قضايا راهنة

الغزو التركي لعفرين المواقف والنتائج المتوقعة

منذ وصول رجب طيب أردوغان وحزبه إلى السُلطة، وهو يعمل على إعادة إحياء الدولة العثمانية بشكل حديث، معتمداً على آراء مُنظّر الحزب (أحمد داوود أوغلو) في كتابه (العمق الاستراتيجي).

طموحات تركيا

انطلق أردوغان من الالتفات شرقاً, على عكس مؤسّس الجمهورية كمال أتاتورك, الذي ذهب غرباً، وأعلن أردوغان عن سياسة صفر مشاكل مع الجيران“, ورغم فكاهية ولا معقولية الطرح، غير أنّه مضى فيه فحسّن علاقاته مع سوريا، ولعب دوراً كبيرا في إحياء محادثات السلام السورية – الإسرائيلية, وأخرج النظام من عزلته التي دخل فيها, كتداعي جريمة مقتل الحريري, ومن ثم عمّق العلاقات مع إيران، وبالتالي لبنان كتحصيل حاصل، وألغى الفيزا بين الدول الأربع, وسمّى العملية (شامكن) على وزن (شنكن) وتحولت سوريا إلى سوق لتصريف المنتجات التركية، وتحولت العلاقات السياسية إلى علاقة ودٍ شخصيّ وعائلي مع الرئيس الأسد وعائلته.

ولكن كلّ هذا ذهب أدراج الرياح, مع انطلاق موجة الربيع العربي، الذي ما إن وصل إلى سوريا حتى أمسك به أردوغان، ولأنّ المظاهراتِ انطلقت من الأرياف ولم تساندها المدينتان الكبيرتان دمشق وحلب, حصل التسليحُ وتحول إلى حرب أهلية، فخرج على إثره البعبع الطائفي من قمقمه، وكان لأروغان ونظامه دورٌ كبير في هذا، بالاتفاق مع عملائه من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين الفرع السوري, وكانت النتيجة، الحرب.

ظنّ الجميع بأنّ الولاياتِ المتحدة سوف تتدخل في الحرب الأهلية السورية، أو على الأقل توافق على فتح مخازن الأسلحة المتطوّرة للجهاديين وإسقاط النظام, وأول المتحمّسين لهذا الطرح أردوغان الذي كان يفرك يديه فرحاً بانتظار سقوط سوريا في يديه، وحكمها حكماً غير مباشر عبر عملائه, وتحقيق أول مكسب له وهو إعادة (أيالة شام شريف) إلى حضن الدولة العثمانية الجديدة !

ويبدو أنه لم تكن الخطة B موجودة عند نظام حزب العدالة والتنمية, فتخبّط أردوغان طيلة سنين الأزمة، لا يعرف ما يفعله، إلى أن حصل غزو كوباني من قبل داعش، التي انطلقت كتسونامي يجرف كلّ شيء أمامه، ووقف على أعتاب كوباني، وكانت الملحمة التي انتهت بتوصيل كانتون الجزيرة بكانتون كوباني, وبتحالف كرديأمريكي غربي وثيق, عندها انتبه أردوغان إلى الكارثة القادمة من وجه نظره, فأنزل سقفَ أمنياته بالقضاء على التجربة الناشئة في الشمال السوري وإجهاضها وهي في المهد، فتصالح مع الروس تصالحا هزيلا، وتأسّف من بوتين بكلمتين روسيتين, مما أدى إلى فتح المجال للقيام بما سمي (درع الفرات) في عام 2016 للاستيلاء على جيب جرابلسالباب، وذلك كي يمنع التواصل الجغرافي مع عفرين وإنشاء كريدور كردي يمتد من خانقين إلى البحر.

إنّ عِداء تركيا للكرد ليس وليد اليوم، أو بسبب سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي المقرّب من حزب العمال الكردستاني, وكلّ من يفسّر الأحداث وفق هذا المنظور يجافي الحقيقة ويدخل في متاهات.

إنّ عِداء الدولة التركية يعود إلى بنية الدولة التركية, شعب واحد دولة واحدة، أما الأقليات فليس أمامها إلا الإذابة الثقافية أو الجسدية, وبدأت أولى المجازر عام 1919 في (كوجكري) وإلى الآن, وإذا كان أتاتورك وعصمت اينونو يحاربون الكرد وفق أيدولوجية علمانية، فأردوغان يحاربهم وفق أيدولوجية إسلامية, ورغم ادّعاء أردوغان أحيانا برغبته في إيجاد حلّ للقضية الكردية، إلا أنّه لم يكن صادقاً ولا لمرة، بل إنّ معظم حلوله كانت سطحية، ويختبئ خلفها كرهٌ شديد للكرد, ظهر بعد فوز حزب الشعوب الديمقراطية في انتخابات البرلمان التركي في 2015 ومنعه من الحصول على الأغلبية المطلقة التي تجيز له إنشاء الحكومة من دون شركاء.

الغزو التركي لعفرين

تفتّحت شهية أردوغان بعد عملية درع الفرات, فأخذ يتحدّث عن عفرين تارة وعن عملية درع دجلة لاحقاً، ولكن ما كان يريده حقا هو عفرين لكونها معزولة، وباحتلاله يقضي على أمل الكرد بالتواصل الجغرافي.

وأيضاً أثار قرارُ القيادة الوسطى الأمريكية إنشاء قوة مسلحة من 30000 شخصا وتدريبهم، حفيظةَ جميع اللاعبين، فإيران خافت أن تكون هذه القوة مصدّا للتواصل الجغرافي الذي ترنو إليه, وتحقيق الهلال الشيعي وربط العواصم الأربع بطريق يجري حسب ما يقال إنشاؤه, من طهران مرورا ببغداد وصولاً إلى دمشق فبيروت.

روسيا والنظام السوري يخشيان أن تكون هذه القوة سنداً للوجود الأمريكي وحماية لفدرالية شمال سوريا المدعوم أمريكياً, وكان التركيّ هو الأكثر رعباً من أن تقوم أمريكا بتكرار تجربة شمال العراق، وهو ما كان يحذّر منه أردوغان, ويبدي دائماً إصراراه على منع حصول إقليم كرديّ آخر على حدودها الجنوبية, ورغم كلّ التطمينات التي قامت بها الإدارة الذاتية والحليف الأمريكي، ولكن دون جدوى، ويقال بأنّ إنشاء قوة حرس الحدود سرّع البدء بالغزو.

بدأت العملية بتوافق تركيروسي ومقايضة ريف دمشق الشرقي مقابل عفرين، وتهجير سكان الريف الدمشقي لتوطينهم في عفرين، وهذا ما كان يعنيه أردوغان بإرجاع عفرين لأهلها الأصليين، بدأت العملية في 20 يناير 2018 بحشد الجيش التركي الثاني وحلفاء تركيا من المتشدّدين، وما تبقى من كتائب ما كان يسمّى بالجيش الحرّ، ككتيبة نورالدين الزنكي والسلطان مراد وأحرار الشام والجبهة الشامية وأحرار الشرقية وغيرها من المسمّيات, وكانت الضربة الجوية بــ 72 طائرة حربية طراز f16 ؛ وقصف مدفعي هائل اندفعت خلفه كلّ تلك المجموعات.

إنّ تدخّل تركيا الحاصل في عفرين يضيف بعداً آخر للأزمة السورية المعقّدة أصلا, وقد أدى إلى الآن لتعزيز مواقع إيران وروسيا في سوريا، وهاتان الدولتان اللتان شجعتا أردوغان على الغزو، ولكنهما لن تسمحا لتركيا بقطف أيّة ثمرة ولن تصبح عضواً أصيلا في التحالف الثنائي الروسيالإيراني الشيعي.

إنّ الحرب على عفرين الكردية أدى إلى موجة احتجاجات في البلدان الأوربية المتعاطفة مع الكرد كشعب مظلوم، وهو ما أدى بالحكومة الألمانية لإيقاف برنامج تحسين دبابات (ليوبارد) التي تمتلكها تركيا.

إنّ الغزو سبّب كارثة إنسانية كبرى، ليس فقط لأهل عفرين بل لأكثر من نصف مليون نازح أيضا لجؤوا لعفرين هرباً من المعارك في شمال غرب سوريا، وحتى من مناطق درع الفرات، حيث التسيّب والنزاعات التي لا تنتهي بين الفضائل.

إنّ قول أردوغان بأنّه سيعيد عفرين لأهلها الأصليين حتماً لا يقصد به الكرد, فها هم مهجّرو غوطة دمشق وأرياف حمص يتم توطينهم في عفرين كجزء من السياسة الهندسية العرقية التيوالحقّ يقالبأنّ تركيا بارعة فيها وتعود تجاربها إلى بدايات القرن المنصرم.

إنّ تحالف تركيا مع الجماعات الجهادية ليس وليد الحاجة, بل هي جزء أساسي من استراتيجية أردوغان بعيدة المدى باستعمال هؤلاء كقوة ضاربة في وجه حلفائها الأوربيين, ومن الملاحظ أنّ تركيا تتحوّل تدريجيا إلى ملاذ لكلّ الحركات المتشدّدة وهو ما سيؤدي بها إلى طلاق حتمي مع الغرب.

الموقف الأمريكي

أمريكا سواء في عهد الوزير السابق (كيري) أو السفير المقال حديثا (تيلرسون)-حدّدت أهدافها في خمس نقاط، على رأسها إنهاء النفوذ الإيراني، والتوصّل لحلّ سياسيّ في سوريا بموجب قرار الأمم المتحدة2254، طبعاً بعد القضاء على داعش في سوريا والعراق.

وقفت أمريكا حائرة بين حليفها القديم وحليفها الجديد، ولم تأخذ موقفاً واضحاً من الغزو، وكلّ ما هنالك بضعة تصريحات على ضرورة التركيز على داعش وحماية المدنيين وإبداء القلق حول مصير المدنيين، وهذا بكلّ المقاييس الدبلوماسية اسمه عجزٌ عن اتخاذ موقف ضدّ الغزو، وغضّ البصر عن العملية التركية، مما سمح لتركيا بفتح أبواب الجحيم جواً وبرا على بضعة آلاف المقاتلين المسلحين تسليحاً خفيفا يواجهون لوحدهم مئة ألف عسكري تركي، ويتم بزج15000 جندي كلّ بضعة أيام في ساحة المعركة، ويعتمدون على تكتيك الهجوم البطيء والإمساك بالأرض، ومن ثم الانطلاق بقفزة أخرى حتى تم بلع كامل عفرين.

البعض يقول إنّ الموقف الأمريكي يعود إلى موقف التكنوقراط في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الذي لازال يعتبر تركيا حليفاً موثوقاً وضرورياً، وكأنّنا لا زلنا في الحرب الباردة والجيوش السوفيتية في جبهة القفقاس تتهيأ للانقضاض على الخليج الفارسي وجنوب أوربا, لذا لا وجود للرغبة والنية لتفضيل الشريك الكردي الجديد على الشريك القوي، على عكس المؤسّسة العسكرية واستراتيجيتها وخاصة القيادة المركزية، التي ترى في الكرد خير شريك في الحرب على الإرهاب، التي ومنذ انطلاقها بعد هجمات 11 من سبتمبر كان الكرد رأس الحربة فيها، والطرف المأمون والصادق الوحيد سواء في العراق أو سوريا.

الموقف الروسي

إنّ الاتفاق الروسيّ التركيّ ليس وليد اللحظة، بل يعود لأكثر من عام، عندما اجتمع وزير الدفاع الروسي مع قائد الأركان التركي في اسطنبول، وهناك تم وضع الخطوط العامة للعملية، والثمن الذي ستدفعه تركيا في آستانا ومناطق خفض التوتر وإلى ما هنالك.

نستطيع أن نقول بأنّ روسيا هي التي سمحت لتركيا بغزو عفرين، ليس فقط بسحبها قواتها قبل الغزو، بل بعقدها مقايضة، وهي عفرين مقابل الغوطة الشرقية وهو ما حصل, إضافة لأهداف أخرى، ومنها معاقبة القيادة الكردية على تحالفها مع أمريكا ومساهمتهم في قتل المتعاقدين الروس أثناء محاولتهم التوغل شرق الفرات, إضافة إلى ذلك فإنّ غزو عفرين ومعرفة الروس بشلل الولايات المتحدة لأسباب ذكرناها سابقا, سوف يولّد شرخا بين الحليفين ويزعزع الموقف الأمريكي شرق الفرات, ناهيك عن أنّ الحرب في عفرين ستجذب بقايا المعارضة المسلحة لحرب أخرى، لتفرغ روسيا والنظام السوري لإعادة سلطة النظام على ما تبقى من جيوب للمعارضة الضعيفة، والتي بحربها للوحدات الكردية ستضعف الوحدات الكردية، وهو ضعف تريده روسيا، كي لا يكون هناك في الساحة أحد أقوى من جيش النظام، ومن البديهي القول بأنّه لولا سماح روسيا بفتح الأجواء السورية ما كان للغزو أن ينجح، وهذا يعني بأنّ تركيا أصبحت أسيرة للراعي الروسي.

ولم تكن إيران أيضا بعيدة عن الاتفاق, فهي الشريك الثالث في لقاءات آستانا, لذا موافقتها كانت ضرورية لنجاح عملية الغزو.

هنا وفي هذه الجزئية لابدّ من القول إنّ تركيا وإيران، ورغم خلافتهما العقائدية, استطاعتا أن تتعاونا، ليس فقط في شأن عفرين، بل نسج علاقة تكتيكية بينهما، ومع الروس الراعي للتحالف الثلاثي، لذا لا يجوز لنا الاستغراب بنمو التبادل التجاري بينهما وتنسيق المواقف السياسية في الحد الأدنى, وتمكنتا من إزاحة مشاكلهما إلى حين، على الأقلّ حتى ينجلي غبار المعارك في سوريا، حيث تحارب قوات النخبة الإيرانية (فيلق القدس) مع ميليشيات شيعية في صف النظام السوري، وتركيا على النقيض, تدعم المجموعات الإسلامية التي جمعتها في الجيب الذي تسيطر عليه من جرابلس إلى إدلب.

نتائج متوقعة

رغم سيطرة تركيا وحلفائها على عفرين فإنّ نصرهم مؤقت, فالأغلبية الكردية لن ترضى أن يحكمها جيش محتلّ وفصائل تحت مسمى جيش حر، ولن يقبل الكرد المحاكم الشرعية واللباس الشرعي والشرطة الشرعية وديوان الحسبة وهيئة الأمر بالمعروف.

بعد مرور أكثر من شهرين لازال أردوغان يهدّد بالقيام بعمليات أخرى كغزو منبج, وهو ما يعني إما الاصطدام بأمريكا حيث قواتها تنتشر هناك، وهذا أمر لا طاقة لتركيا عليه، لذا من الممكن أن توثّق تحالفها مع إيران وروسيا من أجل خنق منطقة شرق الفرات من كلّ الجهات, ولا يجب أن يغيب عن البال القوات التركية المتواجدة في بعشيقة والقادرة على فرض حصار على معبر سيمالكا شريان شرق الفرات.

أما الخيار الثاني فهو قيام أمريكا باتفاق مع تركيا لإيجاد حلّ لمنبج وغير منبج أيضا، وبذلك ستخسر الكرد حلفاءها الوحيدينوتستبدلهم بالجيش التركي والمجموعات الإسلامية التي غدرتها سابقا، وهذا الأمر لا يروق لوزارة الدفاع الأمريكية، لأنها تعرف بأنّ الجيش التركي لن يساهم بشيء في الحرب ضدّ داعش إلا إذا كان لمصلحتها, بل تستطيع بعد الانتهاء من التهديد الكردي دعم المجموعات المسلحة لطرد أمريكا وإيران من سوريا وإسقاط النظام حتى.

إنّ الفصائل المسلحة تشكّل نقطة الضعف في معادلة عفرين، فهي مجموعاتٌ وثقتها وسائل الإعلام وهي تعفّش، لذا سيكون من الصعب على تركيا إدارتهم ومنعهم من التقاتل فيما بينهم، ولا حتى منعهم من شنّ هجمات على النظام، الأمر الذي سيعتبر إخلالاً للاتفاق الروسي التركي.

كما إنّ الوحدات الكردية لم تعلن هزيمتها، بل أعلنت الانتقال إلى تكتيكات حربية أخرى، وهي حرب الكرّ والفرّ وهم بارعون فيها، كما أنهم من أهالي المنطقة، ويعرفون دروبها ولديهم جهاز استعلامات هم معظم سكان عفرين، مما سيتحوّل تدريجياً حياة غزاة عفرين إلى جحيم لا يطاق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى