دراسات

التّسامح كقيمة أخلاقيّة واجتماعيّة مجتمع (الجزيرة السوريّة) أنموذجاً

ملخص

التّسامح يعني العفو، وعدم ردّ الإساءة بمثلها، طواعية وبكامل الإرادة، ويدلّ على تقبّل اختلاف الآخر سواءً بالعرق أو العقيدة أو الاتجاه الفكريّ، والاستعداد للإنصات لرأيه، كما يدلّ هذا المفهوم على التفاهم الجماعي المتبادل بين مختلف الشعوب والمجتمعات والثقافات والأديان، ويعبّر عن رفض مفاهيم التعصّب والإقصاء والاستعلاء العرقي والاجتماعي، والتسامح مظهرٌ راق من مظاهر المجتمعـات المتحضرة، وركيزة أساسيّة من ركائز حقوق الإنسان، والحريات الإنسانيّة العامّة. وللتسامح أنواع عدة مثل: التسامح الديني التسامح الفكري التسامح السياسي وغيرها من الأنواع، وله يوم عالمي يُحتفل به (اليوم العالمي للتسامح) يصادف 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من كلِّ عام.

يمثِّل مجتمع “الجزيرة السورية” أنموذجاً للتسامح الديني والتعايش أو التناغم الاجتماعي، مثلما يحتلّ بعطاءاته مكانة متميزة، وتمتلك هذه البقعة الجغرافية – تاريخياً – تجربة إنسانية ثريّة في هذا المجال، تمتدّ بجذورها عميقة في التاريخ، حيث يمارس أهلها على أرض الواقع مبادئ التعايش السلمي، ويؤمنون بالاختلاف والتعدّدية والتنوّع. وقد عَرِف مجتمع الجزيرة التي يتميّز بالتنوّع في مكوّناته، كالعرب والكرد والسريان والآشوريين والأرمن وغيرهم من المكوّنات، عرف ثقافة التسامح والتعايش الاجتماعي السلمي مع الآخر المختلف، واتخذها قيمة اجتماعية متوارثة منذ بداية تشكّله التاريخي كما سبق، حتى أصبحت هذه الثقافة من التقاليد الراسخة في هذا المجتمع.

مقدمة

خلِق البشر مختلفين في أمورٍ كثيرة، بل إنّ ثيمة الاختلاف آية، وهذا الاختلاف والتنوّع، كالاختلاف في العرق والدين واللغة، والتقاليد والأفكار والعقائد قد يؤدي -أحياناً- إلى صراعات وتصادمات وانتهاكات بدرجات متفاوتة، وفي سياقات عدّة، وبهدف مواجهة هذه الصراعات سعت البشرية لإصدار سلسلة من الاتفاقات والمواثيق الدولية التي تهتمّ بضمان حقوق الأفراد والجماعات حرباً وسلماً، وتأسيس مجتمع يسوده الأمن والعدل والسلام، وليس أفضل من تحقيق ذلك من ثقافة التسامح، وقبول اختلاف الآخر، واحترام آرائه وتطلعاته في الحياة.

وُلِد مفهوم التسامح عقب الصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، التي انهكت أوروبا منذ القرن السادس عشر، حتى أواخر القرن الثامن عشر، حيث برز خلال هذه الفترة بعض الفلاسفة والمفكّرين والمصلحين ممن اهتموا بمخاطبة العقل الإنساني، ومنهم: ديكارت، وسبينوزا، ولبينتز، وهيوم، وكانط، إلا أنّ أهمّ مفكّري تلك الحقبة كان جون لوك، الذي أرسى الأسُس الفلسفيّة لحقوق الإنسان، التي تجلّت في كتابه: رسالة في التسامح، وأهمّ ما تضمّنه تساوي الناس في الحريّات والحقوق، ثم أتى بعده فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر، وطرحوا مجموعة من الآراء حول التسامح، ودأبوا على إشاعة أفكاره وإرساء قيمه ومبادئه، لتشمل مجالات الفكر وحرية التعبير والمواقف السياسية، ومنهم: فولتير، وروسو، وديدرو، هكذا حتى تبلورت هذه الأفكار في أواخر القرن التاسع عشر كـمبادئ أساسيّة للتسامح، وشكّلت إرهاصات لبزوغ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ثم صارت صفة شاملة تُعرف بها ثقافة سياسية متحضّرة، وسلوك اجتماعي مميّز، مضاد لكلّ صفات الاستعلاء والتفرقة والتمييز العرقيّ والدينيّ والاجتماعيّ.

إنّ مجتمع (الجزيرة السورية) هو أحد المجتمعات العريقة في سوريا، تمثّل خاصة في مدينتي حسكة وقامشلي أهمّ حواضره، وجغرافياً تقع في الشمال الشرقي من سوريا، وهذا المجتمع يتميّز بالتنوّع في مكوّناته، كالعرب والكرد والسريان والآشوريين والأرمن والإيزيديين وغيرهم من المكوّنات، ولذا فهو يعدّ مثالاً جيّداً للتسامح الدينيّ والتعايش أو التناغم الاجتماعيّ، ويُعرف بتجربة إنسانية فريدة وغنيّة في هذا المجال، تمتدّ بجذورها عميقة في التاريخ، ولهذه الأسباب تم التركيز عليها في هذا البحث، كمثال واضح عن التسامح بأشكاله، خصوصاً وأنّ هذا المجتمع الصغير مرّ -كباقي مجتمعات سوريّة- بظروف استثنائية وصعبة للغاية في ظلّ الأزمة القائمة، حيث كان الكثيرون يتوقّعون لها مصيراً أسوأ بكثير.

مفهوم التسـامـح ومبادئه

يعتبر التّسامح مفهوماً أخلاقياً واجتماعياً ذا قيمة كبيرة، وأحد أهمّ المبادئ الإنسانية السامية، التي لا ترتبط بدين أو جنس أو ثقافة معيّنة، والتّسامح اصطلاحاً؛ يعني العفو، وعدم ردّ الإساءة بمثلها، طواعية وبكامل الإرادة، ويدلّ على تقبّل اختلاف الآخر سواءً بالعرق أو العقيدة أو الاتجاه الفكري، والاستعداد للإنصات لرأيه والسماح له بالتعبير الحرّ عن أفكاره ومواقفه، واحترام ثقافته وقيمه وأساليبه الخاصة في الحياة، كما يدلّ هذا المفهوم على التفاهم الجماعيّ المتبادل بين مختلف الشعوب والمجتمعات والثقافات والأديان، ويعبّر عن رفض مفاهيم التعصّب والإقصاء والاستعلاء العرقي والاجتماعي، كما أنّ التسامح مظهرٌ راق من مظاهر المجتمعـات المتحضرة، وسبيل أمثل لحماية العلاقات الاجتماعية وتماسكها، وجعلها أكثر قبولاً للتعايش السلميّ، في ظلّ اختلاف البشر في ألوانهم وأعراقهم ومعتقداتهم، وهو -أيضاً- ركيزة أساسيّة من ركائز حقوق الإنسان، والحريات الإنسانيّة العامّة، وأسلوب للوصول إلى عالم خالٍ من الخلافات والصّراعات والانتهاكات.[1]

أنواع التسامـح:

تتعدّد أنواع التسامح، وتختلف أوجه القيم المرتبطة به، لعلّ أهمّها:[2]

1) التسامح الديني: ويعني – باختصار- التعايش بين الأديان بكلّ رحابة الصّدر، وحريّة ممارسة الشعائر الدينية الخاصّة بكلّ ديانة، والتخلّي عن التعصّب الدينيّ والمذهبيّ.

2) التسامح الفكريّ: يعني عدم التعصّب للأفكار الشخصية، والاتسام بسعة الأفق عند الاختلاف في الرأي، واحترام آداب الحوار والنقاش، والحقّ في الإبداع والاجتهاد. وقد قالت العرب: “الاختلاف في الرأي لا يخلف أو يفسد للودِّ قضية”.

3) التسامح السياسيّ: مع ازدياد تعقيدات الأوضاع السياسية بين الدول والجماعات، واختلاف المصالح بينها، تصبح الحاجة ملحّة للاهتمام بالقواسم المشتركة بين الأطراف المختلفة، التي قد تُنهي تلك الاختلافات وتعزّز التسامح السياسي. كما يعني هذا النوع من التسامح ضمان الحرّيات السياسيّة، وانتهاج مبدأ الديمقراطية في المعاملات السياسية.

ومن أشكال ثقافة التسامح: التسامح الأسريّ، والتسامح الاجتماعيّ، والتسامح الإداريّ وغيرها من الأشكال.

وللتسامح يوم عالمي يُحتفل به وهو (اليوم العالميّ للتسامح) ويصادف 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ عام، وهي مناسبة أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1993 بناءً على مبادرة المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو، للتأكيد على ضرورة إشاعة قيم التسامح والاحترام المتبادل بين الأمم والحضارات، والدعوة لمواجهة مظاهر العنف والتشدّد والكراهيّة، والإسهام في ترسيخ مبادئ العيش المشترك، والسلم الأهليّ، وقد نصّ “إعلان مبادئ التسامح الأممي” الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1996 على أنّ التسامح يعني في جوهره: (الاعتراف بحقوق الآخرين، والاحترام والتقدير للتنوّع والتعدّد والاختلاف، باعتباره ثراء يُميّز ثقافات وحضارات العالم المختلفة، إضافة إلى توسيع مساحات وفضاءات الانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد).

يقول الكاتب فاضل العماني:[3] (التسامح، كلغة سحريّة راقية وثقافة إنسانيّة ضروريّة، وقيمة حضاريّة أصيلة، ليست مجرّد حالة يُمكن اختزالها في تعريفات وتوصيفات بسيطة كالعفو والتجاوز وغضّ الطرف وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، رغم أهميتها، ولكنّ التسامح كفلسفة واقعية يتجاوز كلّ ذلك بمراتب ومستويات متقدّمة، ويُمكن وضعه في عنوان بارز وهو إعلاء قيمة ومكانة المكتسبات والطموحات الجمعية مقابل الأهواء والنزعات الفردية والفئوية، أو بمعنى آخر هو ممارسة فاعلة لهذه القيمة بشكل أفقيّ وعموديّ لضمان تمتّع الأفراد والمجموعات والمكوّنات والطوائف المختلفة بكافة حقوقها وحرياتها الأساسية التي نصّت عليها المواثيق الدولية والأخلاقية والحقوقية).

التعايـش والتسامح بيـن الأديـان

يشير مفهوم التعايش إلى نوعٍ من أنواع التعاون المبنيّ على الثقة والاحترام، بهدف إيجاد أرضيّة تتلاقى عليها مختلف الأطراف، ويتمّ عن طريق الاقتناع والاختيار الكامل، والتحاور بين الأديان أو التعايش فيما بينها يعني إبراز منظومة القيم الإنسانيّة المشتركة كالتسامح، وضمان حقوق الإنسان وكرامته، وقد اتّفق المفكّرون والمصلحون على مبادئ عامة لا يمكن التفريط بها للتّعايش بين الأديان، أهمها:[4]

أولاً) الاتّفاق على استبعاد كلّ ما يمسّ الذات الإلهية أو ينال منها.

ثانياً) التفاهم حول الأهداف والغايات، والتّعاون على العمل المشترك من أجل تحقيقها.

ثالثاً) صيانة هذا التّعايش بسياج من الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة.

أهداف التّعايش بيـن الأديـان

تجمِع الأديان السماوية على أهميّة فضيلة التسامح، كوسيلة للتعايش السلميّ بين أفراد الأسرة البشرية، وتعتبرها من أقدس القيم التي بعثَت لتحقيقها، وأكدت أهميتها وأثرها في صلاح الأفراد والمجتمعات والأمم، فقد دعا إليها جميع الرّسل والأنبياء والمصلِحين، واعتبروها زينة الفضائل كلّها، فالتسامح مرتبط جداً بالتقرّب من الله وتجسّد فعليّ لمعاني الدعوة إلى الخير والعدل والسلام، والتّعايش الحقّ بين الأديان هو من أجل الذات الإلهية، ثم لخدمة الحياة الإنسانيّة الكريمة، وتحقيق المبادئ الإنسانية العليا.

وعن التسامح تجد مواقف واضحة في مبناها ومعناها في النصّ القرآنيّ، فنجد مثلا: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، وكذلك ما نصّه: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التغابن: 14].

وقد تبنّى الرسول محمّد مواقف تدلّل على التسامح خلال مسيرته الدعويّة إلى الإسلام، ومن أكثر هذه المواقف بروزا وأهميّة موقفه مع أعدائه (المشركين) من ذويه من قريش إبّان ما عُرف بـ فتح مكّة، حيث تبرز كتب السيرة جملة يتمّ تناولها دوما كأبرز مواقفه عن العفو والتسامح مع العدو عند المقدرة، حيث قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، في حين ظنّوا أنه سوف يعاقبهم على ما اقترفوه بحقّه وحقّ أتباعه من الظلم والاضطهاد.[5]

كما يحفظ التاريخ مواقف جليلة لتسامح المسلمين مع أتباع الأديان التي عاشت في ظلّ حضارة الإسلام، وعاش أتباعها وهم محافظون على عقائدهم وثقافاتهم وحرياتهم، وهذه الأحداث تدحض مقولة (الدعوة إلى التعصّب والإرهاب والعنف ضدّ الآخر المختلف).[6]

والجدير بالذكر أن التّعايش بين الأديان هو تعايشٌ ثقافيّ وحضاريّ أيضاً، يهدف إلى خدمة الأهداف السّامية الّتي يعيش لأجل تحقيقها الإنسان. إن دعوة النصّ القرآنيّ إلى التسامح في مواقع كثيرة، ثم مجموعة أحداث السيرة النبوية بهذا الخصوص، وما يزخر به الفكر والتاريخ والتراث الإسلامي من نماذج في تعايش المسلمين مع أصحاب الأديان الأخرى، دليلٌ على أنّ الإسلام دينُ رحمة ومحبّة وتعايش، وتأكيدات لمعاني التسامح، وضرورته كشرط أساسيّ لبناء المجتمع الإنساني الذي ينظر الإسلام إلى أفراده على أنّهم أسرة واحدة.

أما الديانة المسيحية فيقال عنها بأنّها ديانة الموّدة والتسامح والسلام، وتعتبر هذه القيم من أهمّ القيم الأخلاقية، حيث تجد في التسامح ما يرد في العهد الجديد: (سمعتم أنّه قِيل عينٌ بعين وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدّك الأسمن فحوّل له الآخر خدّك الأيسر أيضاً) [متى: 5: 38-39].

التسامح والتعايش السلميّ في الجزيرة السورية

يمثِّل مجتمع “الجزيرة السورية” أنموذجاً للتسامح الدينيّ والتعايش أو التناغم الاجتماعي، وتمتلك هذه البقعة الجغرافية -تاريخياً- تجربة إنسانية ثريّة في هذا المجال، تمتدّ بجذورها عميقا في التاريخ، حيث يمارس أهلها على أرض الواقع مبادئ التعايش السلمي، ويؤمنون بالاختلاف والتعدّدية والتنوّع من حيث الدين أو اللغة أو التفكير، وقد عرف مجتمع الجزيرة الذي يتميّز بالتنوّع في مكوّناته، كالعرب والكرد والسريان والآشوريين والأرمن وغيرهم من المكوّنات، ثقافة التسامح والتعايش الاجتماعي السلميّ مع الآخر المختلِف، واتخذها قيمة اجتماعية متوارثة منذ بداية تشكّله التاريخي كما سبق، حتى أصبحت هذه الثقافة من التقاليد الراسخة في هذا المجتمع، وقد يحدث أنّ الكثير من أبناء هذه المكوّنات لا يكتشفون هذا الاختلاف إلا بمحض الصدفة، ولعل من أهم الأسباب وراء هذا التعايش والتناغم الاجتماعي الفريد ماضياً وحاضراً هي:

أولاً) الجذور التاريخية: التي ساهمت في تكوين هذا المجتمع، وأدّت إلى بلورة ثقافة أبنائه وعاداتهم الاجتماعية ونظرتهم للآخر، فقد كانت سوريا عامةً موطناً للعديد من الحضارات الإنسانية الرائدة، وموئلاً للكثير من الأنبياء والصالحين والقديسين، وكانت أرضه مسرحاً لمرور العديد من الثقافات والحضارات، لذلك عاش المجتمع “الجزراوي” في سلام وتناغم، وحافظ على رصيد متميّز من التناغم التاريخي بين الثقافات والديانات المختلفة.

ثانياً) الثقافة الدينيّة: تتميّز منطقة الجزيرة عامة بالتسامح الديني، لأنّها تستمدّ تشريعاتها من الدينين الإسلامي والمسيحي، اللذين يؤكدان على التعايش السلمي والتناغم الاجتماعي، ويحثّان على قبول الشريك المختلف، فقد عاش أبناء الديانات الإسلامية والمسيحية بكلّ طوائفها وكنائسها، وأيضاً الديانة الإيزيدية، وقد كفلت لهم التقاليد المحلية حرية ممارسة الشعائر الدينية، ولم تعرف التركيبة السكانية العامة لمجتمع الجزيرة التعصّب أو الانغلاق أو الإقصاء.

ثالثاً) التنشئة الاجتماعية: لقد تعوّد الإنسان “الجزراوي” منذ الصغر على تقبّل الآخر والتعايش معه بكلّ محبّة ومودّة، ودون أن يفكر أنه مختلف بالدين أو المعتقد أو اللغة، وكانت أحياء هذا المجتمع تضمّ بيوتاً متجاورة تسكنها مختلف المكوّنات المتجذرة على هذه الأرض، فالجذور التربوية لأبناء المنطقة تقوم على القبول والتشارك والألفة والاندماج، ولهذه الأسباب يعدّ مجتمع “الجزيرة” أنموذجاً للتسامح والتعايش السلمي واحترام عقيدة الآخر وثقافته ولغته، مسلمين أو مسيحيين أو إيزيديين ، كرداً أو عرباً أو مكوّنات أخرى.

وتعمل اليوم الكثير من المنظمات والجمعيات والمراكز الأهلية، التي تضمّ في صفوفها من كلّ المكوّنات والأطياف “الجزراوية” للتصدّي للواقع الإنساني الحاصل نتيجة الأزمة في البلاد، وبخاصة أن “الجزيرة” أصبحت ملاذاً لمئات الألاف من النازحين واللاجئين والوافدين من المحافظات السورية الأخرى، فراحت تطلق الحملات، وتنظم الفعاليات بهدف تقليص الآثار السلبية عليهم، عبر إيوائهم في أماكن سكنية لائقة، وتقديم المعونات والمساعدات الطبية والعينية والمالية، بما يعينهم في تخطّي الأزمة وتجاوزها.

 الوكالات الاجتماعية.. ونشر ثقافة التسامح

إنّ تعزيز التسامح كثقافة ملحّة لتضافر الجهود بين الجميع إلى غرس المفاهيم الحقوقية، وتعزيز قيمها ونشرها بين أبناء المجتمع. ويحتاج الأمر إلى مجموعة من الأفعال، لأنّ مبدأ التسامح الحقيقي يكمن في الثمرة السلوكية العملية:

1) الأسرة: تشكّل الخليّة الاجتماعية الأولى في بناء المجتمع، والحجر الأساسيّ من استقراره وتقدّمه، وهي -بطبيعة الحال- أهمّ الجهات المسؤولة عن تشكيل شخصية الطفل وتوجهاتها، حيث يبدأ فيها التأسيس للمفاهيم الثقافية الأولية، واكتساب مجموعة المعايير والقيم والعادات في المجتمع، وفيها يبدأ التعريف بقيم التسامح وقبول الآخر، عبر تسامح الأبوين مع بعضهما، ومع الأولاد والجيران والأصدقاء (القدوة الحسنة)، والتسامح قيمةٌ من واجب الأسرة غرسها في نفوس أطفالها، وجعلها من الدعامات الأساسية التي تقوم عليها أخلاقياتهم وتعاملاتهم.

2) المدرسة والمؤسسات التعليمية الأخرى: المدرسة هي مؤسسةٌ اجتماعية لها أثرها الفعّال في مختلف جوانب شخصية الطفل، وهي تأتي بعد الأسرة من حيث الأهمية، إذ تسهِم في تنمية خبراته وتوسيع مداركه وتوجيه قدراته، وفيها يتعلّم بعض المعايير والقيم الاجتماعية الجديدة، ولعلّ التسامح أفضل القيم التي يجب أن يعرفها ويتمثّلها.

3) المؤسّسة الدينية: يمكن لهذه المؤسسة أن تلعب دوراً كبيراً في إشاعة قيم التسامح واحترام التعدّدية وتقبّلها، والإسهام في إحداث التغيير المجتمعي، عبر الخطب والدروس والمواعظ، وبعض الأساليب الأخرى.

4) منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية الأهلية: بمقدورها أن تغرس فكر التسامح في الذهنية المجتمعية وتتعهده بالنماء، عبر التوعية بقضايا حقوق الإنسان، وتعزيز المبادئ الإنسانية المشتركة، التي تسمو فوق انتماءات الجنس أو اللون أو المعتقد، وهذا خير وسيلة لتنمية ثقافة التسامح ونشرها على أوسع نطاق.

5) المؤسّسات الإعلامية: تؤدي وسائل الإعلام بوصفها كبرى المؤسسات الثقافية التربوية دوراً بارزاً في تحديد ثقافة الإنسان، وإكسابه القيم والاتجاهات، لذلك يمكن استغلالها في إبراز القضايا الحقوقية، وغرس قيم التسامح والتصالح والحوار، وطرح المفاهيم التي تؤكد على هذه القيم، كما يمكن استغلال هذه الوسائل باختلاف أنواعها لتعزيز دور الجمعيات والمؤسسات المدنية والحقوقية.

 خاتمة

إنّ الشعوب والأمم العظيمة هي التي تدرك أنّ سرّ قوّتها في محبّة أبنائها وتسامحهم فيما بينهم، فتحمي بذلك مجتمعاتها ومكتسباتها، وتصنع لأجيالها حاضراً ومستقبلاً أفضل، بل تشكّل -من خلالها- جسوراً متينة بين مختلف الثقافات والحضارات، فالتسامح والمحبة والسلام وروح التعايش المشترك بين أبناء الوطن، على اختلاف عقائدهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان بمختلف أشكالها، هي تعبير عن الإنسانية وطريق ليسود العدل والحرية والمساواة.

والتسامح لا يأتي من أجل الآخرين فقط، بل هي تطهير من الأخطاء، فقد أكد بعض علماء النفس أهمية الرضا عن النفس -كنتيجة من نتائج التسامح- في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية، وأكد آخرون أنّ الأشخاص الأكثر سعادة هم الأكثر تسامحاً مع غيرهم.

 


[1] يُشار إلى تعريف التسامح اصطلاحا في العديد من المصادر، وقد حاولنا جمعها من عدة منها، لكن تجد بعضها في الرابط: https://goo.gl/GcxmXy

[2] مفهوم التسامح وأهميته في المجتمع، بسمة حسن، آخر زيارة 28/2/2018، بتصرّف: https://goo.gl/GcxmXy

[3] التسامح.. ضمير الإنسانية،  فاضل العماني، جريدة الرياض، مؤسسة اليمامة، العدد 17314 الصادر في 19 نوفمبر 2015.

[4] التعايش بين الأديان، بوابة الإنسانية، آخر زيارة 27/2/2018، بتصرّف: https://goo.gl/aFncSH

[5] حول (فتح مكة)، وما ورد فيها من حيث (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، ينظر في: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، تحقيق: عمر عبد السلام السلامي، ط1 (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2000) مجلد 7، ص 34.

[6] يمكن في هذا المقام النظر في: التعامل مع غير المسلمين في الإسلام، محمد إقبال النائطي الندوي، شبكة الألوكة، آخر زيارة 3/7/2018:

http://www.alukah.net/sharia/0/69692/#ixzz592mIQ4Ck

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى