دراسات

في الجهادية السلفيّة!

مقدمة:

أن نخوض في الإسلاميات، فنحن – وبلا أدنى شكّ – نخوض في ما يتشبّه بحقل مُفخّخ.. بحقل ألغام، سيطالنا منه الكثير الكثير من الملامة والامتعاض، هذا في الحدود الدنيا، إذ من يضمن ألاّ تجنح المسائل جهات التكفير – مثلا – أو حتى التصفيّة؟! بيد أنّ للضرورة منطقها، على هذا فقد تتطلّب منّا ما ليس منه بدّ! لماذا؟! لأنّ القداسة إذ سحبت ظلّها من الدين – أي من المتعالي والمُطلق – إلى تاريخ الدولة الإسلاميّة – بما هو شأن دنيويّ – يُعنى بمصالح البشر – يحكمه النقص – لن يصل بنا نحو الرغائب إلى ما شاء الله، وسيبقينا في خانة الفهم المغلوط، ناهيك عن إنّ تداخل الدينيّ بالدنيويّ يخلط الأوراق، فتشكل المسألة على الجمهور العريض!  

في هذا السياق ستطالعنا مصطلحات كثيرة، كانت لها دلالاتها الخاصة حال نشوئها، بيد أنّنا إذ نقف بها – اليوم – سنلاحظ تحويراً – أو تبدّلاً – طال تلك الدلالات، فحرفها عن دلالاتها الأصليّة، ذلك أنّها كانت تتطابق ومُمارسات بعينها يوماً، في حين أنّها – اليوم – أبعد ما تكون عن تلك الممارسات، هذا إن لم تناقضها في الجوهر، لتشير إلى معنى مغاير تماماً، على هذا سنقف بمفهومي السلفيّة أو الجهاديّة على سبيل التمثيل لا الحصر، ولندلّل على صحّة ما ذهبنا إليه، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّهما غيض من فيض!

  مفهوما الجهاد والسلف:

إن تحرّينا مصطلح الجهاد بداية، سنرى بأنّه سيقودنا جهات المسلمين الأوائل، أولئك الذين خرجوا من شبه جزيرة العرب، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لنشر الدين الإسلاميّ، وذلك بعد حروب الردّة التي أعلنها الخليفة أبو بكر الصديق، ما أعاد المرتدّين إلى حضن الإسلام، ليشمل الجزيرة العربيّة كلّها، أمّا إذا تبصّرنا في مصطلح السلف فسنفترض بأنّه – إذ ذاك –  سيحيلنا إلى “السلف الصالح”؛ أي إلى أولئك المسلمين الأوائل الذين جئنا عليهم في الجهاد، كمصطلح يتداخل معه في المعنى على تباينهما في المبنى!

على هذا فنحن إزاء مُصطلحين مُترادفين أو متقاربين، ثمّ إنّنا في حقل التأريخ لأنّنا نقف بمفاهيم تصرّم عليها ما ينوف على ألف وأربعمائة عام، إلاّ أنّ للحقل المذكور مكره، لذلك سنرى بأنّ وقوفنا به سيفضي إلى انزياح تدريجيّ فيهما، ليشيرا – اليوم – إلى سلفيّة أصوليّة ومتزمتة، على هذا قد تبدو جريمة كقتل المأمون لشقيقه الأمين حدثاً اعتيادياً، في ظلّ قداسة كتلك التي أتينا عليها، لتجبّ المعاني التي عبّرا عنها ذات زمان!

 قراءات في الإسلام:

نستعرض هنا قراءتين في الإسلام، الأولى تبدأ بالرسول محمد مُستشهدين بوثيقة المدينة، تلك التي تنظمّت العلاقة بموجبها بين المهاجرين والأنصار ويهود يثرب، ما يشي بتسامح ليس له حدود، تسامح سيصل إلى العفو عن مرتد، كان قد ارتدّ بعد أن أشهر إسلامه، فأشار الأصحاب على الرسول محمد بقتله، إلاّ أنّه عفا عنه، ولم يتعرّض له بسوء، على نحو يؤكّد ما جاء في الآية القرآنية أنْ (لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ) البقرة: 256 “، قراءة تبدأ بالرسول محمد – إذاً – لتمرّ بأبي بكر الصديق أول خلفاء المسلمين، إذ قرّر قتال المرتدّين، فأوصى بألاّ تقتلع شجرة وألاّ يُقتل طفل أو شيخ أو امرأة حامل –   على ألاّ ننسى بأنّ قرار أبي بكر اجتهاد سياسيّ اقتصاديّ، اتخذّه رجل دولة، وأنّه ليس من الإسلام ” ديناً ” وذلك أنّ الدين كان قد توقّف وحيا – فعمر بن الخطاب الذي أوقف غير حدّ من حدود الله مرات – مرة في عام الرمادي على سبيل التمثيل، إذ أوقف حدّ السرقة، فلم يقطع يد السارق، إذا أقدم عليها ليسدّ حاجته إلى الطعام، ومرة ثانية حين ألغى سهم “المؤلفة قلوبهم” – أي الذين يُشكّ في إسلامهم، ويخشى على الإسلام من لسانهم أو يدهم – من الزكاة، وذلك في حادثة شهيرة تتلخص في إلغاء إقطاعة – كان أبو بكر قد أقطعها حينها لعيي بن الحصين وحابس بن الأقرع درءاً لأذيتهم على الإسلام والمسلمين – بشكل نهائيّ، إذ علّل منح الرسول للسهم بضعف الإسلام في بداياته، ذاهباً إلى أنّ الأسباب الموجبة انتفت، إذ ترسّخ الدين بحسبه، وما عاد ثمّة خوف عليه من هؤلاء القوم! ثمّ عليّ ابن أبي طالب الذي رأى بأنّ النصّ “حمّال أوجه”، ما يتيح لنا قراءات مُتعدّدة في تأويله، على نحو يسمح بالوقوف على معضلات جديدة ما كانت قد انطرحت على المسلمين الأوائل، وذلك بهدف إيجاد حلول لها من داخل النصّ!

تلك – إذاً – قراءة أولى، لكنّنا سنقف بقراءة أخرى، وسنحاول أن نتلمّس الفروق بينهما، لنتحرّى تطوّرات الخطاب السلطويّ في الإسلام عبر محطات ثلاث، تبدأ بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إذ قال : أيها المسلمون.. من رأى منكم اعوجاجاً فيّ فليقوّمه.. ولينبري له بدويّ من عرض الصحراء قائلاً: يا أمير المؤمنين والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحدّ سيوفنا! وليتنهّد عمر في ارتياح، قائلاً : الحمد لله الذي جعل في الأمة من  يقوّم اعوجاجي! ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر سننتقل إلى العهد الأمويّ، إذ ها هو رجل من عليّة القوم يقول لمعاوية: والله يا بن أبي سفيان لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومّناه! ليتساءل معاوية : بماذا !؟ لقد وصلت الرسالة، واستوعبها الطرف الآخر في المعادلة، ذلك أنّها تضمّنت تهديداً مُضمراً، فردّ الرجل: بالخشب – على نحو يشي بتراجعه أمام سطوة السلطان، ما حوّل المسألة إلى مزاح – وليختتمّ معاوية الكلام بـ : أما إذا كان بالخشب فنقوّم! ثمّ ها هو عبد الملك بن مروان – المعروف بتقواه وورعه، حتى إنّ الإمام مالك أجاب على الجمهور في المدينة، حين سألوه : من نستفتي في أمور ديننا حال غيابك عن المدينة يا إمام؟! عليكم بولد من بني أمية يقال له مروان بن الحكم –  ها هو ابن الحكم يغلق القرآن حين يتبلّغ قرار تبوئه سدّة الخلافة، مخاطباً القرآن بقوله الشهير: هذا آخر عهدنا بك! حسناً.. ألم يكن ابن الحكم يشير بمقولته – تلك – إلى الفصل بين الدين والدولة بلغة اليوم؟! ثمّ ها هو يذهب بعيداً في علاقة الحاكم بالمحكوم إذ أعلن ذات يوم : من أراد أن يحاور فليحاور سيفي هذا، واضعاً الشورى كثيمة خلف ظهره!

التيارات الفكرية:

 في هذا المقام لن نأتي على الشورى التي وُضعت جانباً طويلاً، حتى أنّها لن تذكر إلاّ لماماً، وسنعتسف الزمن قليلاً – لطبيعة المقام – فنتوقف بالدولة العباسيّة، لنقول بأنّها – أي الدولة العباسية – شهدت تطوّراً غير مسبوق في مناحي الحياة كافة، ولذلك راحت أبنيتها الفوقية تتموّر بتيارات فكريّة لا تحصى، علم الكلام – الذي راده الحسن البصري – مثلاّ، واخوان الصفا في رسائلهم الشهيرة، المعتزلة الذين تزعمهم واصل بن عطاء، القدرية والجبرية – صفوان بن الجهم – وما بينهما فيما تعارف عليه بالمنزلة بين المنزلتين! لتتوّج بولادة الفكر الفلسفيّ، الذي يبدأ بأبي يعقوب الكندي 800 –  879 للهجرة – ويصل ذروته مع ابن رشد 1126 – 1198، لينتهي عند الملا صدر الدين الشيرازي – صاحب نظرية الأعراض في الجوهر – في الدولة الصفوية، وليتمثل في ابن رشد ذروة التيار العقلانيّ في الفلسفة الإسلاميّة، لكنّ هذا التيار سيضمحل بمقتله التراجيديّ، ليتبلور – بالمقابل – تيار آخر، تيار مُتشدّد سيتزعمّه أبو حامد الغزاليّ في – ” إحياء علوم الدين ” و ” المنقذ من الضلال ” – فهل ثمّة حاجة إلى أن ننوّه بأنّه صاحب الكتاب الشهير ” تهافت الفلاسفة ” الذي عارضه ابن رشد – إذاك – بـ ” تهافت التهافت “، وهل ثمّة حاجة للإشارة إلى أنّ هذا التيار تتوّج بابن تيمية، الذي تنسب إليه أوّل حالة تكفير في تاريخ الدولة الإسلاميّة؟!  

   ثمّ أنّ قطعاً سيطال تاريخ الأمة – بدءاً بالدور الثاني للدولة العباسيّة – فتنقسم، وتستقل الأطراف البعيدة عنها، وتشهد الأصقاع النائيات تشكّل دويلات على حساب الدولة المركزية – إذا جاز التعبير – وسيطال هذا القطع السياسة والاقتصاد والمجتمع، ولن تنجو منه السلسلة الثقافية التقليديّة، المُؤسّسة على الشعر أساساً، فيغيب عنها النثر الفنيّ، ذاك الذي أوثر عن الجاحظ في بيانه وتبيينه – مثلاً – أو أبي حيان التوحيدي في” المقابسات ” أو ” الإمتاع والمؤانسة ” أو ” الذخائر والبصائر ” ناهيك عن ” ألف ليلة وليلة ” درة النثر العربي القديم، وتغيب المقامة في نماذجها الرفيعة، تلك التي عرفناها عند بديع الزمان الهمذاني أو الحريري، كما ستغيب الجغرافية الوصفية التي تأسّست على يد ابن بطوطة وابن جبير، ويندثر فن الخطابة أو فنّ التراسل، الذي شهدنا نماذجه الرفيعة عند الوزير عبد الحميد الكاتب، ثمّ يتراجع الفكر الفلسفيّ، إذ اعتبر الملاّ صدر الدين الشيرازي صاحب نظريّة ” الأعراض في الجوهر “، الذي عاش في كنف الدولة الصفويّة،  فلا يتبقى من تلك السلسلة إلاّ الشعر، ربّما لقابليته للتواتر شفاهاً، أو لتشبهه – جزئياً – بآيات من القرآن الكريم، ذلك إنّ بعضها جاء موزوناً!

   هل نختصر المسألة لنقول بأنّ المسلمين إذ أُخرجوا من الأندلس في العام 1492 على يد ملوك قشتالة في اتحادهم – إيزابيل وفرديناند – إنّما كانوا يخرجون من التاريخ !؟ ذلك أنّ ديار الإسلام راحت تنقسم بشكل غير مسبوق، ثمّ خضعت للسيطرة العثمانيّة بين عامي 1516 – على يد السلطان سليم الأول لبلاد الشام بعد معركة موج دابق – و 1916 – الثورة العربية الكبرى، التي قادها الشريف حسين بالتحالف مع الإنكليز، والتي أخرجت العثمانيين من مناطق شتى من البلدان العربية مع نهاية لحرب الكونية الأولى 1914 – 1918 –  بموجب هدنة مودرس، بيد أنّ سياقات التاريخ – في مكره – أخضعته للاستعمار الأوروبيّ، ليرزح مع بقية أقطار الوطن العربي تحت نيره إلى ما بعد الحرب الكونيّة الثانية 1939 – 1944 !

   كان مركز الحضارة العالمية قد انتقل إلى أوروبا الناهضة مع نهايات القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، أي بالتوازي مع إخراج المسلمين واليهود من الأندلس، الذي تصادف مع اكتشاف كريستوف كولومبوس للعالم الجديد، فتوافق الدارسون على اعتبار الحدثين بداية العصور التاريخية الحديثة!

ثمّ إنّ مشروع النهضة الثانية – ذاك التي شكّل طه حسين ولطفي السيد وعلي عبد الرازق أهمّ أقطابه – كان قد أخفق أيضاً لغير سبب – تماماً كما أخفق مشروع النهضة الأول، ذاك الذي راده الأفغاني ومحمد عبده – ولعلّ أبرز تلك الأسباب تتلخص في غياب المؤسّساتية عنه، ناهيك عن هيمنة الاتجاه الليبرالي على فكر أقطابه، وتشتت دعواتهم بين المحليّ والخارجي، إضافة إلى غياب النسق الفكري الواضح ! فتسيّد – بالتوازي مع ترسّخ حكومات أوتوقراطيّة مستبدّة، تسنمت سدّة السلطة عبر انقلابات عسكرية، وذلك في أعقاب هزيمة الأقطار العربية أمام إسرائيل 1948 – خطاب متشدّد، خطابٌ لم ير ضيراً في تكفير الآخر، ومثّل سيد قطب – تحت تأثير الغزالي وابن تيميّة – هذا الخطاب خير تمثيل!

بروز تيارات متشددة:

    بتأثير ذلك الخطاب – إذاً – برزت تيارات أصوليّة مُتشدّدة، كان تيّار الإخوان المسلمين – الذي أسّسه حسن البنا في مصر – أبرزها، مستغلة المناخ العام المتديّن لجموع البشر، ناهيك عن انكسار أحلام المواطن العربيّ في الحرية والوحدة والاشتراكية، لا سيما إثر هزيمة حزيران 1967، التي عرت النظام الرسميّ العربيّ، ليعيش هذا المواطن نكوصاً جهات الدينيّ والمذهبيّ والطائفيّ والقبليّ، أي جهات ما قبل الوطنيّ، بسبب انغلاق الأفق أمامه، لكنّ تلك التيارات- في أسّها – العميق كانت تيارات تروم السلطة السياسيّة، وتنافح في سبيل التحصّل عليها، وها هم الإخوان المسلمون – في هذا السياق – يحاولون اغتيال عبد الناصر، ليُنكّل الأخير بهم، ويمزّقهم شرّ ممزق، حتى أنّه لم يتورع عن إعدام سيد قطب، أمّا بقية التيارات فهي تنويعات على هذا التيار، هذا هو حال طالبان، التي سيؤسّسها الملّا عمر في أفغانستان لاحقاً، أو القاعدة، التي أسّسها أسامة بن لادن، أو بوكو حرام في نيجيريا، أو جماعة أبي سيّاف في الفيليبين، بل أنّ هذا يذهب بنا إلى تشكّل دولة باكستان ذاتها، ذلك أنّ انقسامها عن الهند لا يخرج عمّا تقدّمَ من أطر كثيراً، وها نحن نقف اليوم بأحد أكثر تلك التيارات تشدّداً، حتى راحت التيارات الأخرى تستلهمه في تشدّدها، ذلك أنّ الدولة الإسلامية في العراق والشام ” داعش “، كشركة مساهمة مُغفلة، أسهم في تأسيسها أكثر من جهة،  أوغلت في دماء العباد – مسلمين وغير مسلمين – على نحو غير مسبوق!

خاتمة :

هل كان للغرب المستعمر – بريطانيا بداية، والولايات المتحدة فيما بعد – دور في تخلق تلك التيارات، وذلك لإرباك الدولة الوطنيّة – التي كانت قيد التشكّل – أو منعها!؟ حيثما توضعت الإجابة، فإنّ ما يحدث في اليمن والعراق وسوريا وليبيا والصومال – اليوم – جدير بالتوقف والدراسة والتمحيص، من غير أن نغفل وصول الإخوان إلى حكم تركيا في شخص رجب طيب أردوغان، ذلك أنّ ما يحدث يُهدّد كيانات بأكملها، وعلى نحو يشي بانهيار تامّ، ما قد يقتضي ليس التنويه فحسب، بل وإطلاق صفارة الإنذار أيضاً، هذا إذا كان ثمّة وقت بعد!

بقي أن ننوّه في الخواتيم بأنّ هذه الورقة حاولت الوقوف بظهور التيّارات الأصوليّة المُتشدّدة، لتعيدها إلى جذورها .. إلى الأصول، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّها لا تجزم بصوابها، ربّما لاحتكامها إلى قراءة ذاتيّة، ناهيك عن أنّ الادعاء بالقبض على جمر الحقيقة لا يخلو من الغرور، ربّما لتوزّعها، أو لتغيّرها عبر الزمن، ثمّ من يدري، فقد يقيّض لهذه الورقة من يرفدها أو يعارضها، ما ينضج الموضوع ويغنيه!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى