دراسات

التغييرُ الديموغرافيّ في عفرين نابعٌ من ذهنية السلطة والدولة

التغييرُ الديموغرافيّ في عفرين نابعٌ من ذهنية السلطة والدولة

محمد أرسلان علي

مقدمة

الحرب في سوريا أو على سوريا؛ هي نفسها الحرب التي شهدتها المنطقة قبل آلاف السنين والتي تشكّلت بموجبها أولى الإمبراطوريات في العالم، ألا وهي الامبراطورية الأكادية، وتوالت الأحداث بنفس الأساليب القمعية والتدميرية، تحت حجة القضاء على الموجود القديم وإحلال الجديد مكانه، وكأنّ التاريخ في مساره الصحيح، وتقديمه للعالم على أنّه الأفضل، وفرض ذهنية القمع على الشعوب الأصلية، وكأنها الحقيقة التي ينبغي القبول بها والتعايش معها.

ذهنية السلطة الإقصائية الممتدّة من آلاف السنين، والتي ما زالت مستمرة حتى راهننا وبأسماء مختلفة، وآخرها ما طبّق في منطقة عفرين، تؤكد حقيقة استمرار العيش في مرحلة توحّش الإنسان تجاه أخيه الإنسان، فذهنية السلطة والدولة تخوّل الحاكم والأمير والقائد والرئيس مطلق الحرية في قتل من يريد وتهجير من يراهم خونة وكفرة.

مفاهيم التغيير الديموغرافي

لمعرفة ما جرى في سوريا خلال الأزمة المستمرة منذ سبع سنوات، لابد لنا من أن نعطي بعض التعريفات معناها الحقيقي، وبحسب المواثيق والقوانين الحقوقية الدولية، وذلك كي ندرك أنّ هناك حرب مصطلحات محرّفة المعنى، يتم تمريرها عبر وسائل الإعلام لخدمة مصالح دول.

الديموغرافية: تعني دراسة الخصائص السكانية لرقعة جغرافية معينة، من حيث توزيع الأفراد على مجموعة معدّلات نسبية، مثل: الولادة، والوفاة، والفئة العمرية، والمرحلة الدراسية، والقوم، والجنس، والدين.

اللجوء: عملية مغادرة البلاد بغرض الحماية بسبب الحرب، أو الاضطهاد السياسيّ أو القومي أو الديني أو بفعل الكوارث الطبيعية.

النزوح: عملية مغادرة المسكن الأصلي لمكان آخر ضمن حدود البلاد بغرض الحماية لنفس أسباب اللجوء.

الاستيطان: عملية إسكان واسعة في أرض دون رضى أصحابها، بغرض تغيير التركيبة الديموغرافية للرقعة الجغرافية المستهدفة.

التهجير الجماعي: ترحيل مجموعة من الأفراد من موقع جغرافي إلى آخر، ويكون جريمةً في حال حصل قهراً دون رضى المهجّرين، أو في غياب السند القانوني، أو لم تتوفر شروط السلامة والحماية المطلوبة أثناء التنقل، ويشمل مفهوم الترحيل ما كان بإشراف قوة عسكرية أو شبه عسكرية من خلال تيسير عملية التنقل، أو من خلال فرض واقع أمني أو اقتصادي أو صحي لا يترك للمدنيين خياراً سوى الهجرة من محل إقامتهم.

الإبادة الجماعية: هي الجرائم المرتكبة بسبق نيّة وترصد بغرض التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو قومية أو دينية، إمّا من خلال قتل أفرادها، أو إلحاق ضرر جسدي أو نفسي جسيم بحقهم، أو إخضاعهم عمداً لظروف عيش قاهرة، أو فرض تدابير تحول دون تكاثرهم، أو من خلال نقل أطفال الجماعة عنوةً إلى جماعة أخرى.

⦁ جريمة حرب: هي كلّ جريمة جنائية بحقّ الأفراد المحميين بموجب القانون الدولي، والناتجة عن سياسة أو أوامر من القيادة، والتي وفّرت الحرب ظروف ارتكابها.

⦁ المجموعة الإثنية/الملّية: مجموعة سكانية تتميّز بنسق ثقافي أو انتماء قومي ويضمّ عادة اللغة والدين.

وإذا ما نظرنا إلى مشهد الحرب والنزوح واللجوء في سوريا، فسيكون بمقدورنا أن نُدرك بأنّ ما يجري في سوريا هو مخالِف لكلّ المواثيق والقوانين الحقوقية الدولية، والتي تقوم به وتطبّقه القوى المتصارعة في سوريا، والضحية الأولى والأخيرة هي شعوب سوريا.

كلمات أربع لا غير وهي الحصار، القصف، التجويع، فالترحيل. كلمات أربع تختصر استراتيجية الدول المشاركة في الحرب السورية والتغيير الديمغرافي، وبخاصة الدول التي سُميت زورا بالدول الضامنة لخفض التصعيد.

عفرين النموذج الواضح لذهنية السلطة والدولة في التغير الديموغرافي

بدأ الاحتلال التركي لعفرين بعد اجتماع أستانة 8 والذي تم الاتفاق فيه بين الأطراف الثلاث “الضامنة” روسيا وإيران وتركيا على تسليم الغوطة الشرقية للنظام مقابل تسليم عفرين لتركيا.

موجة النزوح من عفرين جاءت بعد القصف المكثّف وتحت التهديد بتدمير المدينة وقراها، ليتم بعدها البدء بتوطين عوائل من سكان الغوطة الشرقية في منازل أهلها بغية التغيير الديمغرافي. وتحت ضغط الهزائم التي تلقتها ميليشيات الغوطة الشرقية على يد الجيش السوري، تم التوصل، الجمعة 23 آذار/ مارس 2018، إلى اتفاق يقضي بخروج مسلحي «فيلق الرحمن» الرافضين للتسوية من القطاع الأوسط للغوطة الشرقية (مدينتي عربين وزملكا وبلدة عين ترما) وحي جوبر الدمشقي.

وعليه بدأت عمليات إجلاء الآلاف من مسلحي فيلق الرحمن الموالي لتركيا وعوائلهم ومدنيين في الخامس والعشرين من آذار/ مارس 2018 من جنوب الغوطة الشرقية للتوجه إلى شمال غربي سوريا في محافظة إدلب. يأتي هذا بموجب اتفاق بين فيلق الرحمن والحكومة السورية بضمانة روسية يقضي بعدم تعرّض المنسحبين من الغوطة للتفتيش من قبل القوات الحكومية.

من جانبه كشفت ميليشيا «فيلق الرحمن» أنّها تتواصل مع تركيا وميليشيا «الجيش الحرّ»، لتوطين مسلّحي غوطة دمشق الشرقية وعائلاتهم الذين تم ترحيلهم إلى إدلب، في منطقة عفرين التي احتلها النظام التركي.

وفيلق الرحمن، هو تحالف عسكري يتبع الجيش السوري الحرّ الموالي لتركيا، يتكون من عدة ألوية، وينضوي تحت رايته لواء البراء، لواء أبو موسى الأشعري، لواء شهداء الغوطة، تجمّع جند العاصمة، كتائب أهل الشام، لواء هارون الرشيد، لواء القعقاع، لواء الحافظ الذهبي، لواء المهاجرين والأنصار، لواء عبد الله بن سلام، لواء أم القرى، لواء الصناديد، لواء أسود الله، لواء سيف الدين الدمشقي، الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، اللواء الأول في القابون وحي تشرين، كتيبة العاديات في الغوطة الغربية.

ووفق موقع “فيلق الرحمن” الإلكتروني، تأتي تمويل عملياته على دعم مجموعة أصدقاء سوريا المساندة للثورة، دون أن يذكر من هم أصدقاء الثورة السورية الذين يدعمون المليشيا المسلحة، ولكن بعد اتفاق الغوطة، تشير التقارير إلى أنّ تركيا هي الدولة التي تقود وتنسّق عمليات “فيلق الرحمن” في دمشق”.

تلاقي مصالح الدول في التغيير الديمغرافي 

سعت تركيا إلى توطين مسلحي فيلق الرحمن وعوائلهم في عفرين وحزام الحدود السورية التركية، من أجل كسر التركيبة الديمغرافية التاريخية لمناطق شمال سوريا، والتي يقطنها أغلبية كردية، وهي معروفة من أهلها بروج آفا، وذلك لكسر الخصم التاريخي للأتراك وهم الكرد، عبر تغيير التركيبة الديمغرافية لمناطق الحزام الحدودية، ويأتي توطين عوائل “فيلق الرحمن” وغيرها من الجماعات المسلحة لتضمن تركيا السيطرة على مناطق الحزام الحدودي مع سوريا مستقبلاً.

ويتوافق المشروع الأردوغاني التركي الإيراني في سوريا، بأنّ التغيير الديمغرافي هو الحلّ الأفضل والأمثل في بقاء نفوذ البلدين داخل سوريا التي تعاني من ويلات الحرب وتدفع ثمن الصراع.

ربما أرادت القوى المتفقة على تهجير سكان عفرين في زرع الفتنة بين شعوب سوريا وخاصة العرب والكرد، وإشعال فتنة الحرب بينهما في المستقبل، وهذا ما يريدونه بالضبط كي يسيطروا على كِلا الطرفين واخضاعهم لمصالح المركز، إلا أنّ هذه السياسة جرّبها الكثيرون غيرهم ولم تنجح حتى هذه اللحظة، وخاصة في مناطق شرقي الفرات، حيث ضخت تركيا والنظام السوري كلّ إمكاناتهما لإشعال فتيل الحرب الأهلية بين الكرد والعرب من جهة والكرد والسريان والآشور من جهة أخرى، لكنّ كافة محاولاتهما باءت بالفشل الكبير ولم يتوصلا للنتيجة التي أرادوها.

النظامان التركي والسوري يفكران وفق منطق عقلية الدولة والسلطة الممتدة من آلاف السنين والتي تعتمد حديثا السياسة الإنكليزية أساساً لها وهي “فرّق تسُد”، وربما انطلت هذه السياسة على الجميع خلال القرن الماضي، ولكن الآن وفي القرن الحادي والعشرين تغيّرت موازين القوى، ولم يعد هناك صراع بين دول بقدر ما هو صراع بين الدول والشعوب التي تسعى لنيل حريتها.

خاتمة

الكرد الآن يحملون لواء العيش المشترك – منظّرها المفكّر عبد الله أوجلان- البعيدة عن ذهنية السلطة والدولة والتي تؤمن بأنّ منطقة الشرق الأوسط ليست مجموعة من الدول بقدر ما هي مجموعة من الثقافات المتعايشة مع بعضها البعض منذ آلاف السنين، وأنّها ستستمرّ في ذلك وتحجم ذهنية السلطة والدولة الساعية وراء الربح الأعظمي والتي أصبحت مسنناً صدئاً في ميكانيكا الرأسمالية.

سيفشل التغيير الديمغرافي في عفرين، لأنّ مقاومة الأهل للاحتلال مازالت مستمرة، وعلمتنا عِبَر التاريخ بأن لا قضية تموت ووراءها مطالِب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى