.

يسمح التسلسل الهرمي والعمودي الصارم لسلطة “هيئة تحرير الشام” بتنفيذ إصلاحات في هيكلها العسكري من سنة إلى أخرى، وتعديل تشكيلاتها حسب الضرورة، وحل بعض التشكيلات والفصائل الفرعية، وإنشاء تشكيلات جديدة، دون اعتبار لرغبات ومصالح القادة الميدانيين الفرديين، ومجموعاتهم. وبالرغم من أن هناك – بالطبع – منْ هم غير راضين عنهم، إلا أن “جهاز الأمن العام” التابع لهيئة تحرير الشام “يعمل” في قمع جيوب المقاومة الفردية، والمعارضين.

إن تحول هيئة تحرير الشام إلى بنية متجانسة، كان محدداً مسبقاً بمفهوم قادتها، حتى قبل إعادة التسمية الأولى (كانت تسمى بـ “جبهة النصرة”)، وكان الانضمام إلى مجموعة بعض الفصائل الجديدة، مصحوبة بدمجهم الكامل، و”انحلالهم” فيه، ومع ذلك، فإن هذا الخط لم يُمنح لـ”جبهة فتح الشام”، كما أصبحت جبهة النصرة معروفة (عام 2016) في الاتحاد مع واحدة من أكبر جماعات المعارضة “حركة أحرار الشام الإسلامية” لأن قادتها لم يريدوا أن يفقدوا استقلاليتهم. وكان هذا -أيضاً- أحد أسباب انسحاب الجماعات التابعة سابقاً (مثل جيش الأحرار، ونور الدين الزنكي) من هيئة تحرير الشام (كما يطلق عليها جهاز الأمن العام منذ عام 2017)، والتي لم ترغب أيضاً في الاندماج تماماً في هيئة تحرير الشام.

ومع ذلك، اختار المتطرفون لعب لعبة طويلة الأمد، وتم استئصال أولئك الذين رفضوا الانضمام إليهم لاحقاً، كما حدث مع “نور الدين الزنكي” في عام 2019، أو خضعوا في النهاية لسلطتهم، مثل معظم مجموعات الجيش الوطني السوري في إدلب، وهذه العملية لا تزال مستمرة.

تطلبت الزيادة في عدد المتطرفين، وانضمام مجموعات معارضة مختلفة إلى هيئة تحرير الشام، تغييرات من التنظيم، ليس فقط في المنهجية، ولكن أيضاً في الأيديولوجيا، حيث حدث هذا عندما كانت هيئة تحرير الشام تسمى “جبهة فتح الشام” في عام 2016، ثم اتخذت قيادة الهيكل مساراً نحو القطع التدريجي للعلاقات مع القاعدة، ودمج مجموعات مختلفة من المعارضة السورية في تكوينها، كما تم اتخاذ القرار بالتخلي عن مفهوم “الطليعة العسكرية”، والتحول إلى حركة معارضة واسعة.

كان مفهوم “الطليعة القتالية” متوافقاً مع مواقف المفكر الإسلامي “سيد قطب”، التي طورها المفكر الحديث للجهادية “أبو محمد المقدسي”، حيث رأى أن مهام “الجهاد” ينبغي أن يتولاها الممثلون (المختارون) للأمة الإسلامية، لأن جميع المسلمين الآخرين “غارقون في الخطايا”، والأهم من ذلك، أنهم لا يشتركون في وجهات النظر الإسلامية الصحيحة، حسب وجهة نظر “المقدسي”، لذلك، حتى يشرعوا في “الطريق الصحيح”، فإن مهام الكفاح المسلح يُستند إلى “النخبة” أو “الطليعة القتالية”، ففي الواقع، فإن “القاعدة” تبنت هذه العقيدة، مع بعض التحفظات.

يُطلق على هذا المفهوم -أيضاً- اسم “جهاد النخبة”، وفي مرحلة مبكرة، اعتمد عليه مقاتلو “جبهة النصرة”، حيث اجتذبوا فقط الجهاديين المثبتين والمقتنعين في صفوفهم، والذين تم اختبار امتثالهم لآرائهم الدينية مع الأيديولوجية السلفية الجهادية للتنظيم، والتي اعتمدت أيضاً على التفسيرات الوهابية للإسلام. وهذا يعني أن الصوفيين، أو على سبيل المثال، الشافعيون أو الحنفيون، لم يتمكنوا من دخول صفوف “جبهة النصرة” المبكرة دون تغيير آرائهم الدينية، ودون اجتياز الاختبار المناسب لـ “صدق” المعتقدات.

لكن، في عام 2016، مع أول تغيير للعلامة التجارية للتنظيم تغيَّر كل شيء، وذلك عندما أصبح يُعرف بـ”جبهة فتح الشام”، ثم بدلاً من مفهوم “جهاد النخبة” في نسخة “المقدسي”، تبنَّت جبهة فتح الشام عقيدة مختلفة، عبّر عنها منظّر جهادي آخر يسمى “أبو قتادة الفلسطيني”، الذي يُعرَّف بـ “جهاد الأمة”، أي أننا في هذه الحالة، نتحدث عن إمكانية إشراك جميع المسلمين في الكفاح المسلح، الذين تنسجم آراؤهم و”استقامتهم” في إطار أوسع بكثير مما في حالة “جهاد النخبة”.

في الواقع، يمكن لأي مسلم سني – بدون أي ضوابط – الانضمام إلى صفوف التنظيم، يجب ألّا يعارض الآراء الدينية التي تهيمن على التنظيم علانية، بالإضافة إلى ذلك، سمحت هذه العقيدة بإمكانية حصر الكفاح المسلح في منطقة منفصلة، ولكن بعد “تحريرها” لم ينص على ضرورة انتشار “الجهاد” في الأراضي الأخرى، وهذا في الواقع، يجعلنا أيضاً ننتبه إلى بعض المقارنات بين “هيئة تحرير الشام” و”طالبان” من الناحية العقائدية.

فتحت هذه التكتيكات، الباب أمام تنظيمات معارضة سورية أخرى – التي كان كثير منها في مواقف أكثر اعتدالاً- للانضمام إلى “جبهة فتح الشام”، ومن ثم “هيئة تحرير الشام”، أدى هذا الخط أيضاً إلى الانشقاق النهائي للمتطرفين السوريين، ليس فقط عن القاعدة فحسب، ولكن أيضاً عن المقدسي، بعد التغيير الثالث الأخير في عام 2017، عندما تحولت “جبهة فتح الشام” إلى “هيئة تحرير الشام”. وبالتالي، يمكن اعتبار “أبو قتادة الفلسطيني” -من نواحٍ عديدة- “الأب الروحي” لأيديولوجية هيئة تحرير الشام الحالية.

إصلاحات راديكالية أو إصلاح الراديكاليين

تطلبت الزيادة في عدد عناصر هيئة تحرير الشام وتوسعها – من خلال ضم فصائل مختلفة من المعارضة (طوعاً أو قسراً) – إنشاء هيكل عسكري جديد للتنظيم، مما سيسمح بـ “خلط” المجموعات التي اندمجت في تكوينها مع “النواة” الموجودة سابقاً، والاحتفاظ بالجهاديين المثبتين في جميع المناصب القيادية.

في هذا الصدد، في آب/أغسطس 2018، تبنت هيئة تحرير الشام تنظيماً عسكرياً من مستويين، من جميع الجماعات والفصائل المستقلة شكلياً، والتي تعمل كجزء من هيئة تحرير الشام، وكان يتألف هذا التنظيم من ثلاثة “جيوش” (في الواقع ألوية)، والتي تم تقسيمها بدورها إلى كتائب، وتم توزيع مقاتلي الجماعات المستقلة سابقاً كجزء من هيئة تحرير الشام على التوالي بينهم.

وهكذا – كجزء من هيئة تحرير الشام – تشكلت الجيوش التالية:

 -“جيش أبو بكر الصديق” المكون من “لواء  بادية” و “لواء  إدلب” و “لواء حمص”.

-“جيش عمر بن الخطاب”: “لواء  حلب”، و”لواء  حماه”، و”لواء الشرقية”.

-“جيش عثمان بن عفان”: “لواء الحدود “، و”لواء  الساحل”، و”لواء الشام”.

وسرعان ما انتشر أيضاً “الجيش الرابع”، الذي يتألف أيضاً من ثلاثة ألوية، والذي سمي -على غرار الثلاثة الأوائل- باسم “جيش علي بن أبي طالب” (تكريماً للخليفة الراشدي الرابع)، وتضمنت فصائل خاصة من هيئة تحرير الشام، ما يسمى بـ “الضمادات الحمراء” (على الأرجح، تم توزيع هذه الفصائل الخاصة عبر “الجيوش” الأربعة)، وعادةً ما تشير أسماء كتائب هذه “الجيوش” إلى أماكن انتشارها، وتمركزها.

ومع ذلك، في ربيع عام 2022، تم تغيير هذا الهيكل إلى مستوى واحد، وبدلاً من 4 جيوش و12 لواءً، تم إنشاء 11 لواءً منفصلاً من “التبعية المركزية”، بينما احتفظت الألوية الأربعة الأولى بأسماء “الجيوش” الأربعة السابقة، وتم تسمية الألوية الستة المتبقية أيضاً بأسماء “المبشرين بالجنة”، من صحابة الرسول محمد حسب التقليد السني. وحصل اللواء الحادي عشر على اسم “الخليفة معاوية بن أبو سفيان”، مؤسس الدولة الأموية، الذي يحظى بالتبجيل لدى أهل السنة.

وهكذا، تتكون هيئة تحرير الشام اليوم من الألوية المنفصلة التالية: “أبو بكر الصديق”، “عمر بن الخطاب”، “عثمان بن عفان”، “علي بن أبي طالب”، “طلحة بن عبيد الله”، “الزبير بن العوام “، “عبدالرحمن بن عوف”، و”سعد بن أبي وقاص”، و”سعيد بن زيد”، و”أبو عبيدة بن جراح”، و”معاوية بن أبو سفيان”.

شاركت جميع ألوية هيئة تحرير الشام الـ11 في أواخر مايو/أيار- أوائل يونيو/حزيران 2022، في مناورات عسكرية في إدلب، حيث تم نقل ونشر قوات الجماعة على الاتجاهات المحتملة للهجوم على القوات الحكومية.

الحجم الإجمالي لهذا التنظيم الإرهابي وكل من كتائبه غير معروف، لكن يرجح أن يكون لكل منهم (2-3) آلاف مقاتل، وذلك، بعد أن تمكنت هيئة تحرير الشام من زيادة أعدادها من خلال تجنيد سكان محليين في إدلب في صفوفها. أي أن العدد التقريبي لهيئة تحرير الشام يمكن تحديده بحوالي 30 ألف مقاتل، ومما يسهل عملية التجنيد، وجود مكافآت نقدية، وحصص غذائية لمن انضموا إلى هذا التحالف الإرهابي، على خلفية الوضع الاقتصادي الصعب في إدلب.

بالإضافة إلى ذلك، هناك من يعمل على التجنيد، من خلال المنتديات الدينية المختلفة، ويستخدمون بشكل مباشر المدارس والاجتماعات في المساجد في إدلب؛ للدعوة للانضمام إلى التنظيم. في السابق كانت ممارسة التجنيد المباشر معروفة، عندما كان المسلحون ونشطاء هيئة تحرير الشام ينتقلون من منزل إلى آخر، ويقنعون -شخصياً- سكان إدلب بالانضمام إلى صفوف المنظمة الإرهابية، ونشر أفكارها. كما يوجد قاصرون من بين سكان إدلب، الذين تم تجنيدهم للخدمة في هيئة تحرير الشام.

وهكذا، تحل “هيئة تحرير الشام” مشكلة أخرى، تتعلق بانخراط المزيد من سكان إدلب في مذاهبهم الدينية. يتأثر الوضع أيضاً بحقيقةٍ أنه في جميع مدارس ما يسمى “حكومة الإنقاذ” في إدلب، والتابعة لهيئة تحرير الشام، المدرسة الإسلامية الوحيدة المسموح بتدريسها هي “السلفية”، في نسخة المدرسة النجدية، والمعروفة أيضاً باسم “الوهابية”. إلى جانب ذلك، توجد مساجد ومدارس بديلة في إدلب فقط في مخيمات اللاجئين السوريين، حيث تقوم تركيا ببنائها، ويتم تعيين المعلمين المناسبين هناك.

في الوقت نفسه، إذا كانت كتائب هيئة تحرير الشام تشبه جيشاً نظامياً، ففي إدلب، تحت قيادة هيئة تحرير الشام، هناك أيضاً نظير لـ “القوات الإقليمية” وهي “سرايا المقاومة الشعبية”، (كتائب المقاومة)، التي تعمل تحت رعايتها، ولكنها غير مرتبطة رسمياً بشكل مباشر مع “حكومة الإنقاذ” (الجهاز الإداري التابع لهيئة تحرير الشام).

في البداية، ظهرت هذه الألوية في عام 2019 على أنها هياكل مساعدة للمتمردين، كانت منشغلة ببناء التحصينات، ودعم المعارضة المسلحة، وهيئة تحرير الشام في القطاعات الثانوية للجبهة. في الوقت نفسه، بدأت هذه الفصائل بالتحول تدريجياً إلى فصائل دفاع ذاتي محلية مستقلة كاملة، ومشكّلة من السكان المحليين، في العديد من التجمعات السكانية.

من الناحية الرسمية، لا ترتبط الكتائب بأي من الجماعات، ولا تتلقى أي دعم خارجي أو داخلي ويُزعم أنها تعتمد على جهودها الخاصة، والتبرعات من السكان، وهي على مسافة متساوية من جميع الجماعات العسكرية في المنطقة المحررة، وفقاً لبياناتها، لكن رغم ذلك، فإن خضوعهم العسكري واضح لقيادة هيئة تحرير الشام، وتنظيمياً لحكومة الإنقاذ، التي تعمل تحت رعايتها جميع المجالس المحلية المشاركة في تشكيل هذه الألوية. وبالتالي، فإن الهيكل العسكري لهيئة تحرير الشام بحلول صيف عام 2022، قد اكتسب المزيد من ميزات الجيش النظامي، والذي -مع ذلك- لا يمكن القول عنه إنه الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا، والذي على العكس من ذلك، بدأ يتفتت أكثر فأكثر، مبتعداً عن الهيكل ثلاثي المستويات للفيالق والفرق والألوية المرقمة التي وضعت أثناء تأسيسه، والانتقال إلى التحالفات “المعتادة” للمجموعات، وما يسمى بـ”غرف العمليات” (المقر المشترك -دون وحدة القيادة- في تكوين عدة فصائل).

انقِسام الجيش الوطني السوري

يتضح انهيار الهيكل العسكري الأصلي للجيش الوطني السوري، الذي وُضع فيه النموذج الأولي للجيش النظامي، بحلول ربيع عام 2022.

ووفقاً لخطط مؤسسي الجيش الوطني السوري -متمثلاً بتركيا بالدرجة الأولى- كان عليه في النهاية أن يتحول إلى تشكيل منتظم، يتكون من فيالق وفرق وكتائب. ومع ذلك، إذا تم إنشاء النماذج الأولية للفيالق الثلاثة وفرقها وألويتها في “المنطقة العازلة” (أي في مناطق عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع  السلام”)، فإن التشكيل من أربعة فيالق في إدلب هو في الحقيقة لم يبدأ بسبب معارضة هيئة  تحرير الشام، التي تسيطر على هذه المنطقة. حيث لا تزال هيئة تحرير الشام تستخدم الفصائل المحلية للجيش الوطني السوري في إدلب كـ “اتحادات” لها، تحت قيادة “الفتح المبين” التي يقودها المتطرفون.

لم تكن تركيا قادرة -أبداً- على حل جميع فصائل المتمردين التي انضمت إلى الجيش الوطني السوري، حيث نقلت مهامها العسكرية والإدارية بالكامل إلى الفيلق والفرق والألوية المشكلة. ربما كانت أنقرة تخشى أن تؤدي مثل هذه الإجراءات الصارمة إلى فرار جماعي من صفوف الجيش (مجموعات كاملة مع قادتها)، وبالتالي فضّلت الاقتصار على أنصاف الإجراءات. ومع ذلك، أدى وجود نظام موازي للقيادة المستقلة للجماعات مع “أجنحتها” العسكرية والسياسية في نهاية المطاف إلى عودة الهيكل العسكري للجيش الوطني السوري، إلى نظام التحالفات المعتاد و”غرف العمليات” للمتمردين، والتي حلّت محلها التسلسل الهرمي الصارم للكتائب والفرق والألوية (التي لا تزال مدرجة كجزء من الجيش الوطني السوري، ولكن بدرجة أكبر مما هو مكتوب على الورق فقط).

ومع ذلك – في الوقت الحالي – يتم الحفاظ على وحدة القيادة، وإخضاع جميع التشكيلات التي تم تشكيلها حديثاً لرئيس أركان الجيش الوطني السوري، وهو أيضاً وزير دفاع الحكومة المؤقتة المعارضة في سوريا، والموجودة في غازي عنتاب التركية، وتواصل تركيا تنفيذ برنامج “التدريب والتجهيز”، وتعزيز القدرات القتالية للجيش الوطني السوري.

في يوليو/ تموز 2021، أعلن فصيل “الجبهة الشامية”  في الجيش الوطني السوري عن إنشاء ما يسمى بـ”مركز عمليات العظم”، وتعد الجبهة من أقدم فصائل المعارضة السورية، حيث ظهرت عام 2012 تحت اسم “لواء التوحيد”، وعمل طوال فترة الحرب الأهلية في محافظة حلب، مع قاعدتها الرئيسية في مدينة أعزاز، وأصبحت هذه المجموعة الإسلامية المعتدلة (التي تضم، على سبيل المثال، اللواء التروتسكي اليساري “ليون سيدوف” الذي موّلته جماعة الإخوان المسلمين في المرحلة الأولى من الصراع) قوة ولاعب عسكري واقتصادي في شمال حلب.

صرّحت الفصائل التي دخلت “مركز عمليات عزم” علناً أنه تم إنشاؤه لتحسين التنسيق داخل الجيش الوطني السوري، وألزم “عزم” الاندماج الكامل للمجموعات، وإلغاء أسماء التجمعات المكونة له، وإنشاء نظام تحكم مركزي واحد لجميع الفصائل الموحدة. ومع ذلك، فإن تاريخ بناء التحالفات في المعارضة المسلحة بشكل عام، وفي الجيش الوطني السوري بشكل خاص، يوضّح أن القوى الدافعة والرئيسية وراء تشكيلها هي التنافس الداخلي بين الجماعات، مما يعيق تحقيق هذه الأهداف. أما الجبهة الشامية، التي تشكّلت أيضاً مع قادت الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري، فقد حاولت تحويل “عزم” إلى مشروعها المهيمن خارج هذا الفيلق، وضمان هيمنتها على الجيش الوطني السوري بأكمله من خلاله.

مع تزايد نفوذ الجبهة الشامية، وجدت العديد من الجماعات المسلحة، أنه من الضروري إقامة علاقة وظيفية مع “مركز عمليات عزم”. في الوقت نفسه، لم يرغبوا في الخضوع بالكامل لقيادته؛ لذلك ظهرت “جبهة تحرير سوريا”، في أيلول 2021، وذلك بدمج خمسة فصائل، أربعة منها تم دمجهم بالكامل: فرقة الحمزة، وفرقة السلطان سليمان شاه، وفرقة العشرين، وفرقة صقر الشمال، وفرقة المعتصم. حاولت هذه الرابطة  تحدي هيمنة “الجبهة الشامية”.

بدورها، في “مركز عمليات عزم”، في نهاية عام 2021، تم تشكيل جمعية أخرى “الحركة الثورية”، والتي ضمت تسعة فصائل من الجيش الوطني السوري، بما في ذلك فيلق الشام، وفرقة السلطان مراد، والمنتصر بالله، وثوار الشام، لواء الشمال، والفرقة التاسعة، التي لم ترغب في الاندماج الوثيق مع الجبهة الشامية، لكنها دعت إلى التنسيق العسكري معها في إطار «المركز». وهكذا، تم تقسيم “مركز عمليات العظم” في الواقع إلى تحالفين: الفيلق الثالث في الجيش الوطني السوري، حيث وصل التكامل إلى درجة عالية بفضل جهود “الجبهة”، والحركة الثورية.

رغم ذلك، في 23 كانون الثاني/يناير، تم تشكيل تحالف جديد تحت اسم “لجنة التحرير الثورية”، بقيادة فهيم عيسى (قائد فرقة السلطان مراد)، بدمج “الحركة الثورية”، و”جبهة تحرير سوريا”. وهكذا، أصبح “مركز عمليات عزم” مقصوراً فقط على الفيلق الثالث للجيش الوطني السوري، وذلك، على الرغم من استمرار إدراج المجموعات التي شكّلت “الحركة الثورية” كجزء من “المركز”، المدرجة في لجنة التحرير الثورية، والتي تعقد عمليات التنسيق بين التحالفات.

أخيراً، ظهر تحالف ثالث في إطار الجيش الوطني السوري، تم تشكيله – كما قال قادته – من أجل منع انهيار هيكلية وفرقة الجيش الوطني السوري، وضم -التحالف الجديد- عدة فصائل، تعمل أيضاً داخل “مركز عمليات عزم”، الذي أنشأ في فبراير/شباط 2022 تحالفاً جديداً يسمى “حركة التحرير والبناء”، تشكّلت من قِبل مجموعات شرق سوريا، التي تراجعت عام 2014 بضغط من داعش إلى غربي محافظة دير الزور. (وتجدر الإشارة إلى أن من أشهر قادة هذه التحالف، هو أحمد ثوما، عضو المكتب السياسي لدائرة الرقابة الداخلية، الذي يترأس وفد المعارضة السورية في المفاوضات ضمن “صيغة أستانا”).

ومع ذلك، فإن تجزئة الجيش الوطني السوري لم تنته عند هذا الحد، ففي يوليو/تمّوز 2022، شهدت هيئة التحرير الثورية انقساماً من قِبل فرقة الحمزة، بقيادة “سيف البلاد أبو بكر”، والتي أصبحت تُعرف مرة أخرى باسم “فرقة الحمزة” في الفيلق الثاني للجيش الوطني السوري، وكذلك فرقة السلطان سليمان شاه، بقيادة “محمد جاسم أبو عمشة”.

لذلك، يتكون الجيش الوطني السوري اليوم من ثلاث تجمعات:

أولاً: الفيلق الثالث للجيش الوطني، بقيادة “أبو أحمد نور” (الجبهة الشامية، فيلق المجد، جيش الإسلام، الفرقة 51، فرقة مالك شاه، لواء السلام، وربما مجموعات أخرى)، في الوقت نفسه، كانت بعض الفصائل مدرجة سابقاً في فرق أخرى (كان جيش الإسلام هو الفرقة 25 من الفيلق الثاني).

ثانياً: لجنة التحرير الثورية برئاسة “فهيم عيسى” (فيلق الشام – القطاع الشمالي، فرقة السلطان مراد، الفرقة الأولى /ضمن تنظيم “الفرقة التاسعة” و”اللواء الشمالي” و”اللواء 112″/ ، فرقة المنتصر بالله، وثوار الشام، ولواء صقر الشمال، وفرقة المعتصم، وفيلق الرحمن، وفرقة القوات الخاصة للجيش الوطني السوري، وغيرها).

ثالثاً: حركة التحرير والبناء، بقيادة العقيد “حسين الحمادي” (أحرار الشرقية، جيش الشرقية، الفرقة 20، وفرع صقور الشام الشرقي).

بقي جزء من الفصائل خارج هذه التشكيلات، وربما لا يزال في الفيلق الأول والثاني من الجيش الوطني السوري، وأهمها فرقة الحمزة وفرقة السلطان سليمان شاه.

توسع هيئة تحرير الشام في شمال حلب

حاولت هيئة تحرير الشام استغلال تشرذم الجيش الوطني السوري، للتوغل في المنطقة “العازلة التركية”، ومنذ خريف 2021، تتفاوض قيادة هيئة تحرير الشام مع قائد فرقة سلطان سليمان شاه “أبو عمشة”، في محاولة للاتفاق على التعاون، بما في ذلك من خلال السيطرة على المعابر بين إدلب و”المنطقة العازلة”. كما يمكن أن يتعلق الأمر بقبول قوات هيئة تحرير الشام في المناطق التي يسيطر عليها سليمان شاه في شمال حلب، من أجل تعزيز هذه المجموعة، وقدرتها على تعزيز مصالح هيئة تحرير الشام داخل الجيش الوطني السوري. كما أثار انسحاب فرقة السلطان سليمان شاه من هيئة التحرير الثورية مخاوف، من أن هذه المجموعة ستعمل بشكل وثيق أكثر مع هيئة تحرير الشام، وتتحول إلى “حصان طروادة” .

في نهاية حزيران/يونيو 2022، حاولت هيئة تحرير الشام بالفعل استخدام مجموعة أحرار الشام (القطاع الشرقي التابعة للفيلق الثالث للجيش الوطني السوري)، كأداة للتسلل إلى منطقتي عفرين والباب في شمال حلب، والخاضعتين لسيطرة الجيش الوطني.

في السابق، تحولت حركة أحرار الشام الإسلامية، التي تتواجد قواتها الرئيسية في إدلب، وتشكّل -رسمياً- جزءاً من الجيش الوطني السوري، إلى هيكل مساعد لهيئة تحرير الشام، تاركةً –عملياً- مشروع الجيش الوطني السوري.

كان أساس التناقضات بين “حركة تحرير الشمال” الاسلامية، والجيش الوطني السوري هو الاتفاق على الاندماج التدريجي، الذي تم التوصل إليه في عام 2020، من قِبل زعيم الحركة   “جابر علي باشا”، وتجمّع الجبهة الشامية. في الوقت نفسه، كان من المقرر أن يتم التوحيد تحت علم “الجبهة”، التي شكّلت –أيضاً- فرقاً من الفيلق الثالث للجيش الوطني السوري، حيث كان هذا قراراً إجبارياً من جانب “حركة تحرير الشمال”، بعد هزيمة هذا الفصيل من قِبل هيئة تحرير الشام، في أوائل عام 2019، وكان غير منظم إلى حدٍ كبيرٍ، وفَقَدَ جميع أسلحته الثقيلة، ومصادر تمويله، وما إلى ذلك.

وبدأت العملية بدخول الجبهة الشامية لتنظيم “حركة أحرار الشمال الإسلامي” إلى القطاع الشرقي. لكن ذلك أدى إلى نشوء معارضة جادة في قيادة أحرار الشام، التي بدأت تعتمد على الزعيم السابق “حسن صوفان” وجماعته، وتخلوا عن عملية الاندماج في الجبهة الشامية، وسعوا جاهدين للحفاظ على أحرار الشام كهيكل مستقل، وهو ما لم يعد ممكناً في الواقع، بل دفعهم –حتماً- إلى أحضان هيئة تحرير الشام.

على الأرجح، اتخذت الجبهة الشامية أيضاً موقفاً متشدداً، وبدأت في حجب التمويل والمساعدات الأخرى عن حركة أحرار الشمال الإسلامي، والتي جاءت من خلال هياكلها عبر تركيا. كما أدى ذلك إلى ظهور استياء في صفوف الفصائل، التي كانت قد انضمت بالفعل إلى الجبهة الشامية، لكنها لم تفقد الاتصال بـ “الهيكل الأم” (أحرار الشام) في القطاع الشرقي.

تم فصل “القطاع الشرقي” (جناح أحرار الشام في الباب وجرابلس)، عن القوات الرئيسية للتنظيم في عام 2016، في “جيب” في شمال حلب عام 2017، واضطر إلى الاتحاد مع الجبهة الشامية، بعد أن حصل على مباركة قيادة التنظيم. دخل “القطاع الشرقي” الفيلق الثالث من نظام الحسابات القومية كجزء من “الفرقة 32″، حيث كانت لا تزال هناك بعض المجموعات التي اندمجت مع الجبهة. في وقت سابق من عام 2022، طرح “القطاع الشرقي” عدداً من المطالب، موجهة بالفعل إلى الجبهة الشامية، حيث طالب بإنشاء السيطرة على الباب وجرابلس، مقابل دفع 300 ألف دولار، لتغطية النفقات السابقة، واستبدال قائد الفيلق الثالث بآخر، أكثر صداقة مع حركة أحرار الشمال الإسلامي، مع ضمان حقوق التصويت في إدارة “معبر الحمران” الحدودي.

من الواضح أن مثل هذه المطالب الكبيرة والمفرطة، لم تمليها قيادة “القطاع الشرقي”، والأرجح أنها لم تأت حتى من قِبل قيادة “أحرار الشمال”، بل تمت صياغتها بالاشتراك مع هيئة تحرير الشام، التي حاولت “أحرار الشام” الاعتماد على  قوتها العسكرية.

أثار كل هذا صراعاً أوسع بين أحرار الشام والجبهة الشامية، عندما دخلت فصائل أحرار الشمال وهيئة تحرير الشام عفرين من إدلب نهاية حزيران 2022، وبدأت فصائل أحرار الشمال (القطاع الشرقي من الفيلق الثالث) تمرداً في الباب.

في الوقت نفسه، حاولت هيئة تحرير الشام استغلال هذا الوضع، ليس فقط للتسلل إلى عفرين، ولكن أيضاً للتوغل حتى الباب في تحالف مع أحرار الشمال، وفرض نفسها في النهاية على تركيا كمشارك ضروري في المستقبل ضد الفصائل الكردية، وتبدأ -في الوقت نفسه- عملية بسط السيطرة تدريجياً على الجيش الوطني السوري، باعتباره الهيكل الأكثر استعداداً للقتال ومنسق جيداً.

ومع ذلك، أثبتت الجبهة الشامية/الفيلق الثالث، أنه تجمّعٌ فعّالٌ إلى حد ما، وقادر على الاستجابة بسرعة وكفاءة للتهديدات، واستطاع بسرعة قمع تمرد أحرار الشام “القطاع الشرقي” في منطقة الباب، ونصب حاجزاً ضد تقدم هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشمال من إدلب. ونتيجة لذلك، تم التوصل إلى هدنة في 21 يونيو/ حزيران، بدأت الجبهة الشامية بإعادة المناطق التي تم انتزاعها من القطاع الشرقي في الباب، وكذلك، غادرت هيئة تحرير الشام وأحرار الشمال  القرى المحتلة في منطقة عفرين في “المنطقة العازلة”، وعادوا إلى إدلب.

وبالتالي، يمكننا أن نقول إن هناك المزيد من التعزيز لهيئة  تحرير الشام، والتي من المرجح أن تكون قادرة على استيعاب ليس فقط أحرار الشام، ولكن أيضاً جميع مجموعات إدلب، التي تشكل رسمياً جزءاً من الجيش الوطني السوري، ولكن إذا اتحدت مع هيئة  تحرير الشام  في قيادة واحدة (الفتح المبين).

يمكن أن يكون البديل الوحيد، هو خروج هذه المجموعات من إدلب إلى “المنطقة العازلة” في شمال حلب. ولكن هذا لا ينطبق على مجموعات الجيش الوطني، التي دخلت إدلب من “المنطقة العازلة” بالاتفاق مع تركيا، والمرتبطة بقواعد عسكرية تركية، وتشكّل فصائل قتالية متكاملة مع حامياتها التركية، وليست مرتبطة بهيئة تحرير الشام.

كما أن موقف جماعة فيلق الشام مؤشّرٌ أيضاً، حيث سمح للفرق مثل (هيئة تحرير الشام، وأحرار الشمال)، بالدخول إلى عفرين دون قتال، وهو ما قد يشير أيضاً إلى أن قيادتها لها علاقات مع هيئة تحرير الشام، والتي لا يزال بإمكان المتطرفين استغلالها؛ ففي هذا الصدد، حرمت تركيا فيلق الشام من التمويل لفترة إلى أن يتم حلّ الوضع.

في الوقت نفسه، يمكن منع سيناريو التوسع الكبير لـ”هيئة تحرير الشام” في “المنطقة العازلة” عن طريق رد فعل صارم، وفي الوقت المناسب، من قِبل “الجبهة الشامية”.

……………………………………………………….

الكاتب: كيريل سيمينوف- محلل سياسي، وخبير مستقل في مجال نزاعات الشرق الأوسط .

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى