دراسات

الكرد وسياسة التنكيل والمجازر المستهدفة وجودهم ثقافياً وجسدياً

مقدمة

إن ما تعيشه منطقة شمال وشرق سوريا – حالياً – من الاحتلال؛ والتنكيل؛ والمجازر، ما هي إلا جزء من ثقافة الدولة التركية المبنيّة أساساً على إنكار ومحو ثقافات الشعوب الأخرى، وهي ثقافة موروثة من تاريخ السلطنة العثمانية، وكأن التاريخ يعيد نفسه في يومنا الراهن على هذه الجغرافيا التي لم تعش الاستقرار والأمان منذ أمد بعيد.

إن بناء الدول القومية، وترسيخ الفكر القوموي والدينوي في المنطقة، فتح الباب أمام ممارسة  سياسة الإبادة والتطهير العرقي على مصراعيه، حيث ترى هذه الأنظمة وجودها في إنكار الآخر المختلف، ويشكل الكرد مثالاً مهماً في هذا السياق، كونهم تعرّضوا لأكبر مظاهر الصهر وسياسات الدمج في الدول القومية التي اقتسمت منطقتهم الجغرافية، ومارست بحقهم المجازر الحمراء- الدموية، والمجازر البيضاء عن طريق الصهر الثقافي والقومي، تلك المجازر التي هدفت- وما تزال- إلى اقتلاعه من جذوره وإبادته كلياً.

فبعد تقسيم الأراضي الكردية في اتفاقية (سايكس بيكو) وما بعدها من اتفاقيات دولية، على دول قومية مستحدثة، أقدمت أنظمة هذه الدول؛ بالإضافة إلى إيران، على قمع الانتفاضات الكردية المطالبة بحقوق الشعب الكردي بشكل دموي- وحشي، كما أصدرت حكوماتها مراسيم ودساتير تثبّت حدود هذه الدول، وتعتبر الأراضي الكردية جزءاً من أراض دولها، وبأن الشعب الكردي جزءٌ من قوميتهم العرقية، و”تؤكد” بأنه لا يوجد هناك أقليات أو إثنيات قومية غير القومية الحاكمة (العربية والتركية والفارسية)، وكانت هذه السياسات من أصعب المحطات في تاريخ هذا الشعب.

لم يختلف الوضع في سوريا عن بقية الأجزاء الأخرى، حيث لم تدخل الدولة السورية سياقاً طبيعياً بأي شكل من الأشكال منذ أعوام العشرينيات، ولا تنفك، الى يومنا هذا، تحكم بقانون الأحكام العرفية، وتفتقر لنظام دستوري مرتكز الى الوفاق الاجتماعي، بل إن نسبة مهمة من الكرد في سوريا ليسوا مواطنين! أي أنه غير معترف بهم قانونياً، وما تبقى منهم يفتقرون لأية حقوق قانونية أو ثقافية أو اقتصادية أو إدارية أو سياسية. وبمعنى آخر، إن وضع الكرد أكثر تخلفاً من وضع المستعمرة نفسها، في سوريا، وكذلك في بقية الدول المقتسمة لأراضيهم.

الكرد وسياسة الإبادة والتطهير العرقي في الدول القومية

تهدف سياسات التنكيل والمجازر وعمليات التغيير الديمغرافي إلى الإبادة والتطهير العرقي، وفي هذا السياق يرى السيد عبدالله أوجلان بأن الكرد هم من أهم الأمثلة الواضحة والفاضحة لهذه السياسات؛ كونهم الضحية الأكبر لسياسة الصهر والدمج في الشرق الأوسط، فقد كان على الكردي أن يمتثل لكافة السياسات الثقافية التي اتبعتها الدول القومية، وإلا فإنه معرض لكافة أنواع الإبادة، بدءاً من البطالة والجوع وصولاً إلى التطهير العرقي، وقد كان عليه الاختيار ما بين الاستسلام مقابل فتح أبواب التدرج في المناصب العالية أو المقاومة وتحمل أعبائها التي تصل حد الإبادة.

يتم تنفيذ ظاهرة الإبادة والتطهير العرقي بعدة أساليب، أهمها: الإبادة الجسدية والإبادة الثقافية، وهي تهدف إلى التصفية التامة للشعوب والأقليات وكافة المجموعات الدينية والمذهبية والإثنية.

تُرتكب الإبادة الجسدية عموماً بحق المجموعات الثقافية التي تكون عادة في منزلة ثقافية أعلى من ثقافة الفئة الحاكمة، ولعل إبادات الأرمن واليهود من أهم الأمثلة الدالة على هذه الإبادة. في حين أن الإبادة الثقافية ترتكب ضد الشعوب والمجموعات الإثنية والمذهبية التي غالباً ما تكون في وضع متخلّف وضعيف بالنسبة لثقافة الدولة القومية ونخبتها الحاكمة، حيث تسعى هذه الأخيرة إلى القضاء على وجود تلك المجموعات، ومحوها وفق برامج وسياسات معينة، وتسهم فيها كافة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسات التعليمية، وذلك من خلال صهر المجموعات المستهدفة ضمن ثقافة ولغة النخبة الحاكمة والدولة القومية، لتشكل بذلك الإبادة الثقافية أخطر أشكال التطهير العرقي؛ كونها الأعمق أثراً والأطول أمداً.

كان الشعب الكردي من أكثر الشعوب المعرّضة للإبادة الثقافية، وما يزال، فقد تعرّضت كافة قيمه الثقافية المادية والمعنوية وإرثه المجتمعي؛ فضلاً عن بنيتيه التحتية والفوقية للسلب والنهب، في حين أن الباقي من هذه القيم يواجه المحو والتفسّخ أو يتعرض لسياسة التقبيح والتشويه والتزوير، وكل ذلك لدفع الإنسان الكردي إلى التخلي عن تلك القيم، والانصهار في بوتقة الدولة القومية المهيمنة. ومن لم يستجب منهم إلى هذه المعالجة، فسيكون عليه مواجهة سياسة الإبادة الجسدية، ليتصدر الكرد بذلك لائحة الشعوب الأكثر تعاسة؛ لتعرّضهم لأكثر أمثلة الإبادات مأساوية، وهي العمل على جعله غير موجود.

وهنا نستعرض بعض جوانب ما تعرض له الكرد من المجازر وعمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي:

  • في تركيا

إن الممارسات التركية في مجالي الإبادة والتطهير العرقي بحق الكرد حالياً تستند إلى خلفية تاريخية، ولا تقتصر على الوقت الراهن، ومن هنا لا بد لنا من الرجوع قليلاً إلى تاريخ مجازر هذه الدولة حيال الكرد.

تعرض الكرد للنفيٍ والتهجير والتشريد على يد العثمانيين، الذين كانوا يقومون، عقِب قمع الثورات الكردية، بحصار المدن وحرق البساتين والقرى بمن فيها، وإعدام قادتها، بغية فرض التهجير القسري على أهاليها[1]، من خلال تفعيل تيار الطورانية في الدولة العثمانية.

استمرت ممارسات النظام التركي في التطهير العرقي في عهد الجمهورية أيضاً، فقد رسمت اتفاقية لوزان في 24 تموز 1923 ملامح حدود الجمهورية التركية التي استطاع فيها مصطفى كمال أتاتورك تحديد مفهوم الأقليات وماهيتها فقط بتلك التي لا تعتنق الدين الإسلامي، وهي المجموعات المسيحية واليهودية، إلى أخرى صغيرة وقليلة العدد، وتم بذلك إنكار وجود الكرد كقومية متمايزة ضمن الحدود التركية الجديدة[2]، وتم فرض مفهوم عرقي يعتمد العرق التركي أساساً وحيداً للدولة التركية، واعتبار كل الأقوام المتواجدة على “الأرض التركية” أتراكاً، دماً ولغةً وثقافةً وتراثاً، وتم بذلك نفي أي مجموعات لغوية أخرى غير تركيّة، فحُرِمت هذه المجموعات من التعبير عن هوياتها، وتطلعاتها، ولغاتها القومية، ومُنعت من فتح المدارس، والجامعات، ودور النشر وغيرها[3].

اعتمدت الحكومات التركية منذ نشوء الدولة التركية الحديثة أربعة أساليب رئيسية في عمليات الإبادة والتطهير العرقي وهي:

  • القمع الدموي للانتفاضات الكردية.
  • نزع السلاح من جميع الكرد بغض النظر عن مشاركتهم في الانتفاضات.
  • توطين الكرد في مختلف أنحاء البلاد ليكونوا أقلية، وإسكان الاتراك بدلاً عنهم في مناطقهم.
  • إصدار القوانين الجائرة والتعسفية.

إن العديد من القوانين التي أصدرها “المجلس الوطني الكبير” خلال العشرينات من القرن الماضي ضد الكرد والتي ما تزال سارية المفعول حتى وقتنا الراهن، ولا سيّما القانونان 1097 و1178 لعام 1927،  تنصّ على تهجير وإبعاد عدد كبير من العوائل الكردية إلى غرب الأناضول، والقانون 1505 لعام 1929 الذي تضمن الاستيلاء على أراضي الزعماء الكرد تحت ستار شعار كاذب هو (توزيعها على فلاحي شرق الأناضول)[4]، وكذلك القانون الذي حمل رقم 2510، والذي كان يهدف إلى تشتيت وبعثرة السكان الكرد في شمال كردستان، بصورة لا تتجاوز نسبتها في أي ولاية من ولايات البلاد 10% من مجموع السكان. لم يتوقف أتاتورك عن استكمال سياسة “التتريك”، التي أقرها لقمع الأكراد والانتقاص من حقوقهم، فأصدر عام 1932 قانوناً نص على: “منع الأشخاص الذين يتكلمون لغة غير التركية من إعادة بناء القرى أو البلدات”.

وهناك قانون آخر أراد من خلاله أتاتورك تجريد الأكراد من هويتهم، وهو قانون عام 1934 الذي أقرّ بإلغاء الاعتراف بالقبائل أو الأغوات أو الشيوخ، وحوّل اسم مدينة “درسيم” التي تعني “باب الفضة” بالكردية إلى “تونجالي” أي “أرض البرونز” بالتركية.

كانت تلك القوانين جميعها، بدءاً من “قانون إصلاح الشرق” الصادر بتاريخ 1925، وصولاً إلى “قانون التوطين الإجباريّ” لعام 1935، تهدفُ إلى القضاءِ على وجود الكرد؛ إذ أنّها لم تعمل على تصفية الكرد ممارسةً وتنظيماً وحسب، بل كانت تهدف إلى تصفيتَهم وجودياً أيضاً، ووفق القاعدة التي تقول: “إنْ كنتَ تودُّ البقاءَ حياً وثرياً، فعليكَ التخلي عن هويتِك الكردية”! وهي لا تبتعد كثيراً عن مضمون مقولة أردوغان: “فإما أن يقبل الكرد العيش أذلّاء، وإما أن يدفنوا تحت التراب”.

تعرض الكرد خلال الانتفاضات التي قاموا بها لأقسى أنواع العنف، وكانت ظاهرة التهجير وإعدام الزعماء من أكثر الأساليب اتباعاً في الرد التركي عليها، ففي انتفاضات “قوجكري”[5] في عام 1920 و”ثورة الشيخ سعيد 1925 تعرّضوا لقمعٍ وعنفٍ شديدين، وفي ثورة آرارات (آكري)، أواخر ربيع عام 1927، قام الجيش التركي بقتل جميع الذين اُشتبه بضلوعهم فيها، وقد وصل عدد القتلى إلى 3000 كردي، وفي وادي زيلان وحدها قُطع رأس 1550 شخصاً، وأُحرقت 200 قرية من منطقة أرجيش، كما قاموا بتهجير عوائل المشتركين في الانتفاضة[6]. وقد كانت مجزرة زيلان من أبشع جرائم الدولة التركية، فقد تم إبادة مواطني 72 قرية كردية من منطقة زيلان، وقاموا بقصف المنطقة بالطائرات، وتم جمع الأهالي وإحراقهم بسبب الانتفاضة، وقد وصل عدد الضحايا إلى أكثر من 15 ألف شخص، واعتُبر حوالي 2000 شخصاً في عِداد المفقودين.

وفي انتفاضة ديرسم تم تقديم سيد رضا للمحكمة العسكرية التي أصدرت بحقه وبحق أحد عشر شخصاً آخرين من أنصاره أحكاماً بالإعدام، ونُفذ الحكم يوم 18 تشرين الثاني عام 1937[7]. وأقدم الجيش التركي على اتباع سياسة الإبادة الجماعية، وهدم المنازل، وترحيل السكان، حيث قصفت المنطقة بسلاح الجو، والمدافع، والأسلحة الثقيلة؛ فضلاً عن قصص مروعة عن وحشية الجنود الأتراك، كشق بطون الأمهات والحوامل، وقتل الرضّع، واغتصاب النساء والأطفال، وحدثت حالات انتحار جماعية، حيث رمت الكثيرات من الفتيات والنساء الكرديات بأنفسهن إلى نهر مونزور؛ لتفادي الاغتصاب[8].

عاشت تركيا إحدى أسوء فتراتها إبان انقلاب 1980، ويعد سجن آمد ( ديار بكر) أحد الشواهد المظلمة على تلك الحقبة من تاريخ الجمهورية الحديث، حيث مارست أساليب لاإنسانية بحق المعتقلين وأصبحت كردستان الشمالية سجناً مفتوحاً للشعب الكردي.

 وفي تسعينات القرن العشرين شُرّد مئات الآلاف من المدنيين بعد أن أُحرقت أربعة آلاف قرية كردية بهدف تهجيرهم، وتم تفريغ المنطقة من أصحابها الحقيقيين؛ إضافة إلى الجنايات التي كتبت “ضد مجهول”، والتي تجاوز عددها سبع عشرة ألف جناية.

  • في العراق

 تعرض الكرد في شمال العراق للتنكيل والمجازر أيضاً، فقد عمدت الحكومات المتعاقبة إلى تشريد الكرد؛ ولا سيما في ظل حكومة البعث، حيث قامت بين عامي 1970 و1980 بأكبر عملية استئصال عرقي آثم ضدهم، وذلك بتهجير الكرد الفيليين إلى إيران بحجة أنهم إيرانيين[9]، كما قامت بحملات تعريب المناطق الكردية تماشياً مع سياسات التطهير العرقي منذ الستينيات، بُغية تغيير التركيبة الديموغرافية لشمال العراق (جنوب كردستان)، ففي عامي 1978 و1979 تم حرق 600 قرية كردية، وتم ترحيل قرابة 200 ألف كردي إلى أجزاء أخرى من البلاد[10].

وتعد مجازر الأنفال، والهجرة الكبرى، وحلبجة من أبشع عمليات التطهير العرقي في منطقة الشرق الأوسط قاطبة، ولم تكن هذه المجازر أقل  بشاعة من مجازر هيروشيما وناجازاكي.

  • في إيران

لم يختلف وضع الكرد في إيران عما هو عليه الحال في بقية الدول، فقد أقدم نظام الشاه على إعدام القاضي محمد وزملائه من مؤسسي جمهورية كردستان (مهاباد) عام 1946؛ فضلاً عن قتل وترويع الكرد في مناطق سكناهم. كما استمر نظام ولاية الفقيه في نظام الإبادة والتطهير العرقي ضد الكرد، وفتوى الخميني خير دليل على ذلك، وهي الفتوى التي أصدرها بعد أشهر من توليه الحكم، وكانت تتعلق “بالجهاد ضد الكفار”، وراح ضحيتها أكثر من 10 آلاف مدني، كما لا يزال مسلسل الإعدامات والاعتقالات اليومية التعسفية مستمرة بحق الناشطين الكرد إلى يومنا هذا.

  • في سوريا

بعد تفرّد حزب البعث بالسلطة وإعلان نفسه قائداً للدولة والمجتمع منذ عام 1963، بدأ بسياسة الإنكار من خلال الإبقاء على مراسيم جائرة بحقّ المنطقة كانت قد بدأت من عملية الإحصاء عام 1962 الذي أقرّته حكومة الانفصال والذي تُرك من خلاله عدد كبير من الشعب الكردي بدون هوية، تحت مسمّى الأجانب ومكتومي القيد؛ إضافة إلى تنفيذه مشروع التعريب على مراحل، والذي كان قد تم تقديمه من قبل محمد طلب هلال، قبل سيطرة البعث على مفاصل الحكم في البلاد، والذي كان يهدف إلى تغيير ديموغرافيّة المنطقة. ثم جاء مشروع بناء مستوطنات للمتضرّرين من مشروع سدّ الفرات، وإسكانهم في القرى الكردية، وتحت مسمّى استصلاح الأراضي، فقاموا بأخذ وتوزيع الأراضي الخصبة في المنطقة على من تمت تسميتهم بالمغمورين؛ فضلاً عن فرض سياسة التجويع، “لتأديب” الكرد، وفرض الاستسلام، ومن ثم الخنوع والانصياع الكلّي للنظام، وبحسب هذه الخطة بدأ بإصدار المراسيم الداعمة لها، وإحدى هذه المراسيم، كان المرسوم رقم /49/  لعام 2008 المتعلّق بالعقارات أو ما يعرف بقانون الاستملاك، ومن خلال هذا المرسوم تم منع أهالي المناطق الحدودية، أي مناطق الأطراف، القيام ببيع وشراء العقارات وكتابتها بأسمائهم، وقد تم تطبيق هذا القانون على المجتمع الكردي فقط في الممارسة العمليّة؛ أي بما معناه أنّه يحقّ للكردي بيع العقار والأراضي، ولكنّه لا يملك حقّ شرائها، حتى وصل الأمر بالنظام إلى عدم إعطاء حقّ ترميم أو إجراء أي تغيير على منزله حتى في حال الضرورة القصوى.

ولا يفوتنا هنا ذكر أـحداث عام 2004، والتي استند عليها المرسوم سابق الذكر، حيث أقدم فيها نظام البعث على التنكيل بالكرد في مناطقهم بعد أن انتشرت الاحتجاجات الكردية في المدن الكردية بدءاً من قامشلو وصولاً إلى كافة المدن الأخرى، بما فيها الأحياء التي يسكنونها في المدن الكبرى، كدمشق وحلب، وراح ضحيتها عشرات القتلى؛ فضلاً عن آلاف المعتقلين.

كما تم إصدار القوانين الاقتصادية الجائرة؛ ولا سيما في المجال الزراعي، باعتبار أنّ المنطقة هي منطقة زراعية، وكون الزراعة شريان الحياة للناس فيها، ناهيك عن عدم تقديم أي دعم ومساندة في هذا المجال، وتحت اسم الدورة الزراعية، وُضعت قوانين مُنِع من خلالها زراعة مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، إلى أن وصل الأمر بالدولة أن تتحكّم حتى بلقمة عيش الأهالي، من خلال تشديد قبضتها على كلّ شاردة وواردة، إضافة إلى عدم فسح المجال أمام المزارعين والفلاحين لبيع محاصيلهم إلى الجهات التي يرونها مناسبة لهم، بل كانوا مُلزمين بالضرورة لبيع نتاجاتهم إلى خزائن الدولة التي كانت تأخذها بأثمان بخسة.

كما تمت ممارسة الإبادة الثقافية بحق الكرد في مناطقهم؛ إذ تم منعهم من ممارسة الحقوق الثقافية، وتم منعهم من حق تسمية أبنائهم بالأسماء الكردية؛ فضلاً عن منع التعلّم باللغة الأم، بل ومنع التحدث بها في المؤسسات الرسمية، وفرض نظام تعليم بعثي يرفض أي وجود غير عربي في سوريا.

كان الهدف من كلّ هذه الإجراءات المجحفة بحقّ المجتمع الكردي هو دمج وصهر الكرد في البوتقة العربية، وإجبار غالبية الشعب للهجرة إلى المركز والمحافظات المحيطة به، لتُحكِم قبضتها عليهم وإجبارهم على القيام بكافة أنواع الأعمال التي تحطّ من كرامتهم.

وخلال الأزمة السورية استطاع الكرد الحفاظ على أمن منطقهم بعد معارك عنيفة مع التنظيمات الإرهابية، النصرة أولاً ثم داعش، إلا أن الدولة التركية استكثرت الأمان والاستقرار عليهم، فبدأت بمحاربتهم، تماشياً مع سياسة الإبادة والتطهير العرقي، من خلال الإبادتين، الجسدية والثقافية، فقامت باحتلال مناطق من الشمال السوري على مراحل، بدءاً من جرابلس وإعزاز ثم عفرين وصولاً إلى رأس العين وتل أبيض؛ فضلاً عن هدفها المعلن على الملاً، في الأمم المتحدة! بتغيير ديموغرافية مناطقهم من خلال إسكان متعمد لثلاثة ملايين سوري من اللاجئين لديها على طول شريطها الحدودي مع سوريا وبعمق 32 كم في الأراضي السورية.

تعرضت مدينة عفرين لهجومٍ شاملٍ من قبل الدولة التركية في عام 2018، وتسبب الهجوم في التهجير القسري للمدنيين الذين تعرضوا للعنف والمجازر، ووفق تقريرٍ لمنظمة روج آفا عن الأوضاع في عفرين خلال الاحتلال التركي فقد “تم إرغام 350 ألف مدني على الخروج من مدينة عفرين وريفها، ليكون مصيرهم التوزع على مخيمات تمّ إنشاؤها مع قدومهم في مناطق الشهباء وتل رفعت وفي مناطق الجزيرة والفرات، وفي الوقت الذي غادر فيه البعض الآخر منهم إلى دول مجاورة وإلى دول أوربية، الأمر الذي أدى إلى خروج حوالي 80 % من السكان الأصليين من مدينة عفرين وبقاء نسبة 20 % منهم في حالة تفوق حالة السجن الانفرادي”.

أسفر الهجوم التركي عن قتل عشرات المدنيين بينهم أطفال ونساء (مجزرة تل رفعت)، وما زالت أعمال العنف تُرتكب بحق المدنيين ويمارس التعذيب بحقهم، كما أنّ أملاكهم تتعرض للنهب والسلب، فعفرين التي كانت نموذجاً للمدينة التي تعيش بسلام أصبحت الآن في ظل الاحتلال مدينة خالية من الأمان، وتسيطر عليها مجموعة من اللصوص والمرتزقة.

قام الرئيس التركي بتنفيذ وعيده باجتياح مناطق شرقي الفرات بعد حصوله على إذن من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر مكالمة هاتفية؛ إذ عبرت قواته، برفقة الفصائل الموالية له الحدود السورية في عملية احتلال صريحة للأراضي السورية، وتم الاستيلاء على مدينتي رأس العين وتل أبيض والمنطقة الممتدة بينهما.

انتهج الجيش التركي والفصائل المسلحة الموالية خلال هذه العملية أسلوب الترهيب والتنكيل ضد سكان هاتين المنطقتين وضرب المدينة والقرى المجاورة المكتظة بالسكان بالطائرات الحربية واستعمال كافة انواع الاسلحة الثقيلة من ناحية، ومن ناحية أخرى تقصدت العناصر المسلحة في تصوير مشاهد القتل والتعذيب، ونشرها على شبكات التواصل الاجتماعي لترويع الأهالي ودفعهم إلى الهرب من مناطقهم.

جاء في تقرير لمكتب شؤون المنظمات الإنسانية في مقاطعة الجزيرة حول تداعيات الاحتلال التركي في رأس العين وتل أبيض أنّ “عدد الشهداء من المدنيين بلغ (478)، وعدد الجرحى بلغ (1070)، كما وصل عدد النازحين والمشردين إلى 300 ألف نازح، أكثر من نصفهم في مدينة الحسكة وحدها، وتعطلت العملية التعليمية في 810 مدارس مما أدى إلى حرمان 86 ألف تلميذ من الالتحاق بمدراسهم”[11].

قبل تنفيذ هذه العملية، كان الجيش التركي يقوم باستهداف السكان القاطنين بالقرب من الشريط الحدودي بشكل متكرر، وكان من الصعب متابعة الأعمال الزراعية في تلك المناطق، وكان هذا أيضاً جزءاً من سياسة دفع السكان إلى ترك مناطقهم، والبحث عن لقمة العيش في مناطق أكثر أماناً.

إن الدولة التركية وفي محاولة منها لتكرار تجربة لوزان تضرب كل الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالاحتلال بعرض الحائط، من خلال ما تمارسه من التهجير القسري، وهي في الوقت نفسه تحاول كسب التأييد الدولي للشروع في عملية التغيير الديموغرافي في شمال وشرق سوريا، والتي أعلن عنها في أضخم مجمع دولي، ألا وهو قاعة الأمم المتحدة!!

الخاتمة

تستند سياسة الإبادة والتطهير العرقي إلى خلفية عنصرية ترتبط أساساً بمفهوم التميّز، وتشكل السلطة ورأس المال عوامل محرّضة لها، بعد الترويج لشعارات العرق المتفوق، والمذهب المتفوق، والجماعة المتميزة، وهي بدورها تدفع بالجهة المسيطرة، والمتحكمة بزمام السلطة إلى إنكار الآخر، والعمل على صهره أو دمجه أو محوه وحتى إلغاء وجوده.

مع غياب الحلول؛ ولا سيما الحلول الديمقراطية على أقل تقدير، فإن الجهات الحاكمة تقوم بشن حرب الإبادة الجماعية، ولكن عندما تصل الأمور بالجهة المسيّرة لهذه الحرب إلى محو جماعة ما من صفحات التاريخ، فهذا يعني بأن الإنسان سيفقد إنسانيته حتماً. وهو ما يحذر منه القائد عبد الله أوجلان؛ إذ أن طيش قوموية الأمة الحاكمة في خلق مجتمع قومي نمطي باتت كارثة حقيقية، وقد كان طيش قوموية الأمة الحاكمة (الطورانية) سبباً في وصول ثقافات محلية أصيلة، كالشعوب الهيلينية والأرمنية والسريانية والكردية، إلى حافة التصفية العرقية.

لم توفر السلطات الحاكمة في الدول المقتسمة لجغرافيّة كردستان الفرصة في ضرب أي حراك وطني كردي يطالب بالحقوق المشروعة للشعب الكردي، كما لم توفر جهداً في إجهاض أي محاولة تنظيم للمجتمع، وهو ما كان يدفعها إلى توجيه ضربات استباقية للمجتمع الكردي في الجهات الأربع، لمنع لملة الصفوف، ولمنع بلوغهم قوة تهدد كياناتهم، فظهرت سياسة التنكيل والمجازر والتغيير الديموغرافي.

يمكن القول أيضاً بإن افتقار الأتراك للانتماء إلى الجغرافيا في هذه المنطقة دفعهم إلى العمل وفق شريعة الغاب، ومنطق القوة، مما جعلهم الأشرس من بين الجهات الأخرى في ممارسة سياسة الإبادة والتطهير العرقي.

وأخيراً، نقول أنه آن الآوان أن تعترف الأمم المتحدة والجهات الموازية والمرتبطة بها، والجهات الدولية، بالإبادات التي تعرض لها الشعب الكردي، فهو شعب من أعرق شعوب المنطقة، وقد عاش على أرضه التاريخية، وأسهم في كل مراحل تطور هذه المنطقة من النواحي الفكرية والمادية والعلمية، لكنه تعرض- ولا يزال- إلى إبادات مستمرة لا تقل أي منها عن إبادة الأرمن.

[1] د. محمد علي الصويركي –موقع خبر24 https://xeber24.org/archives/189094 

[2] نور الدين، محمد، تركيا الجمهورية الحائرة، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، بيروت، ط1، 1998، ص51.

[3] المرجع نفسه، ص53.

[4] 100 عام من التنكيل.. ولا يزال الكرد باقون.

[5]         Goyî, Cegerxwîn,  Desteya Dîroka Civakî Ya Akademiya Zanistên Civakî Ya Abdula Ocalan, Berhemên Akademiya Şehîd Ferhat KURTAY, 2015, p. 242-243.

[6] جليلي وآخرون، الحركة الكردية في العصر الحديث، ص204.

[7] المرجع نفسه، ص217.

[8] جالياند، شعب بدون  وطن، ص111-112.

[9] الكرد الفيليون …بقلم: ا. م. د. محمد تقي جون / الأستاذ في جامعة واسط.

[10] حملات التعريب البعثي في شمال العراق.

[11] المنظمات الإنسانية: بشمال سوريا أكثر من ٣٠٠ ألف شخص نزحوا من منازلهم أثر الهجوم التركي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى