قضايا راهنة

عملية “ردع العدوان”: أبعادها وأثرها على توازن القوى في سوريا

في تحول ميداني غير متوقع، أطلقت “هيئة تحرير الشام” المصنفة على قوائم الإرهاب، وبعض الفصائل الموالية لتركيا، عملية عسكرية باسم “ردع العدوان”، نحو مدينة حلب، هذه العملية، فرضت تحولاً مفاجئاً في توازن القوى في الصراع السوري بعد فترة من الهدوء النسبي نتيجة للتفاهمات الروسية-التركية في إطار أستانا، حيث كان الدور الفاعل في الأزمة السورية بيد مجموعة أستانا، بينما بقيت مهام أمريكا والدول الغربية محصورةً في مكافحة الإرهاب ومحاربة داعش لغاية العام 2023 وتحديداً بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام نفسه، والتي غيرت المعادلة السياسية في المنطقة بشكل جذري.

شكل هذا التطور حالة جديدة في المشهد السوري، وباتت إسرائيل الصامتة نوعاً ما عن تطورات الأزمة السورية -عدا عن بعض الهجمات التي نفذتها من حين لآخر ضد الميليشيات الإيرانية- لاعباً أساسيا في الشأن السياسي السوري، لتغيّر من القراءات السياسية المعتمدة على تفاهمات أستانا، فما هي هذه التغييرات التي نجد نتائجها في أحداث حلب وما بعدها؟ وما التغيير الذي من الممكن أن تحدثه إسرائيل في المشهد السياسي السوري بعد دخولها معترك الأزمة السورية؟ وما دور الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى، وأهدافها، وتقاطعاتها، واختلافاتها.

دور قوى الهيمنة العالمية (أمريكا، بريطانيا، إسرائيل)

تحمل التحركات العسكرية الحالية (عملية ردع العدوان) بصمات غربية أوسع نطاقاً، تتجلى في توظيف الفصائل المعارضة، وفي مقدمتها هيئة تحرير الشام، كوسيلة ضغط على النظام السوري لدفعه نحو إعادة النظر في تحالفاته الإقليمية والدولية. فالضربات الإسرائيلية المتكررة ضد مواقع إيران وميليشياتها في سوريا أضعفت النفوذ الإيراني بشكل واضح، ما أتاح فرصة للولايات المتحدة وأوروبا لتكثيف الضغوط على النظام السوري ودفعه نحو تطبيق القرار الأممي 2254 الذي يُعتبر أساساً لأي انتقال سياسي شامل في البلاد. فالغرب، يسعى إلى إحداث تغييرات هيكلية في دمشق، تضمن فك ارتباط النظام عن طهران. وتحجيم الدور الروسي خاصة مع انشغال روسيا في حربها في أوكرانيا، من هنا، يمكن تفسير عملية “ردع العدوان” كجزء من خطة أوسع تهدف لإنهاء الوجود الإيراني عبر إضعاف حلفائها في سوريا. ما يتيح المجال لبعض التغييرات الجيوسياسية التي من شأنها تحقيق أمن إسرائيل في نطاق أوسع. إضافة إلى أنّ الإدارة الأمريكية الحالية تحاول الاستفادة من فترة الستين يوماً لتحقيق أقصى ما يمكن من الإنجازات السياسية التي ترضي الداخل الأمريكي وأمنها القومي، وإسرائيل.

الدور الإسرائيلي

طيلة السنوات السابقة عملت تل أبيب على استقطاب مراكز القرار العربي بدل التصعيد والمواجهة، وقد نجحت إلى حد ما في هذا السياق، من خلال سلسلة اتفاقات أبراهام التي  بدأت  في العام 2020 لكنّ عملية طوفان الأقصى وضعت السياسة الإسرائيلية في موقع جديد ومغاير لما كانت عليه في السابق، في البداية لم تكن أهداف إسرائيل الأمنية تتجاوز عشرات الأميال من حدودها، إلى جانب استهدافها لبعض المواقع الإيرانية في سوريا،  للتحكم بالقدرات العسكرية الإيرانية الموجودة في سوريا، وضمان عدم تناميها في ظل تطورات الأزمة السورية، فبادرت إلى الضغط على روسيا لإبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدودها الشمالية، عبر رعاية موسكو لاتفاقية الجنوب السوري عام 2018 بمشاركة إسرائيلية وأمريكية وتنسيق أردني، بهدف تهدئة التوترات في الجنوب السوري، خاصة في محافظتي درعا والقنيطرة، ومنع التمدد الإيراني وحزب الله اللبناني، وإبعادها لمسافة 80 كم عن الحدود الإسرائيلية الأردنية. إلّا أنه مع تصعيد المواجهة الإسرائيلية ضد حماس والمستمرة حتى الآن، فضلاً عن توسعها إلى لبنان والمواجهة الدراماتيكية مع حزب الله، ودخولها في مواجهة جوية ضد إيران، يبدو أن تل أبيب باتت في عملية تغيير شامل لاستراتيجياتها السياسية في المنطقة، وربما وصلت لقناعة أنّ عملية تحقيق أمنها القومي مرتبط بشكل مباشر بإنهاء الوجود الإيراني الشامل في المنطقة.

فإسرائيل التي كثّفت من استهدافها للمواقع الإيرانية في الجنوب السوري، سعت لدفع الميليشيات الإيرانية نحو الانسحاب إلى الشمال، ما أضعف قدرتها على تقديم الدعم لحزب الله والفصائل المرتبطة بالحرس الثوري، وبالتالي إنهاء الوجود الإيراني من سوريا، وما يؤكد ذلك أيضاً، أنّ هذه العملية جاءت بعد عدة ضربات إسرائيلية كبيرة استهدفت المواقع العسكرية الإيرانية وخطوط الإمداد وأسفرت عن خسائر استراتيجية للنظام السوري والميليشيات الإيرانية، بما في ذلك استهداف قيادات بارزة في غرفة العمليات المشتركة.

الدور التركي

إنّ زيارة رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) إلى تركيا ولقاءه برئيس الاستخبارات التركية قبل بدء الهجوم على حلب بأسبوعين تعد إشارة قوية إلى أنّه جرى تنسيق على مستوى واسع بين الجانبين، وأن هذه العملية التي قامت بها هيئة تحرير الشام والفصائل الموالية لتركيا، ليست تحركاً عسكرياً منفرداً، بل تبدو أقرب إلى تحرك منسق تم الإعداد له بعناية. هذه الزيارة التي جاءت بالتزامن مع تصعيد الضربات الإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا، توحي بوجود تنسيق مع أنقرة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. وهو مطلب إسرائيلي بالدرجة الأولى، وهو ما أكده مستشار خامنئي للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي بشأن دور تركيا في تطورات سوريا بقوله: ” لم نتوقع أن تقع تركيا في فخ أمريكا وإسرائيل” وذلك في تصريح لوكالة تسنيم الإيرانية في 3ديسمبر 2024 ما يوحي بإذعان أنقرة وخضوعها للمطالب الغربية بالوقوف ضد إيران، في عملية استدارة غير مسبوقة، والتي اعتبرتها إيران طعناً في الظهر.

تظهر الأحداث الأخيرة تراجعاً للدور التركي، فلم يعد محورياً في توجيه مسار الأحداث. هذا التحول يشير بأن القوى المهيمنة قد أصبحت تتجاوز الدور التركي، إلا أنّ تركيا رغم إذعانها تحاول استثمار الأحداث لتحقيق أهدافها الخاصة عبر عملية “فجر الحرية” التي أعلنتها الفصائل الموالية لها، والمرتكزة على محاربة الوجود الكردي في إقليم شمال وشرق سوريا، و التطورات الأخيرة والتي أدّت إلى تهجير أكثر من 300 ألف كردي من مناطق الشهباء وأحياء حلب وريفها، أظهرت بشكل أكبر النوايا التركية التي لطالما أعلنت عنها، وعملت عليها خلال سنين الأزمة، فضلاً عن الدوافع التركية التي توضحت معالمها مع الأيام القليلة الماضية، بشأن نواياها التاريخية المتعلقة بـ”الميثاق الملي” والتي تعتبر حلب وكامل شمال سوريا وصولاً إلى الموصل وكركوك، امتداداً لجغرافيّتها السياسية.

إنّ أنقرة المعروفة باستداراتها السياسية، متجهةٌ للعمل خارج سياق أستانا، هذه الاستدارة المفاجئة لتركيا والتي ربما أُرغمت عليها تعتبر من أصعب القرارات التي اتخذتها، طيلة فترة تفاعلها في الملف السوري والمنطقة، وربما تستفيد منها وتحقق بعض المكاسب المرحلية إلّا أنها على المدى البعيد ستضعها في مواجهة إيران، سيما وأن إيران تمتلك أوراقاً كثيرة ضد تركيا.

 الموقف الروسي

موسكو لا تخفي رغبتها في تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، حيث إن هذا النفوذ لا يخدم استراتيجيتها طويلة الأمد، خاصة وأن الوجود الإيراني بات مؤثراً بشكل أكبر في القرار السياسي للنظام السوري، وأن موسكو تخشى من استياء كل من إسرائيل والولايات المتحدة من هذا الواقع، فالحفاظ على علاقة متوازنة مع إسرائيل يمثل أولوية بالنسبة لروسيا، في الوقت الذي لم تعد فيه القوة الروسية مثلما كانت عليه قبل حربها مع أوكرانيا، لذا تعمل على لعب دور الوسيط، بما يضمن مصالحها دون تصعيد مع الأطراف الأخرى، وربما تسعى روسيا لإظهار النوايا الحسنة بعدم ردع هذه العملية متوسّمةً أن تقوم إدارة ترامب المرتقبة بإنهاء حربها مع أوكرانيا، وإخراجها منها بطريقة تحفظ لها ماء وجهها. ومن جانب آخر يبدو أن هنالك تنسيقاً إسرائيلياً-روسياً بموافقة أمريكية غربية، بشأن الحفاظ على المصالح الروسية في المياه الدافئة، وهو ما سعت إليه موسكو طيلة سنوات الأزمة السورية. ما يفسر التخاذل الملحوظ من جانب القوات الروسية المتمركزة في قاعدة حميميم تجاه التطورات الاخيرة.

الرؤية:

يبدو أنّ “ردع العدوان” ليس مجرد معركة عسكرية، بل بداية مرحلة سياسية جديدة لرسم خريطة التحالفات والتوازنات في سوريا. إنها معركة رسم الحدود الطائفية والمذهبية، تستهدف في المقام الأول إيران، المهدّدة للأمن الأمريكي والإسرائيلي.

بناء على ذلك، فإنّ التطورات الأخيرة تبرز كجزء من إعادة تشكيل ديناميكيات الصراع السوري، إذا استمر هذا التصعيد، فقد يحمل في طياته ملامح خارطة جديدة، تُضعف الهيمنة الإيرانية وتفتح المجال أمام معادلات سياسية جديدة. فالقوى الدولية، تعمل على إعادة صياغة التوازنات بما يتجاوز الدور التركي التقليدي ويُبرز بوضوح أنّ تركيا لم تعد اللاعب الوحيد في معادلة شمال سوريا.

تشير التطورات إلى إمكانية الانتقال نحو مرحلة جديدة من المفاوضات حول مستقبل سوريا، قائمةٍ على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية. فتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ طائفية وإقليمية يبدو حلاً عمليّاً يضمن تخفيض التوترات. بموجب هذا السيناريو، قد يبقى النظام السوري مسيطراً على المناطق الساحلية والوسطى تحت المظلة الروسية، بينما يتم إدارة الجنوب من قبل قوى محلية مدعومة من الولايات المتحدة، وستستمر الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الحفاظ على سيطرتها في شمال وشرق سوريا.

وفي شمال وغرب سوريا، سيتم تحديث خارطة توزع نفوذ الفصائل المسلحة لصالح هيئة تحرير الشام التي سيطرت على مناطق واسعة كانت تسيطر عليها قوات الحكومة السورية، فقد تضاعفت مناطق سيطرتها مقابل مناطق “الجيش الوطني” الذي استغل الأحداث للتوسع والانتشار في مناطق الشهباء وأجزاء من شرقي حلب، الأمر الذي ينذر باحتمال المواجهة لاحقاً بين الطرفين في إطار التنافس والصراع ما بين حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة الموالية لتركيا، حيث ساهم المشهد العسكري الأخير في ترسيخ تقليص الدور التركي ومن خلفه الفصائل الموالية لأنقرة فضلاً عن شلّ أي دور للائتلاف السوري المعارض في تمثيل الثورة السورية سياسياً على المستويين المحلي والدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى