دراسات

الإمبراطورية الإلكترونية في ظل الثورة الرقمية

مرّت البشرية بمراحل كثيرة خلال تطوّرها التاريخي، وفي كل مرحلةٍ وتطوّرٍ كانت هناك عقولٌ عبقرية تعمل وتبدع. ومن هذه التطورات التي أحدثت تغيرات جذرية في مسار التطور البشري، تلك الثورات العلمية التي كانت لها تأثير عميق على جميع نواحي الحياة داخل المجتمعات البشرية وعلى صعيد تطورها التاريخي. وقد تكون الثورة الصناعية – التي قامت خلال القرن التاسع عشر، والتي شهدتها بلدان أوروبا الغربية بسبب النهضة العلمية الشاملة التي أدت لاختراعات واكتشافات مهمة – إحدى أهم تلك الثورات. حيث جعلت الآلة تحل محل العمل اليدوي. كان لهذا الأمر أثراً بالغاً على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سواءً في أوروبا أو خارجها.

وتعد الثورة التكنولوجية الحالية من الناحية الرقمية إحدى المراحل المتقدمة من تلك الثورات العلمية، التي تأخذ في كل فترة منحى مختلفاً بحسب التطور في وسائلها، وفي الظروف العالمية. والجدير بالذكر أن هذه الثورة وما ألت إليه من نتائج باتت تؤثر في الكثير من نواحي الحياة داخل المجتمعات البشرية وخاصة في الدول المتقدمة والتي يتم استخدامها في التأثير على السياسات العامة وأدواتها على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

لقد نقلت الثورة الرقمية، البشرية من التقنيات الميكانيكية إلى الإلكترونيات الرقمية، والتي بدأت بعد النصف الثاني من القرن العشرين، ومن ثم توالت التطورات على هذه التقنيات حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فباتت تأخذ أشكالاً تؤثر بشكل مباشر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية.

تطور وسائل التواصل الاجتماعي

لم يكن أحد يتوقع أن تتطور وسائل التواصل الاجتماعي الفيسبوك، وتويتر، وواتس آب وغيرها إلى هذه الدرجة حتى أصبحت واحدة من أكثر أدوات التأثير العالمي. لأن العمر الحالي لهذه الوسائل ليس طويلاً، مقارنةً بالتطور التكنولوجي العام وهي -عملياً- لم تبدأ منذ فترةٍ طويلة، حيث كانت بداياتها بعد العام 2000.

لقد غزت هذه الوسائل الانترنيت في مختلف دول العالم، وبات العالم كقرية صغيرة، بحيث يمكنك الوصول إلى كل صديق أو قريب عن طريقها، بدءاً من فيسبوك، ووصولاً إلى أقل البرامج استخداماً في هذا المجال.

كان الأمر يقتصر -بدايةً- على الأفراد فقط، ولم تكن فكرة أن يصل مدى تأثيرها إلى الحكومات والرؤساء والدول واردةً وقتها، إلى أن تغير الأمر بدايات عام 2011، ولا يمكن ذكر ثورات ما سميت بالربيع العربي دون ذكر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي فيها حيث لعب الفيسبوك دوراً كبيراً في الإطاحة ببعض الأنظمة الرئاسية، كالنظام المصري مثلاً، باعتباره أصبح طريقة للتواصل بين الخارجين ضد حكوماتهم، واستمر دور وسائل التواصل في الانتقال من وعي الشارع إلى بثّ الوعي إلكترونياً، باعتبارها باتت منصة لجميع النشطاء؛ سواءً أكانوا سياسيين، أو مدنيين أو غيرهم، للإدلاء بآرائهم وجعلها متاحة للناس جميعاً. وسمحت للنخب السياسية والاجتماعية تجاوز فكرة تغيبها في المجال العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة.

وفي إيران عندما بدأت احتجاجات الوقود عام 2019، قامت الحكومة الإيرانية بحجب كل وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية، بداعي أنها تحرّض على الفوضى والتدمير، مما يعني إدراكها للدور الكبير لهذه الوسائل في توسيع دائرة الاحتجاجات في البلاد، بالإضافة إلى دورها في نقل ما يحصل في الداخل إلى خارج إيران، لذا ارتأت الحكومة هناك حجب مواقع التواصل الاجتماعي بهدف عزل الشعب الإيراني بالكامل عن محيطه الدولي.

تأثيرات وسائل التواصل في الحياة السياسية (حادثة ترامب نموذجاً)

لعل بداية عام 2021 قد أحدثَت تغيُّراً جديداً في تأثيرات تلك الوسائل، خاصةً بعد أن قام الموقع المعروف توتير بتعليق حساب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد عدة تغريداتٍ قام بها، فُهمت على أنها تحرّض على العنف، وبعدها قيام أنصاره باقتحام مقر الكونغرس في 6/1/2021. ثم امتدت عمليات الحظر إلى فيسبوك، وانستغرام، إلى منصات أخرى؛ وصلت إلى أكثر من عشرة مواقع.

إن ما حصل لحساب الرئيس الأمريكي يُنظر إليه من عدة زوايا، الأولى وهي نوع من الديمقراطية الممنوحة لتلك الشركات، والتي استطاعت بقرارات تحريرية حجب وإقفال حساب رئيس أقوى دولة في العالم. فقد أضافت هذه التطورات مسحة ديمقراطية؛ أو بذرة أخرى لترسيخ الديمقراطية لكل بلدان العالم، وأصبحت درساً، تعلّم الحكام أن لا أحد فوق القانون.

والزاوية الثانية هي القول بمن قال أن حجب الحساب هو خطوة لقمع الحريات وإبداء الرأي بشكل عام، بغض النظر عن التغريدات. فهناك الألوف ممن ينتهكون المعايير الانسانية على مستوى العالم، وليسوا بحاجة إلى تغريدات لكي يقوموا بالقتل والتحريض على العنف. وبعضهم حكام دول، يمارسون دكتاتوريتهم على مرأى العالم أجمع، دون أي محاسبة، ودون نشر ذلك على صفحات التواصل، والرئيس الأمريكي الذي من صلاحياته أن يأمر ببدء هجوم نووي، كيف لا يمكن ائتمانه على حساب تويتر؟

والزاوية الثالثة، وهي مدى قدرة هذه الشركات على التأثير المباشر، فبغض النظر عن تغريدات الرئيس الأمريكي التي تسببت في كل ذلك، باتت هذه الشركات تتحكم في أمور تصل لحد إحداث تغييرات جذرية، وبات يطفو على السطح في الأيام الأخيرة مصائر حسابات حكام آخرين، فطالما أن السوشال ميديا تنتشر في كل العالم، فهذا يعطيها طابعاً إمبراطورياً إلكترونياً، فقد باتت قادرة على التأثير على أي دولة خارج حدود الشركة. وما حصل من إغلاق حساب تويتر المرتبط بالمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بعد نشره لتغريدة تحريضية كما قالت الشركة، وكذلك حجب تغريدة لوزير الداخلية التركي سليمان صويلو، إلا دلائل على أن هذه الوسائل باتت أقرب إلى امبراطورية متحكمة عن بعد.

“هذا يثير تساؤلاً كبيراً حول الأحكام التحريرية لشركات التواصل الاجتماعي، والطريقة التي تنظم بها أعمالها”؛ كما ذكر “مات هانكوك” وزير الصحة البريطاني، متسائلاً: هل من المناسب أن نترك مثل تلك القرارات لأشخاص مثل مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي ومؤسس فيسبوك؟“، ويرى هانكوك أن الأمر يجب ألا يكون متروكاً لهؤلاء على الإطلاق، وأن هناك حاجة لإيجاد إطار تنظيمي حولهم لوضع القواعد والمضي قدماً“، والسؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح، هل فعلاً هكذا قرارات بيد شخص واحد؟

وفي السياق لا يُستبعد انتباه بعض دول العالم إلى تأثير هذه الامبراطورية، والتي قد تؤدي بهم إلى استعمال مواقع ووسائل تواصل اجتماعي محلية، وما حصل في تركيا مؤخراً، مثالٌ قريب من ذلك، فقد تخلّى فريق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإعلامي؛ ووزارة الدفاع عن برنامج واتس آب، بسبب قواعده الجديدة، ودعى أردوغان الشعب التركي إلى استخدام برنامج المراسلة المشفر “Bip” وهو وحدة تابعة لشركة توركسيل التركية، وقد انضم أكثر من مليون مستخدم جديد إلى برنامج المراسلة هذا خلال يوم واحد فقط.

إن ما حصل في تركيا قد لا يكون فقط لمجرد قواعد جديدة وضعتها واتس آب، بل قد يكون الأمر أكبر من ذلك، وهو التحرر من إمبراطورية وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يمتد الأمر إلى دول أخرى، فالصين منذ فترة طويلة تفرض قيوداً على أكثر من 75 % من مواقع التواصل الاجتماعي العالمية، مثل غوغل وفيسبوك وواتس آب، ليس لما يحصل وحصل بداية العام 2021، فهي تخشى من مخاطر التجسس والمراقبة أيضاً، لذا وفرت بدائل آمنة لمثل هذه المواقع.

في الماضي كان الأفراد يخشون من سلطة وسائل التواصل الاجتماعي، والآن وصل الأمر لمستوى رؤساء الدول، فهل سنشهد تطورات أخرى على هذا الصعيد؟، هذا كلهُ قد يكون مرتبطاً بمؤسسات تعمل في الخفاء وتتحكم العالم بأسره، وتُحرك الشركات؛ وحتى الدول حسب توجهاتها وأيديولوجيتها.

وباء كورونا وصعود العملات الرقمية – البيتكوين نموذجاً

من إحدى وسائل الإمبراطورية الإلكترونية، الظهور الواضح للعملات الرقمية المشفرة. وأهم تلك العملات التي باتت في صعود الآن هي عملة البيتكوين (Bitcoin)‏، وهي عملة رقمية مشفرة، تم اختراعها في عام 2008 من قبل شخص أطلق على نفسه اسم ساتوشي ناكاموتو، وهو غير معروفٌ حتى اليوم. بدأ استخدام هذه العملة عام 2009، وهي أول عملة رقمية لامركزية، أي من دون وجود بنك مركزي، حيث يمكن إرسالها من شخص إلى أخر عبر شبكة بيتكوين بطريقة الندّ للندّ (أو النظير إلى نظير) دون الحاجة إلى وسيطٍ؛ يكون طرفاً ثالثاً[1] (كالبنوك، وشركات التأمين، وشركات التعامل في البورصة، وعملاء السمسرة)، يمكن استبدالها بعملات ومنتجات وخدمات أخرى.

((أشارت تقديرات البحوث التي وضعتها جامعة كامبريدج إلى أنه في عام 2017، كان هناك ما بين 2.9 إلى 5.8 مليون مستخدم يستعملون محفظة لعملة رقمية، وأكثرهم يستخدمون البيتكوين. ويتألف البيتكوين مثل أي عملة أخرى من أقسام صغيرة تسمى “الساتوشي”، ويتطلب الأمر 100 مليون ساتوشي للحصول على بتكوين واحد، ويجري إصدار نحو 360 عملة بيتكوين جديدة يومياً حول العالم، إذ وصل عددها حالياً إلى 16.5 مليون وحدة (عملة)، ووضعت أول ماكينة صراف آلي للبيتكوين في مدينة فانكوفر، بمقاطعة بريتيش كولومبيا بكندا عام 2013، تسمح للمستخدمين بشراء العملات الرقمية أو بيعها.))

كما ذكرنا سابقاً، فإن شبكة  البيتكوين تعمل منذ عام 2009، ولم تتوقف منذ ذلك الوقت، وبسبب نظام الاجماع[2] في العملة لم يستطع أحد اختراق سلسلة كتل البيتكوين، وأكثر الاختراقات التي تتم هي بسبب أخطاء بشرية في إدارة المحفظة، وليست بسبب عيوب في التصميم.

كان لانتشار وباء كورونا في العالم، تأثيراً كبيراً على اعتماد الناس على العملات الرقمية، وكان صعود البيتكوين أحد نتائجه، حيث نمت عمليات الشراء والمعاملات الرقمية أثناء تفشي الوباء، وبات الاستغناء عن التعاملات النقدية التقليدية واحداً من الأمور الضرورية لتفادي انتشار كوفيد 19.

خلال هذه الفترة حدثت تغيرات كثيرة دعمت هذه العملة، منها ما حدث عندما أطلق عملاق المدفوعات عبر الإنترنت “بيه بال ” (PayPal)، خدمة شراء وبيع ودفع بواسطة العملات المشفرة، والذي سيضمن لمستخدميه البالغ عددهم 350 مليون وعشرات الملايين من التجار الشركاء؛ تحويل مدفوعات من البيتكوين أو الإيثريوم [3](Ethereum)  إلى العملة المحلية، مما سيجعل العملات الافتراضية أكثر شعبية.

شكّل إعلان شركة “بيه بال” السماح لعملائها باستخدام العملات المشفرة في عمليات البيع والشراء قفزة كبيرة للبتكوين، الأمر الذي ضاعف الطلب عليها، مؤدياً لارتفاع سعرها، ومما دفع أكثر البيتكوين للارتفاع هو قيام مؤسس “تويتر” جاك دورسي بإطلاق مؤسسة لجعل “بيتكوين” “عملة الإنترنت”، بالإضافة إلى ما قام به “إيلون ماسك” الرئيس التنفيذي لشركة “تسلا” للسيارات الكهربائية من استثمار نحو 1.5 مليار دولار في العملة الرقمية بتكوين، لم يتوقف “ماسك” عند هذا الحد فقط، بل أتاح – مؤخراً – شراء سياراته الكهربائية عن طريق عملة البيتكوين.

كانت عملة البيتكوين في السادس من حزيران 2011 تساوي 8 دولارات فقط، ورغم خيبة الأمل الكبرى حينها من العملات التقليدية في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، فإن معظم الخبراء كانوا يرون أن العملة المشفرة ليست إلا حلماً تحررياً غير واقعي بسبب تقلب قيمتها ، لكن هذا الأمر تغير اليوم، فقد أصبحت بتكوين (Bitcoin) حديث الساعة في العالم الاقتصادي، حيث يتم تداولها بما يزيد على أكثر من 50 ألف دولار لكل عملة من أصل 21 مليون وحدة (عملة) متاحة[4]، ورغم التذبذب الكبير في قيمتها، إلا إنها باتت شاغلةً العالم في هذه الأيام.

رغم كل التشكيكات في عملة البيتكوين، لكنها نجحت في الاستمرار، وأن تثبت قدرتها على البقاء في التداول لمدة 12 عاماً، وعلى الرغم من أنها ليست أكثر كفاءة أو سهولة في الاستخدام من العملات الورقية التقليدية، لكنها بقيت مرنة، وقادرة على تحدّي العملات الورقية، وهذا ما جعل الشركات الاستثمارية أن تتجه نحوها بقوة في الفترة الأخيرة.

أما ما يتعلق بتأثير البيتكوين على الدولار فيقول الخبراء أنه يكاد يكون من المستحيل أن تحل بتكوين أو غيرها من العملات الرقمية محل الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية، على الأقل على المدى القصير. ويرجع ذلك إلى التقلب في سعرها، وإمداداتها المحدودة للغاية، وهذا ما يجعلها غير مؤهلة لاتخاذ هذا الدور، وينطبق الأمر ذاته على العملات الرقمية الأخرى مثل عملة “دوجكوين ” (dogecoin)، التي بدأت كمزحة في عام 2013 لتصبح قيمتها السوقية الإجمالية الآن حوالي 6.9 مليارات دولار، بمعدل 5 سنتات للوحدة الواحدة، لكن هذا لا يعني أن لا تأثير للعملات الرقمية على الدولار، ويبدو أن المستقبل لهذه العملات الرقمية، والتي قد تكون جزءاً هاماً من الامبراطورية الرقمية التي يشهدها العالم.

العملات الرقمية والنظام المالي العالمي

تشبه العملات الرقمية – وخاصة البيتكوين – إلى حدٍ ما؛ ما تم الحديث عنه من أصحاب نظرية المؤامرة الذين «تنبؤوا» بعملة عالمية تتحكم فيها نخبة من أرباب الأموال، فقد نشرت مجلة الـ «إكونوميست» مقالاً بعنوان: «استعدوا لعملة عالمية». هذا المقال لم ينشر قبل أيام، وإنما نشر بتاريخ 1/9/1988م، أيْ قبل حوالي 33 عاماً. يستهل المقال بهذه الجملة: «بعد ثلاثين عاماً من اليوم، ربما يدفعُ الأمريكيون واليابانيون والأوربيون وأناسٌ من دولٍ ثريةٍ أخرى، وأخرى فقيرةٍ نسبياً عن تسوقِهم بالعملةِ ذاتِها. ولن تسعرَ القيمةُ بالدولار، أو الينِّ أو الماركِ الألمانيِّ، وإنما لنقلْ بعملةِ الفينكس».

طبعاً عملة الفينكس كانت افتراضية، لكن يبدو أن ما يحصل اليوم هو تحقيقٌ لخيالٍ علمي حصل قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لذا يرى البعض أن ظهور هذه العملات ليس مصادفةً بريئة، بل هناك من يوجهها.

لا تخضع العملات الرقمية لسطوة الحكومات؛ أو لأي نظام عالمي، لأن ما يحركها هو عمليات البيع والشراء والمقايضات، لذلك فأنت لن تحتاج إلى تبديل العملة، ولن تخضع للبنوك، ولن تدفع أي عمولات، وهذا يلغي فكرة المركزية ومراقبة حركة الأموال والأسهم والعقارات وغيره، ويصبح من الصعب السيطرة على حركة الأموال ومعرفة حتى وجهتها، وهذه السرّية في التعاملات استقطبت الكثيرين من الراغبين في الحصول على الخصوصية، والتخلص من سطوة البنوك، ورغم أن هذه العملات قد تصبح ملاذاً آمناً للمتهربين من الضرائب وغسيل الأموال وغيرها من العمليات غير القانونية، إلا إنها تملك القوة الكافية لتقويض سلطة الدولة، وتحكّمها بالأسواق. وفي تحقيق استقصائي أجراه المجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي حول بيتكوين في نهاية عام 2017، خلُص رئيس المجلس جيروم باول إلى أن أحد أكبر مخاطر العملة الرقمية هو الخصوصية.

 لذا نرى محاولات جادّة من الكثير من الحكومات والأنظمة البنكية لمحاربة العملات الرقمية، ويبدو أنهم يميلون الآن لإصدار عملات مركزية السجل مثل الريبل، يستطيعون من خلالها تغيير بعض قواعدهم المالية، ولكن دون خسارة تحكمهم بالأسواق وانتقال الأموال.

استطاعت بعض الدول الاستفادة من العملات الرقمية، خاصة تلك التي تخضع لحصارات اقتصادية كفنزويلا مثلاً، أو تلك الدول التي تخضع لعقوبات دولية كـ كوريا الشمالية، فقد قامت الحكومة الفنزويلية بإصدار عملية رقمية مركزية تسمى بيترو، وربطت سعر هذه العملة بسعر برميل النفط المحلي والمعادن النفيسة، وقد نجحت هذه الحكومة حسب تصريحاتها ببيع ما يفوق الـ 700 مليون دولار من البيترو في فترة الاكتتاب الأولية، وهذا ما يعطي فنزويلا طريقاً للهروب من الضغوط الاقتصادية التي تلاحق عملتها المحلية التي تضخمت كثيراً، بالرغم من الضغط الأمريكي ومنع شراء العملة الرقمية الفنزويلية، وهذا ما يصبُّ في مصلحة العملة الرقمية الجديدة. وهذا ما يهدد النظام الاقتصادي العالمي ككل، وتخرج الحكومات من تحت سطوة الدولار والولايات المتحدة الأمريكية.

فلسفة العملات الرقمية وتمويل الحروب

يرى البعض أن تكنولوجيا العملات الرقمية ستقوم حتماً بتغيير العالم، وتقليل الحروب، بفضل إحلال العملة الرقمية محل العملة التقليدية، وهيمنتها على الحياة الاقتصادية.

يقول الفيلسوف ستيفان مولينو: أن “البيتكوين يمتلك القوة لتقويض السلطة السياسية التي تبدو كأنها سلطة مُطلقة، وهو بمنزلة الثورة الأكثر سلمية التي يمكن أن تحدث في هذا العالم”.

من الناحية التاريخية، طالما كانت قدرة الحكومات على طباعة النقود، وسيلة رئيسية في تمويل الحروب، والحروب كثيراً ما كانت تدفع الحكومات إلى طباعة الأموال دون توقف، فالحرب العالمية الأولى كان من المتوقع أن تستمر لعدة أشهر فقط، لأن تلك الفترة هي المفترضة لنفاد الأموال المخصصة للحرب عند الدول المشاركة فيها، ولكن بدلاً من ذلك، بدأت الدول المشاركة بطباعة نقود جديدة، دون أي التزام بنظام الذهب الدولي، من أجل مواصلة تمويل المجهود الحربي. بالإضافة إلى ما حصل خلال الحرب الأمريكية الفيتنامية، والتي جعلت الولايات المتحدة تقوم بطباعة فئات ضخمة من الدولار دون تغطية من الذهب، مما أدى إلى تضخم نقدي في قيمة الدولار خلال الستينات من القرن الماضي.

لذا يؤكد الخبراء أن “الحرب والعملة المحدودة لا يجتمعان معاً”، والعملات الرقمية، طالما لا تتحكم بها الحكومات فهي ستكون محدودة، في حال لو أصبحت عالمية، وبالتالي ستحدّ من الحروب.

الخلاصة

العالم في تغير مستمر، وكما قيل سابقاً أن الشيء الوحيد الثابت في الحياة هو التغيير المستمر، والثورة الرقمية هي إحدى التغييرات التي قد تحدث طفرات غير متوقعة للعالم، تماماً كما فعلت الثورة الصناعية، التي منحت الانسان قفزة هائلة نحو التطور التقني، فما كان خيالاً علمياً قبل مئة عام أصبح حقيقة اليوم، وما يتم الحديث عنه اليوم عن أن العملات الرقمية وغيرها من أدوات الثورة الرقمية مجرد بالون هلام أو فقاعة اقتصادية، قد تقلب الموازين مستقبلاً على رأس الحكومات بما في ذلك النظام العالمي ككل.


[1] على سبيل المثال: إذا ذهبت لمحل تجاري واشتريت قطعة ملابس، وقمت بالدفع بواسطة بطاقة الائتمان (فيزا كارد، أو ماستر كارد)، فإن البنك هو الوسيط بينك وبين البائع. وحتى لو قمت بالدفع النقدي فالبنك المركزي هو الوسيط، حيث هو الذي أصدر العملة المتداولة. أما إذا استخدمت العملة الرقمية على سبيل المثال البيتكوين، وحين تشتري قطعة الملابس، فأنت تدفع من خلال محفظة رقمية محفوظة على هاتفك المحمول، والبائع لديه آلة تشبه آلة الدفع بالبطاقة الائتمانية، فتقوم بالدفع مباشرةً للبائع. حين تتم العملية تتغير ملكية العملة الرقمية من محفظتك إلى محفظة البائع، ويتم تعميم تغيير الملكية على شبكات الحاسوب حول العالم بوقتً قصير بطريقة لا مركزية، تسمى سلسلة الكتل – بلوك تشين (Blockchain). أي أنه لا يوجد حاسوب أو بنك مركزي يقوم بالعملية؛ أو على علم بأطرافها، وأنّ الملكية تتغير بدون معرفة مَن البائع ومَن المشتري.

[2] خوارزمية الإجماع : تعمل على تأكيد إتباع قواعد البروتوكول وضمان أن جميع المعاملات تحدث بطريقة موثوق بها بحيث لا يمكن صرف العملات إلا مرة واحدة.

[3] تم إطلاق عملة الإيثريوم للمرة الأولى في شهر أغسطس عام 2015 لتضاف إلى سلة العملات الرقمية (Cryptocurrencies)، هي ثاني أشهر وأفضل العملات الرقمية في العالم بعد البيتكوين، ومنذ أن تم اطلاقها وهي تنموا وتتطور بشكل سريع للغاية جعل السعر السوقي لها يرتفع من 2.8 دولار حين تم إطلاقها ليصل إلى 1,678دولار في الفترة الأخيرة، في الوقت الذي لم تنجح الكثير من العملات الرقمية الأخرى في تحقيق نفس الشهرة والانتشار، على الرغم من اطلاقها في نفس التوقيت تقريباً.

[4] لأن عملة البيتكوين مثلها مثل أي عملة، هناك حدود لطباعتها أو إصدارها، وذلك تحاشياً لخطر التضخم.

المراجع:

الثورة الصناعية – موقع المعرفة.

الثورة الصناعية الرابعة – موقع العربية – تم النشر في 1 تموز 2018.

ما هو البيتكوين؟ – الموقع الأساسي.

“تويتر” تعاقب المرشد الإيراني علي خامنئي – موقع العين الإخبارية – تاريخ النشر 22 / 1 /2021.

«تويتر» يحجب تغريدة لوزير الداخلية التركي بسبب «المثلية الجنسية» – موقع تركيا الآن – تاريخ النشر 31/1/2021.

حظر ترامب على مواقع التواصل: ضرورة للحفاظ على الأمن أم تقييد للحريات؟ – موقع bbc arabic – تاريخ النشر 14/ 1 / 2021.

البتكوين تحطم أرقاماً قياسيَّة – موقع الصباح – تاريخ النشر 11 / 1 / 2020.

كيف فرضت البتكوين نفسها على الشركات في 2020؟ وما عوامل صعودها؟ – موقع الجزيرة – تاريخ النشر 23/12/2020.

الرئيس التنفيذي لـ”تويتر” يطلق مؤسسة لجعل “بيتكوين” “عملة الإنترنت” – موقع العربي الجديد – تاريخ النشر 13/2 /2021.

تسلا تستثمر المليارات في بتكوين وتنعشها – موقع سكاي نيوز عربية – تاريخ النشر 8 / 2 / 2021.

ازدهار البتكوين.. هل يشكل خطرا على الدولار؟ – موقع الجزيرة – تاريخ النشر 22/2/2021.

البيتكوين.. فقاعة اقتصادية أم ثورة رقمية؟ – موقع للعلم – تاريخ النشر 23 /1 / 2018.

لماذا يحارب النظام المالي العالمي العملات الرقمية؟ – الجزيرة – تاريخ النشر: 17 / 7 / 2018.

الآن.. شراء سيارات تسلا باستخدام البتكوين – موقع سكاي نيوز – تاريخ النشر 24/3/2021.

البيتكوين.. عملة النظام العالمي الجديد – موقع البيان – تاريخ النشر 17 / 1 / 2018.

البتكوين: نظام عالمي جديد .. – مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية – تاريخ النشر: 17 / 2 / 2017.


لتحميل الدراسة بصيغة PDF انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى