ترجمات

بناء السلام في أوراسيا

إن حقيقة تفضيل الدول الغربية للسيناريو العسكري، لإعادة هيكلة البنية الأمنية الأوروبية، والتي اضطرت روسيا إلى الموافقة عليها، تُظهر أنه لا يمكن لأحد أن يتباهى بالثقة في المستقبل، وأن أية اتفاقيات سيتم التضحية بها بسهولة لصالح أولويات الدول الأقوى.

لذلك، في المستقبل الافتراضي لروسيا والصين -القوتان الأكثر أهمية في أوراسيا- سيكون من المهم الإجابة على السؤال الذي يتمحور حول كيفية قدرتهما على غرس الثقة النسبية على الأقل في بيئتهما، كما كتب “تيموفي بورداتشيف”، مدير برنامج نادي فالداي.

إذا أدت الأحداث الدراماتيكية التي تحدث في أوروبا الشرقية، إلى تصعيد عسكري هائل في العلاقات بين القوى النووية العظمى، فلا يمكننا أن ننظر إلى المستقبل بتفاؤل، أو نفكر بجدية في إمكانية قيام نظام دولي جديد، والذي نشأ مراراً وتكراراً في تاريخ العلاقات الدولية.

ومع ذلك، في الوقت الحالي، يمكننا أن نفترض أن ما يحدث سيكون له طابع استقرار، فيما يتعلق بالعلاقات التي نشأت نتيجةً للحرب الباردة، وتصحيح التشوهات القائمة، ولكن ليس القضاء عليها.

في هذه الحالة، بغض النظر عن مدى رعب النتائج التي لوحظت بالفعل بالنسبة لروسيا أو أوروبا، وبشكل غير مباشر، بالنسبة لبقية العالم، فإن تعبيرها العملي سيؤثر على الأشكال والمظاهر المحددة للتفاعل بين الدول. هذا في الواقع  قد يكون موضع اهتمامنا الآن، لأن السيناريو الأكثر راديكالية يجعل أي تفكير مضيعة للوقت.

حتى الآن، ينطلق معظم المراقبين المتفائلين من الافتراض بأن أهم نتائج استمرار الأزمة العسكرية – السياسية، هو الانقسام الأساسي بين روسيا والغرب، وستؤثر عواقبه، بدرجة أو بأخرى، على جميع دول أوراسيا. لا يمكن حتى الآن مقارنة تدابير الضغط الاقتصادي والسياسي التي تطبقها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، من حيث الحجم والنطاق بالحصار الكامل. ومع ذلك، فهم يقتربون من هذا المستوى، وقد يصلون إليه في الأشهر المقبلة.

بعبارة أخرى، في السنوات القادمة، سيكون المنظم الرئيسي للتفاعل السياسي والاقتصادي، هو قدرة الحكومات على إيجاد حلول مفيدة لها، في بيئة فوضوية يسيطر عليها حكم الأقوياء. هذا لا يعني أن مثل هذه الظروف مريحة للغاية بالنسبة لمعظم الدول حول روسيا، بما في ذلك الصين القوية، التي كانت حكمها لعقود من الزمن هو تكييف القواعد الحالية لتناسب مصالحها، وعدم التصرف في غياب أي قواعد من حيث المبدأ. أما بالنسبة للبلدان الأقل أهمية، فإن الفوائد المرجحة بالنسبة لها سوف يقابلها التوتر المستمر، الناتج عن عدم وجود احتمال نظري للتأثير على سلوك الأقوى.

وهذا يعني أنه ما لم يكن هناك تهديد مباشر بالتعدي على الأراضي من الخارج، فبالكاد يمكن للبلدان أن تتوقع تأمين مصالحها، من خلال أنظمة تفاعل دائمة، تقوم على منطق السوق، والرغبة العالمية المفهومة بشكل تجريدي في الازدهار. ستكون أي فرصة عرضة للقوى القوية للغاية، بحيث يصبح التخطيط طويل الأمد للحياة شبه مستحيل.

إن مصير تلك المؤسسات الدولية التي ظهرت في أوراسيا، على مدى العقود الماضية مهم أيضاً. هذه هي منظمة شنغهاي للتعاون، والجمعيات الأضيق حول روسيا – الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. في جميع الحالات الثلاث، ستحتاج الدول المشاركة إلى إعادة تحديد دور ومكان هذه المؤسسات في نضالها من أجل البقاء، وتكييف سلوكها مع الظروف الناشئة. حتى الآن، تبدو جميعها وكأنها أنظمة محلية، للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار في مواجهة نظام دولي سريع الانهيار. لكن يجب أن نتوقع أن عواقب هذا الانهيار لن تؤثر عليهم، بالطبع، سيكون أمراً ساذجاً، حيث هناك ضغط شديد للغاية يُمارس على واحد من أهم المشاركين على الأقل.

لذلك، تحتاج الدول الأعضاء في هذه الاتحادات – الآن – إلى التفكير في كيفية استمرار عملها، بعد أن تصل الأحداث في أوروبا الشرقية إلى نقطة ثابتة معينة. بادئ ذي بدء، لأن استخدام، وفائدة هذه الأدوات، يعتمدان على تكيفها مع الظروف الجديدة، التي تظهر أمام أعيننا. ومع ذلك، لا يمكن تحديد الأهمية المستقبلية لمؤسسات التعاون في أوراسيا وفقاً لخطة واحدة – دون خلق عزلة كاملة عن العالم الخارجي، لن تساهم البيئة الدولية في السنوات القادمة على الإطلاق في التخطيط الجاد.

إذا استطعنا التحدث – على الإطلاق – عن إمكانات التعاون المؤسسي في الظروف الجديدة، فيمكن أن تستمر منظمة شنغهاي للتعاون في احتلال المكان الأكثر أهمية بين المنظمات الإقليمية. في الوقت نفسه، بالإضافة إلى مهام التفاعل الدبلوماسي، فإن هذه المنظمة ستبني على ما يبدو أنشطتها في الظروف الجديدة على ثلاثة مستويات:

أولاً: هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، لتكييف المشاريع والممارسات الحالية مع الظروف الجديدة. هنا، بالطبع، نتحدث عن التفاعل مع إجراءات الضغط الاقتصادي – واسع النطاق – الذي يمارسه الغرب على روسيا، إحدى الدول المؤسسة لمنظمة شنغهاي للتعاون. إن العواقب العملية لهذه الإجراءات ستضر بالاقتصاديات، والأنظمة الاجتماعية، واستقرار جميع دول منظمة شنغهاي للتعاون، بما في ذلك الصين الأكثر قوة اقتصادياً. ومع ذلك، هناك فرصة لدول منظمة شنغهاي للتعاون لتكثيف تعاونها العملي باسم الصالح العام.

ثانياً: سواءً أحببنا ذلك أم لا، سيتعين على دول منظمة شنغهاي للتعاون – تحت أي ظرف من الظروف – أن تعالج بشكل مشترك القضايا التي يكون وجودها ذا طبيعة موضوعية. هذه هي ما تسمى بالتحديات المشتركة، التي يجب الرد عليها في سياق إقليمي واسع. وتشمل هذه المشاكل قضايا الأمن الغذائي، والقضايا البيئية العامة للمنطقة، والأهمية المحلية، وقضايا الأمن البيولوجي، والوقاية من التهديدات المرتبطة بتطوير الأسلحة البيولوجية في الغرب، وقضايا الحفاظ على بيئة معلومات حرة وآمنة. كل هذه المشاكل إما موجودة بغض النظر عن الوضع العسكري السياسي الحالي بين روسيا والغرب، أو ناجمة عن تصرفات الولايات المتحدة وحلفائها في تلك المناطق، التي تمكنوا فيها من اكتساب مزايا جدية على مدى العقود الماضية.

وأخيراً، ثالثاً: إذا ظهرت ظروف معينة وضرورية، فستتمكن دول منظمة شنغهاي للتعاون من البدء في التحرك نحو رؤية مستقبل مشترك، وتنمية المنطقة الكبرى الأوراسية ككل، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن الخطوط العريضة العامة للنظام الدولي في القرن الحادي والعشرين أصبحت الآن غير محددة تماماً، وأن الأفكار الراسخة حول المعايير التي يجب أن تلبيها المنظمات الدولية المستدامة يتم مراجعتها حتماً، فمن الصعب تحديد ماذا وكيف وما النطاق الذي سيتعين على منظمة شنغهاي للتعاون القيام به في المستقبل، حتى تصبح أداة مهمة لحل مشكلات التنمية طويلة المدى للمشاركين فيها. لذلك، سيتم حل هذه المجموعة من القضايا، في جميع الاحتمالات، على أساس ممارسات التفاعل الناشئة بالفعل في المجالين الأول والثاني الذي يهمنا.

……………………………

تأليف: تيموفي بورداجايف – باحث في المجلس الروسي للشؤون الدولية.

ترجمة عن الروسية: د. سليمان إلياس – مركز الفرات للدراسات.

رابط المقال الأصلي

زر الذهاب إلى الأعلى