دراسات

الإدارات اللامركزية بين التاريخ والواقع الراهن

“في مكان ما لا تزال هناك شعوب وجيوش، لكن عندنا هنا يا إخوتي توجد دول.”

فريدريك نيتشه [1]

الدولة السلطة – المجتمع الديمقراطية

“المجتمعُ ممكنٌ بلا دولة، لكنّ الدولةَ غيرُ ممكنةٍ بلا مجتمع.”

عبد الله أوجالان [2]

سنسلط الضوء في دراستنا هذه على مفهوم الإدارات اللامركزية عبر التاريخ، وسنستحضر بعض الأمثلة التي تعايشت ضمن النظام العالمي التاريخي وبالتوازي معه، فالأزمة الدولية التي تعصف ببنانا السياسية والاجتماعية، تحمّلنا مسؤوليات البحث عن البدائل المعقولة والحلول السوسيوتاريخية.

تعتبر الثورة الزراعية Agricultural Revolution حوالي عشرة آلاف قبل الميلاد، أهم مرحلة بالتاريخ الإنساني، كونها شكلت النواة الأولى لتبلور مفهوم الإدارة، وارتقت البشرية معها، من مجموعات جامعة-صيادة صغيرة جوالة، إلى القبائل والعشائر ذات التنظيم الإداري المحكم، واعتمدت على إدارة الذات على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن اعتبار الوعي الذاتي في الإدارة، وليدة هذه الثورة المجتمعية. يضرب المؤرخ اليهودي “يوفال هراري” مثالاً على ذلك في إحدى محاضراته قائلاً: “لو أتينا بشمبانزي مقابل كائن بشري واحد، فسينتصر الشامبنزي بالتأكيد.. ماذا لو أتينا بمجموعة من الشنابز مقابل مجموعة من البشر، سينتصر البشر بشكل مؤكد. لأن هذا التجمع البشري، سيفكر، سيبني وسيدافع. أما التجمع الحيواني للشمبانزي، فلا معنى له سوى الفوضى.” يكمن الفرق الحقيقي بيننا وبين الشنابز في الصمغ الأسطوري الذي يربط معاً أعداداً كبيرة من الأفراد والعائلات والمجموعات؛ هذا الصمغ هو ما جعلنا أساتذة الخلق. [3]

ومع ظهور الدولة أو ما يمكن تسميتها “الطبقة الإيديولوجية والاقتصادية المسيطرة الجديدة”، تشعبت الإدارة المجتمعية على شاكلة جهازين بالحكم. فكان للمجتمع مؤسساته الذاتية، التي يدير بها شؤونه الخاصة قبائلياً وعشائرياً وكانت تتخذ من الأرياف والسهول والجبال ملاذاً، أما الدولة فكانت تفرض مؤسساتها الدينية الإيديولوجية والاقتصادية على المجتمع الداخلي والخارجي (المستعمرات)، والمدينة كانت مركزها الإداري. ثنائية السلطة – الديمقراطية تتجلى بشكل واضح في هذه الأنماط الإدارية بالمجتمع، وهي مستمرة إلى يومنا الراهن، بأشكال مختلفة.

هنالك لغط كبير جداً في تعريف الإدارة من الناحية السوسيولوجية، حيث تداخل علوم الإدارة مع موضوع التجارة والتسويق والرأسمال. من ناحية أخرى، وعلى المستوى الدولي، يستخدم اصطلاحي الإدارة والسلطة كمرادفين توأمين، سواءً عن قصد أو دونه. حيث تدعي كل الدول، بأنها سلطة وإدارة في آن معاً. لكي نتخلص من هذه الإشكالية، علينا تعريف الإدارة من منظور سياسي جديد.

الإدارة: هي بكل ببساطة تعني العقل التشاركي؛ وإيجاد الحلول للمشاكل والقضايا اليومية، الخدمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وفي نفس الوقت، يحوي تعريف الديمقراطية أيضاً على مغالطات جمة؛ بسبب تحوله لشعار طنان يستخدم في البرامج السياسية للكثير من الأحزاب والدول. وبدافع الضرورة الاجتماعية كان التيار المقاوم للسلطة الدولتية حاضراً دائماً، ويتخذ أشكالاً إدارية تتوافق مع النموذج الذاتي للمجتمع الذي يمكننا تسميته بالديمقراطية. ومصطلح الديمقراطية إغريقي الأصل ويعني “حكم الشعب” لنفسه، هو مصطلح قد تمت صياغته من شقين (ديموس) “الشعب” (كراتوس) “السلطة” أو “الحكم، بمعنى أخر تعني الديمقراطية “قيامُ المجموعاتِ التي لا تَعرفُ الدولةَ أو السلطةَ بإدارةِ نفسِها بنفسِها.” [4]. إدارة الذات، هي الشكل الديمقراطي للإدارة المجتمعية، أما الحكم من قِبل فئة أو مجموعة معينة فهو الشكل السلطوي للحكم الذي يفضي إلى استفحال القضايا الاجتماعية.

الدولة وبكافة أنماطها، مركزية بالضرورة وتشكل بؤر السلطة بالأطراف لتقوية حكمها. الصراعات بين أشكال الحكم المركزية واللامركزية قديمة قدم التاريخ، وهي مستمرة إلى يومنا، ألا يقال إن الوقت قد حان للبشرية أن تتخلى عن جهاز الدولة…! الدولة لا تتوافق مع الديمقراطية جينياً، لأن الديمقراطية تعني اللامركزية والمشاركة، التي بدروها تقوض مصالح الفئة المسيطرة. وحتى أكثر الدول عصرية أيضاً، لا تستطيع التخلي عن الحكم السلطوي الذي هو سبب وجودها. فلا شكل الحكم الليبرالي (الوسط) الذي يٍسمى الديمقراطية الليبرالية الذي اعتبره المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ السياسي، ولا المحافظ (اليمين) ولا اليساري أو ما يسمى الديمقراطية الاجتماعية، استطاع التخلص من سحر السلطة وأصلاً كانوا بإحدى المعاني شكلاً مموهاً وشرعياً للسلطة الدولتية.

التاريخ السياسي للبشرية على مفترق طرق وأشكال الإدارة المجتمعية تتجه نحو شكل توافقي يرضي كافة الأطراف إن صح التعبير.

جدلية تاريخية

مازال الجدل محتدماً حول مفاهيم المركزية واللامركزية وتطبيقاتها السياسية اليومية، حيث يبرر الفريق المؤيد للمركزية في الحكم بالمحافظة على النظام وضبط الفوضى والسيطرة على مفاصل الحياة (السلطة الحيوية). أما التيار الذي ينادي باللامركزية فيحاجج على قدرة الوحدات المجتمعية على إدارة الذات ومناهضة السلطة الاقتصادية والاحتكارية التي تجتمع في النظام المركزي بيد القلة الأوليغارشية.

المركزية

تعني المركزية الإدارية بكل بساطة، تركيز وتكاثف السلطة في مركز معين (دولة، فئة، أشخاص) حيث تدار كافة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من هذا المركز الذي يكون هرمي بالضرورة، ولا يمكن للمستويات الإدارية الأخرى أن تتصرف إلا بناءً على أوامر وتعليمات المركز، حيث صلاحيات اتخاذ القرار محصورة في أشخاص أو مؤسسات محدودة. تمارس المركزية في الدول عن طريق جهاز رئاسي وحكومي مضبوط بشكل صارم، وأي قرار؛ مهماً كان أم بسيطاً يخضع لرقابة وموافقة المركز حصراً، أما الدستور هو الآلة القانونية التي تشرع هذه الممارسات.

الجغرافيا أيضاً تلعب دوراً مهماً في ممارسة السلطة المركزية، حيث تنبثق كل القرارات من مركز جغرافي واحد وهو العاصمة. وبذلك تصبح المناطق المحيطية مهمشة من كافة النواحي الخدمية والإدارية. يمكننا القول على المستوى الدولي بأن السلطة المركزية تمارس على دول المحيط وشبه المحيط أيضاً، ويتدفق رأس المال الاقتصادي والمعرفي من المحيط إلى المركز وبالتالي يصبح المركز القوة الاحتكارية الكبرى في المجتمع والنظام الدولي. هذا النسيج من العلاقات السلطوية تفرضها الحكومات بالبيروقراطية الصارمة على شعوبها داخلياً.

من آفات النظام المركزي أنه يعرقل عملية الإدارة الاجتماعية، وهذا ما يسبب حالة من الاستياء عند المجتمع. حيث البطيء في إنجاز المعاملات نتيجة الروتين الإداري والتعقيد بسبب كثرة الرئاسات المتعددة في الإدارة المركزية. من ناحية أخرى تفرض الإدارة المركزية حلول موحدة على قضايا مختلفة، كون القرار يكون بيد قلة قليلة من الأفراد الذين ينظرون إلى كافة القضايا من منظور واحد.

لم تشكل المركزية حلاً إدارياً للقضايا المطروحة، بل أدت إلى تراكم المشاكل والقضايا وبالتالي تكون النتيجة الحتمية هي “الأزمة”.

اللامركزية

أصبحت اللامركزية من الاصطلاحات الدارجة كثيراً في الإعلام والرأي العام وخاصة بعد أزمات ما يسمى بالربيع العربي. اللامركزية تعني مشاطرة الإدارة مع الكل وممارسة الديمقراطية المباشرة. حيث توزع الوظائف الإدارية بين الأقاليم والوحدات الإدارية الصغيرة. وفي الأدبيات السياسية المعاصرة، تعني إعطاء دور أكبر للمجتمع المدني. بشكل جوهري اللامركزية تعني تقويض السلطة.

تعطي اللامركزية دوراً رئيسياً للإدارات المحلية التي تعتمد على المجالس والكومونات وممارسة الديمقراطية المباشرة نوعاً ما. ويعاد ترتيب العلاقات الاجتماعية وعلاقات القوة من أصغر الوحدات الاجتماعية إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى.

ومن مقتضيات اللامركزية هو أن تكون السلطات المحلية متمتعة بالاستقلال الإداري والاقتصادي والخدمي عن المركز. وتفعيل دور الكومونات والتعاونيات والبلديات المحلية. اللامركزية تعني مشاركة أكبر عدد ممكن من الناس في صنع القرار والتفاعل والمشاركة.

بعكس الإدارات المركزية، تفسح الإدارة اللامركزية المجال أمام إيجاد أفضل الحلول وفي زمن مختصر لأكثر القضايا تعقيداً. فلو كانت مدينة ما أو شارع ما بحاجة للكهرباء، فالإدارة المحلية ستسرع في إيجاد الحل وسيشارك أبناء ذاك الحي أو تلك المدينة في هذه العملية دون اللجوء لموافقة العاصمة.

كون الكل يشارك في الإدارة في النظام اللامركزي، فالحلول المتنوعة والأفكار المبتكرة تكثر للمشاكل اليومية والقضايا الكبيرة العالقة، ويتم التخلص من الأسلوب الوحدوي المتبع لحل كل المشاكل كما في الإدارة المركزية.

للنظام اللامركزي ميزة أخرى مهمة جداً تفتقدها الأنظمة المركزية، ألا وهو “انخفاض نسبة المخاطر الناجمة عن قرار خاطئ”، حيث تكون النتائج محصورة فقط في القطاع المحلي الذي اتخذ فيه القرار الخاطئ. أما القرار الغير صحيح في النظام المركزي، فهو يدفع بكامل جسم النظام للمرض والتضرر.  

وأخيراً يمكننا القول بأن كل إدارة تتجه نحو اللامركزية، بحاجة للدستور الذي تكمن وظيفته في وضع الترتيبات القانونية بين الإدارة المحلية والمركز.

فلنتعرف على بعضٍ من أنماط اللامركزية في الحكم.

أنماط اللامركزية في الحكم

تُرتكب الكثير من المغالطات أثناء الانعكاف على شرح أنماط اللامركزية بالحكم، والقانون الدولي لم يعط التعريف الكافي والوافي لهذه الاصطلاحات السياسية. فاصطلاحات الحكم الذاتي والإدارة المحلية والإدارة الذاتية وشبه الاستقلال الديمقراطي تختلف عن بعضها من ناحية المعنى السياسي الإداري، وهنالك تشويش بصدد ذلك في القانون الدولي. الإدارة الذاتية تعني بكل وضوح إدارة المجتمع لشؤونه الخاصة (الاقتصادية والإدارية) من تلقاء ذاته، عن طريق المجالس والكومونات دون اللجوء لمؤسسات الدولة وتعتمد على الديمقراطية المباشرة. وتحترم الوحدة الترابية للدولة. الإدارة المحلية أيضاً تشبه نوعاً ما الإدارة الذاتية ولكنها جزء من مؤسسات الدولة، ولا تتمتع بالاستقلالية السياسية أو ما شابه. لنتعرف على شبه الاستقلال الديمقراطي والحكم الذاتي بشكل مفصل.

شبه الاستقلال الديمقراطي

استخدم اصطلاح شبه الاستقلال الديمقراطي من قِبل المفكر عبد الله أوجالان الذي طرح هذا المفهوم ضمن إطار نظرية العصرانية الديمقراطية (الأمة الديمقراطية – الاقتصاد الكومونالي – الصناعة الإيكولوجية)، حيث يمثل الجسد السياسي والإداري لمجتمعات الأمة الديمقراطية.

تعتمد هذه النظرية من الناحية النسقية على جدلية المدنية المهيمنة المركزية – الحضارة الديمقراطية، حيث يمثل شبه الاستقلال الديمقراطي الشكل المعاصر من الإدارة الذاتية للمجتمع البشري ضمن مسيرة تاريخ الحضارة الديمقراطية (الذاكرة الجمعية). وإن كانت تشترك مع الحكم الذاتي والإدارة المحلية ببعض الخصائص ولكنها نموذج مختلف من حيث الممارسة السياسية والجوهر الديمقراطي.

يعتمد شبه الاستقلال الديمقراطي على الديمقراطية المباشرة والمشاركة الفعالة في الإدارة ويتخذ من الكومونات والمجالس الذاتية الوحدة الأصغر للقرار السياسي والإداري في المجتمع. “فمجتمعات شبه الاستقلال الديمقراطي هي مجتمعات سياسية كومونالية فعالة تأخذ من النظام اللامركزي أساساً في نشاطاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ككل متكامل. وتؤمن بأن السلطةَ المركزيةَ واقعٌ استثنائيّ، بينما السلطةُ المحليةُ هي القاعدةُ الرائجة.” [5]

لا ترفض الدولة ولا تسعى للتدول بل تحافظ على شكلها شبه المستقل، وتسعى للتوافق الديمقراطي مع الدولة حيث الدستور الديمقراطي الضمانة القانونية لأقاليم شبه الاستقلال الديمقراطي. وللسياسة الديمقراطية دور كبير في إيصال التوافق الديمقراطي مع الدولة إلى أعلى مستوياته. السياسية الديمقراطية تعتمد على شقين في النضال السياسي مع الدولة والسلطة، حيث تعمل جاهدة على الوصول لتوافق دستوري قانوني وتدفع كافة الشرائح المجتمعية لمزاولة السياسة بفعالية وحرية تامة. حيث تمارس الديمقراطية وتعمل على دمقرطة مؤسسات الدولة والعمل معها ضمن إطار “الجدلية الإيجابية” إذ تعترف بالوحدة الوطنية الديمقراطية للدولة والمجتمع الديمقراطي.   

يجب الانتباه إلى أن مجموعات شبه الاستقلال الديمقراطي هي مجموعات اجتماعية متعددة ومختلفة ثقافياً وإثنياً ودينياً وهويتها الاجتماعية هي الأمة الديمقراطية كتعبير ذهني عن كافة الشرائح والمكونات، وتنظم الشرائح ذاتها ضمن إطار المجتمع المدني الديمقراطي.   

الحكم الذاتي بالقانون الدولي؛ الاصطلاح والتعريف

اصطلاح الحكم الذاتي هو الأكثر تداولاً في القوانين الدولية والرأي العام، وكما أسلفنا سابقاً، للإدارات اللامركزية بنية تاريخية عميقة، وإن كان يعتبر من المفاهيم الحديثة في العلوم السياسية، ولكنه كان دائماً وأبداً، حاضراً في الذاكرة الجمعية للمجتمع.

من الناحية الاصطلاحية، الحكم الذاتي هو ترجمة للكلمة الإنجليزية «self-law» أي القانون الذاتي أو«self-government»  بمعنى الاستقلال الذاتي أو القدرة على الحكم الذاتي. يتشابه اصطلاحا الأتونومي والديمقراطية، سِّيمَنطِيقيَاً (علم المعنى) ومن ناحية المنشأ. فاصطلاح الأتونومي autonomia إغريقي الأصل، (auto) بمعنى الذات، و (nomia) أو ((nomos الذي يعني القانون أو الحق، أي القدرة على أن يحكم الإنسان نفسه بنفسه، أو بمعنى آخر، القدرة على سن القوانين للذات. أما الديمقراطية، التي تعني حكم الشعب، فتأتي في السياق نفسه، من حيث البنية الاصطلاحية والعملية.

اكتسب مفهوم الحكم الذاتي، بعداً قانونياً دولياً، وتم التنصيص عليه في مواثيق الأمم المتحدة، الفصل الحادي عشر، المادتان 73/74. ينص في المادة 73 على أن يقرر أعضاء الأمم المتحدة – الذين يضطلعون في الحال أو في المستقبل بتبعات عن إدارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطاً كاملاً من الحكم الذاتي – المبدأ القاضي بأن مصالح أهل هذه الأقاليم لها المقام الأول، ويقبلون أمانة مقدسة في عنقهم، الالتزام بالعمل على تنمية رفاهية أهل هذه الأقاليم إلى أقصى حد مستطاع في نطاق السلم والأمن الدولي الذي رسمه هذا الميثاق. [6]

إذاً يمكن اعتبار الحكم الذاتي، كشكل من أشكال الإدارة اللامركزية الشبه استقلالية، التي تعتمد على إدارة الشؤون الخاصة، بالتوازي مع الحكومة المركزية، أي توزيع السلطة بأشكالها الثلاثة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، بين المركز والأطراف.

تجدر الإشارة إلى أن الليبرالية تصبغ أشكال الحكم اللامركزية هذه بالصبغة القوموية أو الدينية تحت مسمى “الحقوق الفردية”، وبدل الحل السياسي تتعمق الأزمة ويزداد الطين بلة. ومن أسوأ تطبيقات هذا النموذج الشاذ والمنحرف هما مثالاً البوسنا والعراق، حيث إلى الآن تتنامى النعرات الطائفية والعنصرية في هذين البلدين، الذين أهلكتهما الحرب الأهلية.

النقطة الثانية التي يجب التطرق إليها هو دفع الليبرالية لهذه الإدارات نحو التدوّل، وهنا يظهر أمامنا نموذجا كردستان العراق وكتالونيا الإسبانية، حيث فشلت محاولة الإقليمين في التعبئة القوموية والخطاب الشعبوي المبتذل، الذي تم من خلاله تطعيم مطالب المجتمع الديمقراطية بمصالح الفئة البرجوازية المسيطرة، وطبعاً جوبه بعنف شديد من قِبل السلطات المركزية. وهذا ما يمكننا تسميته بسفسطات الليبرالية بخصوص حق تقرير المصير.

الحكم اللامركزي والاتحادي عبر التاريخ

شكل نظام الاتحادات القبائلية والعشائرية الطواعية فترة طويلة جداً من التاريخ البشري، بالتوازي مع النظام المركزي المهيمن. كانت دول المدن السومرية تتمتع بشبه استقلالية إدارية واقتصادية، حيث لكل مدينة معبدها ورموزها وآلهتها المقدسة، لكاش، أوروك، إريدو وغيرها من المدن المستقلة التي مازالت تمثل أهم معالم الحضارة العالمية. حافظت مدن وقرى ميزوبوتاميا العليا تجاه الحضارة السومرية على استقلالها وشبه استقلالها الإداري والسياسي، حيث كانت آلهة الجبل نينهورسانج هي الحامية لبلادها من الاستعمار الأجنبي.  

تعتبر دولة المدن الرومانية والإغريقية (ديمقراطية أثينا) وحتى دول المدن الإيطالية أثناء عصر النهضة استمراراً للتقاليد الإدارية السومرية الشبه استقلالية، واستمر هذا النمط من الحكم إلى يومنا الراهن، بأشكال مختلفة.

تمتعت الأنظمة الإمبراطورية الموناركية المركزية، بنوع من المرونة فيما يتعلق بإعطاء دور للإدارات المحلية، خلافاً للدولة القومية التي تعتمد على المركزية المفرطة والهوية النمطية المتجانسة.

يمكننا تعداد أسباب تمتع الإدارات المحلية بنوع من شبه الاستقلال في ظل الإمبراطوريات كما يلي:

  1. الجغرافيا: كان التباعد الجغرافي إحدى العوامل المهمة التي كانت تحد من المركزية في الحكم، لذا خفت السيطرة والتحكم بالأطراف من قبل المركز، وأعطي بعض الدور للإدارات المحلية في إدارة شؤون العامة.
  2. الهوية: لعبت الهوية الدينية أو القبائلية الجامعة دوراً كبيراً في استقلالية المناطق بالأطراف. الهويات في الإمبراطوريات مرنة ومتفاعلة، بعكس الهويات القومية التي تتمحور حول أمة واحدة.

يجدر الإشارة إلى أن أنظمة الحكم في هذه الإمبراطوريات لم تكن ديمقراطية، بل مركزية موناركية أو ثيوقراطية مثل الدولة الإسلامية، وكانت تسمح للأقاليم بحيز من الإدارة بشرطين أساسيين:

  1. الولاء للحاكم والإمبراطورية.
  2. دفع الضريبة.

التاريخ الإسلامي حافل بهذه الأشكال في الحكم، حيث تمتع نظام الحكم في الحضارة الإسلامية بنوع من الاستقلال المحلي والإداري بحكم توسع نفوذها على أراضي جغرافية شاسعة واختلاف الثقافات والإثنيات المنضوية تحت راية الإسلام.  

تعتبر وثيقة المدينة أو دستور المدينة، الذي تمت كتابته فور هجرة النبي محمد إلى يثرب (المدينة المنورة) 27 أيلول من عام 622م، من أهم إنجازات الحضارة الإسلامية. ويمكن تسميته بالدستور المدني أو التوافق الديمقراطي إن جاز التعبير. كانت المدينة المنورة أو طيبة الطيبة كما يسميها المسلمون، تحوي ثقافات وقبائل شتى وكلها ذات منشأ ساميّ. حيث كان سكانها من القبائل العربية واليهودية كقبيلتَي الأوس والخزرج العربيتَين والقبائل اليهودية (قبائل بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة)، ومع هجرة نبي الإسلام محمد إليها، ازداد عليهم المهاجرون وأنصار الإسلام من المدينة. هذا التنوع الثقافي والقِبَلي والإيديولوجي أفرز معه الحاجة إلى عقد اجتماعي ينظم العلاقات والشؤون الإدارية السياسية للمجتمع، وما صحيفة المدينة سوى تعبير عن الوحدة السياسية في ذاك الزمن.

أنشئ دستور المدينة نتيجة محادثات نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مع رؤساء القبائل العربية واليهودية في المدينة ونتيجة لذلك تم وضع بنود الدستور الذي يتألف من 52 بنداً حسب اتفاق العلماء، بمشاورة واتفاق جميع الفرق والقبائل. نص الدستور على احترام العقائد والاختلافات والوحدة بينهم، حيث يشار وفي أكثر من بند إلى القبائل اليهودية والعربية وإن لها ما لغيرها، حيث يقال في إحدى البنود “وَبَنُو عَوْف عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.”

معاهدة المدينة أهم عقد اجتماعي مكتوب في التاريخ الكوني للمنطقة، حيث كانت تعتمد على المشاركة في الإدارة (الديمقراطية) والاتحاد الطوعي بين القبائل والعقائد المختلفة (الإدارة الذاتية).

بعد وفاة النبي محمد، دخلت الحضارة الإسلامية طوراً جديداً من أطوار السلطة وتوسع نفوذها الإمبراطوري. كانت الخلافة الراشدية بادئها والإمبراطورية العثمانية خاتمها إذ بدأت بعدها مرحلة التحول القومي والدولة القومية. كان الصراع محتدماً بين الفرق والمذاهب الإسلامية على شكل الحكم والإدارة، بين السلطة المركزية والمجموعات المصرة على الديمقراطية واللامركزية (الخوارج – العلويون – المتصوفون – الفلاسفة والعلماء المسلمون وغيرهم).

شهد عصر الخلافة الراشدية تحولات جمة في المفاهيم وخارطة النفوذ الإسلامي في المنطقة آنذاك، وكانت المناطق الداخلة تحت النفوذ الإسلامي بالأطراف تتمتع بحكمها الذاتي، بالإضافة لدفع الضرائب من قِبل غير المسلمين. فكانت الأقاليم أو ما كانت تسمى الولايات تدار من قِبل والي يعينه الخليفة، وتدار الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالتداخل مع الحفاظ على المبادئ العامة للشريعة الإسلامية.

وحتى العصور العباسية كان هنالك حيز للأقاليم بتشكيل مجالسها الذاتية وإدارتها بما كان يسمى مجلس ديوان الشورى. وظلت المجموعات المجتمعية والفكرية محافظة على حالة المقاومة لديها تجاه الحكم الإمبراطوري، بدءاً من الفلاسفة المسلمين إلى المجموعات المقاومة كالقرامطة.

فتح شبه الاستقلال الممارس في ظل الإمبراطورية العباسية الطريق للتطور والنهضة الفكرية أيضاً، حيث أعيد البحث في الفلسفات الشرقية القديمة واليونانية. وما عصر النهضة الإسلامية ما بين القرنين الثامن والثاني عشر سوى تعبير ذهني عن تلك المرحلة.

كانت الإمبراطورية العثمانية أو ما كانت تسمى الدَّوْلَةُ العَلِيَّةُ العُثمَانِيَّة (1299م – 1923م)، تعتمد على نظام الإيالات أو الإدارات الذاتية (المختارية) في الحكم، منذ دخول العثمانيين للقسطنطينية 1453م، وتوسع الإمبراطورية العثمانية جغرافياً، ووجود الكثير من الثقافات (العربية والكردية والتركية) تحت سقف الإمبراطورية، ولـّد معه نوعاً من شبه الاستقلال المحلي للثقافات والشعوب الموجودة في كنف الإمبراطورية، ومن هنا بدأ نظام الإيالة (وهي كلمة مشتقة من كلمة “Êl” الكردية ويستخدمها الفرس أيضاً). كانت الإيالات تقسم إلى ألوية أو ما كانت تسمى بالـ “السنجق”، وأما السناجق، فكانت تتكون من عدد من الأقضية، والقضاء كان يقسم لعدد من النواحي، يتبع لها عدد من القرى، ولكل سنجق، حاكم تعينه السلطة المركزية للإمبراطورية، وكانت الإمبراطورية تتألف من حوالي 50 إيالة.

تمتع الكرد بنوع من شبه الاستقلال، في ظل الإمبراطورية العثمانية، وكان عدد الإمارات الكردية، يزيد على العشرين إمارة، ويسمي المؤرخون، تلك المرحلة، بمرحلة الإمارات. كانت كردستان قبل سنة (1514م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي إضافةً إلى الاختلاف المذهبي أدى إلى انضمام أكثرية الإمارات إلى جانب الدولة العثمانية فضلاً عن جهود ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية، في عام (1515م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندتها عند تعرضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكردية رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة. تضمن هذا الاتفاق اعترافاً من الدولة العثمانية ً بالسلطات الكردية.

لم تكن للإمبراطورية العثمانية، هوية قومية محددة وصارمة، بل كانت العثمانية هي الهوية الأعلى لكل الثقافات الأخرى. وأصلاً، رفض العثمانيون، الهوية التركية القومية، حيث كانوا يعتبرونها تخص المقاتلين وفئة معينة من المجتمع العثماني، فقد كان التعدد الثقافي والإثني، هو الطاغي على الهوية الاجتماعية للإمبراطورية، وإن عاشت في الفترة الأخيرة من عمرها، ما نستطيع تسميته بأزمة الهوية.

يجدر بالذكر هنا بأن الشعوب العربية والكردية والأرمنية وغيرها من الشعوب التي كانت تعيش في كنف الإمبراطورية العثمانية، ثاروا ضد سياسات التتريك والطورانية الممارسة من قبل جمعية الاتحاد والترقي وتركزت مطالبهم في الإدارة الديمقراطية اللامركزية (الأمة الديمقراطية) ولكن هذه المطالب أجهضت بمؤامرات دولية محبوكة، ورجحت كفة الدولة القومية الأتاتوركية (الشعب الجمهوري) والبعثية العروبية (عفلق والحوراني وغيرهم) على الميول الديمقراطية، وبالتالي طبق سيناريو الإبادات العرقية والثقافية بحق شعوب وثقافات المنطقة وقصة المجتمع الكردي من الأمثلة البارزة للعيان.

تجارب الحكم اللامركزي والاتحادي في العالم المعاصر

كل الثورات المعاصرة الفرنسية والأمريكية والروسية وغيرها، كانت تحمل الطابع الديمقراطية ضد الاستبداد الإمبراطوري المركزي. وبعد إعدام لويس السادس عشر باشر الفرنسيون فوراً ببناء مجالسهم وإدارتهم الذاتية الديمقراطية وما الثورة الفرنسية الرابعة وتتويجها بكومونة باريس سوى أهم الأمثلة على الميول الديمقراطية واللامركزية للثورات. كان شعار الثورة بسيطاً “مصدر الحكم والسيادة هو الشعب” الذي حُرِف وتحول إلى “الدولة تمثل الشعب وبالتالي على الدولة البرلمانية القومية أن تحكم”..

السوفيتات (المجالس) الروسية التي ظهرت في روسيا أثناء الثورة الروسية الأولى 1905م بالمبادرة الذاتية للمجتمع كانت مثالاً ساطعاً على الإدارة الذاتية واللامركزية الديمقراطية.

بعد الحروب الدينية والقوموية التي أودت بحياة الملايين من البشر، اتجه المجتمع الدولي نحو الإدارات اللامركزية الديمقراطية وإن بنحو جزئي. 

إسبانيا

تعتبر التجربة الإسبانية من أشهر تجارب الحكم الذاتي اللامركزي في العالم، ومن منا لم يسمع بمحاولات إقليم كتالونيا، الهادفة للاستقلال.

من الناحية الجغرافية، تقع إسبانيا في جنوب غرب أوروبا، وتبلغ مساحتها 504.030 كم²، حيث تعتبر من أكبر الدول مساحة في أوروبا الغربية، ويعتبر موقعها الجغرافي استراتيجياً، إذ تعتبر إحدى بوابات العالم الإفريقي والمغرب العربي على الغرب، ومنذ آلاف السنين مر الهومو نياندرتال Homo Neanderthalensis  عبر هذه الأراضي نحو القارة العجوز، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1992م.

في ثلاثينات وأربعينيات القرن المنصرم وفي ظل التمدد الألماني النازي، والشيوعي الستاليني، اندلعت الثورة الإسبانية التي طغى عليها الطابع الأناركي، وإن سيطرت فيما بعد الجبهة المضادة بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو على الثورة، إلا أن الروح الثورية المجتمعية لم تخمد وعادت إسبانيا بدستور جديد للمملكة، يعتمد على الديمقراطية واللامركزية. يعتبر الدستور الإسباني لعام 1978 من أهم إنجازات إسبانيا التاريخية، حيث تمتعت الأقاليم بنوع من شبه الاستقلال وإدارة الشؤون الذاتية. تم التصديق على الدستور، نتيجة استفتاء شعبي عليه في 6 كانون الأول عام 1978، حيث صوت 88 ٪ من الناخبين لصالح الدستور الجديد، وصدر الدستور في 29 كانون الأول في نفس السنة.

منذ ذلك الحين، تتألف إسبانيا من 17 من مناطق الحكم الذاتي ومدينتين ذاتيتي الحكم وبدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، وفقاً لدستور البلاد، الذي يؤكد في الحين نفسه، على وحدة التراب الإسباني. لا يوجد دين رسمي للبلاد، وينص الدستور على الحرية الدينية، وللمرأة تمثيل جيد في مجلسي النواب والشيوخ.

نظام إسبانيا هو نظام ملكي دستوري، وراثي من ملك وبرلمان من مجلسين، والمحاكم العامة. السلطة التنفيذية تتكون من مجلس الوزراء برئاسة رئيس الحكومة (مماثل لرئيس وزراء) يقترحه الملك وتنتخبه الجمعية الوطنية بعد الانتخابات التشريعية.

تتألف إسبانيا تنظيمياً من أقاليم ذاتية الحكم حيث إنها إحدى أكثر البلدان غير المركزية في أوروبا إلى جانب سويسرا وألمانيا وبلجيكا. على سبيل المثال، يمتلك كل إقليم برلماناً منتخباً خاصاً إضافة إلى حكومة وإدارة عامة وميزانية وموارد ونظم وغيرها كما تدار الصحة والتعليم إقليمياً، إلى جانب ذلك، تدير بلاد الباسك ونافارا أيضاً مالياتها العامة الخاصة بالإقليم. بينما توجد في كتالونيا وبلاد الباسك قوة شرطة تستبدل بعض وظائف الشرطة المركزية. [8]

ينص الدستور الإسباني، على وحدة الاختلاف ضمن الأمة الواحدة، وهو مكتوب في التمهيد، حيث يقال: الأمة الإسبانية، راغبة في إقامة العدل والحرية والأمن وتشجيع ما هو في صالح شعبها، وفي إطار ممارستها لسيادتها، تعلن عن إرادتها في: ضمان التعايش الديمقراطي طبقاً للدستور والقوانين ووفقاً لنظام اقتصادي واجتماعي عادل. حماية كل الإسبان وكل شعوب إسبانيا في ممارستهم لحقوق الإنسان وثقافاتهم وتقاليدهم ولغاتهم ومؤسساتهم. [9]

يعترف الدستور الإسباني بحق الأقاليم في الحكم الذاتي وإدارة الشؤون الخاصة، حيث يشدد في المادة الثانية على أن يقوم الدستور على وحدة الأمة الإسبانية التي لا تنفصل، وطن كل الإسبان الذي لا يقبل التجزئة؛ ويضمن ويعترف بحق الحكم الذاتي للقوميات والمناطق التي يتكون منها ويضمن ويعترف بالتضامن فيما بينها. [10]

ينص في المادة 143 من الفصل الثالث، على حق الأقاليم في إنشاء حكمها الذاتي، وفق ما يلي: يحق للمحافظات المتجاورة التي تتمتع بخصوصيات تاريخية وثقافية واقتصادية مشتركة والجزر والمحافظات التي تشكل كياناً تاريخياً أن تتمتع بالحكم الذاتي وتكون مجتمعات حكم ذاتي في إطار ممارسة حق الحكم الذاتي المنصوص عليه في المادة 2 من الدستور، وفقاً لما ينص عليه هذا الباب وطبقاً لما تحدده أنظمتها الأساسية. [11]

من المواد المهمة في الدستور الإسباني، هو الحماية القانونية التي تؤمنها الدولة لمناطق الحكم الذاتي، حيث يشار في المادة رقم 147 من الفصل الثالث إلى ما يلي: تعتبر أنظمة الحكم الذاتي وفقاً لما ينص عليه الدستور بمثابة القاعدة القانونية الأساسية لكل مجتمع من مجتمعات الحكم الذاتي وتعترف به الدولة وتحميه بصفته جزءاً مكوناً لنظامها القانوني. [12]

في المادتين الثالثة والرابعة، يعتبر كل من ثراء مختلف الأنماط اللغوية بإسبانيا تراثاً ثقافياً يحظى باحترام وحماية خاصين، ويعترف بموجب الأنظمة الأساسية لمجتمعات الحكم الذاتي بأعلام ورايات تلك المجتمعات. وترفع هذه الأعلام والرايات إلى جانب علم إسبانيا فوق البنايات العمومية وفي المناسبات الرسمية الخاصة بهم. [13]

يشار في البند السادس من المادة 135 في الباب السابع “الاقتصاد والمالية” من الفصل الثاني “سن القوانين”، إلى حق الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي، في تحديد الميزانية المالية، حيث تتخذ مجتمعات الحكم الذاتي، وفقاً لقوانينها الداخلية وفي الحدود المنصوص عليها في هذا الفصل الإجراءات الضرورية من أجل التطبيق الفعلي لمبدأ الاستقرار في قوانينها وقراراتها الخاصة بالميزانية. [14]

أما في حال النزاعات حول الصلاحيات بين الدولة ومجتمعات الحكم الذاتي أو فيما بين هذه المجتمعات، فإن المحكمة الدستورية تتدخل لحل الموضوع.

سويسرا

لا توجد فيها لغة واحدة بل أربع لغات، لا هوية عرقية للبلد، تتألف من 26 كانتونأ مستقلاً، تعترف بحرية الاعتقاد والدين، وتشدد على المساواة بين المرأة والرجل.. الكونفدرالية السويسرية. تقع سويسرا في قلب القارة العجوز بين خمس دول، وهي ألمانيا من الشمال وإيطاليا من الجنوب والنمسا وإمارة ليختنشتاين من الشرق وفرنسا من الغرب، وتبلغ مساحتها حوالي 41300 كم2. ترجع نشأة الاتحاد السويسري الديمقراطي إلى عام 1291م عندما اجتمعت ثلاثة كانتونات وهي شفيتس وأونترفالدن ويوري، ووقّعت ميثاق تحالف دفاعي فيما بينها، يعرف باسم “الميثاق الدائم”، وانضمت المقاطعات واحدة تلو الأخرى للاتحاد وكانت تتمتع باستقلال شبه تام. بعد حروب طاحنة عصفت بالبلاد، انبثق الدستور الجديد لسويسرا عام 1848م والذي أقيم بموجبه نظام ديمقراطي فيدرالي، حيث تمّ اعتماد حكومة فدرالية ذات سلطة وصلاحيات وتحددت مدينة برن عاصمة للفدرالية السويسرية، وما زالت إلى يومنا هذا، وغدت سويسرا تضم اليوم 26 كانتوناً. وفي طوال تاريخها السياسي، حافظت على موقفها شبه المحايد من الحروب والصراعات العالمية.

مر الدستور السويسري بالكثير من التغييرات والتعديلات إلى أن وصل إلى شكله الحالي. تتألف الكونفدرالية السويسرية من 26 مقاطعة شبه مستقلة، ونظام الحكم يعتمد على الديمقراطية المباشرة عن طريق البلديات والمجالس، ويتألف جهاز الحكم من مجلسي النواب والشيوخ. حيث يشار في المادة الأولى من الدستور بأن؛ الاتحاد السويسري يتكون من الشعب السويسري والمقاطعات الآتية: زيورخ، بيرن، لوسيرن، أوري، شفايتز، أوبفالدن ونيدفالدن، جلاريس، تزوج، فرايبورج، سولوتورن، مدينة بازل وريفها، شافهاوزن، ابنزل أوسرهودن وابنزل انرهودن، سانت جالين، جراوبوندن، آرجاو، تورجاو، تسينو، فو، فالي، نيوشاتيل، جينيف، وجورا. [15]

في المادة الثالثة يعترف باستقلالية المقاطعة وسيادتها؛ تتمتع المقاطعات بالسيادة طالما أن دستور الاتحاد لم يحد من هذه السيادة. كما تمارس المقاطعات كافة الحقوق التي لم تفوض إلى الاتحاد. [16]

الأمة السويسرية ليست أمة عرقية، بل تؤمن بالتعدد الثقافي واللغوي ضمن إطار الأمة القانونية. حيث يشار في المادة الرابعة إلى أن اللغات القومية في سويسرا هي الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانشية. [17]

ينص الدستور السويسري على المساواة أمام القانون، ومذكور في البند الثاني من المادة الثامنة بأنه لا يجوز التمييز بين الناس بسبب الأصل أو العرق أو الجنس أو العمر أو اللغة أو الوضع الاجتماعي أو طريقة الحياة أو الاعتقاد الديني أو الفلسفي أو السياسي ولا بسبب الإعاقة البدنية أو العقلية أو النفسية. [18]

تتمتع المقاطعات السويسرية بشبه الاستقلال السيادي الدستوري والسياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي، حيث لا يتدخل الاتحاد في شؤون المقاطعات إلا في حالات الضرورة، وللمقاطعات حريتها الإدارية، أي وحسب المادة 47 من الدستور يحترم الاتحاد استقلالية المقاطعات. [19]

يعتبر النموذج السويسري من أهم الأمثلة على الأمة القانونية والحكم المحلي الديمقراطي. ولكم هو مؤسف، أن يعيش الشرق الأوسط الذي كان يوماً ما مثالاً على التعددية والديمقراطية والأصالة، في معممان الحروب القوموية والدينية القذرة التي أفقدت رونق الشرق الجاذب.

الإمارات العربية المتحدة

نظام الاتحادات اللامركزية ليس مقتصراً فقط على القارة العجوز، حيث نشهد أنظمة مماثلة في الخارطة الشرق أوسطية أيضاً ومن الأمثلة البارزة للعيان الإمارات العربية المتحدة أو ما كانت تسمى الإمارات المتصالحة أو ساحل عمان. تأسست الإمارات العربية المتحدة واتخذت شكلها الحالي في سبعينيات القرن المنصرم، وبالتحديد استناداً إلى دستور 1971م، حيث تتكون من سبع إمارات اتحادية ويشار إلى ذلك في المادة الأولى من الدستور؛ الإمارات العربية المتحدة دولة اتحادية مستقلة ذات سيادة، ويشار إليها فيما بعد في هذا الدستور بالاتحاد. ويتألف الاتحاد من الإمارات التالية: أبو ظبي – دبي – الشارقة – عجمان – أم القيوين – الفجيرة – رأس الخيمة.[20]

تتمتع الإمارات بشبه استقلالية اقتصادية وإدارية ضمن الاتحاد نفسه، حيث تلغى الرسوم الجمركية بين الإمارات وتشكل إمارات الاتحاد وحدة اقتصادية وجمركية وتنظم القوانين الاتحادية المراحل التدريجية المناسبة لتحقيق تلك الوحدة. [21] وينص في المادة العاشرة للدستور على ما يلي؛ مع احترام كل إمارة عضو لاستقلال وسيادة الإمارات الأخرى في شؤونها الداخلية في نطاق هذا الدستور.

بالرغم من اعتبار الدين الإسلامي واللغة العربية الدين واللغة الرسميين في الاتحاد، إلا أن جميع الأفراد لدى القانون سواء، ولا تمييز بين مواطني الاتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الاجتماعي. [22]

تتكون السلطة الاتحادية من المجلس الأعلى للاتحاد ورئيس الاتحاد ونائبه ومجلس وزراء الاتحاد والمجلس الوطني الاتحادي والقضاء الاتحادي، حيث يتم تمثيل كل إمارة في مجلس الاتحاد الذي يعتبر السلطة الأعلى في البلاد. تدار السلطة في الاتحاد بصيغة تشاركية لامركزية وينوب عن كل إمارة ممثل في المجالس الإدارية، فمثلاً يتكون المجلس الوطني الاتحادي من 34 مقعداً موزعاً بين الإمارات، حيث لإمارة أبو ظبي 8 مقاعد ودبـي 8 مقاعد والشارقة 6 مقاعد ورأس الخيمة 6 مقاعد وعجمان 4 مقاعد وأم القيوين 4 مقاعد والفجيرة 4 مقاعد. أما في حالة النزاعات والمآزق بين الإمارات، فالمحكمة الاتحادية هي السلطة القضائية العليا لإيجاد الحلول المناسبة.

كردستان العراق

تعتبر تجربة الحكم الذاتي في الجزء الجنوبي من كردستان، من التجارب الفتية في المنطقة، حيث تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتي لإقليم جنوب كردستان، بين الحكومة العراقية آنذاك ومصطفى البرزاني في 11 آذار 1970م مع الإبقاء على قضية كركوك عالقة في الأجندة.   

نموذج الفيدرالية العراقية، هو نموذج مشوّه ويعتمد على المحاصصة الطائفية والإثنية في السلطة تحت مسمى الحقوق الفردية وحق تقرير المصير بمعناه القومي الليبرالي. تتكون السلطة الاتحادية في العراق من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتضم السلطة التشريعية مجلسي النواب والاتحاد.  

ينص في المادة 116 من الفصل الأول في الباب الخامس على النظام الاتحادي اللامركزي في العراق وفق ما يلي؛ يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية. [23] ويعترف بالإقليم الذاتي لكردستان العراق في المادة 117 “يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كردستان، وسلطاته القائمة إقليما اتحادياً.” [24]

سوريا وتجارب اللامركزية بالحكم

بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918، سقطت الولايات العربية في السلطنة العثمانية بأيدي دول الحلفاء، وكانت سوريا، كما لبنان، من نصيب فرنسا بموجب اتفاقية سايكس-بيكو مع بريطانيا عام 1916. [25]

لم تكن الميول القومية هي الطاغية على المشهد السياسي آنذاك، بل الميول الديمقراطية واللامركزية بالحكم هو كان المطلب الرئيس، لثقافات المنطقة. وفي الفترات اللاحقة، سيشارك الكرد والدروز والعلويون مع الإثنيات والطوائف الأخرى، في إنهاء الاحتلال الأجنبي، وبناء الجمهورية السورية. أما الأفهام التي تقلب التاريخ، وتشرحه باللغة العرقية والقومية، فلا تدرك بأن سوريا العربية وكل الدول الأخرى، هي وليدة اتفاقيات دولية، لا تمس الواقع المجتمعي التعددي والديمقراطي للمنطقة. وكل الشعارات الطنانة التي صموا الآذان بها، مثل وحدة – عربية – اشتراكية، هي أصلاً شعارات قوموية ومستوردة من الخارج، عفلق لم يبتدعها من رأسه، بل هي لرجل ماسوني قوموي إيطالي، اسمه جوزيبي ماسيني. كل ما فعلوه، هو إعادة تشكيل الوعي التاريخي للمجتمع السوري وصياغته بما يوائم مصالحهم.

في 8 مارس لعام 1920 أعلن عن المملكة السورية، بقيادة الملك فيصل الأول. وتم كتابة أول دستور لسوريا، في نفس العام، حيث شكل المؤتمر السوري لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي مهمتها صياغة دستور المملكة وجاء الدستور باثني عشر فصلاً و147 مادة. وإن كان نظام الحكم حسب الدستور، هو ملكي، ولكنه كان في الوقت ذاته، يشدد على النظام المدني النيابي، حيث كان المؤتمر السوري العام يتألف من مجلسي الشيوخ والنواب، فالنواب كانوا ينتخبون شعبياً، أما مجلس الشيوخ، فكان ينتخب من قبل مجلس النواب ويعين جزء منهم من قبل الملك. أما المحكمة الدستورية العليا فتتألف من /16/ عضواً نصفهم منتخبون من قبل مجلس الشيوخ والنصف الآخر من رؤساء محاكم التمييز. يشار في الدستور أيضاً إلى أن البلاد تدار حسب النظام اللامركزيّ ولكل مقاطعة مجلسها النيابي وحكومتها الخاصة وحاكمها المعيّن من قبل الملك ولا يتدخل أحد بإداراتها وشؤونها الداخليّة إلا في الأمور العامة التي هي من اختصاص الحكومة المركزية. وهذا هو النص الحرفي للمادة الثانية من الدستور: “المملكة السورية تتألف من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة.” [26] لم تدم هذه الحكومة الفيصلية إلا فترة محدودة من الزمن، حيث تدخل الفرنسيون وأقاموا حكومة انتدابية جديدة محل القديمة.

اللافت للانتباه، والذي قد يثير الجدل، في الفترات اللاحقة، هو أن “سوريا” وليست العروبة، كانت الهوية الجامعة للثقافات المختلفة التي كانت تعيش في كنف المملكة. ولم يظهر، مفهوم “الجمهورية العربية السورية” في عام 1946، إلا بعد المرور بما يسميه الأستاذ كمال ديب “مرحلة الدولة الوطنية” التي أسسها، العرب والكرد والدروز والعلويون وغيرهم من الإثنيات والطوائف الدينية في هذه البقعة الجغرافية.

سوريا من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، غير صالحة لأن تكون دولة قومية، فالتعددية المذهبية والإثنية لا تسمح بذلك. ضمت سوريا في الحدود التي انتهت إليها عام 1946 جماعات دينية وإثنية ولغوية متعددة: فقد بلغ عدد الجماعات المذهبية 16 طائفة، ومثّل السنّة زهاء 75 بالمئة من السكان يليهم العلويون بنسبة 12 – 15 بالمئة، ثم الروم الأرثوذكس بنسبة 5 بالمئة فالدروز 3 بالمئة، ثم بقية الطوائف المسيحية من موارنة وروم كاثوليك ولاتين وبروتستانت وسريان، إضافة إلى الإسماعيليين في جبل السلَميّة إلى شرق جبال العلويين، وأقلية صغيرة جداً من الشيعة الإثني عشرية والإيزيديين وعدد ضئيل من اليهود، وبلغ مجموع المسيحيين في سوريا نسبة 12 بالمئة من السكان. [27] أما على الصعيد الإثني، فقد بلغ عدد الإثنيات خمساً: عرب وكرد وأرمن وتركمان وسريان/أشوريون وشركس. [28]

كان التنظيم الإداري السياسي للمجتمعات – الثقافات الكردية والعلوية والدرزية في سوريا تنظيماً ذاتياً، معتمداُ على البنية القبائلية العشائرية، وشارك أبناؤهم في حرب التحرير والاستقلال وبناء الجمهورية السورية، بل كانوا من بناة سوريا الفتية والديمقراطية آنذاك.

تعرضت جغرافية كردستان للتجزئة القسرية التي فرضت من قبل الاحتلال الأجنبي والنظام الدولي آنذاك، حيث قسمت كردستان إلى أربعة أجزاء وفق معاهدات سايكس بيكو 1916م وسان ريمو 1920م ولوزان 1923م، ولم تكن سيفر إلا وعوداً معلقة بالهواء، وتعبيد الأرضية للإبادة بحق الكرد.

وقع الجزء الغربي من كردستان تحت نفوذ الحدود المرسومة للدولة التي سميت لاحقاً سوريا، حيث توزع الكرد جغرافياً من ديرك أقصى الشرق السوري، إلى عفرين (جبل الأكراد) في أقصى غربه، وينتشرون في المدن السورية الكبرى كحلب ودمشق. يشكل الكرد 20 بالمئة من سكان سوريا ولعبوا دوراً تاريخياً في تأسيس سوريا، التي بقوا مهمشين فيها مثلهم مثل إخوانهم في الأجزاء الأخرى من كردستان.  

شارك الكرد السوريون بشكل فعّال في بناء صرح الجمهورية السورية، وكان لهم دور بارز في مرحلة ما يمكننا تسميته التحول الديمقراطي. ولكنهم تعرّضوا للتهميش على يد الحزب البعثي العربي وعانوا الويلات، وتم تجريدهم حتى من حق المواطنة والجنسية السورية، ونسوا بأن الكرد في سوريا مثلهم في تركيا، كانوا من أهم مؤسسي سوريا المعاصرة، ومن منا لا يعرف قصة الشاب الكردي سليمان الحلبي ذو الأصول العفرينية من قرية كوكان بالتحديد، الذي قتل قائد الجيش الفرنسي كليبر.

تصدى الكرد مع المكونات الأخرى في سوريا للاحتلال الفرنسي، حيث كان لهم مساهمتهم الجديرة بالذكر، من معركة ميسلون إلى الثورة السورية الكبرى. قاتل وزير الحرب في المملكة السورية أيام فيصل، يوسف العظمة ببسالة وشجاعة كبيرة ضد الاحتلال الفرنسي 1920م فيما يسمى واقعة ميسلون. وعندما سئل هل تستطيع إيقاف الزحف الفرنسي؟ فأجاب: لن أدع التاريخ يسجل إنهم دخلوا سوريا بدون مقاومة!

مثل المكونات الأخرى طالب الكرد أيضاً بحكم ذاتي محلي يديرون به شؤونهم الخاصة. حيث أرسل وجهاء عشائر الجزيرة، أثناء توقيع فرنسا معاهدة مع الحكومة الوطنية في دمشق في ثلاثينيات القرن المنصرم، مطالبهم إلى فرنسا، طالبين فيها إعطاء دور أكبر لمكونات المنطقة لإدارة شؤونهم الذاتية، وقد سلم الدكتور كاميران بدرخان وحاجو آغا مذكرة وقع عليها أكثر من مئة شخصية من رؤساء العشائر والمخاتير والتجار الكرد والوجهاء المسيحيين، باليد إلى المندوب الفرنسي في بيروت. وبسبب عدم موافقة الفرنسيين والحكومة في دمشق على مطالبهم، نزلت مكونات الجزيرة إلى الشوارع وأعلنوا عن تمسكهم بمطالبهم، التي سرعان ما تحولت إلى مقاومة مسلحة. وعن مطالب الكرد يقول الشاعر جيكر خوين ما يلي “في الحقيقة كان هدفنا أن ينال الكرد في سوريا حقوقهم القومية والإنسانية، أي أن نتمتع بحقوقنا في سوريا في ظل العلم السوري مع إخواننا الآخرين بعد رحيل فرنسا، لأننا نخشى أن يصيبنا ما أصاب إخواننا الكرد في ظل حكم الأتراك والفرس، وفي النهاية حدث ما كنا نخشاه.” [29]

الدور الذي لعبته فرنسا لم يكن يختلف عن الدور البريطاني في العراق ومناطق نفوها الأخرى، فهي بريطانيا نفسها التي قسمت الهند إلى هند هندوسية وباكستان إسلامية، ومارست فرق تسد بوحشية لا مثيل لها في التاريخ السياسي للعالم. هذا ما فعلته فرنسا، دفعت سوريا إلى القوموية ومارست فرق تسد بنجاح موفق، إلى أن ظهرت البعثية الشوفينية التي أدخلت سوريا إلى عصور مظلمة.

مر العلويون السوريون بتجربة حكم ذاتي بدعم الفرنسيين ولكنها لم تكتمل، بسبب الميول الدولتية لبعض زعمائها وتحريض القوى القوموية (التي تشكلت خارجاُ مثل العربية الفتاة) وغيرها من المؤامرات السياسية. حتى القرن العشرين كان العلويون معروفين باسم النصيريين، وتم تداول اصطلاح العلويين من قِبل الفرنسيين. عانى العلويون من المذاهب السنية المتسلطة خلال كافة العهود الإسلامية وآخرها العثمانيون الأتراك، لذلك تمركزوا في الجبال مثل الأقليات الأخرى.  

مع بداية دخول الفرنسيين لسوريا، وخاصة الساحل السوري، جوبهوا بمقاومة شرسة من قبل العلويين بقيادة صالح العلي. ولكن هذه المقاومة لم تدم ومع حلول 1921م سيطر الجيش الفرنسي بشكل كامل على جبال العلويين. في عام 1922م أقام الفرنسيون في تلك الجبال “الدولة العلوية” المرتبطة عضوياً باتحاد مع الدويلات السورية الأخرى، حيث كان الهدف إقامة حكم اتحادي فيدرالي، ولم يصل المشروع لمبتغاه.  

كان للعلويين دور كبير في الجيش السوري حيث تمتعوا برتب ومناصب عليا، وانتهت التجربة الديمقراطية للعلويين، أما سيطرة العلويين على الدولة السورية بعد انقلاب حافظ الأسد، وانحسار الميول الديمقراطية، فجلب معه مذهبية باطنية تحت غطاء القوموية العروبية الخرافية التي أوصلت سوريا إلى حرب الأرمجدون، التي ذهب ضحيتها الآلاف والآلاف..

طائفة الموحدين الدروز من أهم طوائف سوريا ويتمركزون في السويداء وبعض مناطق حوران في الجنوب السوري وشمال غرب سوريا. ويعود أصل الدروز إلى الشيعة الإسماعيلية وإلى مصادر صوفية في الإسلام. [30] حيث جمعوا بين الإسلام والمذاهب الصوفية الشرق أوسطية، وحتى تأثروا بالفلسفة اليونانية القديمة، وما تسمية “شيخ عقل” لكبار رجال الدين عند الدروز إلا تيمناً بفلسفة “العقل” إن صح التعبير.

كما للكرد والعلويين والعرب والمسيحيين وغيرهم من الثقافات والإثنيات الأخرى، فللدروز أيضاً دور مهم جداً في بناء الجمهورية السورية (الدولة الوطنية)، ومن منا لم يسمع ببطولة سلطان باشا الأطرش الدرزي زعيم الثورة السورية الكبرى عام 1925م.

كانت الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927) ثورة وطنية ضد الاحتلال الفرنسي وبمشاركة كافة الإثنيات والطوائف. كان الحس الوطني الديمقراطي وميول الأمة الديمقراطية المتعددة، طاغية على ميول الأمة – الدولة التي ترسخت بفضل ميثولوجيات جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي. حيث وتحت مسمى الدولة الواحدة، تمت ممارسة إبادة ثقافية بحق المكونات الأخرى في سوريا. واتهم كل ميل ديمقراطي لامركزي بالانفصالية، وتجذرت القوموية والشوفينية الحزبية.

أعلنت سوريا استقلالها في 25 نيسان عام 1946م، وكانت الجمهورية المتأسسة حديثاً تعيش صراعاً داخلياً بين الديمقراطية والتيار القوموي السلطوي. ظهرت آنذاك في سوريا العشرات من الأحزاب السياسية، من الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة. نشطت الأحزاب القومية كثيراً في سوريا ولكنها لم تلقَ الحاضنة الشعبية المرجوة، كون الفكر القومي كان غريباً جداً بين السوريين المتعددي الهويات والإثنيات والمذاهب. والمثير للاستغراب والخليق بالبحث هو أن قواد الفكر القومي كلهم على وجه التقريب كانوا قد درسوا وعاشوا في فرنسا فترة طويلة متأثرين بالقوموية والثورة الفرنسية. كانت الطبقة الجديدة المتشكلة للتو، طبقة هوجاء واستشراقية لا تعي تاريخ شعوب المنطقة بعمق، كل ما سعوا إلى فعله هو إعادة إنشاء الوعي التاريخي للمجتمع السوري، كانوا مهندسي النظام الاستعماري الجديد، فلا يمكن تعريف القوموية سوى إنها ذهنية استعمارية فظة، لا تمت بصلة للواقع السوسيولوجي للمنطقة. وإن أردنا التعبير عن الموضوع بلغة السياسة، فانتشار الفكر القوموي والدولة القومية، يعني تعبيد الأرضية الإيديولوجية لإسرائيل في المنطقة، التي ولدت بالتزامن مع انتشار هذا السرطان في الجسد الاجتماعي للشرق الأوسط.

“مدرسة واحدة جميع المواطنين، والمدرسة الواحدة كفيلة بأن تخلق عقلية متجانسة موحدة”، هذا هو شعار الدولة العروبية القوموية المثالية التي نادى بها زكي الأرسوزي (1899م – 1968م)، التجانس والوحدة والتنميط والأمة الواحدة واللغة الواحدة والتاريخ الواحد والعرق الواحد، كأنه يراد إنشاء أمة اعتماداً على علم الوراثة حسب المفهوم النازي الهتلري. كل شيء بدأ مع ما كان يسمى “عصبة العمل القومي” التي أسسها زكي الأرسوزي الضابط العلوي من لواء إسكندرون، الذي تدرب ودرس في السوربون الفرنسية. إنه السلف المشترك لكل التيارات العروبية القوموية الخرافية، وأصلاً هذا النوع مع الفلسفات كان غريباً عن المجتمع الشرق المتعدد الإثنيات والأديان والمذاهب، ولكنه كان البضاعة الرائجة في السوق العالمي وقتها، فلا رأسمال بدون قومية، بدون سوق قومية وميثولوجيا الروح الوطنية والحدود والأمة.. الرأسمالية (الشبكة الاحتكارية التي أمست نظاماً عالمياً ونسقاً متكاملاً منذ القرن السادس عشر) كانت بحاجة لخرافة الروح القوموية والدولة القومية، حيث كانت الدول ذات السيادة، تدفع تكاليف الإنتاج وتحمي أموال الرأسماليين في البنوك وتؤمن لهم الشرعية القانونية، وما الدول القومية سوى شركات خرافية منشأة ذهنياً، وسرطان اجتماعي يتناقض والطبيعة التعددية للمجتمعات البشرية. تأثر الأرسوزي بالفلسفات الفرنسية والقوموية الشائعة في القارة العجوز، وآمن بأن السيادة يجب أن تكون للشعب (أهم مبدأ في الثورة الفرنسية 1789م) وأخذ عن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859م – 1941م) المثالية الفرنسية وترجم تلك الروح إلى العروبة والأمة العربية الخالدة…! كيف يؤمن الناس بذلك، كأن تؤمن مثلاً بأن الاستهلاك يجلب السعادة، إنها أضحوكة حقاً أن يصل العقال (الإنسان العاقل) إلى هذه المرحلة…!

لا ننكر الحركة التي قادها الأرسوزي ضد الاحتلال التركي للواء إسكندرون في ثلاثينيات القرن المنصرم، ولكنها لم تعطِ نتائجها المطلوبة، حيث احتل اللواء من قبل الأتراك وبمباركة فرنسية عام 1939م. يمكننا اعتبار الأرسوزي الأب الروحي للقومية العربية والبعث العربي الذي أنتج ديكتاتوريات مثل جمال عبد الناصر وصدام الحسين.

كانت اللبنات العقائدية الإيديولوجية قد وضعت، فبنى عليها كل من ميشيل عفلق (1910م – 1989م) وصلاح البيطار (1912م – 1980م)، القوة التنظيمية والترجمة العملية لهذه الأفكار التي ستحول سوريا فيما بعد إلى دولة الأمة الواحدة المذهبية والاستخباراتية العسكرتارية. درس عفلق والبيطار أيضاً في السوربون الفرنسية وتخرجا منها عام 1934م وتتلمذا على يد زكي الأرسوزي. يعتبر ميشيل عفلق اسما بارزاً جداً في الإنشاء التنظيمي والإيديولوجي لحزب البعث ومطور للفكر القوموي العروبي، ويشكل منعطفاً هاماً وتاريخياً لسوريا. ينتمي عفلق إلى أسرة مسيحية أرثوذكسية ذات أصول يهودية حسب بعض المؤرخين، ولد في دمشق وأكمل دراسته الجامعية في باريس. بعدها عاد إلى دمشق وتنقل بينها وبيروت والقاهرة وبغداد. توفي في مشفى في باريس عام 1989م. تأثر عفلق بحركة الانبعاث الإيطالي بزعامة جوزيبي مازيني فحملها بأهدافها إلى الواقع العربي واستورد من الفكرة الإيطالية أهداف (الوحدة – الحرية – الاستقلال) ثم استبدل الاستقلال بالاشتراكية. [31]

في البداية أنشأ الثنائي عفلق والبيطار ما يسمى “حركة الإحياء العربي” وسرعان ما تخليا عن ذلك واستخدما اصطلاح “الانبعاث” حيث قررا أن ما يجري في الأمة العربية هو انبعاث وليس إحياء فقط، وسبق أن استخدم هذا الاصطلاح من قِبل الأرسوزي. تم الإعلان عن حزب البعث العربي في 7 نيسان عام 1947م، وتم فتح فروعه في أغلب البلدان العربية. اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي يقوده أكرم الحوراني عام 1952م، وبهذه الشاكلة ولد ما يسمى “حزب البعث العربي الاشتراكي”.

أسس حزب البعث لمفهوم العروبة الصارمة والعنصرية، حيث اعتبر عفلق الأمة العربية فوق كل الأمم ووجودها أزلي ومنها ظهرت كل الحضارات، وما الإسلام سوى هدية العروبة للبشرية. كما أتاتورك تركيا وهتلر ألمانيا، حاول عفلق إعادة بعث الأمة العربية من جديد بالعمل الأخلاقي والروحي (برغسون) واعتبر الحس العربي حساً فطرياً ومتعالياً، وليست الأمة العربية طبقات حسب المفهوم الماركسي بل مجتمع أمة يتكون من أفراد متجانسين واعين لذواتهم العروبية. فكل شيء يخضع للمصلحة العليا للأمة العربية المجسدة في الحزب الطليعي مثل تجسد الإله في المسيح لنصرة المظلومين، فيضع الحزب الشمولي المجتمع في عزلة تامة عن الخارج وكأنه مراقب من الأخ الأكبر كما وصفه جورج أوريل في روايته المشهورة “1984”.  فنحن أمام ثلاثي مقدس الأمة – السوق – الوطن على شاكلة الثلاثيات اللاهوتية المقدسة مثل الإله – الملك – العبد في الملكيات العبودية القديمة والأب – الابن – الروح القدس في المسيحية الكاثوليكية.

كان الشعار الطنان الأهم للبعثية هو الوحدة العربية، حيث أصبح هوساً للبعثيين الذين ما فتئوا يبحثون عن آلية لتطبيق هذه الأفكار العنصرية تحت سقف واحد وعلم واحد وملك واحد ووطن واحد وجيش واحد. وهذا ما حصل فعلاً حيث اتحدت مصر وسوريا بين عامي 1958م و1961م. وهنا بدأت الفاجعة ودولة الانحطاط وانعدام الديمقراطية وخرافة الأمة الواحدة في سوريا، وبلغة السوسيولوجيا ولجنا عصر رأسمالية الدولة والأمة العربية. فرضت الناصرية السلطة الاستخبارتية العسكرية على سوريا وتم حل كل الأحزاب السورية وكانت وحدة اندماجية ناصرية، وأعلن الرئيسان جمال عبد الناصر وشكري القوتلي عن ولادة الجمهورية العربية المتحدة في 1 شباط عام 1958م من القاهرة، وفي 21 شباط وافق استفتاء شعبي شكلي على الوحدة الاندماجية بين البلدين وأصبح عبد الناصر الرئيس المنتخب بنسبة 99,99 بالمئة للجمهورية العربية المتحدة. وبهذه الشاكلة تم تصفية الديمقراطيين والشيوعيين وكافة الميول الديمقراطية واللامركزية التي كانت موجودة إلى وقتها في سوريا. وبعد صراع طويل بين الناصرية والبعثية نفسها ونتيجة ظروف دولية ودعم إقليمي للانقلاب النحلاوي ضد الاندماج، انتهت الوحدة بين البلدين، ودخلت سوريا في مرحلة دولة الظلام البعثية..

بعد الانفصال الذي وقع في 28 أيلول من عام 1961م، تغير اسم الجمهورية العربية المتحدة، إلى الجمهورية السورية ولكن سرعان ما أصبحت الجمهورية العربية السورية. وبعد سلسلة انقلابات عسكرية، عاد البعث للمشهد السياسي والعسكري بقوة بعد أن تم حله أعوام 1958م. حصل الانقلاب العسكري البعثي بقيادة الضباط صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران، مدعومين من ميشيل عفلق والقيادة المدنية للبعث، في الثامن من آذار عام 1963م وسميت “ثورة الثامن من آذار”.  

دمّرت الأفكار القوموية وممارساتها الفظيعة من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي بنية المجتمع السوري التعددي، ومارس نوع من الهندسة الاجتماعية تحت مسمى الأمة العرقية الصافية أو ما يصح تسميته بفاشية الدولة القومية. وتم تهجير الآلاف من الكرد من قراهم وبيوتهم ومورست عليهم سياسات الإقصاء والدمج والحرمان من المواطنة والحقوق الإنسانية بكافة أشكالها. حيث يشكل مشروع الحزام العربي أهم إنجاز لحزب البعث العربي الاشتراكي وإيديولوجيته الوضعية المبتذلة. تم تطبيق هذا المشروع الفاشي المقترح من قبل الملازم البعثي محمد طلب هلال في سبعينيات القرن المنصرم الذي كان يهدف إلى تغيير ديمغرافية المنطقة وبناء الأمة الخالدة الصافية. اقترح المشروع في عام 1963م ودخل حيز التنفيذ في أعوام 1973م. حيث يقول هلال في مسودة مشروعه ما يلي: “إذاً يمكننا القول، إنه ليس هنالك شعب بمعنى الشعب (الكردي)، ولا أمة بكاملها، بمعنى الأمة الكردية. ليست المشكلة الكردية الآن، وقد أخذت في تنظيم نفسها، إلا انتفاخ وَرَميّ خبيث، نشأ، أو أنشئ في ناحية من جسم هذه الأمة العربية، وليس له أي علاج، سوى بتره.” ويقترح سياسات التجهيل والتجريد وممارسة الإبادة الثقافية والعطالة عن العمل والتهجير الداخلي والخارجي على الكرد في سوريا وخاصة مناطق الجزيرة السورية. والباقي معروف فالتاريخ بوصلة الحقيقة دائماً وأبداً.

بعد صراعات طويلة بين الأجنحة العسكرية والسياسية في الدولة السورية وخاصة بعد خسارة حرب 1967م مع إسرائيل، قاد حافظ الأسد مع بعض الضباط البعثيين انقلاباً عسكرياً في 16 تشرين الثاني عام 1970 ضد الضابط صلاح جديد ورئيس الجمهورية آنذاك نور الدين الأتاسي وسجنهما وسمى الانقلاب في الأدبيات البعثية بـ “الحركة التصحيحية”. ودخلت سوريا مرحلة الدولة البعثية الشمولية التي يقودها الحزب الواحد، ثم تحولت لدولة العائلة والمذهب. لن ندخل في تفاصيل الأحداث بعدها، حيث كان الحكم يعتمد على المركزية المفرطة والعسكرتارية الاستخباراتية والنظام الشمولي وغياب تام للديمقراطية بكافة أشكالها.  

الهدف من هذا السرد المقتضب لتاريخ سوريا، هو الإشارة إلى أن الطبيعة المجتمعية لسوريا، غير قابلة لأن تضبط في دولة قوموية أحادية، بل اللامركزية والأمة الديمقراطية والجمهورية الديمقراطية التعددية هي النموذج المناسب لهذا الموزاييك الثقافي. حيث إن أسطورة الدولة القومية والعروبة، هي التي أوصلت سوريا إلى باب هادس (الجحيم) وعبدت الأرضية لظهور جحافل العصر ودولتهم الداعشية المهزومة.

هل نموذج الإدارة الذاتية اللامركزية هو حل للمعضلة السورية؟

أفرزت الأزمة السورية التي بدأت 2011م وباتت على مشارف دخولها عامها التاسع، نماذج جديدة بالإدارة لا سيما الدولة المركزية أصبحت هشة وغير مستساغة من قبل المجتمع السوري بكافة مكوناته. حافظت مكونات شمال وشرق سوريا على مناطقها منذ مطلع 2012م وبالتحديد من تاريخ التاسع عشر من تموز وأعلنت الإدارات الذاتية التي تعتمد على الديمقراطية المباشرة عن طريق الكومونات والمجالس. بُعيد الانتهاء العسكري من داعش ودولته المزعومة على يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تدخل سوريا مرحلة جديدة من تاريخها، أو ما يمكن تسميته مرحلة “البحث عن الحل”.   

مازال الخطاب الإقصائي المتعالي والقوموي لحكومة دمشق مستمراً رغم سنوات الحرب التي أهلكت المجتمع وراح ضحيتها أكثر من 500 آلف شخص ودمرت البنية التحتية بما يقدر 400 مليار دولار، وهجرت أكثر من نصف المجتمع إلى الخارج بالإضافة لظاهرة الهجرة الداخلية، وارتفاع نسبة البطالة وشح الموارد الرئيسية الحياتية، بالإضافة لانقسام سوريا على مستوى النفوذ حيث النظام ومن ورائه روسيا وإيران يسيطر على قرابة 60 بالمئة من الأرض، أما الاحتلال التركي والمجموعات المسلحة التابعة له فيحتل قرابة 15 بالمئة من الهلال الشمالي الغربي في سوريا، و30 بالمئة تحت نفوذ الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة أمريكا. بالرغم من ذلك مازالت الحكومة المركزية الهشة في دمشق، مصرة على لغة التهديد والفوقية والاتهام بالانفصالية والتزعم بالسيادة (اعترفت أمريكا 25 آذار 2019 بشكل رسمي بالسيادة الكاملة لإسرائيل على هضبة الجولان)، حيث اجتمعت قيادات أركان الجيوش السورية والإيرانية والعراقية في 18 آذار 2019 في دمشق، وهدد وزير الدفاع السوري العميد علي أيوب مناطق شرق الفرات وعرض خياري ما سماه المصالحات الوطنية أو تحرير الأراضي التي تسيطر عليها قسد بالقوة بطريقة غير لائقة تعمل على تأزيم الوضع السوري أكثر فأكثر.

لن تحل الأزمة السورية إلا بسبل الحوار الديمقراطي السوري السوري ودمقرطة الدولة السورية. لا أحد سيقبل بسوريا مركزية تحكمها دولة البوليس والاستخبارات بعد الآن، وأصلاً طبيعة المجتمع السوري المتعدد لا تتوافق مع هكذا نظام صارم ومنغلق على ذاته (كما ذكرنا سابقاً). يجب العمل على إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية وبناء دستور حقيقي يتخذ من اللامركزية والديمقراطية والتعددية أساساً، وفتح الأبواب للأحزاب السياسية والمجتمع المدني للعب دوره، حيث ستلعب الأحزاب دوراً مهماً في سوريا المستقبل.  

يمكن للمكونات العلوية والدرزية والكردية والسريانية وغيرها من الشعوب المكونة للموزاييك السوري، العمل على توحيد الجهود المشتركة ودمقرطة الدولة وحثها على الاعتراف الدستوري بالإدارات المحلية الذاتية والديمقراطية التشاركية، حيث الهوية السورية الديمقراطية هي الهوية الجامعة لشتى الإثنيات والمذاهب والأديان.

“نحو الدولة الوطنية” كيف ستصاغ العلاقة مع الحكومة المركزية؟

الدستور الديمقراطي هو الذي يحدد شكل العلاقة بين الحكومة المركزية ومناطق الإدارات الذاتية. حيث يجب أولاً الاعتراف القانوني والدستوري بشبه استقلالية هذه المناطق، وترتيب العلاقات الإدارية في ظل الحكم الاتحادي الديمقراطي. نستطيع اعتبار العقد الاجتماعي لشمال وشرق سوريا كمسودة مشروع متكاملة، تعتمد على اللامركزية الديمقراطية والتعددية السياسية والاتحاد – التوافق الديمقراطي.   

كشبه الاستقلال الاقتصادي، السياسي، العسكري والثقافي. منها أيضاً رفع علم الحكومة المركزية على المؤسسات، دمج القوى العسكرية بالقوات العامة مع الإبقاء على خصوصية القوى المحلية الذاتية، مشاطرة الاقتصاد والثروات، تطوير التعليم الذاتي والمتوافق مع تاريخ المنطقة والبلد، إعطاء صلاحيات أكبر للمجالس والسلطات المحلية، وكل هذه الخطوات تبدأ من الاعتراف الدستوري والقانوني.

ما هو شكل الحكم المناسب للتوافق الديمقراطي؟ هي الدولة الوطنية. إذاً ما هي الدولة الوطنية؟ هي الدولةُ المرتكزة على أساسِ المجتمعات المحققةِ لِتَحَوُّلها الوطني. وهي دولةُ العصر الحديث (العصر الرأسمالي بمعناه الضيق). ولا تقتصر على العصر الرأسمالي فحسب، بل وتُشَكِّل الوضعَ السائدَ أساساً في العصر الديمقراطي أيضاً، أو بالأحرى تؤدي دورها بإدارةِ دفةِ الحكم بالوفاق (الدولة + الديمقراطية). هذا وبالإمكان القول بوجودِ الدولة الوطنية عندما تتواجد كلتاهما، أي عندما يسود نظامُ الدولة + الديمقراطية. وهي تختلف عن دولةِ الأمة من حيث قدرتها على احتضان العديد من الأمم. [32]

لا يختلف مشروع النظام السوري الذي يتخذ من الدولة القومية المركزية أساساً عن مشروع المعارضة، التي تروج لمشروع “دولة المواطنة” التي تصب في نفس خانة النظام السوري ومشروعه.  المهم هو النقاش ودعم الوفاق الديمقراطي بين جميع القوى، والدولة الوطنية أو الجمهورية الديمقراطية هي حل توافقي لكل الشعوب والمكونات.

لا يمكن التكهن بمستقبل سوريا في ظل الصراع الإقليمي والدولي على أرضها، حيث تتصارع خمس قوى إقليمية ودولية فيها “أمريكا – روسيا – إسرائيل – إيران – تركيا”، ولكل قوة مصالحها الخاصة في خوض الحرب ووضع شروط السلم. لذا على السوريين الحوار والتوافق على أسس الدولة الوطنية الديمقراطية، فالكرد والعرب والدروز والعلويون وغيرهم، هم أصحاب سوريا الحقيقيون وبنّاؤو الجمهورية السورية الديمقراطية، وإلا لن يختلف مصير سوريا عن البوسنة والعراق.

على سبيل الخاتمة

نمر بمرحلة عصيبة من تاريخ ما يسمى “حضارتنا الإنسانية”، التي تطوي في داخلها أيما توحش وبربرية وحتى همجية أكثر من همجية جنكيز خان نفسه. في ظل أزمة “المنظومة العالمية” بكافة بنائها وهياكلها السياسية والاقتصادية والمعرفية، تظهر لدينا خيارات متعددة من رحم أزمة النسق القائم، وكل ما هو مطلوب هو الاختيار الصحيح والممارسة السياسية الصحيحة.

بالرغم من تعنت الدولة القومية وانغلاقها الأيديولوجي، ولكن يمكن العيش معها تحت سقف قانوني، يعتمد على العقلية التشاورية. حيث إن النضال القانوني والدستوري مهم جداً للمجتمعات الديمقراطية التي تسعى لإنشاء نظامها الخاص، وطبعاً من غير المنطقي أن تتطلع المجموعات إلى التدول والسلطة على غرار ما تحاول الليبرالية عرضه وكأن الانفصال أو التدول هو الشكل الوحيد لممارسة حق تقرير المصير.

يتحدث يورغن هابرماس عما يسميه “المواطنة الدستورية” و”العقلانية التواصلية” التي تشكل الإطار أو الفضاء الأنسب للمجتمعات لممارسة حقها الديمقراطي قانونياً، ومن الأجدر تسميته بالتوافق الديمقراطي بين القوى الدولتية والمجتمعية الديمقراطية.

النظام الرأسمالي العالمي ينهار من الناحية البنيوية والمعرفية، وبات المجتمع العالمي الكوني أمام خيارات جديدة وقد تكون أسوأ من السابقة، ومن الناحية الكوانتية قد يكتب المناضلون الحقيقيون التاريخ هذه المرة أو لا، فلا شيء مؤكد في ظل هذه الفوضى الكونية…!


المراجع

[1] – نيتشه، فريدريش، هكذا تكلم زرادشت، قسم “عن الصنم الجديد” ترجمة علي مصباح ص102

[2] – أوجالان، عبد الله، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، المجلد الثالث “سوسيولوجيا الحرية”، ص185

[3] – هراري، يوفال، العاقل؛ تاريخ موجز للنوع البشري ص53

[4] – أوجالان، عبد الله، المجلد الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية، الـقـضـيـــة الـكـرديـــة وحل الأمة الديمقراطية “دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافية” ص33

[5] – أوجالان، عبد الله، المجلد الخامس من مانيفستو الحضارة الديمقراطية، الـقـضـيـــة الـكـرديـــة وحل الأمة الديمقراطية “دفاعاً عن الكرد المحصورين بين فكَّي الإبادة الثقافية” ص617

http://www.un.org/ar/sections/un-charter/chapter-xi/index.html

[6] – [8 – 9 – 01 – 11 – 12 – 13 – 14]

https://constituteproject.org/constitution/Spain_2011?lang=ar

[15 – 16 – 17 – 18 – 19]

https://constituteproject.org/constitution/Switzerland_2014?lang=ar

[20 – 21- 22]

https://www.constituteproject.org/constitution/United_Arab_Emirates_2009?lang=ar

[23]

https://www.constituteproject.org/constitution/Iraq_2005?lang=ar

[24]

https://www.constituteproject.org/constitution/Iraq_2005?lang=ar

[25] – ديب، كمال، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، ص 36

[26]

https://ar.wikisource.org/wiki/دستور_سوريا_1920#%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

[27] – ديب، كمال، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، ص 42

[28] – ديب، كمال، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، ص 42

[29] – خوين، جكر، سيرة حياتي، ص252

[30] – ديب، كمال، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، ص55

[31] – ديب، كمال، تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب الفرنسي إلى صيف 2011، ص91

[32]أوجالان، عبد الله، المجلد الثاني “المدنية الرأسمالية”، مانيفستو الحضارة الديمقراطية، ص 193

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى