دراسات

احتجاجات البنزين تضرم النار في شوارع إيران

اندلعت تظاهرات شعبية واسعة في معظم أرجاء إيران عقب صدور قرار بتقنين الوقود وزيادة سعر البنزين بنسبة 200%، حيث أعلنت الشركة الوطنية الإيرانية لتوزيع المنتجات النفطية، بدون إعلانٍ مسبق، عند منتصف ليلة الجمعة 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، عن عودة تقنين الوقود وارتفاع قيمة الليتر الواحد من البنزين الحرّ من 1000 (أقل من 9سنت) تومان إلى 3000 تومان (25 سنت).

جاء هذا القرار مفاجئاً وصادماً للمجتمع الإيراني في ظلّ ما يعانيه من ظروفٍ اقتصاديةٍ عصيبة ومن انهيار لقيمة العملة الإيرانية، وقد تنصّل الرئيس حسن روحاني من صدور هذا القرار في هذا التوقيت الحرج، إذ أوضح أنّ القرار تمت الموافقة عليه من قبل السلطات الثلاث في الدولة (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وأنّه أوكل تنفيذ القرار وتاريخ صدوره إلى مجلس الأمن الوطني وهو الذي أصدر القرار يوم الجمعة، دون أن يكون له علمٌ بذلك.

أعقب هذا القرار – الذي أيّده المرشد الأعلى علي خامنئي – على الفور احتجاجات في كلّ من مدن الأهواز وطهران ومشهد وشيراز وغيرها من المدن، وسرعان ما انتقلت إلى مدن أخرى مثل أصفهان وكرمان وقزوين وتبريز ومريوان وكرمانشاه وسنندج..

سمة الاحتجاجات

انطلقت شرارة هذه الاحتجاجات العفوية من الأهواز والأحياء الفقيرة في بعض المدن وضواحي العاصمة طهران، وكانت ذات طابعٍ سلميٍّ بحت، تندد بارتفاع قيمة البنزين، وتمثلت في قطع الشوارع والطرق الرئيسية وركن السيارات الخاصة في هذه الشوارع والامتناع عن تشغيلها والسير بها، لكن سرعان ما استعرت نيرانها وتحولت إلى تظاهرات واسعة ضدّ الجمهورية الإسلامية وقادتها الدينيين ومن بينهم المرشد الأعلى علي خامنئي بسبب إطلاق الرصاص على المحتجين.

وترافقت هذه التظاهرات بموجاتٍ من العنف تجلّت في أعمال تخريب كبيرة وإحراق للبنوك ومخافر الشرطة ومحطات الوقود ومقرات الباسيج المتخصصة بقمع الحركات الاحتجاجية، بالإضافة إلى حرق الحوزات الدينية و مكاتب ممثلي الولي الفقيه و أئمة وخطباء الجمعة؛ الأمر الذي يعتبر مؤشراً واضحاً على استياء الجيل الشاب في إيران من الطابع الديني للسلطة  وإقحام الدين في أبسط تفاصيل حياة المواطن الإيراني اليومية، وتسببت فورة الغضب الشعبية بتدمير البنى التحتية للكثير من المدن بنسبة كبيرة، ولم يبرّئ بعض الناشطين ذمّة عناصر تتبع للنظام الإيراني من المساهمة في عمليات التخريب والحرق؛ وذلك لإضفاء الشرعية على استخدام العنف وقمع المتظاهرين، كما لم تستبعد أصوات من داخل البرلمان الإيراني أيضاً حدوث أمرٍ كهذا على غرار ما كشف عنه البرلماني محمود صادقي.

مع توسع رقعة الاحتجاجات التي عمّت – بحسب مصادر حكومية إيرانية – 28 محافظة من أصل 31 وأكثر من 100 مدينة إيرانية، تمّ قطع شبكة الإنترنت والهواتف النقالة بقرار من مجلس الأمن القومي، وذلك للحدّ من اتساع رقعة الاحتجاجات وإضعاف التنسيق فيما بين المحتجين من جهة، ومن جهة أخرى للتعتيم على ما يجري داخل البلاد، ولا سيما في الظروف الحساسة التي تعيشها في ظلّ التوترات الدبلوماسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة.

استمرّت هذه الاحتجاجات قرابة أسبوع واحد، لكنّها كانت أعنف موجة احتجاجات شهدتها إيران خلال العشر سنوات الأخيرة، حتى أنّ المبعوث الخاص للشؤون الإيرانية في وزارة الخارجية الأمريكية برايان هوك، وصف هذه الاحتجاجات بـ “أسوأ أزمة سياسية للنظام الإيراني منذ 40 عاماً”، بينما شبهها نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني علي فدوي بعملية “كربلاء4” خلال الحرب العراقية- الإيرانية، لجهة خطورة هذه الاحتجاجات على  الجمهورية الإسلامية.

كيف سيطرت السلطات على هذه الاحتجاجات؟

إنّ تصريحات القادة الإيرانيين التي وصفت المتظاهرين فور نزولهم إلى الشوارع، بـ “الأشرار” واعتبارهم على صلة بالمعارضة الإيرانية في المنفى ولا سيما منظمة مجاهدي خلق وبـ “أعداء البلاد” كالسعودية وأمريكا وإسرائيل، دون الاستماع إلى أصواتهم ومطالبهم، تكشف عن تصميم النظام الإيراني على الوقوف في وجه هذه الاحتجاجات وإخمادها بأيّ ثمنٍ كان.

استخدمت الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة والباسيج والحرس الثوري العنف المفرط ضدّ المتظاهرين من خلال إطلاق الرصاص الحيّ عليهم وخطف جثث القتلى، وبحسب بعض الباحثين السياسيين الإيرانيين فإنّ السلطات كانت قد أعدّت نفسها منذ أكثر من عام لمواجهة احتجاجات محتملة، حيث كانت تقوم بتدريب عناصر للباسيج وكتائب تتبع لها على كيفية مواجهة الاحتجاجات فور اندلاعها.

ونظراً لصعوبة الوصول إلى المعلومات الدقيقة بشأن عدد ضحايا الاحتجاجات، نتيجة التعتيم الإعلامي وقطع شبكة الإنترنت، تباينت الأرقام حول أعداد الضحايا، فبحسب آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية والذي صدر في 16 كانون الأول/ ديسمبر 2019، فقد بلغ عدد الضحايا (304) قتيلاً، بينما أعلن موقع “كلمة” المقرّب من مير حسين موسوي زعيم الحركة الخضراء الإصلاحية عن وقوع (366) قتيل، في حين قدّر معارضون في الخارج أنّ (1500)  شخصاً على الأقل فقدوا حياتهم خلال الاحتجاجات، أما الحكومة الإيرانية فقد امتنعت عن نشر إحصائية رسمية عن عدد الضحايا، واكتفت فقط بتكذيب الإحصائيات الصادرة من خارج البلاد.

رغم أنّ مطالب المحتجين كانت واحدة في كلّ أنحاء البلاد، وتجلّى ذلك من خلال الشعارات التي كان يطلقها المحتجون، إلّا أنّ التعامل الأمني معها كان متفاوتاً، فالمدن التي كانت وتيرة الاحتجاجات فيها شديدة ووجهت بقمعٍ أشدّ من باقي المناطق، حيث تم مواجهة المحتجين في بعض المدن بالغاز المسيّل للدموع والرصاص الحيّ فقط، بينما نزلت الدبابات، ولأوّل مرة منذ قيام الثورة الإسلامية؛ إلى شوارع بعض البلدات وطوقتها كبلدة طالقاني في مدينة معشور (ماهشهر) جنوب الأهواز، وفتحت قوات الحرس الثوري النيران على المحتجين بالأسلحة المتوسطة وبوساطة الحوامات، وفقد العشرات من أهالي البلدة حياتهم، ونظراً لخصوصية المنطقة العشائرية وامتلاك أفرادها للأسلحة، قام الأهالي بالردّ بالمثل، وحدثت اشتباكات دامية بين الطرفين خلّفت عشرات الضحايا من المدنيين وعناصر الحرس الثوري، واللافت في الأمر أنّ السلطات الإيرانية اعترفت بمقتل عشرات المتظاهرين في هذه المدينة، وعزت ذلك إلى محاولة المحتجين تدمير الخطوط الرئيسية لنقل الطاقة.[1] ولهذه المدينة أهمية اقتصادية كبيرة، فهي تضمّ أكبر مجمع للبتروكيمياويات في إيران، وأكبر احتياطات النفط في إيران.

ولأجل السيطرة على هذه التظاهرات في هذا التوقيت الحساس الذي تمرّ به الجمهورية الإسلامية، لجأت السلطات إلى قطع الإنترنت عن البلاد وشبكة الهواتف النقالة، وذلك لإضعاف فاعلية الاحتجاجات ومنع حدوث تنسيق بين المتظاهرين وخروج مظاهرات مليونية إلى الشوارع والساحات على غرار ما حدث عام 2009 خلال الثورة الخضراء في البلاد[2].

اتّبعت السلطات الإيرانية وسائل أخرى أيضاً؛ مثل الاعتقالات وتهديد المحتجين بعقوبات تصل إلى الإعدام ومحاولة تشويه صورة الحراك الشعبي، من خلال بثّ اعترافات لبعض الشباب الذين ألقي القبض عليهم وإرغامهم على الاعتراف بتلقيهم تعليماتٍ من الخارج لتنفيذ هذه الاحتجاجات، كذلك عمدت هذه السلطات إلى التعتيم الإعلامي ومنع وسائل الإعلام من تغطية الأحداث التي تجري في البلاد، والتهديد المباشر لأسر العاملين في المنابر الإعلامية والمحطات التلفزيونية التي تنشط خارج البلاد والتي كانت تسعى إلى تسليط الضوء على الداخل الإيراني وحركة الاحتجاجات وقمعها من قبل السلطات.

كما يمكن إدراج تصريح الرئيس الإيراني حسن روحاني عن إمكانية العودة إلى المفاوضات مع الولايات المتحدة شريطة إلغاء الأخيرة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، في خانة سبل مواجهة الاحتجاجات، وذلك لضمان عدم تصاعد الدعم الأمريكي لحركة الاحتجاجات.

هل حقاً كان البنزين سبباً في اندلاع نيران هذه الاحتجاجات؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك تراكمات وضغوطات كثيرة أدّت إلى هذه الاحتجاجات، وكانت زيادة تسعيرة البنزين سبباً مباشراً لإشعال جمرة الشعب الإيراني التي لم تخبُ بعد تحت الرماد .

وإذا ما أمعنّا النظر في العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم لوجدنا أنّ عواملَ قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى تتسبب في تفجير غضب الشعوب إذا ما جاءت في توقيتٍ يكون فيه الغضب والغيظ  الشعبي على أشدّه؛ وزيادة تعرفة الإنترنت في لبنان وتذاكر الميترو في تشيلي ومعارضة ضريبة الوقود التي أدّت لاندلاع احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا مثالٌ على ذلك.

لعلّنا نستشفّ السبب الرئيسي، والذي له التأثير الأكبر على ظهور هذه الاحتجاجات، من تبرير الرئيس الإيراني حسن روحاني لزيادة تعرفة الوقود، وذلك عندما قال إنّ هذه الزيادة تصبّ في مصلحة الشعب وطبقات المجتمع الفقيرة، وأنّه سيقوم بتوزيع عائدات هذه الزيادة على هذه الفئات. وبحسب إحصائيات مركز الأبحاث التابع للبرلمان الإيراني، الصادرة عام 2018 فإنّ ما يقارب 55% من الأسر الإيرانية تعيش منذ عام 2016 تحت خط الفقر، ونحو 17% من إجمالي السكان يعيشون تحت خطّ الفقر المطلق[3]. وتعتبر هذه النسب كبيرة بالنسبة لشعبٍ يعيش في دولةٍ يعتبر اقتصادها ثالث أكبر اقتصادٍ في الشرق الأوسط، نظراً لغناها بالثروات والموارد الطبيعية الهائلة[4].

وما زاد من حدّة تأثير الضغط الاقتصادي على الشعب الإيراني هو إهمال السلطة في إيران لحقّ مواطنيها في حياةٍ كريمة، وانصرافها إلى دعم نظريتها الدفاعية العسكرية التي تبنتها عقب انتصار الثورة على الشاه عام 1979، والتي تتمثل في توسيع رقعة أيّ مواجهة محتملة مع أعداء إيران من خلال دعم جماعاتٍ موالية لها خارج حدودها بالمال والسلاح، وتحريك هذه الورقة متى ما دعت الحاجة لذلك. ولا يخفى على الشعب الإيراني أنّ سلطات بلاده تنفق أمولاً طائلة على هذه الجماعات، بينما يعاني هو من البطالة والفقر المدقع وصعوبة الحصول على أبسط مقومات الحياة كالطعام والدواء، ولا سيما بعد العقوبات الاقتصادية الخانقة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران عقب انسحابها من الاتفاق النووي مع إيران في أيار(مايو) 2018.

إنّ الحالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردية التي تعيشها البلاد تدفع المواطن الإيراني باستمرار إلى التفكير بجدوى قيام الثورة ضدّ استبداد الشاه، حيث وعد الخميني حينها الشعب بتأمين السكن المجاني وحصول المواطن الإيراني على الماء والكهرباء دون مقابل وأنّ عائدات النفط ستكون من نصيب الشعب وأنّ كلّ أسرة سيكون لها راتباً مخصصاً من عائدات النفط وأنّ رجال الدين لن يتدخلوا في السياسة، كما أنّ الأحزاب السياسية ستحظى بالحرية التامة في أنشطتها ولن يكون هناك سجنٌ سياسي في البلاد.

لكنّ الواقع يقول غير ذلك، فالشعب الإيراني يعاني منذ عقود من حياةٍ مريرةٍ وسلطةٍ دينية مستبدة تفرض عليه “أوامر إلهية” على غرار سلطات القرون الوسطى، وتتدخّل في تفاصيل الحياة اليومية للمواطن الإيراني وتضع يدها على اقتصاد البلاد ومقدراته عن طريق الحرس الثوري الذي أنشأه الخميني لحماية نظامه الناشئ والدفاع عن مبادئ وقيم الثورة، والذي تحوّل مع مرور الوقت إلى قوة عسكرية وسياسية واقتصادية كبيرة في إيران، وبات يسيطر على حوالي ثلث الاقتصاد الإيراني من خلال تحكّمه بالكثير من المؤسسات والشركات والصناديق الخيرية.[5]

كما تعاني المرأة الإيرانية من قيودٍ شديدة، وهو ما يفسّر دور المرأة البارز في المظاهرات والاحتجاجات في إيران، ولعلّ أبرز المشاكل التي تواجهها المرأة الإيرانية هي مسألة الحجاب الإجباري واللباس الذي تفرضه السلطة الدينية عليها، وقد واجهت الكثير من النساء والفتيات الإيرانيات مصائر مفجعة على يد جماعات متطرفة مرتبطة بالسلطة، والتي كانت تقوم برشّ الأسيد على وجوههنّ بذريعة عدم مراعاة ارتداء الحجاب بالشكل اللائق، دون أن يخضع هؤلاء لأيّ ملاحقة أو مساءلة، وتصل عقوبة السير في الشارع دون حجاب إلى الجلد والسجن، كما تعاني المرأة الإيرانية من قلّة فرص العمل، حيث تبلغ نسبة العاطلات عن العمل بين خريجات الجامعات 65% بحسب باحثين إيرانيين، وتشترط أغلب الدوائر الحكومية، عند إجراء مسابقات التوظيف أن يكون المتقدّم للوظيفة ذكراً، كما أنّ المرأة الإيرانية لا تستطيع السفر خارج البلاد إلّا بوجود موافقة خطية من الزوج، كما يشترط بعض أرباب الأعمال أيضاً وجود هذه الموافقة في سبيل قبول توظيف المرأة، وهي محرومة من الكثير من الأنشطة الترفيهية كالغناء وارتياد الملاعب، وفي القانون الجزائي يُقال أنّ كفّة الميزان تميل لصالح الرجل، بالإضافة إلى صعوبات حياتية كثيرة أخرى تعيشها المرأة بشكلٍ يومي[6].

بدون أدنى شك لا تقتصر المعاناة في إيران على المرأة وحسب، وإنّما يشمل ذلك المجتمع الإيراني ككلّ، وتتمثل هذه المعاناة في التضييق على الحريات العامة وخضوع الحياة العامة لقواعد صارمة وتفضيل الموالين للنظام على بقية الشعب وغياب العدالة الاجتماعية، وتدهور مستوى الرعاية الصحية، وانتشار إدمان المخدرات على نطاق واسع بين الشباب الإيراني نتيجة اليأس وفقدان الأمل بالمستقبل، واستشراء الفساد بين مفاصل السلطة ووصوله إلى أعلى المستويات، وتهميش الأقليات الدينية والعرقية مثل الكرد والعرب والبلوش والآذريين والتركمان، والاضطهاد الذي تعاني منه الأقليات الدينية مثل الزرادشتيين و البهائيين واليارسان وغيرهم، وازدياد نسب البطالة وخاصةً بين خرّيجي الجامعات، والفقر المطلق الذي يعيشه نحو 20 مليون إيراني ( وذلك بحسب تصريحٍ  لرئيس لجنة الإغاثة في إيران عام 2017).  كلّ هذه التراكمات، بالإضافة إلى كسر الإيرانيين لحاجز الخوف بعد الثورة الخضراء 2009 وما تلاها من حركات احتجاجية، وأيضاً التأثر بالمظاهرات في العراق ولبنان المطالبة بالتغيير والرافضة للتدخل الإيراني في شؤون البلدين، كلّ ذلك كان سبباً كامناً وراء اندلاع احتجاجات البنزين الأخيرة في إيران.

اختلاف هذه المظاهرات عن المظاهرات السابقة في إيران

يرى بعض المراقبين والمحللين الإيرانيين أنّ احتجاجات (نوفمبر 2019) في إيران تختلف في عدّة نقاط عن باقي الاحتجاجات التي شهدتها إيران منذ نحو أربعة عقود، ومن أبرز هذه الاختلافات:

1- اتساع الرقعة الجغرافية: حيث يمكن اعتبار سلسلة هذه الاحتجاجات إحدى أوسع الاحتجاجات بعد ثورة 1979، حيث اشتعلت في نحو 700 نقطة في عموم أرجاء إيران.

كما يمكن اعتبار المشاركة الواسعة للمحافظات ذات الاختلافات العرقية سمةً بارزةً لهذه الاحتجاجات، ولذلك نجد أنّ العدد الأكبر من الضحايا سقطوا في المدن الكردية والعربية.

2- تقلّص الفترة الزمنية بين الاحتجاجات: بالنظر إلى الفترة التي تلت انتصار الثورة الإسلامية نجد أنّ الجمهورية الإسلامية كانت تشهد حركةً احتجاجية في كلّ عقدٍ من الزمن، بدأً من محاربة التنظيمات الماركسية وحركة مجاهدي خلق وقمع الانتفاضة الكردية التي رفضت التصويت لتأييد إنشاء جمهورية إسلامية في نيسان/ أبريل 1979، مروراً بالاشتباكات والاحتجاجات على سياسة التعديل الاقتصادي في مطلع التسعينات، والهجوم على حيّ الجامعة  والمظاهرات التي اندلعت في الشوارع بعدها عام 1999، وصولاً إلى الثورة الخضراء عام 2009، حيث خرجت مظاهرات مليونية في شوارع المدن الكبرى احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية  وتأييداً للزعيم الإصلاحي مير حسين موسوي المقيم تحت الإقامة الجبرية في منزله بطهران منذ 2011، وقد تقلّصت الفترة الزمنية بين هذه الاحتجاجات مؤخراً، حيث شهدت إيران عام 2017-2018 احتجاجاتٍ خرجت بسبب غلاء المعيشة والفساد الحكومي والبطالة، واعتبرتها العديد من الأحزاب والشخصيات من داخل النظام بأنها احتجاجات محقة وطالبوا بمساءلة الحكومة، وقد شملت معظم البلاد تقريباً، بالإضافة إلى  العديد من الاحتجاجات والاعتصامات الكبيرة والصغيرة خلال الفترة الأخيرة المطالبة بتحسين الوضع المعيشي والحريات الاجتماعية، مثل احتجاجات عمال شركة قصب السكر “هفت تپه” واحتجاجات المعلمین والموظفين المتقاعدين وسائقي الشاحنات وفتيات شارع الثورة ضدّ الحجاب الإجباري واحتجاجات الحركة الصوفية.

3- شدّة العنف الذي ووجهت به هذه الاحتجاجات، ووقوع عدد كبير من الضحايا، وكذلك العنف المقابل من قبل المتظاهرين المتمثل في تدمير البنى التحتية للبلاد، ولجوء بعض المتظاهرين في بعض المدن إلى الرد على رجال الأمن والحرس الثوري بالأسلحة التي بحوزتهم، وبالتالي غياب النزعة السلمية التي كانت تحرص عليها الاحتجاجات السابقة، ما يشكّل تحوّلاً خطيراً في مسار الاحتجاجات الشعبية في إيران.

4- المشاركة الواسعة للطبقة الفقيرة إلى جانب الطبقة المتوسطة وانضمام الحركة الطلابية إلى الاحتجاجات.

5- الانقطاع الكامل للإنترنت: ففي الاحتجاجات السابقة كان المتظاهرون يواجهون حجباً لبعض تطبيقات الإنترنت بشكل يعيق نشاطهم، لكنّ المتظاهرين كانوا يجدون سبل الالتفاف على حجب هذه التطبيقات وكانوا يرسلون مجريات الأحداث على الأرض إلى وسائل الإعلام خارج البلاد، أما في الاحتجاجات الأخيرة فقد عزمت السلطات على القطع الكامل لشبكة الإنترنت وتحمّل الخسائر الناجمة عن إغلاق شبكة الويب العالمية والذي قدرته كتلة التكنلوجيا والابتكار في البرلمان الإيراني بـ 17500 مليار تومان، وذلك مقابل السيطرة على حركة الاحتجاجات العنيفة والواسعة خلال مدّة قصيرة، نظراً لحساسية وخطورة المرحلة التي تمرّ بها إيران وبلوغ ملفاتها الهامة مع العالم الخارجي درجةً في غاية التعقيد[7].

هل أخمدت السلطات الإيرانية الاحتجاجات وحسمت الأمر بشكلٍ نهائي؟

أعلن الرئيس حسن روحاني يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني/ نوفمبر، السیطرة على الاحتجاجات قائلاً إنّ ” الإيرانيين هزموا مؤامرة العدو” وإنّ ” إيران تحتفل بالانتصار”.

وبالفعل فقد تمكنت السلطات الإيرانية من خلال القبضة الأمنية وحملات الاعتقالات الواسعة إنهاء الاحتجاجات في الشوارع، ولكن على الأرجح فإنّه إنهاءٌ مؤقت، والجرح الغائر الذي تركه هذا “الانتصار” في جسد المجتمع الإيراني لن يتعافى خلال وقتٍ قريب.

ومن خلال متابعة الناشطين الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي نجد أنّ الشريحة الكبرى من المجتمع الإيراني تعيش حالة صدمة كبيرة، وأنّ آثار الحسم الأمني الدامية لحركة الاحتجاجات بدأت تظهر رويداً، ولا سيما بعد عودة شبكة الإنترنت.

تظهر مواقع التواصل الاجتماعي في إيران أيضاً عن بقاء جذوة الاحتجاجات متقدة، وأنّ هذه الاحتجاجات ستعود إلى الظهور قريباً، وذلك من خلال دعوات للمشاركة في ذكرى مرور أربعين يومٍ على وقوع ضحايا هذه الاحتجاجات، ومن خلال الكتابات على جدران شوارع المدن والبلدات الإيرانية التي تتوعد السلطات بموجات احتجاجية أخرى قادمة.

كما أنّ موعد الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في شباط/ فبراير 2020 قد يشهد عودة الاحتجاجات من جديد، ولا سيما في ظلّ غياب أيّ بوادر قد تشير إلى امكانية حدوث انفراج في الوضع الإيراني المعقد على كافة الأصعدة.

إلى أين ستمضي الأمور؟

من المؤكد أنّ السلطات في إيران استشعرت الخطر الحقيقي المُحدق بها هذه المرّة، وستحاول إيجاد منافذ للخروج من هذا المأزق الخطير الذي تمرّ به البلاد، ولعلّها ستحاول إيجاد قنوات تواصل مع الولايات المتحدة في سبيل تخفيف الضغط عليها، ويرى باحثون أنّ زيارة الرئيس روحاني إلى اليابان مؤخراً ليست إلا خطوة في هذا الاتجاه؛ أي للتوسط بينها وبين الولايات المتحدة. كما أنّ مناداة المرشد الأعلى بـ “الرأفة الإسلامية”، وذلك من خلال امكانية اعتبار بعض قتلى الاحتجاجات شهداء، تعتبر بمثابة خطوة إلى الوراء، وهي تعتبر مؤشراً على محاولة السلطات لامتصاص الغضب الشعبي.

وفي حال استمرار حركة الاحتجاجات الشعبية ستسعى الحكومة الإيرانية إلى تقديم تنازلات أخرى لصالح الشعب المنتفض، مثل إعادة النظر في بعض القوانين المتعلقة بالحياة الاجتماعية كمسألة الحجاب الإجباري والسماح للنساء بارتياد الملاعب، وبعض التحسينات الاقتصادية، وأغلب الظنّ لن تكون هذه الإصلاحات مقنعةً وكافية، لأنّ المحتجين أعلنوا بشكلٍ واضح أنّ احتجاجاتهم ليست للمطالبة بالإصلاحات وإنّما لتغيير شكل النظام الإسلامي القائم في البلاد.

بالنسبة للولايات المتحدة يبدو أنها ماضيةٌ في سياسة “الحدّ الأقصى من العقوبات” ضد إيران حتى النهاية، فإمّا الرضوخ لمطالبها فيما يتعلق بالمجموعات المسلحة التي تدعمها إيران خارج حدودها وملفها النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، أو أنّ عليها أن تواجه الداخل الذي يعاني من تأثير هذه العقوبات الخانقة بالإضافة إلى معاناته التي أشرنا إليها أعلاه، لا سيما أنّ الإدارة الأمريكية تتجنّب خوض حربٍ مباشرة ضدّ إيران لما سيكون لذلك من تداعيات سلبية وكارثية على أمن المنطقة ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الخليج، وهي بذلك تسعى إلى محاصرة “القلعة الإيرانية” متبعةً المثل الصيني القائل بأنّ القلاع لا تهزم من الخارج وإنّما تُهزم من الداخل.

أمّا الشعب الإيراني في غالبيته لا يعوّل على الغرب والولايات المتحدة ولا على المعارضة الإيرانية المشتتة، وهو يعرف جيداً أنّ هذه الدول تهمها مصالحها الاقتصادية مع إيران بالدرجة الأولى، وأنّ مواضيع حقوق الإنسان والديمقراطية هي مواضيع زائفة حين تتعارض مع مصالح هذه الدول، ويتجلى هذا الأمر في سعي كلّ من فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى إنشاء آلية (إينستكس) المالية في يناير من العام الجاري، وذلك لتجنيب إيران العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة.

وهنا يمكننا اعتبار الحالة الإيرانية حالةً غاية في التعقيد، فالشعب محاصر بضغوطات هائلة تقيّد حراكه، وفي الوقت ذاته تدفعه وطأة الحياة المريرة التي فقد الصبر على تحملها، إلى حافة الانفجار.

وإذا ما استمرّ الوضع كما هو عليه، أو زاد سوءاً، واستمرّ قمع الاحتجاجات الشعبية، فهناك مخاوف حقيقية من أنّ تسلك هذه الاحتجاجات منحىً خطيراً عبر تسلّحها، وأن تنفجر حينها ثورة الجياع الذين باتوا يشكلون أكثر من نصف المجتمع الإيراني، وكذلك ثورة الأقليات المضطهدة على مرّ عقود.

 يقول عالم الاجتماع الإيراني، والمقيم في إيران، سعيد مُعيد فَر، عن الأيام القادمة التي ستشهدها إيران: “قريباً سوف يدمّر الملايين من الإيرانيين الذين يتضوّرون جوعاً كلّ شيء”.

1 برلماني: قتلى معشور كثيرون.. ونحن نعرفهم جيدًا.

[2] الحركة الخضراء الإيرانية.. “ثورة” شعبية لم تكتمل.

[3] خامنئي وخبرة ثلاثة عقود في قمع الاحتجاجات.

[4] القوي الاقتصادية في المجتمع الإيراني.

 [5] تعرف على الحرس الثوري الإيراني.

[6] القمع ومعاناة المرأة الإيرانية على يد نظام الملالي الإيراني الكاره للمرأة.

[7] مقال باللغة الفارسية بعنوان: اعتراض‌های ایران؛ هفت تفاوت آبان ۹۸ – مهدی شبانی، روزنامه نگار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى