الشرق الأوسط الجديد: عصر الفيدراليات وإعادة توازنات القوى
في ظلّ تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران وميليشياتها، يبدو أن منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو إعادة رسم خريطتها السياسية والاجتماعية نتيجة للتحولات الكبرى التي تشهدها. يسعى “مشروع الشرق الأوسط الجديد” إلى إنهاء هيمنة النظامين الإيراني والتركي من خلال تقسيم الدول إلى فيدراليات وأقاليم شبه مستقلة بعد شل دور الميليشيات التي تعتبر أذرعاً لإيران وتركيا في المنطقة، هذه المتغيرات ستظهر بشكل أكثر وضوحاً مما سيعيد تشكيل موازين القوى والنفوذ، ما قد يخلق واقعاً جيوسياسياً وديناميكيات سياسية جديدة في الشرق الأوسط.
من هنا يتضح قلق تركيا العميق إزاء المتغيرات السريعة التي تشهدها المنطقة، وخاصة في ظل التحركات الإسرائيلية الأخيرة التي تجاوزت جميع الخطوط الحمر، بدءاً من اغتيال قيادات “حماس” مثل إسماعيل هنية داخل إيران، ووصولاً إلى اغتيال حسن نصر الله وقادة “حزب الله” البارزين. هذا التصعيد في المواجهة بين إسرائيل وإيران دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دق ناقوس الخطر، محذراً من تهديد مباشر على تركيا نفسها، وليس فقط على “الإسلام والمسلمين” كما في خطاباته السابقة. في كلمته خلال فعالية “معرض تيكنوفيست للطيران والدفاع” في ولاية أضنة، أشار أردوغان بشكل صريح إلى وجود “خطة خبيثة” تستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، مؤكداً أن هذه المخاطر لن تقتصر على غزة ولبنان، بل تمتد إلى ما وصفه بـ “تقسيمات سايكس بيكو الجديدة”، مما يعكس مخاوف تركيا من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط على حساب نفوذها.
فما هو مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” التي تسعى إسرائيل لرسمها؟ وما هي تقاطعاتها مع مشروع الشرق الأوسط الكبير التي تطرحها أميركا؟ وكيف يؤثر إنهاء دور الميليشيات التي تمثل أذرع إيران وتركيا مصير النظامين الإيراني والتركي؟ وما الشكل أو الهيكلية الجديدة المحتملة لدول الشرق الأوسط في خريطة الشرق الأوسط الجديد؟ وما موقع ودور الكرد في هذه المتغيرات؟
مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” في الرؤية الاسرائيلية والأمريكية
يتردد مؤخراً مصطلح “رسم شرق أوسط جديد” على ألسنة مسؤولين إسرائيليين أبرزهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إلا أنّ فكرة الشرق الأوسط الجديد ليست فكرة جديدة يطرحها نتنياهو، فقد سبق أنْ تم طرح الفكرة من قبل الرئيس الاسرائيلي السابق «شمعون بيريز» عام 1993م في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، حيث دعا فيه لفكرة شرق أوسط جديد قائم على” التنمية والرفاهية”، وتُبنى فيه العلاقات بين الدول بناءً تعاقدياً قائماً على المصالح المادية بالدرجة الأولى.
وتتقاطع ملامح “الشرق الأوسط الجديد” الذي تطرحه إسرائيل مع مشروع “الشرق الأوسط الكبير” التي تسعى أميركا لرسمه؛ ففي شباط/ فبراير 2004، قدم الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى مجموعة الثمانية مبادرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي مقدمة مبادرته حذر بوش “من اقتراب الشرق الأوسط من الانفجار بسبب التدهور الاقتصادي والاستبداد السياسي، وخطورة ذلك على الغرب ومصالحه في المنطقة”، لذا وضع ثلاثة ركائز وأهداف رئيسية لهذا المشروع والمتمثل في:
أولاً: إعادة تشكيل وترتيب أوضاع المنطقة لتقبل النموذج الليبرالي عبر الديمقراطية الغربية.
ثانياً: تهيئة المنطقة للعولمة، وهيمنة الشركات الأمريكية والأوروبية العابرة للقارات على اقتصاد المنطقة.
ثالثاً: دمج وتطبيع دولة اسرائيل مع العالم العربي في كيان شرق أوسطي.[1]
وبما أن إعادة رسم هذه الخريطة يحتاج إلى إعادة ترتيب موازين القوى ورسم خريطة سياسية مختلفة، لذا هناك من يرى أنّ إسرائيل “باتت أقرب للتطبيق العملي من أي وقت مضى” في ظل التطورات المتسارعة والمواجهات المستمرة مع ما يُعرف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران في المنطقة، وذلك منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر /تشرين الأول 2023.
ويبدو أن العامل المهم في “الشرق الأوسط الجديد”هو تعويم الدور العربي بقوة. لذا يبرز في المشهد الحالي تصاعد الصراع الإقليمي أو التنافس بين إسرائيل وإيران وتركيا، لأن إعادة رسم “الشرق الأوسط الجديد” يتناسب طردا مع تغيير موازين القوى، وهذا يعني أنه لا يمكن رسم هذه الخريطة مع بقاء النظامين الإيراني والتركي كقوى فاعلة ومؤثرة في المنطقة، وهذا ما يفسر تزايد مخاوف أردوغان من المخطط الإسرائيلي والمشروع الأمريكي في إعادة هيكلة الشرق الأوسط حيث لابد أن يطالها التقسيم.
وأبرز مخططات التقسيم المقترحة، كشفه مقال نشرته مجلة “آرمد فورسس”؛ (القوات المسلحة الأمريكية) في حزيران/ يونيو 2006م، للجنرال المتقاعد رالف بيترز بعنوان (حدود الدم، كيف يبدو الشرق الأوسط بصورته الأفضل)، واصفاً ذلك المقال بأنه “طبعة حديثة لمشروع تقسيم العالم الإسلامي الذي نظّر له المفكر الصهيوني برنارد لويس الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية..”[2]
وكل ذلك يعني أن ملامح الشرق الأوسط لن تظهر بعد حرب غزة ولبنان بل من التغيير في إيران وتركيا، فيما سيكون انتهاء حرب غزة بداية لإشعال أخرى داخل إيران وتركيا، عبر “الفوضى الخلاقة” وتكرار تجربة “الربيع العربي” في البلدين.
شلّ أذرع إيران وتركيا تمهيدا لتفكيك النظامين الإسلاميين في “الشرق الأوسط الجديد”
بما أن رسم خريطة “الشرق الأوسط الجديد” يصعب تطبيقه بوجود النظامين الإيراني والتركي، لذا تقويضهما يحتاج بداية إلى شل أذرعهما الممتدة لعمق غالبية دول الشرق الأوسط، وبالتالي فإن اغتيال حسن نصر الله، يمثل نقطة تحول هامة في مسار العمليات العسكرية والسياسية الإسرائيلية ضد الأذرع الإيرانية، و يأتي في سياق أوسع يستهدف تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، لا سيما عن طريق استهداف وكلائها مثل حزب الله والميليشيات في سوريا، العراق، اليمن، وحتى حماس في غزة.
هذا التحرك الإسرائيلي لا يمكن فصله عن التحولات الإقليمية والعالمية التي تعمل على تعزيز مكانة الدول التي ستندمج مع النظام العالمي الجديد، وتفكيك الدول التي ترفض هذه الواقع الجديد مثل إيران وتركيا وكافة الدول التي تشهد أزمات مزمنة يصعب حلها إلا عبر إعادة التقسيم الجغرافي والإداري بين القوى الفاعلة فيها مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا، وذلك لتحقيق الاستقرار الداخلي والخارجي وتنهي الأدوار السابقة للجماعات المسلحة والميليشيات وخاصة فوق الدولتية وبالتالي إما القضاء عليها عسكريا أو شل قدراتها العسكرية ودفعها اضطراريا أن تتحول إلى أدوات لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط بعد أن كانت سببا في خلق الفوضى وخدمة مشاريع توسعية لإيران وتركيا.
فالشرق الأوسط الجديد -كما يطرحه الفاعلون الإقليميون والدوليون- يتطلب وجود دول مستقرة قادرة على ضبط الأمن الداخلي وضمان سلامة الممرات البرية والبحرية التي تشكل العمود الفقري للأنظمة الاقتصادية الحديثة، وخاصة مع تزايد أهمية تلك الممرات في ظل المنافسة العالمية على الموارد. هذه الرؤية تتعارض مع وجود التنظيمات والميليشيات التي تشكل تهديدًا دائمًا لهذه الممرات الحيوية.
وبالتالي فإن ما يخيف تركيا في هذه المرحلة هو أن تظهر ملامح “الشرق الأوسط الجديد” الذي قد ترسمه إسرائيل وتحالفاتها، والذي قد يهمّش دور تركيا فيها إن لم تتكيف مع الأوضاع الجديدة. خاصة أن التهديد الذي تمثله إسرائيل اليوم لا يقتصر على قدرتها العسكرية بل على قدرتها على فرض معادلات جديدة للصراع والاستقرار الإقليمي. وتحييد الجماعات الراديكالية يمثل خطوة محورية في هذا الاتجاه، الأمر الذي قد يدفع تركيا لإعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية وتجنب أي مواجهة مباشرة مع القوى الدولية التي تدعم إسرائيل.
إن تصريحات السفير الأمريكي المتقاعد في تركيا “جيف فليك” الأخيرة ارسلت رسائل واضحة لتركيا بضرورة الإسراع في الاندماج في النظام العالمي الجديد وتفكيك شركاتها لصنع المرتزقة والتخلي عن الجماعات المتطرفة لتتمكن من لعب دور في جديد في مرحلة ما بعد حرب غزة، حيث قال جيف فليك: “من الصعب أن نتخيل أيّ حل طويل الأمد للوضع في غزة دون أن تلعب أطراف إقليمية مثل تركيا دوراً، إما كضامن أو في إعادة الإعمار. ولكن بدلاً من الترحيب بتركيا، ينبغي لواشنطن أن تتوخى الحذر. فالمشكلة لا تكمن فقط في التعاطف الأيديولوجي الذي يكنه أردوغان لحماس، بل وأيضاً في استعداده لاستخدام منظمة شبه عسكرية تركية تدعى “سادات” للعمل نيابة عنه. قبل منح تركيا دوراً في تدريب أو تجهيز الفلسطينيين في غزة، وخاصة في ضوء الأدلة التي تثبت أن الشركة دعمت الإرهاب من خلال تدريب وتجنيد مقاتلين لجبهة النصرة وداعش. وتعمل شركة “سادات” على ترتيب الأمن العسكري وتوفير التدريب للمنظمات التي تتبنى الأيديولوجيات الإسلاموية في ليبيا وأذربيجان وغرب إفريقيا وسوريا والعراق”[3].
فتوجه تركيا مؤخراّ لتطبيع العلاقات مع الدول الخليجية والعربية وخاصة مصر يعني أنها تدرك أن عصر التنظيمات والجماعات الإسلامية والمرتزقة التي كانت تعتمد عليها في تحقيق مشروعها التوسعي الإقليمي شارف على نهايته، وكانت عملية “طوفان الأقصى” هي القشة التي قصمت ظهر تلك الجماعات الإسلامية وخاصة الإخوان المسلمين الذين يعتبرون التنظيم الأم لحركة حماس، وباتوا منبوذين وملاحقين في الدول العربية والغربية على حد سواء وخسروا الكثير من قواعدهم الشعبية، وهذا يعني أن تركيا هي الأخرى تفقد أذرعها بالتوازي مع مساعي قطع أذرع إيران في المنطقة.
وبعد قطع أو شل تلك الأذرع لكل من إيران وتركيا يعني أنهما سيكونان أمام سيناريوهين اثنين؛ إما مقاومة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” والدخول في صراع عسكري مع اسرائيل وحلفائها وهذا السيناريو يصعب على البلدين المغامرة والخوض فيه. أما السيناريو الثاني هو الرضوخ والانكفاء داخليا، وهذا سيفرض عليها إجراء تغييرات جذرية في سياساتها الداخلية.
فالأنظمة الدينية والقومية -سواء في تركيا أو إيران- التي تفقد أذرعها الخارجية قد تضطر إلى الانكفاء داخلياً، لكن حتى داخل حدودها تواجه هذه الدول تحديات وأزمات كبيرة على الصعيد الطائفي، القومي، الاجتماعي، والاقتصادي. إن لم تبدأ بحل هذه المشاكل، فإن الاستقرار الداخلي سيظل حلماً بعيد المنال بالنسبة لها. وأي انهيار للنظام الإيراني سيؤدي إلى تقسيمها داخلياً، وهذا يرجح أن يبرز عدة أقاليم في إيران، كإقليم كردستان، شمال غرب إيران، وإقليم بلوشستان السني، جنوب شرقي إيران، وإقليم الأحواز، ذي الغالبية العربية شمال غربي إيران.
أما بالنسبة لتركيا فهي أيضا لن تكون بمعزل عن موجة التقسيمات الداخلية في خريطة “الشرق الأوسط الجديد” خاصة إذا تم القضاء على مشروعها التوسعي على غرار إيران وأذرعها، ويبدو أن مخطط تقسيمها موضوع على برنامج الولايات المتحدة في “الشرق الأوسط الكبير”، والتي كان قد كشف عنها الضابط الأمريكي المتقاعد “رالف بيترز”، حين نشر المخطط الأمريكي لتقسيم الشرق الأوسط، عبر مقاله المنشور بمجلة القوات المسلحة الأمريكية في عددها الصادر في حزيران/ يونيو 2006، مشيرًا فيها إلى أن العديد من الأقليات نالها ظلم فادح، أثناء عملية تقسيم الشرق الأوسط بواسطة معاهدة سايكس بيكو، والآن هو الوقت المناسب لإرجاع الحقوق المسلوبة إلى هذه الأقليات. وذكر بيترز أن شيعة العراق وكرده، وكرد تركيا، وأمازيغ المغرب وليبيا والجزائر، والبهائيين، والإسماعيليين، والنقشبنديين يمكن لهم تأسيس دول مستقلة، ويذكر بيترز “دولة كردستان الحرة” بشكل صريح[4].
وفي سياق متصل، نقل الخبير الاستراتيجي “سيفي شاهين”، عن أحد الضباط والذي عمل كممثل لتركيا في المجلس العسكري لحلف الشمال الأطلسي “الناتو”، قوله إنه كان هنالك اجتماع بين المستشارين العسكريين الممثلين للدول الأعضاء في الناتو، وبينما نحن في الاجتماع عرض ضابط أمريكي خريطة “الشرق الأوسط الكبير”، ما دفع الضابط التركي لإبداء امتعاضه الشديد لعرض هذا المشروع التقسيمي، ومغادرة غرفة الاجتماع، لأن مشروع تقسيم منطقة الشرق الأوسط مشمول بتركيا، وهذا ما يعيد إلى الأذهان تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “مادلين أولبرايت”، في أواخر التسعينات، حين قالت: “بأن تركيا أكبر من أن تبقى دولة خاصة بالأتراك فقط”[5].
فتركيا التي تعتمد حالياً على ركيزتين أساسيتين؛ (تقديم نفسها كمدافع عن قضايا الأمة الإسلامية، وحماية الهوية السنية، إلى جانب التحريض القومي ضد الأقليات، خاصة الكرد). ستفقد هاتين الركيزتين مع دخول المنطقة في عصر جديد من الفيدراليات والحكم الذاتي، حيث سيكون للكرد دور أكبر في إدارة مناطقهم، مما سيعزز من فرص الاستقرار الإقليمي. خاصة مع بروز الكرد في العقد الأخير كأحد أبرز الحلفاء للولايات المتحدة والغرب في محاربة الإرهاب، ما يجعلهم قوة لا يمكن تجاوزها.
من هنا نفهم شعور تركيا بالتهديد من هذا التغيير الذي ستجلبه إسرائيل بتصعيد حربها ضد إيران وأذرعها، وتخشى أن تكون هي الهدف التالي إذا ما نجحت إسرائيل في تفكيك أذرع إيران ونظام “الولي الفقيه”. في هذه الحالة، ستجد تركيا نفسها أمام خيارين: إما الاندماج في المشروع العالمي الجديد وإنهاء خطاباتها الدينية والتحريضية ضد إسرائيل، والعمل على تحقيق أمن إسرائيل واستقرارها الداخلي، أو مواجهة مصير مشابه لإيران، بما في ذلك فقدان ممرات التجارة الدولية وتحويلها نحو قبرص واليونان مروراً بإسرائيل.
إعادة تقسيم إيران وتركيا أو انهيار نظاميهما سيكون خطوة محورية في إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد في الشرق الأوسط. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تسهيل بناء منطقة أكثر استقرارًا وتوازنًا، حيث ستسهم التغييرات الجيوسياسية في إعادة رسم الخرائط الإدارية على أساس الفيدراليات والأقاليم شبه المستقلة. الهدف من هذا التوجه هو خلق كيانات سياسية أكثر قدرة على إدارة شؤونها الداخلية بعيداً عن تأثير القوى المركزية الكبرى، مما قد يساهم في تخفيف حدة الصراعات والتوترات في دول تعاني من النزاعات الطائفية والقومية مثل سوريا، لبنان، العراق واليمن.
في هذه البلدان غير المستقرة، من المتوقع أن يؤدي التقسيم الداخلي إلى أقاليم مبنية على التوزيع الثقافي والإثني إلى توفير حلول أكثر واقعية للصراعات المعقدة التي تواجهها. مع الإبقاء على الحدود الدولية الراهنة دون تغيير، فإن منح هذه الأقاليم استقلالية أكبر في إدارة شؤونها الخاصة قد يخفف من الضغط الداخلي ويسهم في تحقيق توازن سياسي واجتماعي، حيث تصبح كل مجموعة قادرة على الحفاظ على هويتها الثقافية والسياسية ضمن إطار فيدرالي أوسع، دون الحاجة إلى الانفصال الكامل أو الصدام مع القوى الأخرى.
وبالنتيجة فإنّه في حال تم شل أذرع إيران في سوريا وإبعاد النظام السوري عن الهيمنة الإيرانية، فإن سوريا قد تجد نفسها على مسار تحوّل نحو الفيدرالية بحكم الأمر الواقع. خاصة أنه عمليًا، سوريا مقسمة اليوم إلى عدة مناطق نفوذ متمايزة، هذه التجزئة الفعلية تمهد لاحتمالية نشوء نظام فيدرالي، يتناسب مع مصالح القوى الإقليمية والدولية التي تتصارع على النفوذ في البلاد. وبغياب التأثير الإيراني، قد يسعى المجتمع الدولي لتعزيز هذا الاتجاه كسبيل لتحقيق الاستقرار النسبي ومنع تجدد الصراع الداخلي.
وبالتالي فإنّ دور الإدارة الذاتية والكرد في هذا السيناريو سيكون محوريًا، خاصة في الشمال الشرقي حيث تدير الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي شؤون المنطقة. قد يصبح هذا الإقليم نموذجًا لحكم ذاتي يتماشى مع النظام الفيدرالي، ويتيح للكرد إدارة شؤونهم محليًا في ظل ترتيبات دستورية جديدة تضمن لهم المزيد من الاستقلالية. هذا سيعزز الاعتراف الدولي بموقع الكرد كفاعل سياسي رئيسي في سوريا ما بعد الصراع، في ظل غياب السلطة المركزية المطلقة واندثار النفوذ الإيراني المتغلغل.
وبالنظر إلى المتغيرات التي قد تطرأ على شكل الشرق الأوسط فإن ملامح كردستان الكبرى قد تظهر في خارطة الشرق الأوسط الجديد حتى وإن لم يتم المساس بالحدود الدولية القائمة، فتشكيل أقاليم كردية في كل من إيران وتركيا والعراق وسوريا سيجعل تلك الحدود مجرد حدود شكلية أشبه بالحدود الإدارية بين الأقاليم داخل تلك الدول، وعملياً سيكون هناك توحيد لأجزاء كردستان حتى وإن لم يطلق عليها اسم دولة كردستان الكبرى.
الرؤية:
باختصار، يبدو أن منطقة الشرق الأوسط تشهد تحولًا كبيرًا على صعيد التحالفات والاقتصاد، حيث تتجه دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، نحو لعب دور أكبر في المشهد الإقليمي والدولي، بينما تواجه تركيا تحديات في الحفاظ على مكانتها التقليدية كحليف رئيسي للغرب.
وفي كل الأحوال يبدو أن النظام الإيراني لن يسلم من التصدع والانهيار في نهاية المطاف. ففي حال تمكنت اسرائيل من إخراج الميليشيات الموالية لإيران من دائرة التأثير الإقليمي. هذا التحول سيؤدي إلى انهيار المشروع الإيراني الإقليمي، ويعيد تشكيل النفوذ الأميركي والإسرائيلي كقوة لا منازع لها في المنطقة. وبالتالي لا يمكن فصل سقوط النظام الإيراني عن انتهاء نفوذه الإقليمي، والذي كان يشكّل جزءاً أساسياً من استمراره في الحكم.
هذه المتغيرات والتقسيمات الإدارية، خصوصاً إذا تمت داخل إيران، قد تفرض على الجماعات والميليشيات الموالية لإيران مثل حزب الله، والحشد الشعبي، والحوثيين، وغيرها من الجماعات الإسلامية، أن تتجه نحو الحفاظ على وجودها عبر تبني الحلول السياسية لضمان السيطرة على المناطق الخاضعة لها. وعلى الرغم من أنها قد لا تتخلى عن أيديولوجياتها العقائدية، إلا أن الظروف ستجبرها على الابتعاد عن الحروب الإقليمية والصراعات الطائفية مع الأقاليم المجاورة. ستسعى هذه الجماعات إلى تهدئة الأوضاع مع محيطها لتطوير علاقات اقتصادية تساعدها على إدارة مناطقها بشكل فعال. وبذلك، ستعمل على تحقيق الاستقرار في مناطق نفوذها لضمان الاستفادة من المكاسب الاقتصادية التي ستوفرها الممرات البرية والبحرية وفقاً للترتيبات الجديدة في خريطة الشرق الأوسط.
يعكس التوجه الأميركي نحو الانسحاب من العراق وسوريا، بل وحتى من الشرق الأوسط بحلول عام 2027، تحولاً استراتيجياً نابعاً من تغيرات ملموسة في المشهد الإقليمي. فمع اقتراب نهاية الصراع العربي الإسرائيلي، وتراجع نفوذ المشروع الإيراني، وهزيمة “حماس” على الساحة العسكرية والسياسية، تبدو ملامح حل توافقي حول قضية فلسطين أكثر وضوحاً. والتوجه الحالي نحو “حل الدولتين” يمثل محاولة لطي صفحة طويلة من النزاع، وهي من بين أكثر الملفات التي كانت تسبب إرباكاً للسياسات الأميركية في المنطقة. فإذا تمكنت الولايات المتحدة من تحييد إيران عبر إجبارها على التراجع داخلياً وتوقيع اتفاقيات جديدة بشأن الملف النووي، بالإضافة إلى الحد من أنشطتها المتعلقة بالميليشيات والصواريخ الباليستية، فإن ذلك سيعيد ترتيب التوازنات الإقليمية ويخفف من حدة الصراعات.
بمجرد تحييد التهديد الإيراني، فإن التطبيع الكامل بين الدول العربية وإسرائيل سيصبح أمراً أكثر واقعية، حيث ستتمكن دول الشرق الأوسط من إدارة شؤونها الداخلية والخارجية بما يتماشى مع المصالح الأميركية دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر من واشنطن. هذه الاستراتيجية ليست فقط جزءٌ من خطة لتخفيف العبء العسكري والاقتصادي على الولايات المتحدة، بل هي أيضاً جزء من رؤية أوسع لمواجهة التحديات الجيوسياسية العالمية الأكثر إلحاحاً، لا سيما التنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا. هذا الانسحاب التدريجي سيسمح لواشنطن بتحويل مواردها وتركيزها نحو مناطق ذات أهمية أكبر في الصراع على القيادة العالمية، بينما تضمن مصالحها الأساسية في الشرق الأوسط عبر ترتيبات سياسية وأمنية مستقرة.
[1] -صحيفة الدستور الأردنية، 12 أكتوبر 2024 https://n9.cl/sy3qq
[2] – صحيفة الدستور الأردنية، 12 أكتوبر 2024 https://n9.cl/sy3qq
[3] – (المركز العربي لدراسات التطرف، 6 أكتوبر 2024) https://n9.cl/15k9yz
[4] -موقع ترك برس، 23 فبراير 2016 https://www.turkpress.co/node/18874
[5] -صحيفة رأي اليوم، 7 سبتمبر 2022 https://n9.cl/8osst