أبعاد ودلالات مخرجات اجتماع العقبة وتأثيرها في مستقبل سوريا
شهدت مدينة العقبة الأردنية حدثاً دبلوماسياً لافتاً يوم السبت 14 ديسمبر 2024، تمثل في انعقاد سلسلة من الاجتماعات الوزارية على المستويين العربي والدولي لمناقشة مستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد. هذه الاجتماعات، التي تنوعت بين لقاءات لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا وأخرى جمعت الأطراف العربية والدولية، عكست اهتماماً متزايداً بتوحيد المواقف الإقليمية والدولية لدعم عملية انتقال سياسي سلمي وشامل في سوريا.
أبرز هذه الفعاليات كان اجتماع المجموعة العربية، الذي ضم ممثلين عن الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية. المؤتمر، الذي أصدر بياناً ختامياً من 17 بنداً، ركز على آلياتٍ محددةٍ لتشكيل هيئة انتقالية سوريّة تمثل جميع مكونات المجتمع السوري.
كما انعقد اجتماع آخر للجنة الاتصال العربية بمشاركة وزراء خارجية دول إقليمية ودولية، أبرزها تركيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، إضافة إلى ممثلي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. هذه اللقاءات، التي تعد الأولى من نوعها منذ الإطاحة بالنظام السوري، تشير إلى تطورات جديدة قد تعيد رسم ملامح المشهد السياسي في سوريا والمنطقة، خاصة في ظل توافق الأطراف على دفع الحلول السياسية التي تشمل الأطراف السورية كافةً ضمن إطار دولي موحد. ويمكن اعتبارها خطوة استراتيجية لصياغة رؤية عربية مشتركة حول مستقبل سوريا، تركز على دعم عملية انتقالية سياسية سلمية تنطلق من مبادئ قرار مجلس الأمن رقم 2254.
دلالات مخرجات اجتماع العقبة
يشير البند الخامس من مخرجات الاجتماع إلى ضرورة الوقف الفوري لجميع العمليات العسكرية، ما يضع قيوداً مباشرة على استخدام تركيا للقوة كوسيلة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا. هذا البند يهدد بشكل خاص سياسة أنقرة التي تعتمد على التدخل العسكري لفرض أجندتها، فتفعيل هذا البند بشكل خاص، عبر آليات رقابة دولية أو تفاهمات إقليمية، قد يحدّ من قدرة تركيا على شن عمليات جديدة ضد مناطق الإدارة الذاتية، مما يساهم في تعزيز الاستقرار في تلك المناطق.
كما أنّ البند السادس، الذي يدعو إلى احترام حقوق كافة مكونات الشعب السوري دون تمييز، قد يشكل في حال تطبيقه ضمانة للكرد وغيرهم من المكونات بالمشاركة العادلة في العملية السياسية ومستقبل البلاد. كذلك يؤكد البند على أن سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة شاملة تحترم التعددية. وإنّ دعم هذا البند من قبل الدول العربية والمجتمع الدولي سيعزز من الضغوط الدولية على تركيا، مما يجبرها على مراجعة سياساتها تجاه الكرد وشمال شرق سوريا.
يعكس البند الثامن من مخرجات اجتماع العقبة التزاماً عربياً واضحاً بمكافحة الإرهاب كأولوية محورية لإعادة الاستقرار إلى سوريا والمنطقة ككل، مع التركيز على تعزيز الجهود الدولية والإقليمية لمواجهة التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” و”القاعدة” و”هيئة تحرير الشام”، بالإضافة إلى التعامل مع التهديدات الأيديولوجية التي تمثلها جماعاتٌ مثل الإخوان المسلمين. هذا الالتزام يؤكد رفض الدول العربية، خصوصاً مصر والسعودية والإمارات والأردن، استغلال شعار مكافحة الإرهاب كذريعة لتحقيق أجندات سياسية أو عسكرية، ويشدّد البند على أن التصدي للإرهاب يجب أن يكون ضمن إطار يحترم سيادة سوريا ووحدة أراضيها، ويعمل على حماية جميع مكونات الشعب السوري من دون استثناء، مما يعزز فرص التوصل إلى حل سياسي شامل يحفظ حقوق الجميع ويعالج التحديات الأمنية والإنسانية في البلاد.
من جهة أخرى، يشكل هذا البند رسالة سياسية واضحة إلى تركيا، التي تواجه اتهامات بدعم جماعات مسلحة مصنفة كإرهابية واستغلال قضية مكافحة الإرهاب لضرب الكرد والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا. كما يوفر هذا التوجه دعماً ضمنياً لمناطق الإدارة الذاتية التي تقود جهوداً حقيقية ضد تنظيم داعش. في هذا السياق، يعكس البند الثامن إرادة عربية جماعية لوضع حدّ للتدخلات الإقليمية التي تعرقل استقرار سوريا، مع تعزيز التعاون الدولي لاستئصال جذور الإرهاب الذي يهدد الأمن الإقليمي والدولي.
على صعيد أوسع، يبدو أن مخرجات الاجتماع تؤكد على وجود توافق عربي ودولي لإشراك جميع المكونات السورية في العملية السياسية بغض النظر عن العرق أو الدين، وهذا ما لن تستطيع تركيا الاعتراض عليه، لأنها تدرك أن الاعتراض المباشر على مخرجات اجتماع العقبة أو محاولة عرقلتها قد يؤدي إلى صدام جديد مع السعودية، والإمارات، ومصر، ما يدفعها إلى تبني مقاربة أكثر حذراً للحفاظ على علاقات إيجابية مع الدول العربية الكبرى لا سيما في ظل تحدياتها الاقتصادية والسياسية الداخلية التي تجعلها بحاجة إلى دعم هذه الدول. خاصة مع انحسار الدور الإيراني والروسي في سوريا وبروز الدول العربية كفاعل أكثر تأثيراً في صياغة المشهد السوري.
هذا التوجه العربي والدولي يشير إلى احتمالية أن يصبح اجتماع العقبة كمسار بديلٍ لآستانا وجنيف، ويشير أيضاً إلى أهداف ودلالات متعددة ضمن المشهد السياسي الإقليمي الحالي، ورفض أيّة هيمنة أيديولوجية على مستقبل سوريا، وخصوصاً تلك القائمة على الإسلام السياسي أو الجماعات المؤدلجة.
فالدول العربية، التي اختبرت تداعيات تجربة الإسلام السياسي عقب الثورات العربية، تسعى إلى تجنب سيناريوهات مشابهة. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني إقصاءً تاماً للقوى الإسلامية، بل تشديداً على أنّ الحلّ السياسي يجب أن يكون متوازناً وجامعاً، بعيداً عن احتكار أي تيار للسلطة أو فرض أجندات أيديولوجية تُعمّق الانقسامات. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال الإصرار على أن تكون العملية الانتقالية “سوريّة-سوريّة” تحت رعاية الجامعة العربية والأمم المتحدة.
إنّ هذه التوجهات تعكس وعياً دولياً وعربياً متزايداً بمخاطر تكرار السيناريوهات التي شهدتها دول مثل ليبيا ومصر، واضعةً نصب أعينها أولوية الاستقرار وحماية السيادة السورية.
آليّات تنفيذ البنود ومدى قابليتها للتطبيق
حدّد المشاركون في الاجتماع آلية لتنفيذ هذه المخرجات، تقوم على “البدء بتنفيذ خطوات الانتقال من المرحلة الانتقالية إلى نظام سياسي جديد عبر انتخابات حرة ونزيهة تشرف عليها الأمم المتحدة، استناداً إلى دستور جديد يقرّه الشعب السوري، وضمن جدول زمني محدد”. كما أكد البيان الختامي دعم دور المبعوث الأممي إلى سوريا، داعياً الأمين العام للأمم المتحدة إلى توفير كل الإمكانات اللازمة لإنشاء بعثة أممية لدعم العملية الانتقالية ومساعدة الشعب السوري على تحقيق تسوية سياسية يقودها السوريون وفق القرار الأممي 2254.
وقد بدأ فعليًا تنفيذ هذه المرحلة عبر زيارة المبعوث الأممي غير بيدرسون إلى دمشق ولقائه بقيادات “هيئة تحرير الشام”، رغم التوقعات بوجود تعنت من قبل الهيئة. وفي ظل هيمنة هيئة تحرير الشام على المشهد السياسي والعسكري في سوريا، وتشكيلها لحكومة انتقالية أحادية الجانب وإصدارها قرارات فردية، تبرز تساؤلات جدية حول إمكانية تطبيق بنود مخرجات اجتماع العقبة. ومع ذلك، توجد آليات ضغط أوروبية ودولية للضغط على الهيئة من أجل تنفيذ الخطوة الأولى من مخرجات البيان. ومن بين هذه الآليات استمرار فرض العقوبات الاقتصادية وعدم رفع اسم الهيئة من قوائم الإرهاب إلا بعد الالتزام بتنفيذ هذه المقررات. هذا ما أكد عليه وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب، الذي أشار إلى أنّ “رفع العقوبات عن سوريا مرتبط ببدء مسار سياسي وضمان حقوق الأقليات”، مضيفًا أنّه “من المبكر الحديث عن رفع هيئة تحرير الشام من قوائم العقوبات الأوروبية”.
وبالتالي، تجد هيئة تحرير الشام نفسها أمام معادلة معقدة: إذا كانت تطمح إلى توسيع نفوذها ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا وإزالة اسمها من قوائم الإرهاب، سيكون من الضروري الالتزام بالمطالب العربية والدولية. فالدعم العسكري التركي والمادي القطري وحدهما لن يكونا كافيين لتأسيس دولة متكاملة الأركان. الاعتراف والشرعية الدولية والعربية يُعدّان ركيزتين أساسيتين لأيّ مشروع مستقبلي يشمل تشكيل حكومة أو قوات عسكرية قادرة على إدارة سوريا وضمان استقرارها.
الرؤية:
إنّ مخرجات اجتماع العقبة، وخاصةً البنود الخامس والسادس والحادي عشر والثاني عشر، تضع تركيا أمام معادلة صعبة؛ إما الالتزام بالتوافق الدولي والعربي، أو مواجهة المزيد من العزلة السياسية. هذه البنود تشكل خطوة مهمة نحو حماية حقوق جميع السوريين، وتقليص التدخلات الإقليمية التي تعرقل تحقيق تسوية سياسية شاملة ومستدامة.
وفي المحصلة فإن مخرجات اجتماع العقبة، إذا طُبِّقت بشكل فعلي، فستضع أسساً قوية لإعادة بناء المشهد السياسي السوري عبر إشراك جميع مكونات الشعب السوري في عملية تشكيل الحكومة الجديدة. هذه المخرجات، التي تؤكد على احترام التنوع السوري بغض النظر عن الدين أو العرق أو المذهب، تهدف إلى تقليص هيمنة أيّة جهة متشددة، سواء كانت هيئة تحرير الشام أو غيرها، وتعزيز فكرة حكومة شاملة تمثيلية تعكس الواقع السوري متعدد الثقافات. إنّ تحقيق هذا الهدف يستدعي ضمان حقوق جميع المكونات، بما في ذلك الكرد وغيرهم من الأقليات، بالإضافة إلى عودة اللاجئين إلى مناطقهم الأصلية بإشراف أممي يضمن عدم التلاعب بالتركيبة السكانية أو الحقوق الأساسية.ٍ