مقالات رأي

تركيا بين حلم احتلال عفرين…وشبح التقسيم

 

 الحرب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي بدأت بمظاهرات سلمية تطالب بالحرية وبشكل عفويّ في بدايتها، لتتغيّر المسمّيات وتصبح ثورات شعبية تطالب بتغيير جذري لأنظمتها، بعضها نجح في الوصول إلى مقاصدها وتغيّرت الأنظمة، وتم استبدالها بأنظمة لا تختلف كثيراً عن سابقاتها، لتعلِن عن انتهاء الثورة، وفي دول أخرى أيضا انتهت الثورة بالرغم من عدم استبدال أنظمتها، وتحوّلت بشكل تدريجي إلى عمليات عسكرية دامية بين “الثوار” العسكريين والأنظمة التي مازالت تقاوم للحفاظ على أركانها وكياناتها.

ومن بين الدول التي تشهد صرعات ونزاعات وحروب دامية، على وجه الخصوص الحرب التي تشهدها سوريا، والتي دخلت في مرحلة حرب غير مسبوقة، وباتت الأطراف التي كانت تقاتل بعضها بالوكالة، أو عبر كتائب ومجموعات تابعة لها، تحارب بشكل مباشر وعلنيّ، بالرغم من تواجد قوى كبرى على الساحة السورية مازالت تحارب بعضها بشكل غير مباشر، وعبر وكلاء الدول المحوريّة لسوريا، باتت الآن تتدخّل بشكل مباشر في الحرب السورية، وتحاول ترجيح كفّة المعادلة نحوها، أو الخروج بمكاسب من هذه الحرب، ولا تدرك أو لا ترغب بأن تكون هي الأخرى عرضة للتقسيم أو اندلاع انتفاضات أو نزاعات وحروب داخلية تؤدّي في النهاية إلى تقسيم بلادها عاجلاً أم آجلاً، وأبرز هذه الدول تركيا وايران، كون الدولتين المتبقيتين (سوريا والعراق) أخذتا نصيبهما من الحرب والتقسيم والتفكّك.

التقسيم يدقّ باب تركيا وإيران

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه وعند وضع احتمالية تقسيم تركيا، لا يمكن أن يتمّ ذلك بدون وضع احتمالية لتقسيم إيران أيضاً، فاللاعب الأبرز الذي كان عقبة منذ البداية في منع الشعوب من الانتفاض وإفشال ثوراتها والتسلّق عليها، وإلباسها لبوسا طائفيا مذهبيا وإدخال مجموعات غريبة لأراضيها كانت تركيا وإيران، وذلك رغبة منها في إفشال هذه الثورات من جهة، وإبعاد شبح التغيير والتي تعدّ بمفهومها “تقسيما” عن أنظمتها وبلدانها من جهة أخرى.

تركيا وإيران كانتا من أوائل الدول القومية الحديثة التي تشكّلت بعد وضع اتفاقية سايكس وبيكو قيد التنفيذ قبل أكثر من مائة عام، والتي وضعتها القوى الكبرى آنذاك لتقسيم أكبر إمبراطوريتين في المنطقة؛ الفارسية والعثمانية، ولذلك فإنّ واضعي سايكس-بيكو قاموا بتقسيم أنظمة المنطقة وتفكيكها قبل مائة عام، والقوى الكبرى التي تعتبر بمثابة الوريث الحديث لتلك القوى ترغب أيضاً بالاستمرار بتقسيم الوريث الحديث للعثمانيين والفرس (تركيا وايران)، ويحتمل أن يكون هذا المخطّط استكمالا لبنود لم تتكشّف بعد في سايكس-بيكو! أو أنّ القوى الكبرى الحالية لن تتمكّن من بسط هيمنتها على المنطقة بشكل كامل دون الرجوع إلى ذات المشاريع، ولكن بعد مرور مائة عام عن سايكس-بيكو!

المصير مشترك للدول كما هو للشعوب

من المعروف أنّ المشاريع والمخططات التي تُحاك للمنطقة قديما وحديثا هي فقط لنهب واستغلال أبرز ثرواتها من نفط وغاز ومياه، وذلك عبر وضع أنظمة شكّلت لأجلها دول، قامت باستهداف شعوبها وقامت بتنفيذ أدوارها على أكمل وجه، والآن جاء الدور على الانتهاء من هذه الأنظمة، ووضع أنظمة جديدة في المنطقة، ولكن بشكل مفتّت ومجزّء ومتناثر، لا يعرف من يحكمها ومن يديرها، وكم سيستمرّ النظام الجديد، فلا توجد أيّة ضمانات أو اتفاقيات مبرمة مع هذه الأنظمة المؤقتة.

ملامح الوضع الراهن/ إلى أين تتجه الحرب؟

معظم التصوّرات والتحليلات التي وضعت قبل وبعد الحرب في المنطقة لم تتمكّن من التكهّن في معرفة الشكل النهائي، أو كيف ستكون نهاية هذه الحرب، وهذا يعود إلى أنّ الاستراتيجية التي وضعت لهذا الغرض تتلخّص باستمرارية هذه الحرب، ويجب أن تكون مستمرّة، ولكن بشرط ألّا يكون فيها غالب ولا مغلوب، وأن تستمرّ الحرب.

فالانتهاء من الحرب يعني عودة الاستقرار والهدوء، وهذا سيؤدّي إلى احتفاظ الأنظمة المؤقّتة بالأراضي والمناطق التي سيطرت عليها والاستفادة من الحرب والربح فيها، وحينها لن تكون بحاجة إلى القوى الكبرى التي تدعمها وتؤمّن لها السلاح والعتاد، والحفاظ على التقدّم والاستمرار بالاختفاظ بالمزيد من المناطق؛ أي بمعنى آخر، اللعب على وترين:

الأول؛ تقديم الدعم والمساعدة والحفاظ على المكتسبات والتقدم والسيطرة. والثاني؛ رفع الدعم والغطاء عن الأنظمة المؤقّتة، بغية إيصال رسالة مفادها، أنّه لولا هذا الدعم لن تستطيع الحفاظ على نفوذها ومكتسباتها. وتختلف التسميات التي تخصّ سياسة اللعب على وترين، فيرغب الكثير من المحلّلين بتسميتها بسياسة “العصى والجزرة” أيضا.

الهدف من الحرب التركية على عفرين

تختلف الأهداف والأسباب التي أدّت إلى توجيه تركيا آلتها الحربية والدعائية نحو هذه المدينة الصغيرة التي لا يمكن مقارنتها مع أصغر ولاية تركيا، فالسبب القريب هو احتلال المدنية واسقاط نظامها المتشكّل حديثاً، وضرب مشروع فيدرالية شمال سوريا، التي تشكّل عفرين فيها الإقليم الثالث، ومن ثمّ التوجّه نحو منبج وإلى كوباني ولغاية الحدود العراقية؛ أي ذات المناطق التي فشلت سابقاتها من الكتائب والمجاميع المختلفة من: جيش حر ونصرة وداعش في السيطرة عليها، وتأتي هذه الحرب انتقاماً لهذا الفشل، وذلك يبدو واضحا من خلال الصور التي يتمّ نشرها عبر منصّات الانترنت المختلفة، من عمليات تهجير واستهداف للبنى البشريّة والتحتية بكلّ حقد وغلّ وكراهيّة، ومن ثمّ تغيير البنى الديمغرافية، وتوطين سكان ولاجئين عوض السكان الأصليين ونهب ممتلكاتهم وبيوتاتهم.

كسبب بعيد فإنّ الكثير من الدول غير تركية تشترك في هذه الرغبة، فروسيا وحلفائها من النظام السوريّ والإيرانيّ ترغب في مقايضة مدن شرق الفرات الغنيّة بالموارد الطبيعيّة، بمدينة عفرين، والفشل في هذه المقايضة كان سببا بمقايضة الغوطة الشاميّة بعفرين، ومن المحتمل أن يكون للأمريكيين أيضا سبب غير مباشر في هذه الصفقة، وهو توجيه رسالة إلى إدارة الشمال السوريّ التي تدعمها في شرق الفرات، مفاد الرسالة أنّه ولولا الدعم والغطاء الذي تقدّمه لها، فإنّ تركيا ستنجح في مساعيها في الوصول إلى أبعد من احتلال عفرين.

إلى أين تتجه الحرب على عفرين

من خلال ما سبق يمكن استخلاص نتيجة واحدة مفادها أنّه ومنذ اليوم الأول من اندلاع الاحتجاجات والانتفاضات وتحوّلها إلى حروب دامية استعملت فيها أغلب الأسلحة الخفيفة والثقيلة والتكتيكية حيناً، وهناك احتمال كبير أن تستخدم الاستراتيجية منها في المدى المنظور القريب أو البعيد، وهذا كلّه يتعلّق بما ستؤول إليه الأوضاع في عفرين، سواء نجح الأتراك في احتلالها كليّاً أو توقّفت حملتهم، مع الإبقاء على الحصار والتجويع على غرار الغوطة الدمشقية لفترة زمنية، ومن ثمّ الإطباق على ما تبقى منها واحتلالها فيما بعد، فكلّ من دخل سوريا بات الآن يغوص في مستنقعها دون أن يدري، وهنا يقصد البعد  الجغرافي؛ أي الدول القريبة في المستقبل القريب، وفيما بعد ستكون مستنقعاً للدول البعيدة عنها في المستقبل البعيد.

الأطراف المتحاربة طيلة الحرب السورية، لا تستطيع التحكّم كلّياً بسير الحرب الدائرة في البلاد وإبقائها تحت السيطرة، وعدم امتدادها إلى دول الجوار، ومن ثمّ إلى بقية دول العالم، وهنا يمكن الاستنتاج بأنّ الحرب السورية هي مستنقع لدول الجوار في المستقبل القريب، وستمتد الحرب إلى داخلها وستكون عرضة هي الأخرى للدمار والتقسيم، والحرب على عفرين هي مستنقع للدول الكبرى، والتي هي بعيدة جغرافياً عن سوريا، وعفرين هي النموذج المصغّر لسوريا، وحمايتها ستكون بمثابة سدّ الطريق أمام حرب عالمية، ربّما، وعدم امتداد الحرب إلى هذه الدول.

خلاصة
وكأنّها حرب عالمية مصغّرة تدور حاليا في سوريا، ويمكن أن تدور رحاها أكثر وتتوسّع لتتحوّل إلى حرب عالمية كبرى، وذلك بعد احتلال عفرين، لأنّ أبرز القوى التي تشارك بفاعلية لتأمين الاستقرار ومحاربة قوى الإرهاب العالمي العابر للقارات مشاركة فيه، وما سقوط سدّ ميدانكي في عفرين إلا سقوط للقوى التي تشكّل سدّا منيعاً بوجه تمدّد وتوسّع قوى الإرهاب منذ قرابة الست سنوات، وهنا سقوط عفرين أو لا، ليس مهمّا لأهلها أو شعبها أو حتى لباقي مدن ومناطق الشمال السوري، بقدر ما هي مهمّة لشعوب العالم وأنظمتها، والحفاظ على عالم مستقرّ مرتبط بمدى الحفاظ على عفرين.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى