دراسات

القضيّة الكرديّة في المعادلة الشرق-أوسطيّة

القضيّة الكرديّة في المعادلة الشرق-أوسطيّة

(أبرز المنعطفات التاريخيّة – آفاق وحلول)

ملخّص.

تعدّ القضيّة الكردية واحدة من أهمّ القضايا في المعادلة الشرق-أوسطية، لما لهذه القضية من تعقيدات وتشابكات على مختلف الصُعد، لأنّها قضيّة شعب تعرّض للمظلوميّة التاريخيّة بأقسى صورها، وخاصة طوال القرن الماضي، بدءا من اتفاقية سايكس-بيكو وحتى الوقت الحالي، فقد حرِم الشعب الكردي طوال تلك الفترة من المشروعيّة القانونية وخضع لمنطق القوة، فقسّمت جغرافيته وألحقت بأربعة كيانات جديدة (تركيا-سورية- إيران -العراق) حديثة التكوين والتنوّع تشكّل أغلبها على أنقاض الإمبراطورية العثمانية التي حكمت المنطقة أكثر من أربعة قرون.

لذا فإنّ هذا البحث يتناول أبرز المنعطفات التاريخية التي شهدها القرن الماضي وأثرها على القضية الكردية، والتي تمخّضت عنها حروب عالمية اجتاحت العالم برمته، ونتجت عنها تحوّلات كبيرة أفرزت نتائج إيجابية وأخرى سلبية كان لها الدور الأكبر في تحديد مصير ومستقبل شعوب المنطقة في هذه البؤرة المتوترة من العالم التي تمتاز بموقع جيواستراتيجي مهمّ، يجعلها مركزا للصراعات وعدم الاستقرار، وما نشهده اليوم من حروب خير دليل على ذلك، حيث ترك الاستعمار الغربي بعد رحيله وراءه مجتمعات في غاية التعقيد، فقد ساد فيها التخلّف والجهل وتوقّفت مسيرة التنمية، وتمّ تقسيمها على أساس قومية مهيمنة وأخرى مظلومة، فازداد القمع والتسلّط والاستبداد، وانعدم الأمان والاستقرار، وبدأ كلّ فرد يشعر بأنّ أمنه وحياته في خطر، لكن ما يلفت الانتباه في تاريخ المنطقة خلال هذه الفترة هو غياب المثقف الحقيقي في هذه الدول التي ألحقت بها جغرافية كردستان، ليقوم بمسؤوليته التاريخية في لعب دور في إنقاذ مجتمعاتنا من الهلاك والمآسي، من خلال الدعوة إلى الانفتاح على الآخر، واحترام خصوصيته القومية والدينية والثقافية من أجل بناء مجتمع سليم ينبذ الكراهية والعنف ويسهم في البناء الحضاري، فالعداء للشعب الكردي من قبل الآخر لا يجلب سوى العنف والدمار، والخاسر الوحيد هي الشعوب، لذا واجب على مثقفيّ الدول المقتسمة لكردستان أن يبادروا إلى إيجاد حلّ لهذه القضية الإنسانية التي تهمّ شعوبهم بقدر ما تهمّ الكرد، إذا لا مفر من القفز فوقها او إهمالها، فحلها اليوم قبل غد هو الحلّ الناجع للجميع.

مقدمة

بعد مضيّ أكثر من مئة عام على قيام الدولة القوميّة التي اختطفتها الأنظمة الاستبداديّة في الشرق الأوسط، ومرور المنطقة بعدّة منعطفات تاريخيّة، ابتداء من الحرب الكونيّة الأولى، وما تلاها من قيام الحرب الكونيّة الثانية، وفترة الحرب الباردة بين قطبي العالم (الولايات المتّحدّة الأمريكية والاتحاد السوفياتي سابقا)، والتي تمخّضت عن مجملها نتائج إيجابيّة وأخرى سلبيّة، كان لها الأثر الأكبر في ترسيم وتعديل خرائط المنطقة، وكذلك خلق مجتمعات، وقولبة صياغتها، وفق مفاهيم مطروحة ورؤى جديدة تتوافق مع المصالح الاستعماريّة، وتتناسب مع طبيعة كلّ مرحلة وخصوصيّتها، فعلى الرغم من ذلك لا زال يشعر كلّ فرد في المنطقة أنّ حياته وأمنه في خطرٍ شديد، ولا يقتصر هذا الخطر على جانب معيّن، بل يشمل كلّ جوانب الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتى النفسيّة، وإذا تمعّنا في الجذور التاريخيّة للمشكلة سنكون أمام معضلة يصعب إيجاد حلّ سحريّ لها بين ليلة وضحاها، لما تحمله من حيثيات تاريخيّة وموروث فكريّ وثقافيّ تراكَم خلال البنية المتحوّلة لهذه المجتمعات عبر عشرات السنين، والتي بُنيت في مجملها على أساس فلسفة إقصائيّة للآخر المختلِف، ديدنها “إمّا أنا وإمّا أنت” فازدادت الأوضاع تعقيدا بمرور الزمن، وانعدم الأمن والسلام المجتمعي، لما لعبته تلك المنعطفات من أهميّة على الصعيدين المحلّي والعالميّ، لأنّها سبّبت في تغيير جغرافية الكثير من الدول، وبالتالي أثّرت على السياسة الدوليّة واتّجاهاتها المستقبليّة، ومن جرّاء ذلك انهارت دولٌ وتكوّنت دول أخرى، وتغيّرت نوعية العلاقات بين الدول، حتّى غدت مصيريّة لبعض الشعوب.

فهذه المنعطفات التاريخية التي شهدها القرن الماضي أثرت على القضيّة الكردية، وكان لها الدور الأكبر في تحديد مصير ومستقبل شعوب المنطقة في هذه البؤرة المتوترة من العالم التي تمتاز بموقع جيواستراتيجي مهمّ، يجعلها مركزا للصراعات وعدم الاستقرار، وما نشهده اليوم من حروب خير دليل على ذلك، حيث ترك الاستعمار الغربي بعد رحيله وراءه مجتمعات في غاية التعقيد.

 

أولاً- الشرق الأوسط طوال القرن الماضي:

لا مبالغة حين نقول بأنّ الشرق الأوسط طوال القرن الماضي أصبح غارقاً في بركة من الدماء، ولا سيّما بعد رحيل الاستعمار الغربي الذي خلّف وراءه مجتمعات في غاية التعقيد، تتناحر وتتقاتل فيما بينها، وتتغذّى على أفكار وأيديولوجيات هدّامة، تهدف إلى استمرار الصراعات والعنف والعنف المضاد، وإبقاء المنطقة رهينة للمصالح الدولية للسيطرة على مقدّراتها واستثمار خيراتها وثرواتها، لذا فظهور التنظيمات الإرهابيّة اليوم ما هو إلا نتيجة للحالة الفكريّة الرجعيّة التي عشعشت في بنية هذه المجتمعات، بسبب التراكمات الثقافية للذهنية المنغلقة التي نمت وتطوّرت نتيجة لحالة القهر الاجتماعي والفكري التي ولّدتها أنظمة الاستبداد في منطقتنا، والتي أدّت إلى تخلّف المجتمع وعجزه عن مواكبة مسيرات التنمية والتي توقّفت بشكل نهائيٍّ، لا بل كانت في حالة تراجع مستمرّ في ظلّ تلك الأنظمة التي حجبت نور الحضارة والتقدّم أمام شعوبها، وفي ظلّ هذه المعمعة الممجوجة بعِلل الجهل والفقر والمرض والاستبداد والتسلّط تمّ تقسيم المنطقة على أساس قومية مهيمنة وقومية مظلومة، وكانت القوميّة الكرديّة القاسم المشترك للمجتمعات العربيّة والفارسيّة والتركيّة، والتي قسّمت على إثر اتفاقيات استعمارية بدءاً من سايكس –بيكو وانتهاءً بلوزان، وخاصة مرحلة سيفر- لوزان والتي تمثّل ما يمكن نعته بالحدث المأساوي في تاريخ النضال الكردي في سبيل الاستقلال والحريّة، حيث يقول بيشكجي:(1) (أنشأ المستعمرون بعد الحرب العالميّة الأولى؛ أي بعد انهيار الامبراطوريّة العثمانيّة دولاً مستعمَرة “بلدان تحت الانتداب” كما هو الحال في العراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان، ولم يؤسِّسوا دولة كردستان، وعلى ذلك، لم تُستعمَر كردستان، وإنّما جرى تقسيم الأمّة الكرديّة، وكلّ ما يمُت بصلة إلى الكرد وكردستان كي تختفي لغتهم من بين اللغات ويندثر تاريخهم …وأخمدت انتفاضات الكرد ضدّ هذا الظلم…وقمعت من خلال العمل المنسّق والعمليات العسكريّة المشتركة التي قادها الإمبرياليون البريطانيون وعملاؤهم الإقليميون في الشرق الأدنى…).

إنّ خلق حدود قومية لدول جديدة بعد معاهدة سيفر عام 1923م أدّى إلى توزّع الكرد بين عدّة دول؛ هي تركيا وإيران وسوريا والعراق وأجزاء من الاتحاد السوفيتي، وهذا ما أقحم القضية الكردية في أزمة حادّة مازالت تداعياتها تلازمها إلى اليوم، فبالرّغم من أنّ الشعب الكردي يعيش على أرضه التاريخية منذ آلاف السنين أسوة بالشعوب التي تجاوره، إلا أنّه حرم من المشروعية القانونيّة وتمّ اخضاعه لقانون القوّة، وعلى الرغم من امتلاكه لكلّ المقومات التي تؤهّله ليكون له الحقّ في تقرير مصيره وبناء دولته إلا أنّه حرم من ذلك، وبقيت قضيته رهينة بيد المخابرات الإقليميّة والدوليّة طوال القرن الماضي، وكلّ ذلك كان مقصوداً والهدف منه إبقاء السيطرة الاستعماريّة غير المباشرة على المنطقة، ولتكون القضية الكردية ورقة ضغط في يد الدول العظمى من أجل التحكم بالمنطقة، تحرّكها متى ما شعرت بخطرٍ يهدّد مصالحها وتواجدها، لذا فقد انشغلت المنطقة بكاملها ومنذ أكثر من مئة عام في صراع مدمّر يقوده العملاء الإقليميون بمساعدة المخابرات الدوليّة ضدّ الشعب الكرديّ الأعزل الذي حرم من حقّه في إنشاء دولته المستقلّة، وكانت التهمة جاهزة، فبمجرّد مطالبة الكرديّ بحقّه كان يتّهم بأنّه إرهابي وانفصالي، وهكذا كانت الدول التي ألحقت بها أجزاء كردستان تتعامل مع الشعب الكردي وفق قانون “إمّا أنا وإمّا أنت ” فترتكب بحقّه أبشع المجازر والجرائم، وحتى أنّها لم تتردّد في استعمال الأسلحة المحرمة دولياً منذ بداية القرن الماضي وإلى اليوم، فكان بحقّ مسلسلاً رهيباً ترك آثاره البعيدة على مستقبل شعوب هذه المنطقة الحسّاسة من العالم والتي تتميّز بتنوّع ديني وطائفي وفكري وقومي، حتى أنّ النزعة الطائفية لم تكن واضحة المعالم كما نشهدها اليوم، وإنما كان هناك اصطدام مباشر للتيار القومي: الفارسي، والعربي، والتركي مع التيار القومي الكرديّ الذي كان يحارَب من قِبلهم ويصنّف في قائمة الإرهاب والانفصال، وكان هناك تنسيق منظّم وعلى مستوى عالٍ بين مخابرات الدول الأربعة من خلال الزيارات الدورية للقضاء على الحلم الكردي والتعتيم عليه، وقمع كلِّ صوت ينادي بتحرير الشعب الكردي تحت زعم حماية الأمن القومي لهذه الدول.

 

ثانيا: القضيّة الكرديّة والمنعطفات التاريخيّة:

لقد شهد القرن الماضي ثلاثة منعطفات تاريخيّة هامّة، تمخّضت عن حروب عالميّة اجتاحت العالم برمّته، ونتجت عنها تحوّلات كبيرة أفرزت نتائج إيجابيّة وسلبية لا زالت تُلقي بظلالها على مصير العالم والمنطقة، لما لعبته وتلعبه من دور رئيس في تحديد مستقبل بعض الشعوب وخاصّة في هذه المنطقة “الشرق الأوسط” التي تتمتّع بفسيفساء قوميّ ودينيّ وطائفيّ وعرقيّ، وتضمّ شعوبا وأمما عديدة، وأبرز هذه المنعطفات هي:

1-الحرب الكونيّة الأولى: والتي بدأت شرارتها الأولى في عام 1914وانتهت عام 1918، وعلى إثرها أزيلت الإمبراطورية القيصرية الروسيّة والدولة العثمانية من الوجود، وبالتالي ظهرت دول جديدة على الخارطة السياسيّة الدوليّة، وبالطبع جرى تقسيم جديد لمناطق النفوذ بين الدول الكبرى، وتمّ تقسيم كردستان للمرّة الثانية بين عدّة دول في منطقة الشرق الأوسط، ومع ذلك كان لهذا المنعطف جوانبه الإيجابية، كقيام الدولة الاشتراكيّة الأولى وهي الاتحاد السوفياتي، وكان لكلّ شعب من الإيجابيات والسلبيات، فأمّا الجوانب الإيجابية لهذا المنعطف التاريخي الهام بالنسبة للشعب الكردي فكانت معاهدة سيفر عام 1920 ومنح الحكم الذاتي لكردستان الحمراء في 7 تموز عام 1923.(1)

2- انتهاء الحرب العالميّة الثانية: والتي بدأت 1939 وانتهت في العام 1945، ومن نتائج هذا المنعطف أن تجزّأت ألمانيا، وبالتالي فقدت نفوذها في جزءٍ كبير من هذا العالم، ولذا جرى توزيع جديد لمناطق النفوذ، وجرّاء ذلك ظهرت دول اشتراكية جديدة، ودول ذات سيادة في العالم الثالث، وأمّا الجوانب الايجابية لهذا المنعطف التاريخي بالنسبة للكرد، فكانت تأسيس جمهورية كردستان في مهاباد عام 1946 والتي لم تدُم سوى أحد عشر شهرا، لذلك يُعد هذا المنعطف نكسة تاريخية للشعب الكردي، وأصبحت الجمهوريّة الكرديّة الفتية ضحيّة المؤامرات الدوليّة والمصالح الاستعماريّة.

3- الحرب الباردة بين القطبين العالميين: فكان من نتائجه انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي عام 1991، والتي هزم فيها الاتحاد السوفياتي، وعلى إثرها اندلعت حرب الخليج، وظهرت دولٌ جديدة على الخارطة السياسيّة للعالم، ومن نتائجه الإيجابيّة بالنسبة للشعب الكردي قيام إقليم كردستان العراق الذي يعدّ مكسباً تاريخياً للشعب الكردي في الأجزاء الأخرى بعد نضال طويل، والذي يتطلع إليه الشعب الكردي كنواة لدولة كردستان المستقبليّة.

فعندما انتهت الحرب الباردة بدأت مرحلة جديدة في صفحات تاريخ الشرق الأوسط، وأخذت تطفو على السطح معطيات جديدة، تتوضّح ملامحها شيئا فشيئا. بدأت بتفكّك الاتحاد السوفياتي، وما تلاه من سقوط النظام الديكتاتوري في العراق، وما نشهده اليوم من ثورات وانتفاضات ضدّ الحكّام المستبدّين، وظهور داعش الذي من مؤشراته ما يبدو وكأنّه سيشكل منعطفاً تاريخياً رابعاً في المستقبل القريب وبالتالي يمكن إضافته إلى تلك المنعطفات التي ذكرناها، وسيكون كذلك لهذا المنعطف كما المنعطفات السابقة نتائج إيجابية وسلبية على مستقبل المنطقة وشعوبها، ولا يُستبعد ظهور دول جديدة وزوال أخرى، وخاصة في هذه البؤرة المتوترة في الشرق الأوسط المليء بالصراعات التي خلّفتها الحقب السابقة والتي تحتضن بلاد الكرد، والتي تمتاز بموقع جيواسترتيجي هام.

والسؤال هو ما الذي يمكن أن تفعله هذه الشعوب لتخفّف من أعبائها ومأساتها وتعيش بأمان وسلام؟ وما الذي يمكن أن تفعله هذه الشعوب كي لا تتكرّر مآسي التاريخ من جديد، ويكون الخاسر الوحيد وقتها هو هذه الشعوب؟ لماذا لا تستفيد هذه الشعوب من دروس التاريخ وتبني مستقبلها بيدها؟ لماذا لا تبني هذه الشعوب مجتمعاً خالياً من العنف والصراعات، ويساهم في البناء الحضاري أسوة ببقية شعوب العالم المتطوّرة؟ على هذه الشعوب إدراك المرحلة الجديدة، وما ظهور التنظيمات الإرهابيّة كداعش ومثيلاتها إلّا إشارات قويَّة في هذا المنحى في تاريخ المنطقة.

ثالثاً- القضيّة الكردية والبحث عن الحلّ:

إنّ المنطقة تشهد الآن منعطفا هاما في تاريخها، وبعد مرور مئة عام على اتفاقية سايكس- بيكو، ولاسيما بعد ظهور تنظيم داعش الذي يُعتبر الوجه الأعنف لأنظمة الدول التي تحتلّ كردستان وتقسّم أجزائه، ويشكل مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة التي لم تعرف الاستقرار طوال القرن الماضي ومطلع القرن الجديد، وكما هو معروف فإنّ تنظيم داعش أداة من صنع المخابرات الاقليميّة والدوليّة، فللمخابرات الإقليميّة اليد الطولى في إنشاء هذا التنظيم الإرهابي الذي يظهر من خلال أعماله وتصرُّفاته أنّه يعادي الشعب الكردي وتطلّعاته القومية بالدرجة الأولى، حيث يمدّ هذا التنظيم بالمال والسلاح من خلال شخصيات وجهات اقليمية تضمِر العِداء للشعب الكردي وتسعى بشتّى الوسائل للتعتيم والقضاء على الوجود الكردي وإجهاض هذه الفرصة التاريخية التي قلّما يجود الزمان بمثلها، فالعقلية الشوفينية للدول التي تحتلّ كردستان لا زالت مستمرّة في إنكار حقوق الشعب الكردي وقمعه من خلال الإرهاب الذي يبثّ الخوف والرعب في كلِّ مكان، فطوال مئة عام لم تستطع هذه الحكومات القضاء على الشعب الكردي وتجريده من خصوصيته وإرثه الثقافي، فبالرّغم من سياسات التعريب والتتريك والتفريس والمشاريع العنصرية وسياسات الجينوسايد بحقّه، بقي الكردي محافظاً على شخصيته المستقلة، واستطاع أن يتكيّف في كلِّ جزءٍ مع تلك السياسات، ويحمي نفسه من خطر الإبادة، والسؤال الأهمّ لمثقفي هذه الدول هو: ما الذي يمكن أن يجنوه من الاستمرار في عدائهم للشعب الكردي؟ لماذا يرون دائماً بأنّ العنف هو الوسيلة الناجعة لحلِّ القضايا والمشاكل؟ أليست النتيجة تدمير هذه المجتمعات وجعلها تغوص في الوحل أكثر فأكثر؟ فلماذا الإيرانيون ينسبونهم إلى أصل فارسيّ؟ بينما يدّعي الأتراك بأنّهم طورانيون وأتراك الجبال؟ أمّا العربُ فيحاولون التقليل من شأنهم فينسبونهم إلى أولاد الجنّ، لماذا يستمرّ هؤلاء في محاولاتهم لإبقاء الكرد مهملين يعانون العزلة والتخلّف؟

حتّى أنّ الأمر وصل بدولة تركيا إلى عدم الاعتراف بوجودهم فيها، كلّ ذلك بهدف الوصول إلى دمجهم بشعوبهم واعتبار بلاد الكرد جزءاً من بلادهم، وفي كثير من الأحيان تحوّل الكردي إلى مواطنٍ من الدرجة الثانية وأدنى، إذاً كيف يمكن لنا أن ننقذ مجتمعاتنا من الهلاك والويلات.

للإجابة على هذا السؤال لابدّ لنا في البداية أن نتكاتف جميعاً نحن أبناء هذه المنطقة الهامة في العالم، لنبني مجتمعاً يسوده الأمن والاستقرار و السلام الاجتماعي، ولبناء هذا المجتمع السليم لابدّ من إيجاد مناخ مناسب للانفتاح على الآخر واحترام خصوصيته القوميّة والدينيّة والثقافيّة بدلاً من اللجوء إلى العنف وإقصاء الآخر، لنبني مستقبلاً تنعم فيه شعوبنا بالأمن والسلام، ولنساهم معاً في بناء مجتمع عصريٍّ يجيدُ قراءة التاريخ ويملك رؤية تاريخيّة يرسم من خلالها أهدافه الاستراتيجيَّة بناءً على احترام الأخر المختلف وعلى قاعدة” أنا وأنت سنبني أوطاننا ونحترم خصوصيات بعضنا الآخر”.

وبذلك سنكون في النتيجة أمام مجتمع جديد خالٍ من الظلم والإقصاء ويسهمُ في البناء الحضاري الإنساني من دون أن يكون رهيناً بيد سلطة أو أن يكون أداة يحركها الآخرون كيفما يشاؤون، مجتمعٍ يكون لإرادة شعوبنا دورٌ فعّالٌ في صياغته، لا أن يكون مجرد دمى بأيادٍ خارجيّة توجّهه حسب ما تمليه عليها مصالحها.

إنّ الحرب طويلة الأمد التي خاضها الشعب الكردي مع الحكومات العراقيّة المتعاقبة، وكذلك التركيّة والإيرانيّة كانت نتيجة لاتفاقية سايكس-بيكو ومن مساوئها، لذا من الضروري أن يبادر المجتمع الدولي إلى تغيير صياغة خارطة المنطقة وفقاً لميول الشرائح المختلفة من أجل استتباب الأمن والاستقرار لمناطق الشرق الأوسط مرّة أخرى، ولاسيما مثقفو الدول المحتلة لكردستان الذين غابوا عن القيام بدورهم المنوط بهم طوال القرن الماضي، لا بل ساهم الكثير منهم بشكل أو بآخر في ترسيخ الفكر المتطرّف ومعاداة الشعب الكردي إلى جانب الأنظمة االديكتاتورية التي كانت تمارس القمع بحقّ الشعب الكردي، لكن أصعب ما في الأمر هو أنّ بعض المشاريع الشوفينية ساهم في صياغتها مثقفو هذه الدول التي تقتسم كردستان.

إذاً، بعد هذا الصراع المديد الذي لم يجلب سوى الدمار والخراب للمنطقة، أليس حريّاً بمثقفي هذه الدول أن يبحثوا عن الحلول المناسبة لكافة القضايا التي تعيق تقدّم مجتمعاتهم، وفي مقدّمتها القضية الكردية التي لم تخمد نيران ثورتها طيلة القرن الماضي، لذا فإنّ بقيت هذه القضية من دون حلٍّ جذري في السنوات القليلة القادمة، فإنّنا سنكون أمام مسلسل تراجيدي جديد، أكثر بشاعة وألماً من ذي قبل، وخاصة بعد انتشار الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي التي لعبت دورا كبيراً في تنمية وعي الجماهير وتعريفها بقضاياها ومشكلاتها، ونشر وإظهار كلّ ما يحدث على الأرض هنا وهناك بالصوت والصورة.

فالحلّ واضح- بغض النظر عن الشكل- يكمن في وضع مجموعة من الأسس والمعايير تحدّد كيفية إيجاد حلٍّ لقضية شعب يتجاوز عدده حسب بعض الإحصائيات الخمسين مليوناً وحرم من حقّه في إقامة دولة مستقلّة على أرضه التاريخية، وتعرّض لشتى حملات الإبادة خلال التاريخ الحديث، وبناءً عليه فإنّه واجب إنساني وأخلاقي على كلّ مثقفي الشرق أن يضعوا خطوات جريئة لإيجاد حلّ لهذه القضية الشائكة يضمن الأمن والاستقرار لكلّ شعوب المنطقة سيما أنّ هناك قواسم مشتركة بين أبناء المنطقة يمكن الاستناد إليها وبيان أهميتها في تفعيل لغة التقارب بين كلّ الأطراف للجلوس على طاولةٍ تجمعهم وبالتالي إدراك المسؤوليّة التاريخيّة الملقاة على عاتقهم تجاه شعوبهم، فالحدّ من ظاهرة الاستعلاء القومي تحت يافطة الحفاظ على الأمن القومي للدول التي تحتلّ كردستان والتي مارست وتمارس (الأنظمة الحاكمة) بذريعة حمايته شتى أساليب القمع والإرهاب بحقّ الشعوب التي تتعايش معها، يحتاج إلى إعادة النظر في هذه المفاهيم التي لا تزيد الطين إلّا بلّة، فلا زالت هذه الأنظمة تعتمد في رؤيتها للقضايا على عقلية مرتكزة على تفكير أحادي الجانب، وبعيدة كلّ البعد عن أهمّ وأخطر قضية ستعاني منها ليست الأنظمة وحسب، بل وكلّ شعوب المنطقة لما تمتاز به هذه القضية من تعقيدات سياسية وجغرافية وتاريخية، وما نشهده اليوم من مشاهد مروعة كلّها تنصب في هذا الجانب، لذا فإنّ الرؤية القاصرة والإقصائيّة لهذه القضية جلبت وستجلب المزيد من الويلات والهلاك، فحلّ هذه القضية هو مسؤولية الجميع؛ العربي، والتركي، والفارسي قبل الكردي.

لقد أفرزت الأحداث التي عصفت بالعالم في العقد الأخير من القرن الماضي وبداية القرن الجديد تبدّلات وتغييرات في المفاهيم السياسية والثقافية والاقتصاديّة والاجتماعيّة السائدة، وذلك بسبب تنوّع الأخطار وتعدّد المشكلات على مستوى العالم كظاهرة العنف واللااستقرار والهجرة والإرهاب وغيرها، وقد أدّى ذلك إلى ظهور تصوّرات ورؤى جديدة لإعادة النظر في ترتيب الخارطة العالميّة بما ينسجم ويتلائم مع المعطيات الجديدة للفكر العالمي الجديد.

وبما أنّ منطقة الشرق الأوسط تعتبر بقعة مهمّة في الخارطة العالميّة، بدأت الأنظار تتّجه إليها لإعادة ترتيبها من جديد وخاصّة أنّها في السنوات الأخيرة أخذت تعاني من اللااستقرار بسبب تزايد المشكلات والقمع نتيجة الاستبداد، وخاصة من قبل الأنظمة الحاكمة بحقِّ الشعب الكردي الأعزل، لذا نجد اليوم أنّ القضيّة الكرديّة بدأت تستقطب القوى العظمى في العالم التي تقدّم كلّ الدعم والمساندة لها في مواجهة قوى الشرّ والإرهاب، وأصبحت لها موازينها وأثقالها في قاموس السياسة الدوليّة، لا بل في عناوينها الأولى، ممّا أكسبها بُعداً دولياً وإقليميّاً، وتتجلّى اليوم في التعاون والتنسيق العسكري بين الكرد والدول العظمى في مواجهة أقوى وأشرس إرهاب يهدّد العالم، وفي مقابل ذلك نجد أنّ الأنظمة الشموليّة في المنطقة لم تجلب سوى الويلات لشعوبها وتعيش اليوم في أسوأ حالاتها وغير قابلة للإصلاح لما أصابها من المرض والترهل والفساد، وفي حالة سريريّة يرثى لها، لأنّها لا زالت تتغذّى على أوهام الاستعلاء والتعصُّب وتعاني من التخبّط والانهيار.

لذلك يجب أن يعلم الجميع أنَّ القضيّة الكرديّة اليوم تخطّت حدود الدول التي تقتسمها، وتجاوزت الخطوط الحمر التي رسمها أصحاب الفكر الشوفيني المتعصّب، وأصبحت متداولة في المحافل الدولية بقوّة لأنّها قضيّة شعب يعيش على أرضه التاريخية، وله كما لغيره كامل الحقوق في أن يكون له دولة أسوة بغيره من الشعوب التي تتعايش معه في المنطقة، إذ لا استقرار في المنطقة بعد اليوم من دون حلٍّ لقضيتهم، فالكرد أمّة لها كما للآخرين ثقافة وحضارة وتاريخ عريق، لذا يجب أن يبادر مثقفو الدول التي تحتلّ كردستان إلى إيجاد حلّ لقضيتهم التي تهمُّ هّذه الشعوب بقدر ما تهم الكرد، إذ لا مفرّ من القفز فوقها أو إهمالها، وأن يسعوا إلى تقريب وجهات النظر وفتح الملف بكلِّ جرأة ودعوة كافة الفعاليات السياسية والثقافية والاجتماعيَّة في هذه الدول إلى تبني هذه القضية وتحديد موقفها منها وإيجاد حلِّ منصف وعادل لها، وذلك بالانطلاق والارتكاز على النقاط التالية:

  1. تقديم الاعتذار للشعب الكردي، وإدانة الظلم التاريخي الذي تعرّض له.
  2. اعتراف كلّ دولة بالجزء الكردستاني الذي ألحق بها، وبالوجود الكردي التاريخي عليه كشعب له خصوصيته القوميّة.
  3. سيادة لغة الحوار كمنهج حضاري بدلاً من ثقافة العنف والدمار وإقصاء الآخر.
  4. تفعيل دور المنتديات والمحافل والجامعات في هذه الدول لشرح القضية الكردية وتعريف الرأي العالم بعدالتها والسبل السلمية لحلّها.
  5. استنهاض الروح الثقافية المشتركة والقيم المثلى عبر التاريخ التي تكفل إيجاد انسجام بين شعوب المنطقة.

إجمال

مع أنّ الشعب الكردي-كما يؤكّده التاريخ- كان له الدور البارز في توطيد وترسيخ وجود الشعوب المجاورة والمتعايشة معه في مراحل بنائها الحضاري ونضالها الوطني، لذا فهذه مسؤوليّة كلّ المثقفين وأصحاب الرأي والمتنوّرين في المنطقة، فكما هو معروف كلّما ساد الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمع ما ساد معه قيم الارتقاء والعدل، وقلّت فيه مظاهر العنف والفوضى بمختلف أشكالها وأنواعها، وكذلك الأمر على المستوى الدولي، فمع ترسيخ العدالة في العلاقات بين الأمم يسود البيئة الدوليّة الأمن والاستقرار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – كانت كردستان الحمراء جمهورية ذاتية الحكم تابعة لحكومة أذربيجان تأسست في بداية عهد لينين في 7 تموز/يوليو من عام 1923 وانتهت بشكل تراجيدي في الثامن من نيسان/أبريل عام 1929. تجدها في ويكيبيديا، الرابط: https://goo.gl/BwYBy7

2 – كردستان مستعمرة دولية، إسماعيل بيشيكجي، ترجمة زهير عبد الملك، منشورات APECللطباعة والنشر. ص 17.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى