قضايا راهنة

روسيا واستراتيجية الحسم العسكري في إدلب

لأعوامٍ عديدة، كانت المعارضة السورية تعمل على إبراز نفسها، كشريك في أي خطة سلام تخص سوريا، ونجحت إلى حد ما في إبعاد نفسها عن أية شكوك، واستطاعت السيطرة على مناطق واسعة، لكن مع مرور الزمن تبين فقدانها لأية رؤية موحدة حول مستقبل البلد، السبب الذي أدى إلى فقدانها لمنطقة تلو الأخرى؛ فتنقلت المعارضة ضمن مسارات مختلفة، من اعتراف دولي جزئي، إلى مواجهة عقباتٍ، حالت دون انتقالها إلى طرف وازن في سوريا، من غياب للنفوذ، والتحول إلى وكلاء لقوى إقليمية أخرى، الأمر الذي انعكس سلباً على دورها سياسياً وعسكرياً، فالهزيمة على أرض الواقع تترجم زيف تصريحاتهم في الخارج بالانتصار، حتى بلغ العجز ذروته في أهم معاقل نفوذهم في إدلب بشمال غرب سوريا. وبذلك تكون المعارضة وداعميهم قد فشلوا في بسط نفوذهم على تلك المناطق، وأصبحوا في مرمى خطر حقيقي من جهة روسيا والنظام السوري، بالإضافة لعوامل أخرى – سنناقشها هنا – تمهّد لاستراتيجية الخيار العسكري.

استكمال لمخرجات استانا

“مسار استانا” ما هو إلا ترجمة للجهود الروسية لتحقيق غاية واحدة، وهي ربط كافة الجبهات العسكرية المتداخلة في سورية، تحت مظلة دبلوماسية، لحماية مصالحها، والإبقاء على النظام السوري في السلطة لمدة أطول، وإضفاء الطابع الرسمي على الحوار مع الأطراف الأخرى، وخاصة تركيا التي تدعم الجماعات المسلحة المعارضة في سورية، بالإضافة إلى تهميش دور الولايات المتحدة، عبر استحقاق الشرعية للنظام من خلال علاقاتها مع تركيا.

فبدأت موسكو بأول اجتماعها في استانا، من خلال الترويج لفكرة أن جزءاً كبيراً من المعارضة معتدلة وسلمية، فاختارت اجتماعات أستانا، لتكون منبراً للمفاوضات؛ خارج إطار الأمم المتحدة، وحض الجميع على الحاجة إلى “خفض التصعيد” بهدف تجميد خطوط المواجهة؛ التي كانت تضعف قدرة النظام، ثم البدء بفكرة فصل المعارضة المعتدلة عن المتطرفة، تلتها صفقات “المصالحة”، لتخير المعارضة المسلحة وقتها بين الاستسلام، أو الترحيل إلى إدلب، وهذه الديناميكية أثمرت عن نتائج؛ وهي استعادة الغوطة، وتلبيسة، والرستن، وغيرها، ليأتي الدور الآن على إدلب، كاستكمال لنتائج مفاوضات أستانا بين الدول الضامنة.

يمكن القول هنا أن اتفاق استانا، عبارة عن قناة للمفاوضات العسكرية بين روسيا والمجموعات المسلحة في سوريا، لكن من خلال داعميها من القوى الإقليمية، لتحويل هذه المفاوضات إلى إنجاز سياسي، عبر خطة منظمة وتدريجية، ببداية واضحة ونهاية غامضة، وأصبحت الآن أكثر ملائمة؛ وبالنتيجة التي تريدها، حيث انتهت بانقسام فصائل المعارضة، وهيمنة الجماعات المتطرفة على باقي الفصائل، وأصبحت هدف لكافة القوى. كما أن طول المدة اللازمة لحسم مسألة إدلب؛ والجماعات المتطرفة؛ والفصائل الأخرى؛ وصعوبة فصلهم عن بعض، عسّر حلها عبر باقي الدول الفاعلة وخاصة الولايات المتحدة، التي وصلت لمرحلة المتفرج فقط.

تنازل وخضوع تركي

إن ما جرى من انسحابٍ تركيّ مؤخراً من النقاط التي تقع تحت سيطرة النظام السوري، ماهي إلا علامة على الخضوع والتراجع، فإخلاء نقطة “مورك” في 19 – 20 اكتوبر 2020 و”شير مغار” بريف حماه، سيتبعهم حتماً انسحابات أخرى، وخاصة على الطريق السريع M5،

وبالرغم من الضمانات بين الطرفين الروسي والتركي، ألا إن تدخل تركيا في الحرب الأرمنية الاذربيجانية، إلى جانب باكو شكَّل ردة فعل لدى الجانب الروسي، فتراجع عن ضمانته الأمنية في إدلب، وباتت في الأشهر الأخيرة تغيب عن الدوريات المشتركة مع تركيا في تلك المنطقة، الأمر الذي يعتبر مؤشراً واضحاً على انهيار وقف إطلاق النار، والبدء بمرحلة الخيار العسكري. وتأتي الضربة الجوية الروسية في 26 اكتوبر 2020 على أكبر جماعة مسلحة مدعومة من تركيا “فيلق الشام” بمثابة رسالة واضحة ومباشرة لأنقرة، وليس فقط للمعارضة السورية.

اذاً فمعركة إدلب مرتبطة بالأحداث الجارية في جنوب القوقاز، وليبيا أيضاً، فالمرتزقة السوريين أصبحوا أدوات بيد تركيا، وحاجة الأخيرة لهم في الأحداث السابقة ذكرها، يجعلها تخفف من حدة لهجتها تجاه إدلب، عبر إرسال مقاتليها إلى المناطق خارج سوريا، وهم بالمقابل لم يعد يملكون خيار لأي قرار، وأصبحوا مجرد دمى تحركها تركيا متى شاءت، فالأحداث خارج سوريا تبدو بالنسبة لتركيا أهم من إدلب، لفتح جبهات مواجهة جديدة بالوكالة.

كما إن زيادة النفوذ الروسي في مناطق شمال غرب سوريا؛ على حساب النفوذ التركي، يؤكد فشل تركيا في الاستمرار بالمساومة على هذه المناطق، وتحولها إلى عبء ثقيل على سياستها الداخلية والخارجية، فكلفة الرهان عليها تجاوز طاقتها. وخاصة بعد أن تحولت تلك المناطق إلى ساحة تصفية حسابات بين الجماعات المسلحة، كهيئة تحرير الشام وتنظيم حراس الدين.

لذا فالانسحاب التركي يبدو وكأنه خضوعٌ للتهديد الروسي، خشية أن تتطور الأمور إلى مرحلة حرب جديدة، ومواجهة على الأرض، وتصبح نقاط المراقبة التركية في مناطق سيطرة النظام كنقاط ضعف للدولة التركية. وهي الآن تدفع ثمن قرارها السيء، فروسيا عازمة على هزيمة المعارضة السورية في إدلب، واستمرار دعم تركيا لهم سيطيل عمر الحرب، لكن دون تغيير في النتيجة لصالحها؛ أو لصالح المعارضة.

مرارة الدور الأمريكي والأوروبي

ما شهدته محافظة إدلب حالياً، شكل فوضى رهيبة، نتيجة السياسة الخارجية للنظام التركي الحالي، على أمل أن تتدخل الولايات المتحدة، ودول الناتو الأخرى إلى جانبها لتقوية جبهتها العسكرية هناك، إلا أن الواقع يشير إلى أن اللاعب المؤثر في إدلب بات روسيا فقط، وهو مؤشر آخر على فشل الإدارة الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط، بالرغم من الحديث بين وزيري الدفاع الأمريكي والتركي مؤخراً حول الوضع في إدلب؛ والهجوم الروسي والنظام السوري، إلا أن واشنطن استمرت في موقفها المتفرج، وهذا ما اعتادت عليه منذ تولي “ترامب” الرئاسة الأمريكية، فاصبح دور الولايات المتحدة يقتصر على حماية أجزاء؛ ومتفرج في أجزاء أخرى، وهذا ما ثبت عندما سمحت لآخر توغل تركي في مناطق شمال وشرق سوريا، واقتصر دورها على المتفرج في مناطق الاشتباك؛ وحماية المنشآت النفطية؛ ومكافحة الإرهاب بمناطق أخرى، وفي ظل هذه الإدارة الأمريكية، لن يقدّم الناتو أي دور في إدلب، مع انقسام داخل أعضائه، نتيجة استراتيجيته غير المتوازنة.

وحيث تعتبر الولايات المتحدة منطقة إدلب منطقة خارجة عن سيطرتها؛ ولم تهتم منذ البداية بإيجاد واقع أمني أو عسكري لها في هذا الجزء من سورية؛ فقد كانت روسيا صاحبة النفوذ الأقوى في تلك المنطقة، وإن أي انتصار للنظام السوري وروسيا في ادلب يمكن أن يكون له تداعيات سلبية على الولايات المتحدة؛ من خلال حليفتها في الناتو “تركيا”، وبالرغم من ذلك فهي فضلت منذ البداية عدم التورط في حرب غير واضحة نهايتها، وتسببت بسقوط ضحايا من جنودها، ويهين قواتها نتيجة القصف الروسي في منطقة بعيدة عن الأهداف والتحركات الأمريكية.

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ فالتحدي الرئيسي له في ادلب، هو هيمنة هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقاً”، التي لها صلة بالقاعدة، كما أن فشل تركيا بتوحيد باقي المجموعات لهزيمة هيئة تحرير الشام. شكل تبريراً قوياً لروسيا في استمرار القصف وزيادة دعمها للنظام السوري.

لذا فمن المرجح أن جل ما سيفعله الأوروبيون لن يخرج من نطاق الإدانة فقط، فالتصعيد مع الروس يفوق جهود التدخل للدفاع عن التمرد أو التطرف، الأمر الذي يستبعد أي جهود عسكرية أوروبية في ادلب؛ ربما يقتصر الأمر على العقوبات، وهو لن يؤثر طبعاً على التصعيد الروسي، ولن يدعم المعارضة السورية للمواجهة، أو يغير في الموازين.

معارضة غير مؤهلة وهو السبب المباشر

يمكن القول إن ما يحصل في إدلب، إنما يعود إلى إخفاقات المعارضة في فرض نفسها، نتيجة عدم قدرتها على الخروج برؤية واضحة وموحدة، فمع دعواتها بتوحيد مكونات المعارضة معاً، إلا إنها لم تتجسد في نتيجة واحدة. بل أصبحت الحقيقة لديهم متضاربة، كما أن التعويل على القدرة الذاتية دون أي حقائق على الأرض، ساعدت على تهاوي مناطق نفوذها، فاطلاق القدرة اللفظية، من لاعبي المعارضة في الخارج، لم تتوافق مع تحركات الفصائل المسلحة في الداخل؛ فخروج الكثير من الفصائل المسلحة عن مظلة المعارضة السورية، والتحرك بشكل فردي، يعكس حقيقة حديث المعارضة في الخارج، كخطابات مزيفة للتصدي والقتال والسيطرة ضد النظام السوري، فما تبقى من نفوذ لها بات تحت نفوذ الفصائل الإسلامية المسلحة، ومع عجزهم في مواجهتها، أو ممارسة أي نفوذ عليها، سبب في خسارة أي دعم خارجي، وعدم الاكتراث بما يحصل فيها؛ كما ذكرنا آنفاً.

يمكن القول إن ذهنية المعارضة السورية المتجمدة، والرؤية القصيرة للالتفاف حول شريك وحليف غير جاد كتركيا، عزلتها عن أي دعم، فهي الآن تتجرع طعم الهزيمة في إدلب، نتيجة اتفاقيات ضامنها المزيفة مع القوى الأخرى، وبسلوكها الخاطئ. باتت منقطعة عن الجماعات القتالية في سورية، وغير قادرة على تقديم أي مساعدة لنجدة سكان إدلب العالقين، أو حماية المدينة؛ والتعويل على إنها محمية تركية، يبدو أنها بدأت تسقط، فلا خيار لدى المعارضة سوى التسليم بالأمر الواقع، والتراجع عن هدفها الشكلي بتغيير النظام والإصلاحات، أو الالتزام بمسار المفاوضات المزيفة؛ التي تصب في صالح الروس والنظام السوري، فكل ما سبق يؤكد أن هذه المعارضة باتت ذات قدرة محدودة، وابتعدت عن فرض نفسها كلاعب له وزنه في النزاع السوري، وبديلاً لإحداث أي إصلاح أو تغيير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى