قضايا راهنة

المشهد السوري ما بين الموت الرحيم والحلّ الناجع

“التوافق العادل على شرق الفرات سيكون أنموذجا لحل الأزمة السورية”

مقدمة
المشهد السوريّ في تغيّر وتحوّل سريع على كافة الصعُد والاتجاهات والجبهات دون مقاسات ومعايير, ولا يخلو الأمر من مخادعات ومخاتلات تظهر هنا وهناك، عبر تصريحات ومواقف ومساومات وتنازلات لمسؤولين فعليين حينا، وغير فعليين هامشيين حينا؛ ممن يرقصون على أنغام هذا التوجه أو ذاك, ويتمتعون برسم هذه الخريطة أو تلك، لا يردعهم ضمير ولا أخلاق, ولا يهمّهم إن كان ضارب الطبل صديقاً أم عدواً، حيث أنّ ابتلاء الشرقيّ بأمراض العصر وانخراطه في لعبة الحضارة الراهنة, أسفر عن ضياعه في عرض البحر، لا يُعرف كيف ومتى وأين سيرسو قاربه وعلى أي برّ, أو يكون له شأن, مما يضيف للمشهد السوري العام ببعديه الداخلي والخارجي المزيد من التعقيد المتجه تدريجيا نحو زيادة الضغط على الأزمة, ليكون المستقبل القريب والبعيد منفتحاً أمام احتمالات تندرج من أسوأها حتى أحسنها.

ضبابية المشهد السوري
لن نعود الى ما قبل 2011م لأنها ما عادت موجودة, يبدو ان الزمن والقوى والمصالح الداخلية والخارجية للدول قد فعلت فعلها في تغيّر المشهد السوري، ولايزال الصراع مستمرا بغير حسم, لكن قدرة العودة إلى الوراء بات مستحيلا، وشبيها بأحلام آدم بالعودة إلى الفردوس المفقود.
إذا احتمالات تغيّر المشهد المستقبليّ السوري كثيرة، بدءاً من التطوّر باتجاه نوع من الحلّ, وانتهاء بانفجار يبعثر ما تبقى من المعارضة والنظام، وصولا بتهديد وجود الدولة والوطن, مرورا بالتمييع و”التسييل” الذي يصفه زيغموند باومان, وحتى فقدان الأمل والدخول إلى “الحلقة المعيبة” أو ” الحلقة القاصرة” كما يسميها البعض, وحينها سيكون نوعا من الموت الرحيم أو القتل الذاتي، على غرار لعبة الانتحار بلدغ الجسد سمّ عقارب الصحراء، سواء كان ذلك بدراية أو جهل, فالنتيجة واحدة، وقد يتبعثر كلّ شيء, وحينها لن يكون سهلا إعادة الحياة للكيان المقصود بسهولة, لأنّه يكون قد افتقر حينها لمقوّمات البقاء والاستمرار في الحياة.
خرائط مختلفة ودروب كثيرة ترسم ملامحها على وريقات تطير أقسام كبيرة منها مع الريح الصرر والزوابع الصفراء والسوداء القاتلة وفقا لمصالح أصحابها, رسوم بمعالم مختلفة لسوريا تلوح في الأفق وفقاً لمخيّلات الرسامين واختلاف ميولهم ومصالحهم وتنوعها, بدءاً من النظام وانتهاء بالمجتمع الدولي والأمم المتحدة، وبينهما الكثير من الفاعلين المحلية والإقليمية الأخرى التي تريد على الأقل أن تحجز لها مكاناً أو شبه مكان في المشهد القادم.
سوريا في مواقفها اليوم تشكل منظومة معقّدة تتعدّد فيها الفواعل والعوامل المتغيّرة بشدة واستمرار، والمشهد متداخل في لوحة متغيّرة تشكّل تابعاً ليس من الدرجات الدنيا, وذات خطّ بياني ليس بمستقيم، بل ترسم بأشكال قد لا نتوقّعها، فمدخلات التفاعل متغيّرة وتؤدي إلى مخرجات من كلّ الأصناف، حيث يستحيل التكهّن بها, أو بمعنى آخر تغدو أعداد الاحتمالات واتجاهاتها غير محدّدة، ولن يكون التفاعل حينها نموذجياً، وستكون عملية إعادة خلق الجديد أو الخلق بحدّ ذاته معقّدا, تتداخل في المشهد وبشكل مركّب النظام والفوضى الباحثة لها عن انتظام، وبخاصة مع انهيار القديم مادياً ومعنوياً وقيمياً، أو على الأقل استحالة استمراره, وعدم الانتهاء من تشكل الحديث الذي يمثل الأطروحة الجديدة، والتي يلزمها أنماط الفكر الإنساني بدءاً من الميثولوجيا ومروراً بعلوم نيوتن وأينشتاين والنظرية الكمومية والكايوسية, وهذه قد تكون تكويناً يتجه نحو الاستقرار، وعدا ذلك ستأخذ منحى مرحلة حاسمة في انفجار قويّ ومدمر، تقاس درجته وفقا للشروط والظروف الجديدة وحالة الزمان والمكان.
إذاً سوريا التائهة، تمر في حالتين من التحول الفيزيائي إن صح التعبير، فسوريا الصلبة المتخشّبة تنهار بالاصطدام مع أي صلب فاعل, أما الحالة السائلة منها فتأخذ أشكالا تناقض الأولى المتصلّبة حتى في داخلها ومع محيطها، فلا هي قادرة على حماية تصلّبها, ولا الآخرون يسمح لها أن تسيل وفق طاقاتها الذاتية.
التفاعلات الجارية في هذه البقعة من الطبيعة، والتي يسمّيها البعض حرباً عالمية ثالثة, ويصفها آخرون مثل باومان في سيولته المعهودة على أنّها أكثر من حرب عالمية، وستنتهي بمجرد انتصار طرف أو أطراف على مقابلاتها وحينها سيستقيم الوضع، بل من الملاحظ أنّها أكثر من أزمة عالمية مستمرّة، وجميع المؤشرات تدلّ على ضبابية المشهد، حتى لو بدت لنا الأمور أحياناً أنها متجهة نحو نوع من الاستقرار أو النجاة من الأزمة.
كلّ هذا يجري ليس بمعزل عن نظرية الفوضى والفوضى الخلاّقة وتطبيقاتها ونماذجها بالتأكيد, لكنّها أيضاً ليست تطبيقاً مباشراً وموجّهاً بهذه الدقّة والحسم في منطقة تجمع كلّ تناقضات التاريخ والحاضر والمستقبل، كلّ تناقضات الجغرافيا السياسية والوطنية والدينية والإثنية الباحثة لها عن حلّ منذ فجر الإنسانية وحتى يومنا هذا, ولايزال الحلّ بالتأكيد بعيداً، وبخاصة في ظلّ تحكّم أيديولوجيات وذهنيات وأفكار وسياسات تشكّل امتدادات لما سبقتها من أعماق التاريخ، وإن ظهرت بعضها بلباس حضاري عصري جديد, إذ سرعان ما تنكشف عوراته، فهي بدأت بقوانين دولة أوروك ولقّحت بعناصر الحضارة المتوحشة التي باتت تحفر انحرافات عميقة ومعقّدة في المسيرة البشرية ومنظوماتها.

المشهد الجيوسياسي
السنوات الأخيرة من الأحداث السورية والمشاركين فيها والداخلين إليها من “الوطنيين” و”الثوار” والمرتزقة وأعداء الشعب والثورة والباحثين عن المال والسلطةً, فكل من فيهم كان يقول للنظام السوري: “قم لأجلس مكانك”, وكأنّ السوريين يبحثون عن تغيير نظام سائد بآخر شبيه وربما أسوأ, وهنا كان الابتعاد عن القيم السامية المتمثّلة في الحرية والعدالة والمساواة والخلق والاستقرار والسلام والتحديث.
الواقع السوريّ – وعبر سنوات الصراع – صار مسرحا للتركات العنفيّة الهائلة, العبثية منها والمنظّمة, التي ولدها القمع والضغط والعنف, والذي شكّل أرضية لتدخلات قوى متنوعة, فضجّ البلد بالتدخلات حتى اختنق شكلا ومضمونا نتيجة أشكال من القوى وألوان من التنظيمات التي لا تقف عند حد, ولا يردعها حتى وازع من ضمير أو أخلاق. فالقوى الدولية جنباً إلى جنب مع القوى الإقليمية والمحليّة أدخلت كلّ أنواع وصنوف الإرهاب إن جاز التعبير إليها وأدخلت معها استخباراتها وزرعت فيها منظماتها ورجالاتها، بهدف توجيه الحدث بهذا الشكل أو ذاك خدمة لمصالح هذه القوة أو تلك.
أعتقد أنّنا إذا أخذنا كلّ المعطيات بعين الاعتبار في سوريا ودول الجوار، وسنصل إلى حقيقة مفادها أنّ الصراع على سوريا ليس اقتصاديا بالدرجة الأولى وأنّ موقع هذا البلد المسمّى سوريا وحدوده والدول المجاورة له، والمصالح الاستراتيجية للقوى الدولية والإقليمية في الحدود تشكّل أهمّ النقاط التي تمنحها الأهمية الاستراتيجية والوضع “المميّز” إن صحّ التعبير, فسوريا تختلف عن عراق النفط ولا هي شبيهة ليبيا.
وأكاد أقول أنّ الموقع الجغرافي يمنح سوريا أهمية جيوسياسية حاسمة، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار الصراعات التاريخية على هذه الأرض، والعمق الثقافي والديني والإثني في المنطقة والجوار، والصراعات الإقليمية المستندة إلى عديد التناقضات الدينية والقومية والإثنية, كلّ هذا يؤكد أنّ للصراع في سورية ألوانا متعدّدة ومعاني عميقة مختلفة عن محاولات تسطيح الحقائق السياسية لـ “غايات في نفس يعقوب” وإنّ الإصرار على أنّ محرّك الأحداث هي المصالح الاقتصادية المباشرة، ولن تؤدي إلى الفهم الصحيح للأزمة السورية المشتقة من التاريخ والجغرافية.

رسم المشهد التقسيمي
حملة المصالحات التي أنتجت تداعيات قذرة، واستمرت طويلا وبدعم من الأستانة ومن ثم سوتشي، ومن خلال تكتيكات خفض التصعيد والمقايضات التي جرت الأحاديث عنها على كلّ لسان بدءاً من الوعر وحلب و ريف حلب والغوطة وعفرين، لم تجلب إلا المزيد من التعقيد للأزمة السورية والبدء بتشتت المشهد السوري.
ووسط تشتّت “المعارضة” او ربما الأصح تشتيتها إثر تراجع الدول الداعمة كتركيا، واستخدام “المعارضة” والمناطق التي تسيطر عليها لتنفيذ مخطّطاتها الخاصة بها، كما حصل في التدخّل التركي في مناطق جرابلس، ومن ثمّ التدخّل العسكريّ المباشر، بالاتفاق مع روسيا إلى عفرين– التي لم تراعِ حتى مسألة السيادة السورية – ووسط صمت دولي، ترافق مع إسكات الصوت السوريّ، والتمدّد الإيراني الذي يناقِض مصالح الدول, وسط كلّ هذه المعمعة تابعت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي تقدّمها نحو مناطق الرقة ودير الزور، ولاتزال هذه القوات تقاتل بقايا داعش في ريف دير الزور والحدود العراقية.
مع المصالحات والانهيارات والاستسلامات والضغوطات الدولية باتت سوريا مقسّمة فعلياً على أرض الواقع إلى مناطق نفوذ, خصوصاً بعد أن بدت الأمور في الجهة الجنوبية تسير نحو “المصالحات” سواء مع الباصات الخضراء أو بدونها, فوجود الباصات ولونها واعدادها وطريقها وغايتها لا تغيّر من معادلة الحقيقة المتمثّلة في نوع من الاستسلام الإجباري الذي تفرضه إلى حدّ الخسّة الدولية ونفاق المجتمع الدولي, وكلّ ذلك لصالح النظام الذي يتظاهر أنّه الفاعل الرئيس ذو السيادة على الأرض – رغم أنّ ذلك لا علاقة له بالحقيقة- ولا يكفّ عن تقديم ” أطروحته الباهتة، لا بل أطروحة الروس” على أنّها نوع من خارطة الطريق و”العودة لحضن الوطن”, ما يدل بأنّ النظام لايزال حتى الآن يفتقر لمشروع حلّ حقيقيّ يتلاءم مع الواقع والمستقبل السوري.
“الجبهة الجنوبية” ماضية لـلـــ “حلول” التي يفرضها ثنائي النظام – الروس، لكن هذه المرة بضغط إسرائيلي على روسيا وأمريكا على حدّ سواء لرسم الشروط، وفق إرادة إسرائيل، وفي الضدّ من مصالح ومواقف إيران وحزب الله، وإن كان يعني هذا موافقة صامتة، وإن إلى حدّ ما، من تركيا وكذلك روسيا، اللتان ترغبان بتحجيم دور إيران – حزب الله في سوريا وإن كان ذلك من خلال إسرائيل.
روسيا وأمريكا والتحالف الدولي متكافلة ومتضامنة إلى حدّ الاندماج مع إسرائيل في هذا الهدف، وكلّها على دراية بحجم خطر إيران والفصائل الشيعية وحزب الله على إسرائيل, وأنّ ترّهات بعض المعارضات الإسلامية المتشدّدة الإخوانية وغيرها وادعاءاتها أنّ السياسة الإيرانية وما يتبعها، متحالفة مع إسرائيل وتخدمها غير صحيحة، وهي من نتاج مرض نظريات المؤامرة.
سؤال آخر يطرح نفسه حول مستقبل العلاقات بين ثلاثي آستانة روسيا وتركيا وإيران, خصوصا أنّ كلّ المعطيات تؤشّر إلى أنّ الحالة السورية بدأت تفرّق بين مواقف ومصالح هذه القوى، وأنّ المصالح الروسية في سوريا ستدفعها باتجاه سياسات ضاغطة على إيران وتركيا، لتقليل تأثيرهما وربما تقليل نصيبها من الكعكة السوريّة لتحتفظ بها روسيا لنفسها, هل يمكن فعلاً عزل وتجريد أو إخراج أو الحدّ من نفوذ وتاثير إيران وحزب الله والفصائل التابعة والرديفة؟
لا أعتقد أنّ الإجابة سهلة، والتنفيذ لن يكون أبدا مرنا وبسيطا وسهلا، لأنّ إيران تدرك أهمية سوريا بالنسبة لقضيتها الأيديولوجية الحياتية العابرة للحدود, وإن أرادت روسيا إجبار سوريا على أن تدعو إيران للانسحاب، فالمعطيات تشير لعدم قدرة النظام السوري على طلب ذلك من إيران، حتى وإن بضغط روسيّ مباشر، لأنّ حجم العلاقة بين إيران والنظام السوري يتجاوز مسألة الرئيس أو الحكومة السورية.

شرق الفرات بحاجة لتوافقات عادلة وشاملة
هذه المنطقة تعني الكثير من اقتصاد سوريا, وتعني جزءاً لا يمكن الاستغناء عنه لسوريا وحلفاءها، وتلعب دوراً مهماً في منع أو تحقيق التواصل الإيراني عبر الكوريدور طهران – بغداد – دمشق – بيروت, وهي على حدود تركيا التي تتخذ منها ذريعة تتداخل فيها الحقيقة مع الاتهامات الباطلة، فتستخدمها تركيا كسلعة سياسية ودبلوماسية في البازارات الدولية عندما تتذرّع أنّها تهدّد الأمن القومي التركي.
إذا كانت حدود هذه المنطقة عملياً قد تحدّدت عبر خط نهر الفرات إلى شرق وغرب أو شمال وجنوب, فإنّ الصراع على خطوط التماس لا يزال موجوداً ويتفاعل بشدة مع وجود جيوب لعناصر تنظيم داعش في هذه المنطقة، حيث تتواصل هجماتها بين الحين والآخر، مما يشكّل ترجمة عمليّة لمقولة استمرار خطر تنظيم داعش في المنطقة وسوريا, وأحيانا الصراع على خطوط التماس، تصل حدّ الاصطدام المباشر بين الدول، وإن كان بشكل مغلف بين أمريكا وروسيا كما في حادثة قتل العشرات من ميليشيات تابعة لروسيا حاولت التقدّم باتجاه مناطق شرق الفرات.
لا يعتقد بأنّ أمريكا تولّي الأهمية الاقتصادية لهذه المنطقة, لكن هذا الاقتصاد يهمّ الدولة السورية, التي يمكنها إذا استغلّت هذه الثروة أن تتظاهر بقدرتها على العودة النشطة وتغذية آلتها الحربية وتطمين الحلفاء, خصوصا أنّ النظام وحلفائه الروس والإيرانيين ونتيجة لواقعهم الاقتصادي المتأزم لا يمكنهم قط تقديم أيّ نوع من المساعدات والتطمينات والمساهمات للشعب حتى في المناطق التي يديرونها, ولهذا فإنّ الصراع على ثروات شرق الفرات سيتأجّج.
ليس خطأ إن قلنا إنّ حلّ قضايا شرق الفرات مرتبط عضوياً وبوشائج كثيرة ومتداخلة بحلّ للأزمة السورية ككلّ, فيها تتداخل المفاعيل الدولية والإقليمية والسورية, وفيها تتشابك الصراعات بين المحاور والقوى, لكن يجب أن ندرك أنّ الحلّ السياسيّ لهذه المنطقة يحتاج لتوافقات عادلة وشاملة, وهذه الأخيرة مرتبطة بالفهم الصحيح لأزمة المنطقة وأسبابها وأبعادها وتداعياتها وامتداداتها واستطالاتها الجغرافية والسياسية والتاريخية والحقوقية والاجتماعية, الإثنية والدينية والمذهبية, ومن ثم لابدّ من مقاربة موضوعيّة لحلّ كلّ هذه القضايا دون إنكار أو إقصاء أو تسلّط, تمنح فرصة الحياة والتطوّر والنمو والمشاركة للجميع دون استثناء, وكلّ ذلك عبر ضمانات حقيقية قانونية ودستورية تكفلها الدول, وهذا ممكن فقط عبر الالتزام بالقيم الديمقراطية المعاصرة التي تمنح الحياة للجميع، أفرادا ومجموعات من خلال اعتماد اللامركزية القادرة على تأمين المحيط عبر ديمقراطية المركز المستندة إلى مبادئ باتت مستخدمة في كثير من أجزاء العالم، وتمنح تكويناتها القوّة والمنعة والتطوّر والحصانة, ويجب أن لا يغيب عن بالنا أبدا هذه التعدّدية في سوريا، مثلها في ذلك مثل أغلب دول الهلال الخصيب، وبخاصة في تركيا والعراق وإيران ولبنان وحتى فلسطين ذات المعاناة الخاصة.
الانطلاق في البحث عن الحلّ لمشاكل المنطقة من منطلقات قومية، تعتمد الأسس الإثنية في بناء الدولة، وعبر صهر المكونات الثرية التمايز في بوتقة الدولة الأحادية التسلّطية التي تتنكّر للتعدّدية الثقافية والقومية, لن يكون إلا خيانة لحقيقة هذا الشرق المتعدّد الألوان.
الحلّ السوريّ يجب أن يُرضي السوريين جميعا، وكذلك بمنح مكوّنات شرق الفرات لحقوقهم المشروعة، وهم من يمثلون وتمثلهم قوات سوريا الديمقراطية, لكن ذلك يجب أن يقترن بتوافقات إقليمية ودولية، فسوريا هي جزء منها، ولا يمكن تناول الحلّ بمعزل عن محيطها الإقليمي والدولي.

أهمية منبج في المشهد السوري
منبج البلدة الهادئة، والتي كانت تمتاز بالتنوّع السكاني والتي تعدّ مركزا تجاريا يتوسّط الطريق بين الجزيرة وحلب ولا شيء سواه، حتى تحولت منبج بسبب موقعها الجغرافي، ونتيجة الحالة السياسية والعسكرية التي عصفت بسوريا, إلى محط أنظار العالم، وبخاصة بعد تحوّل تركيا في خضم العاصفة السورية إلى مركز استيراد وتصدير الجهاديين من أوربا والخليج ودول الاتحاد السوفياتي السابق وأفغانستان إلى منبج السورية وبالعكس.
وفي أثناء سيطرة تنظيم داعش على المدينة، وبعدما طردت الفصائل الأخرى بما فيها الفصائل المحلّية منها، بدأت تمارس الأساليب الوحشية في التعامل مع سكانها، وبسبب قرب منبج من عاصمة الخلافة الداعشية المزعومة ووقوعها على الطريق بين الرقة وتركيا كانت تشكّل المركز الأساس الذي ينظّم منها حركة الهجرة الجهادية عبر تركيا من وإلى دولة الخلافة.
الأحكام الجائرة التي أصدرها تنظيم داعش حينها في منبج، وقمع شعبها الأعزل، كانت قاسية جدا، قياسا مع العديد من المناطق الأخرى، وذلك نظرا لأنّ الشعب في منبج لم يرضخ للتنظيم، وهي أولى المدن السورية التي انتفضت وتظاهرت ضدّ ممارسات داعش، وكانت الأخيرة لاتزال مسيطرة على المدينة، حيث ارتكبت في آخر تظاهرة مجزرة ضدّ أهل منبج راح ضحيتها أكثر من ستين قتيلا.

تحول منبج إلى مركز للمخططات الإرهابية
من قلب مدينة منبج انطلقت الكثير من هجمات تنظيم داعش، والتي استهدفت العالم، ومنها على سبيل المثال فرنسا، وبخاصة ما قدمته تركيا من التسهيلات لهذه المجموعات، والتي ارتقت إلى درجة التواطؤ، هذا إن لم تصل إلى حدّ الشراكة، وذلك كما دلّت عليه مؤشّرات كثيرة، ضمنها اعترافات علنية أدلى بها عناصر التنظيم الأسرى بيد قوات سوريا الديمقراطية.
انطلق هجوم داعش من الرقّة لاستهداف كوباني، حيث كانت تتواجد في منبج قبل ذلك، لأجل نجاح عملية الاحتلال، وأيضا ارتكاب المجزرة في 25 حزيران التي تلت تحرير كوباني، حيث راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى.
كلّ ذلك جعل من منبج إحدى المحطات الرئيسة لحبك مخطّطات تنظيم داعش، ودعت الحاجة العاجلة إلى التدخّل السريع والحاسم من القوى الفاعلة على الأرض، على اعتبار أنّ تحرير منبج سيشكل ضربة استراتيجية قاصمة للإرهاب على المستوى الإقليمي والعالمي، ما سيقطع الطريق أمام إمدادات التنظيم الدولية، وكذلك أمام انطلاق هجمات إرهابية دموية نحو أوربا والعالم.

تحرير منبج كان هدفا مشتركا لقوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي
استهدف تنظيم داعش المنطقة الكردية على نحو خاصّ في سوريا والعراق, وربما كان ذلك محاكاة للحالة القومية والتوجّه الشوفيني لدى أغلب قيادات تنظيم داعش الرئيسية، وتبيّن فيما بعد بأنّ معظمهم ينحدرون من جذور فكر البعث من جهة، ومن جهة أخرى ضمّ التنظيم نسبة كبيرة من التركمان الذين يدينون بالولاء للحكومة التركية، وليس لبلدانهم الأصلية سوريا والعراق, وكان ذلك واضحا في تقدّم داعش باتجاه أربيل وكوباني، بدل التوجّه نحو بغداد وحلب مثلا, وإذا أضفنا الفارق الذهني والفكري بين مجموع الحركة الكردية ذات التوجه الديمقراطي العلماني المدني، وبين تنظيم داعش التكفيري الشوفيني الإرهابي، سيظهر جلياً بأنّ معركة الكرد ضدّ تنظيم داعش كانت ومازالت معركة البقاء، لأنّها استهدفت وجودهم بشكل مباشر, وليس أدل على ذلك من اعترافات قادة تنظيم داعش وعبر وسائل الإعلام التي أكدت التنسيق بهذا الشأن بينها وبين الدولة التركيّة.
كان تحرير منبج من داعش هدفا مشتركا لقوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، لكن كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين وتدخلاتها في سوريا أملا بنيل نصيبها من الفريسة وحصتها من الكعكة عقّدت الأمور، واستفاد منها تنظيم داعش، كما في استخدام تركيا لتمدّد تنظيم داعش للنفاذ من خلالها إلى عمق الحالة السورية, استنادا إلى سياساتها وامتداداتها الاستخباراتية، لتمتلك القدرة على أكبر قدر ممكن من الأوراق التي تسمح لها أن تستخدمها لكلّ الأغراض أقلها أن تمتلك القدرة على خلط الأمور لإجبار الآخرين على التعاطي معها، حتى وإن كانت لإيقاف دورها التخريبي.
بحسب التوثيقات والتقارير الدولية التي أثبتت بأنّ مستوى التنسيق والتعاون بين الحكومة التركية وتنظيم داعش كان رفيعا في المجالات الاستخباراتية والسياسيّة والعسكرية، وأهمّها تسهيل حركة منتسبي داعش في الساحات الدولية الممتدّة من سوريا نحو العالم العربي والغربي.
كان موقف تركيا من الكرد عدائيا في معركة كوباني، وتحجّرت في موقفها من منبج، حتى إنّها لم تحرك ساكنا في منبج طيلة سنوات سيطرة تنظيم داعش، وساهمت في تأمين كلّ السبل وتهيئة كلّ الظروف لتمكين داعش من خلال دعم مركز تخطيطها منبج.
بعد تحرير قوات سوريا الديمقراطية لمناطق حدودية وبوابات هامة، وخصوصا بوابة تل أبيض الحدودية, وكي تتمكن تركيا من توفير متطلبات عناصر التنظيم واحتياجاتهم عبر منبج, بادرت تركيا بإعلان رفضها لأي استهداف لداعش في منبج, وما إن تم الإعلان عن تشكيل مجلس منبج العسكري، واستنادا إلى تحرّكات قوات سوريا الديمقراطية وانتصاراتها وجديتها في التعامل مع هذه الظروف، حتى بدأت المعركة السياسية والدبلوماسية حول منبج، ما بين قسد والتحالف الدولي من جهة, وتركيا ومن لفّ لفيفها من جهة أخرى.

معركة منبج الدبلوماسية طالت أكثر من العسكرية
لن أخوض في تفاصيل معركة منبج التي طالت لثلاثة أشهر، وانتهت بهزيمة تنظيم داعش, لكن علينا الخوض في المعركة الدبلوماسية الطويلة والصعبة جدا، والتي سبقت ورافقت وتلت العملية العسكرية في منبج.
مجلس منبج العسكري تكون بغالبيته وخصوصا على مستوى القيادة من شخصيات معروفة، وتنتسب بأصولها إلى منطقة منبج، وكانوا من الذين ساهموا في الثورة والقتال منذ بدايات الأحداث، وشاركت الكثير من فصائل الجيش الحر في معارك منبج الأولى، قبل دخول داعش إليها, كما وشاركوا في معارك ريف حلب، وكذلك في المقاومات التي برزت في كوباني, منهم على سبيل المثال أبو ليلى وأبو أمجد وأبو عادل وغيرهم الكثيرين.
اضطرت تركيا للاعتراف بأنّ مجلس منبج العسكري له باع طويل ومكانة بارزة في صفوف فصائل الثورة السورية، ولم تكن قادرة على اتهام مجلس منبج العسكري بالتبعية لحزب العمال الكردستاني أو حزب الاتحاد الديمقراطي أو للكرد أو حتى لم تتمكن رغم كلّ المحاولات من إقناع الأمريكان بوجود علاقات للمجلس مع النظام السوري، وتم تأكيد ذلك مرات عديدة، كان آخرها في اجتماع خاصّ عقد في قاعدة أنجرليك في تركيا حضره الأتراك والأمريكان إلى جانب مجلس منبج العسكري أو على الأقل بعض قادته منهم أبو أمجد وأبو ليلى.
كانت هذه بمثابة تبديد كلّ حجج وذرائع تركيا في موقفها المضاد لعمليّة تحرير منبج, خصوصا أن مجلس منبج كان قد وجّه الدعوة للأمريكان والتحالف الدولي ولقوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب لمشاركتها في تحرير منبج من داعش.
القيادة الأمريكية كانت واضحة الموقف، وتمكّنت من إقناع تركيا بمشاركة وحدات حماية الشعب في المعركة، وكان ثمة ضغطا هائلا من قبل تركيا لجهة الرفض في وجه الإصرار الأمريكي، وخاصة بعد أن تأكدت أن أمريكا مصرّة في موقفها إثر مكالمة من الرئيس الأمريكي أوباما لأردوغان.
معركتا تحرير منبج العسكرية والدبلوماسية التي طالت أكثر من الأولى، كانت معركتين صعبتين وقاسيتين بكلّ ما للكلمة من معنى، وانتهت بالتحرير والانتصار وشبه استسلام لداعش، ومن خلفها تركيا التي اضطرت التراجع أمام الضغط الأمريكي.
في النهاية كان الشعب بغالبيته في منبج متعطّشا للخلاص من داعش وممارساته، حتى لو ذهب باتجاه المجهول, ولهذا التفّ حول قسد، التي ما إن انتهت العمليات حتى أعلنت تسليم المدينة كليا، وفي احتفال جماهيريّ، وعبر بيان رسمي لمجلسي منبج المدني والعسكري.

مصير منبج المعقود مع شرق الفرات
رغم موقع مدينة منبج الكائن غرب الفرات، لكن مصيرها بات الآن متعلّقا بمستقبل شرق الفرات، وكانت مدينة منبج إحدى أهمّ مراكز التخطيط السياسيّ والدبلوماسيّ والعسكريّ لتنظيم داعش، وهي الآن تحتفظ بأهميتها الاستراتيجية في أيّ حلّ أو حلول قد تقدّم أو تقترح, لكن ليس من المنظور التركي؛ أي أنّ منبج يمكنها أن تتحوّل إلى أنموذج الحلّ لشرق الفرات وسوريا ككلّ، عبر الحلّ الذاتي وضرورات التوافق بين القوى الفاعلة، وإلا فإنّ أزمة منبج وشرق الفرات وسوريا ستستمر وستتجه نحو الانفجار.
الحلّ الناجع في منبج سيخفّف الضغط والتوتر العام السائد، سواء بين تركيا والولايات المتحدة أو بين تركيا والكرد، وبخاصة إذا اقتنعت تركيا بترك معاداة الكرد، وتبنّت موقف التعايش السلمي مع الكرد, وللوصول إلى هذا المبتغى يتطلب من حكومة العدالة والتنمية، بترك مفاهيمها وممارساتها التسلّطية الإنكارية ضدّ الكرد ومكونات المنطقة, وهذا بالضبط ما يلزم أن تفكّر بها تركيا، وخاصة بعد تجاوز مرحلة الانتخابات التي أثبتت بأنّه ليس بمقدور الحكومة التركية إنهاء الكرد, وإن ضرورات الحوار السياسي مع الكرد في تركيا وسوريا على أسس جديدة لا زالت قائمة وقوية.
يبدو واضحاً من البيان الذي صدر عن اجتماع وزيري الخارجية الأمريكي والتركي حول منبج أنّ النقطة الأساس في هذا التوافق هو اعتماد الطرفين على حلّ القضايا العالقة بين تركيا وأمريكا عبر الحوار بين الحليفين, وهذا يؤكد إصرار الطرفين على الحوار بدل السجالات والمشادات التي تزيد التوتر بينهما وفي المنطقة.
من جهتها قوات سوريا الديمقراطية تعتبر التدخّل التركي في سوريا احتلالا، ويجب إنهاؤه, وعلى تركيا أن تدرك بأنّ منبج تحرّرت بالتعاون بين قسد وأهل منبج متمثّلا بمجلسها العسكري وقوات التحالف الدولي، وذلك على إثر حرب طاحنة ضدّ تنظيم داعش المسهّلة من تركيا, وعليها أيضا أن تدرك بأنّ ما سيحصل في منبج بعد الآن سيكون بالتشاور مع قسد التي ساهمت في تحريرها, مع مراعاة نسبية لواقع تركيا.
يبدو من المشهد الحالي بأنّ أمريكا لن تتخلّى بسهولة عن قوات سوريا الديمقراطية في شرق الفرات، كما يتوهم البعض ومنهم تركيا, خصوصا أنّ الحرب ضدّ تنظيم داعش في سوريا لازالت مستمرة، وأنّ أمريكا ترى الخطر من المدّ الإيراني في سوريا, لأنّ تداعيات التواجد الإيراني الكثيف والفاعل في سوريا لن يجلب الخير لأمريكا، وإسرائيل لن تتهاون فيه، حتى إن رغبت أمريكا بصفقة مع الروس.
إذاً مختصر المشهد في شرقي الفرات وشماله مع منبج يمكن إيجازه في الوجود الأمريكي الراهن، حيث يصرّ الرئيس الأمريكي ترامب على الانسحاب من المشهد, لكنّ مسألة الانسحاب الأمريكي من المنطقة ليس محسوما حتى الآن، وهناك آراء متباينة داخل الإدارة الامريكية حول هذا الموضوع, والاتفاقات التي عقدت بين أمريكا وتركيا لا تتجاوز حتى الآن بعض الشكليات التي تحفظ لتركيا ماء وجهها، بما فيها الدوريات المشتركة على جانبي نهر الساجور الفاصل بين جرابلس ومنبج, فهل هذه ستكون بداية لعودة العلاقات التركية الأمريكية، وخصوصا أنّ الروس كرّروا أكثر من مرة ضرورة الانسحاب التركي من سوريا.
أمريكا لن تنزلق نحو مكرّرات اردوغان بالتمسّك بطرف دون آخر، وأعتقد أنّها ستحاول استيعاب الطرفين، وإقناع تركيا بالحلّ العقلاني المنطقي، مع تبني أمريكا لدور الضامن في هذه العلاقة.

واقع المشهد السوري يستدعي حلّا ناجعا
تسعى قوات سوريا الديمقراطية إلى تثبيت انتصاراتها الراهنة على الأرض وتسعى إلى الانطلاق من جديد باتجاه عفرين, لكنّها أيضا ستحاول تثبيت هذا الانتصار عبر تحويله إلى انتصار سياسيّ دائم ومضمون دستوريا، وإن كان ذلك بالاستفادة من مدة بقاء أمريكا والتحالف الدولي في المنطقة للضغط على الأطراف المختلفة.
ستستمرّ قسد في مكافحة الإرهاب ومحاربة تنظيم داعش, وستدفع بقوة باتجاه عودة الاستقرار والأمن في المنطقة, وتطوير الحوكمة، جنبا إلى جنب مع استخدام كلّ الإمكانيات التي تظهر باتجاه دفع القضية نجو الحلّ السياسيّ سواء عبر التفاوض أو التوافق في جنيف أو قامشلي أو أينما كان شرط تأمين الحلّ اللازم.
التوجّه نحو التفاوض مع النظام ليس بديلا عن العمليّة السياسيّة التي لن تكتمل إلا باكتمال حلقاتها الداخلية والإقليمية والدولية، وأيّ تصوّر على أنّ الحلّ في سوريا ممكن فقط بالتفاوض بين الأطراف الراغبة في التفاوض بمعزل عن القوى ذات العلاقة لا يغدو كونه محاولة معزولة، ولن يكتب لها النجاح، وسيسعى النظام من خلالها كسب الوقت وإبعاد الآخرين.
هذا موضوع خاصّ يمكن البحث فيه في إطار آخر، لكن ما يجب التأكيد عليه أنّ الظروف السائدة الآن تتوجّه نحو إمكانية إقناع كلّ الأطراف بضرورة المباشرة بالحلّ السياسي، وهذه ستكون مرحلة متداخلة وصعبة ومعقّدة بكلّ معنى الكلمة، ستتداخل فيها الأوراق العسكرية والسياسيّة للقوى المحلية والإقليمية والدولية، لإعادة ترتيب الرقعة السورية، أو ترتيب اللاعبين بمختلف تموضعاتهم على رقعة الشطرنج السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ التوافق على القضيّة الكردية أو لنقل بشكل أشمل قضية شرق الفرات، يمكن أن يكون توافقاً حول الحلّ في سوريا.
إذ تبرز قضية شرق الفرات كإحدى أهمّ نقاط الصراع وتناقض المواقف، لا بل أحيانا تعاديها، وأنّ الوصول إلى التوافق في هذه النقطة كفيل بتجاوز كلّ النقاط الأخرى، سواء من حيث طبيعة سوريا المستقبل وتطلعاتها وتوجهاتها.
النقطة الحسّاسة في شرق الفرات، بأنّ المرحلة الانتقالية تتطلّب قوة إضافية وترفض التراخي، وكأنّ الحلّ السياسيّ بدأ وأنّ الصراع انتهى، بل العكس صحيح، سيكون الصراع على أشدّه، والاستعدادات يجب أن تكون استثنائية من كلّ النواحي العسكرية والسياسية والشعبية، ولهذه المرحلة متطلباتها الكثيرة التي لابدّ من تحقيقها، وإلا فإنّ المرحلة الانتقالية لن تسفر إلا عن نوع من خداع الذات وهدر لكلّ الجهود والإنجازات، لذا فإنّ أي خطأ في هذه المرحلة قد تكلّف هذا الطرف أو ذاك خسران كلّ شيء، خصوصاً أنّ تجارب الشعوب وحركات التحرّر تتحدّث عن مآس ليست مشجّعة, بل مؤلمة ومدمرة.
دارت الأحاديث في الآونة الاخيرة عن تشكيل مجموعات تفاوضية في إطار استمرارية جنيف حول مناقشة دستور سوريا المستقبل, وعن بروز الرغبة في بدء عملية تفاوضية بين الإدارة الذاتية والنظام السوري, وكلا الأمرين بحدّ ذاتهما خطوات إيجابية في الطريق الصحيح نحو حلّ سياسيّ للأزمة السورية, ربما إنّ الوقت والتحضيرات الراهنة يسمحان للحديث حول التفاوض والتوافق وليس تحقيقهما فعلا, وذلك لأنّ النظام لا زال يصرّ على إعادة إنتاج نفسه عبر المصالحات التي تنتهي بالاستسلام كالغوطة، وآخرها ما يحصل في الجبهة الجنوبية.
القضية السورية معولمة بامتياز، والحلّ يجب أن يكون على مستوى الحدث، وربما لم يعد هناك وقت طويل يمكن اضاعته، ولهذا لابدّ من الدفع باتجاه صنع الحلّ وفرضه عبر مبادرات فاعلة، وعدم انتظار التحوّلات التدريجية التي قد تتميّع معها الوقائع وتسيل إلى غير رجعة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى